الفصل العاشر

من الذي هدم الهيكل؟

ما نوع ردود الفعل التي يمكن توقعها إزاء بحث هكذا الذي كنت أقوم به طوال الفصول السابقة؟ سأترك جانبًا ردود الفعل الإيجابية الممكنة، وأركز حديثي على ردود الفعل السلبية.

إن هناك فئةً غير قليلة من القراء تفكر على النحو الآتي: ما دام هيكل قد أساء إلى السادات، وما دام هذا الناقد (كاتب هذه السطور) قد استهدف كشف أخطاء هيكل، إذن فنقده مفيد في الانتقام من هيكل لصالح سياسة السادات.

وهناك فئةٌ أخرى، ربما كانت أكثر عددًا، تنظر إلى المسألة بالطريقة العكسية: بما أن هيكل قد فضح عهد السادات، وهو عهدٌ غير وطني، إذن فلا بد من الوقوف إلى جانبه، أما من يهاجم هيكل في الظروف الراهنة فإنه يضعف الجبهة المعادية للسادات، بعد أن كانت قد انتعشت بظهور كتاب هيكل، وواضح أن الأساس الذي يقوم عليه هذا النوع من التفكير هو مبدأ: عدوُّ عدوِّي صديقي (عدوُّهم السادات وهيكل عدوُّه)، وتبعًا لهذا المبدأ يكون كاتب هذه السطور، في انتقاده لهيكل، هو في الواقع «عدوُّ عدوِّ عدوِّهم، أي عدو صديقهم، أي عدوهم!»

ومع اعتذاري للقارئ عن هذه الألغاز اللفظية الأخيرة، فإني أجد في هاتين الطريقتين في الفهم لُبَّ الخطأ الذي أحاول منذ البداية أن أقنع القارئ بألا يقع فيه، فموقفي، كما قلتُ مرارًا، منصبٌّ على نقد جوٍّ فكريٍّ عام، وأسلوبٍ كامل في النظر إلى عملية الحكم، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وطريقة اتخاذ القرارات الحاسمة، وهذا الأسلوب أوسع نطاقًا من أي فرد تحدثتُ عنه في هذا الموضع أو ذاك، بحيث لا يمثل هيكل وكتابه الأخير إلا حالةً صارخة، حادة، قريبة العهد، من حالات ظاهرة أقدم وأوسع انتشارًا وأقوى رسوخًا بكثير.

وإذا كان الساداتيون، الذين ينتمي إليهم أصحاب الرأي الأول، قد قرءوا ما كتبتُ بإمعان، فسوف يُدركون أن نقدي للعهد الساداتي ربما كان أشد حدةً من نقد هيكل؛ لأنني أرجعتُ كثيرًا من الظواهر إلى جذورها الحقيقية؛ ومن ثم فإن أية محاولة يبذلونها للإفادة مما كتبت هي، كما قلت في مقالي الأول، مرفوضة من أساسها.

أما أصحاب الرأي الثاني، الذي يضم عناصر من الفئات الناصرية واليسارية والقومية، فإنهم يرتكبون خطأً جسيمًا حين يستعينون، من أجل دعم موقفهم، بشخصياتٍ مثل هيكل. إن الكثيرين منهم، بالطبع، يصفون موقفي بأنه نوع من المثالية التي تفتقر إلى الحسِّ العملي. إنه بحث عن الصواب المطلق أو الخطأ المطلق، لا يعرف كيف ينتهز الفرص السانحة ويستفيد من أي عنصر — بصرف النظر عن طبيعة هذا العنصر في ذاته — من أجل خدمة قضيته، هذا ردٌّ أتوقعه من الكثيرين، بل أتوقع ما هو أشد منه، فمن هؤلاء من سيهاجمني بعنف، مؤكدًا أن هيكل الآن يخوض معركة ضد المؤسسة الساداتية كلها، ولا بد من تأييده ومساندته، لا إضعافه ومحاربته.

ولكن هذا المنطق، في رأيي، مرفوض من أساسه، فالمسألة ليست على الإطلاق مثاليةً مفرطة في الابتعاد عن الواقع، وإنما هي — على عكس ذلك — موقفٌ واقعي وعملي بكل معاني الكلمة؛ ذلك لأننا لن نستطيع أن نفهم العوامل المؤدية إلى السقوط الذي وصلنا إليه، في كافة جوانب حياتنا، إلا إذا حلَّلنا بدقةٍ أساليب التفكير والممارسة عند أولئك الذين تحكموا في مصائرنا طوال عشرات السنين، وانتقدنا هذه الأساليب دون أية مهادنة. وحالة هيكل تقدم لنا نموذجًا بارزًا لهذه الأساليب، وإن كان يظل رغم كل شيء مجرد نموذج، لا يهمنا إلا بقدر ما يدل على المناخ السياسي والفكري العام الذي كان ينتمي إليه.

والواقع أنني لا أجد، من منظوري الخاص، أية فائدة تُرجى من التحالف مع شخصياتٍ اعتادت التقلب مع عهود الحكم، بحيث لا ندري، إذا كانت تتخذ اليوم خطًّا وطنيًّا (سنقدم له تفسيرًا فيما بعدُ)، وهي أن هيكل أسهم بدورٍ أساسي في إرساء دعائم الاتجاهات التي ينتقدها اليوم على السادات، عندئذٍ يبدو التحالف معه أمرًا محفوفًا بالخطر، ويبدو انقلابه الأخير على السادات موقفًا لا علاقة له بالمبادئ السياسية، وإنما هو في حقيقته، ومهما أنكر هيكل، انتقامٌ شخصي يلبس رداء الوطنية.

وفي غمرة الغضب الذي اجتاح هيكل، خلال فترة اعتقاله القصيرة الأمد، نسي أشياءَ كثيرة، ولم يتذكر إلا أنه يريد أن ينتقم، وكان لديه بالطبع مخزون المعلومات الهائل الذي يضمن له انتقامًا مدوِّيًا، وهكذا تحدث هيكل عن أخطاء السادات، مدعمة بالوثائق التي تفضح أشياءَ كثيرة وخطيرة، كما لو كان مُشاهدًا محايدًا، ونسي الدور الخاص الذي لعبه في هذه الأخطاء، بل إنه حين تدقق في سرد المعلومات من مخزونه الكبير، نسي أن الكثير مما قاله له دلالاتٌ عكسية، ويأتي بنتائجَ سلبية على الجميع، سواء عليه هو، أو على الحكام الذين عاش في عهدهم، ومرت عليه أشياءٌ خطيرة انزلق إليها دون أن يدرك معانيها، حتى ليشعر المرء — كما سنرى فيما بعدُ — أن غضبه قد سدَّ عليه منافذ التفكير.

ولو كان هيكل متسقًا مع نفسه، لتمالك غضبه وبدأ كتابه بانتقاد نفسه. كان من واجبه تجاه ذاته، وتجاه وطنه، أن يقول: «لقد أيقظتني فترة السجن من غفوةٍ طويلة، كنت على خطأٍ في كثير من مواقفي طوال الأعوام الثلاثين الماضية، وكان أكبر أخطائي مساندتي القوية للسادات ودعمي لحكمه، وها أنا ذا أُكفِّر عن أخطائي …» لو كان هيكل قد بدأ بكلماتٍ كهذه، وصاغ كتابه في هذا الإطار، لما تعرض لكلمة نقد واحدة مني أو من غيري، بل لصفقنا له جميعًا؛ إذ إنه كان سيقدِّم إلينا عندئذٍ عملًا رائعًا، يكشف الحقائق المخفية، ويلقي — بموضوعيةٍ — أضواءً باهرة على أخطر مرحلة في التاريخ العربي المعاصر.

ولكن هذه أمنية يستحيل أن تتحقق؛ إذ كيف تنزل الآلهة من عليائها وتعترف بأخطائها؟ إن هيكل يرى نفسه أرفع حتى من الرد على منتقديه، فكيف نتوقع منه نقدًا ذاتيًّا شاملًا؟ على رسله إذن، وليتحمل نتيجة موقفه.

لقد كانت لدى هيكل حاسةٌ سياسية مرهفة، جعلته يتخذ حتى النهاية موقف المحامي عن عبد الناصر، وبدرجةٍ أقل، عن عصر عبد الناصر، رغم أنه شارك بدورٍ رئيسي في بذل الجهد الضخم الذي أدى إلى القضاء على أهم مقومات العهد الناصري في ١٥ مايو، وكان من دعامات التحول الحاسم الذي كان لا بد أن يفضي في النهاية إلى انهيار سياسة الحياد الإيجابي، وإلى الانحياز لأمريكا، بكل ما يعنيه ذلك من انضمام إلى صف أعداء الشعوب ومكافحي التحرر الوطني، ومن تصالح وتطبيع مع إسرائيل، ومن سيطرة للطبقات الطفيلية والبنوك الأجنبية. وإذا كان هيكل قد انتقد هذه النتائج كلها بشدةٍ في الآونة الأخيرة، فإن دعمه الحاسم للسادات، الذي كان هيكل يعرف جيدًا ميوله واتجاهاته واتصالاته، كان لا بد أن يؤدي إلى نتائجٍ كهذه في المدى البعيد.

ولقد أتاحت هذه الحاسة السياسية المرهفة ذاتها لهيكل، أن يقفز من مركب السادات في الوقت المناسب، ويدخل من أجل ذلك السجن فترةً قصيرة، وكان دخوله السجن في الواقع أكبر «ضربة حظ» نالها في السنوات الأخيرة؛ فعندما أصدر «خريف الغضب»، استطاع أن يكتسب لنفسه تأييد كل الساخطين على عصر الانفتاح، ولصوص التموين والارتماء في أحضان بيجن، وتوصيل ماء النيل إلى القدس، وبيع آثار مصر ومواقعها التاريخية. تحول هذا كله إلى رصيدٍ لصالح هيكل، واعترف هو نفسه بذلك حين قال في الفصل الأول من كتابه، مُعلقًا على مهاجمة السادات له: «حين يجعل رئيس الدولة من أحد مواطنيه هدفًا دائمًا لمهاجمته، فهو بذلك يرفع من قدره ولا ينتقص منه، وبالتالي فلعلي لا أتجاوز إذا قلت إنني على نحوٍ ما مدين للرئيس السادات بما أضافه — دون أن يقصد — إلى قيمتي في الساحة الوطنية والساحة الدولية على السواء.» وبصرف النظر عما يمكن ملاحظته بسهولة من أن تضخيم الذات واضح في هذا الكلام، فإن الحقيقة الواقعة هي أن هيكل قد أصبح في نظر الكثيرين «بطلًا» وطنيًّا، وأخذ الوطنيون الشرفاء يتبنَّون قضيته، إما عن كراهية للسادات تحتم التصفيق بلا تفكير لكل من يهاجمه، وإما عن عجز عن الربط بين حلقات التاريخ، وفي المقابل، فإن خصومه من الساداتيين أخذوا يهاجمونه بعنف؛ مما جلب له مزيدًا من الشعبية … وحين اتخذت الحكومة بعض الإجراءات القمعية، بإصدار تشريعٍ استثنائيٍّ آخر يمنع أي «مسئول» من الإفشاء بأسرار كان مُطَّلعًا عليها، تحول هيكل، الذي طالما برر الحكم الفردي وصاغ له النظريات البارعة، إلى شهيد لحرية الرأي والديمقراطية المهدرة.

إن قصة هيكل مع الحرية والديمقراطية قصةٌ طويلة، ليس هنا مجال الكتابة عنها، وكل ما نود أن نفعله هو أن نركز انتباه القارئ على جوانبَ معينة من الانتقادات التي وجَّهها، مؤخرًا، إلى السادات، والتي وقف فيها يدافع بقوةٍ عن هذه المبادئ السامية، ثم نسأل أنفسنا: هل كان هيكل، في انتقاداته الأخيرة، يدين السادات وحده، أم يدين نفسه أيضًا، ويدين كل المناخ السياسي الذي كان يعمل فيه؟

يتحدث هيكل في الفصل الخامس من كتابه عن الهدايا التي كان السادات يتلقاها فيقول: «وخلال سنوات عمله في المؤتمر الإسلامي، كان السادات يتلقَّى الكثير من الهدايا، في عالم يؤمن بالهدايا كوسيلة من وسائل توثيق الصلات.» فإذا تساءلنا: أي عالم كان يقصد؟ أتانا الجواب سريعًا: «لكن الحق يقال إنه كان كريمًا في تقديم الهدايا قدر كرم الآخرين في تقديمها له، لقد قدم أنور السادات في تلك الفترة أكثر من سيارة «كاديلاك» كهدايا لعبد الحكيم عامر.» إذن فالمقصود عالم أقطاب ثورة ٢٣ يوليو، أولئك الثوار الذين استهدفوا تطهير مصر من «فساد» الأحزاب القديمة، والذين يُهدي أحدهم إلى الآخر بعضًا مما أنعم الله به عليه، هو مجرد «سيارات» كاديلاك تُقدَّم إلى الرجل الثاني بين الثوريين، الذي وصفه هيكل في الموضع نفسه بأنه: «كان في نفس الوقت أقرب أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى قلب جمال عبد الناصر.»

حسنًا، إن مثل هذه الأشياء تحدث في أحسن «الثورات»، ولكن ألم تكن هذه الواقعة تستحق من هيكل تعليقًا على النظام الذي سمح بهذا، وجعل من الهدايا وسيلة لتوثيق الصلات، هل هذه هي الدروس التي يقدمها فلاسفة الثورة للأجيال الجديدة؟

ينتقد هيكل العهد الساداتي على كثيرٍ من ممارساته اللاديمقراطية، وهو قطعًا على حق في هذا النقد، ولكنه لا يقدم إشارةً واحدة إلى الإطار التاريخي الذي ظهرت في ظله هذه الممارسات، ويصورها كما لو كانت قد ابتدعت في عهد السادات.

فهو يعيب على السادات إصداره تشريعًا يمنع الذين «أفسدوا الحياة السياسية قبل الثورة أو بعدها» من النشاط السياسي، وينسى أن تشريعات كهذه كانت تصدر من آنٍ لآخر طوال عهد الثورة، كان أولها ما صدر في عام ١٩٥٣م تمهيدًا لحل الأحزاب. وهكذا فإن تشريع السادات حلقة في سلسلةٍ طويلة من الإجراءات القمعية ضد التجربة الحزبية في مصر، ولم يكن السادات في إجرائه هذا إلا ابنًا مخلصًا للتراث الذي تربى سياسيًّا في ظله. وما دام هيكل قد وجد في التشريع الساداتي إجراءً تعسفيًّا — وهو بالفعل كذلك — فلماذا سكت عن الإجراءات المماثلة السابقة، بل لماذا أيدها ودعمها بتنظيراته؟ هنا نرى هيكل واحدًا ضمن سلسلةٍ طويلة من رجال الثورة الذين كانوا يؤيدون الدكتاتورية وهم في الحكم، ثم يتحولون بقدرة قادر إلى ديمقراطيين متحمسين عندما يتم استبعادهم، من أمثال البغدادي وكمال الدين حسين وهويدي … إلخ.

وهو يسخر من تلاعب السادات في الدستور، وتعديل المادة الخاصة برئاسة الجمهورية، بحيث تتجدد مدة الرئاسة إلى ما لا نهاية! هل كانت هذه هي المرة الأولى التي حدث فيها ذلك؟

بل إنه يلاحظ في الفصول الأخيرة، عن حق، أن السادات كان لديه دستور لا بأس به، ولكنه لم يكن يتقيد به … ألم تكن هذه فرصة لنقد مبدأ التلاعب بالدستور بوجهٍ عام، ولإعطاء القارئ درسًا في أهمية الدساتير ووجوب احترامها في كل العهود؟

وحين يسخر هيكل من استفتاءات السادات، التي كانت نتائجها مضمونة مقدمًا، والتي كان يلجأ إليها لإضفاء صبغةٍ قانونية زائفة على إجراءات أو تشريعاتٍ مخالفة بطبيعتها لروح القانون والدستور؛ فهل كان هيكل يهاجم مبدأ الاستفتاء ذاته، أم كان يهاجمه فقط عندما طبقه خصمه السياسي؟ ألم يكن الاستفتاء مبدأً معمولًا به قبل عهد السادات بوقتٍ غير قصير؟

ومما يلفت النظر أن هيكل قد انتقد بشدة، في كتابه الأخير، طبيعة التنظيمات السياسية غير الشعبية التي تخلقها السلطة لدعم مركزها، ويشير إلى عيوبها بقوله: «لم تكن لدى حزب مصر — على سبيل المثال — ولا الحزب الوطني بعده، من القوة السياسية إلا ما أسبغه النظام بالسلطة عليهم ليكونوا واجهات يتستَّر وراءها الفعل الحقيقي، وكان أكثر من نصف أعضاء مجلس الشعب من هؤلاء الذين غيروا آراءهم مع تغيير الحكومة لسياساتها، كانوا اشتراكيين في الوقت الذي كان من الحكمة فيه أن يكونوا أعضاء في الاتحاد الاشتراكي العربي، وأصبحوا رأسماليين عندما انفتحت الأبواب لرأس المال الأجنبي، وكانوا أصدقاء للاتحاد السوفييتي حين كان ذلك ملائمًا، ثم انتقلوا بسرعة — حين تغيرت الظروف — إلى الصداقة مع الولايات المتحدة، وكانوا دعاة الحرب مع إسرائيل، وبعد المبادرة أصبحوا كلهم من دعاة السلام.»

هذا تشخيصٌ سليم بغير شك، ولكن هل ينطبق على أعضاء حزب مصر والحزب الوطني وحدهم؟ ألم ينتقل عددٌ كبير من الأعضاء قبل ذلك، من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي، رغم اختلاف المبادئ والأسس في كل حالة؟ ألم يكونوا بدورهم رأسماليين في البداية، ثم أعلنوا ولاءهم للاشتراكية حين أصبحت سياسةً رسمية؟ إن جوهر نقد هيكل كان ينبغي أن ينصبَّ على أسلوب الحكم الذي يفرض تنظيمًا شعبيًّا مقلوبًا، يسير نشاطه من القمة إلى القاعدة، على حين أن التنظيمات، لكي تكون شعبية بحق، لا بد لها أن تبدأ بالقاعدة وتنقل رغباتها ومطالبها إلى القمة، ومثل هذا الأسلوب لم يبدأ فجأة في عهد السادات، بل كانت له مقدماتٌ طويلة.

أما الحديث عن أولئك الذين كانوا أصدقاء للاتحاد السوفييتي حين كان ذلك ملائمًا، ثم انتقلوا عندما تغيرت الظروف إلى الصداقة مع الأمريكان، فإنه حديث جريء حقًّا، وخاصة حين يصدر عن هيكل، وأُرجِّح أنه كتب هذا الجزء وهو جالسٌ أمام المرآة!

وحين وصف هيكل عملية اعتقاله وصفًا دراميًّا مفصَّلًا، كان يتحدث في الواقع عن نقطةٍ هامة في حياته، جعلته يتخذ قراره بأن يتكلم، والأمر المذهل حقًّا هو أن هذا الاعتقال المخفف جدًّا، سواء من حيث مدته أو أسلوب معاملته في السجن، لم يكن مما يمكن مقارنته على الإطلاق بما حدث لألوف الأشخاص من قبلُ، ممن ذاقوا أشد الأهوال لمددٍ أطول كثيرًا، وفي ظروفٍ أصعب ألف مرة، ومع ذلك فإن هيكل يصور حادثة اعتقاله كما لو كانت شيئًا فريدًا في نوعه، ولم يحاول أن يعالجها، ولو في سطرٍ واحد، بوصفها ظاهرةً عامة ونتيجةً ضرورية لأسلوبٍ مُعيَّن في الحكم.

وواقع الأمر أن هيكل لم ينطق بحرفٍ حين كانت الاعتقالات تحدث جزافيًّا، وتنتهي في حالاتٍ معينة بعاهاتٍ مستديمة للمعتقلين، وربما موتهم، لم يحركه امتهان كرامة الإنسان أو لجوء فئةٍ معروفة من السجانين إلى ممارساتٍ غير آدمية، وكل ما دافع به عن نفسه أنه هو الذي صاغ عبارة «زوَّار الفجر» … ومتى؟ عندما كان الانهيار قد حدث، وكان النظام في حاجةٍ إلى ما يهدئ مشاعر الشعب المجروح بالهزيمة عن طريق ممارسةٍ محدودة للنقد الذاتي، أما في ذروة أيام القمع فلم يحرك ساكنًا.

ويقدم إلينا هيكل أوصافًا وتفاصيلَ طريفة عن إحساس السادات بالعظمة، وبأن الآخرين إلى جواره «أقزام»، وعن عزلته المتزايدة وتناقص عدد مستشاريه يومًا بعد يوم، ولكنه يصف هذه الظاهرة كما لو كانت عيبًا شخصيًّا في السادات، ولو تعمق في الأمر قليلًا لأدرك أن أسلوب الحكم الفردي لا بد أن يؤدي إلى هذا النوع من جنون العظمة، فحين يمسك فردٌ واحد، لمدة سنواتٍ عديدة، بسلطاتٍ هائلة في يديه، وحين يسمع كلمات الموافقة والطاعة من كل المحيطين به، وحين تملأ صوره وأخباره وكلماته أجهزة الإعلام صباح مساء، وحين تتحول أية رغبة له إلى واقعٍ فعلي بمجرد أن ينطق بها، وتتقرر المصائر والسياسات بكلماتٍ من قلمه … حين يحدث ذلك كله لفردٍ واحد، لا بد أن ينتهي تكوينه النفسي إلى عدم التوازن. وكم أُلِّفت كتب عن هذه الظاهرة في حالة عددٍ كبير من الحكام الفرديين، ومع ذلك فإن هيكل يقدمها إلينا كما لو كانت تعبيرًا عن اختلال في شخص السادات نفسه، ويتجاهل الجانب العام للظاهرة، الذي يجعلها نتيجةً ضرورية لانفراد إنسانٍ واحد بعددٍ هائل من السلطات.

إن القضية ليست قضية السادات وحده، ولا عبد الناصر وحده، بل قضية أسلوب الحكم الذي لا يستند إلى تمثيلٍ شعبيٍّ حقيقي؛ ذلك الأسلوب الذي أدركه هيكل في حالة السادات، ولم يدركه قبل ذلك، والأمر المؤسف هو أنه كان واعيًا به؛ إذ كان هو الذي نصح السادات، بعد انتصاره في حركة التصحيح، بأن يحدث الناس في خطابه إلى مجلس الأمة عن قضية الديمقراطية؛ لأنها هي «القضية التي تهم الناس مباشرةً في هذه الظروف. إن الناس يريدون أن يسمعوه وهو يؤكد لهم ضمانات حرياتهم. لقد أفلتوا بالكاد من شبح دكتاتورية كان يمكن أن تصل في تجاوزاتها إلى حدٍّ بعيد.»١ إذن فقد كان هيكل يعلم أن الناس توَّاقة إلى الديمقراطية، وأن الجناح الذي هزم، والذي هو الملتصق بعبد الناصر والمنفذ لسياسته، كان دكتاتوريًّا، فهل حاول في ذلك الحين أن يدافع عن المبدأ الذي تحول الآن إلى داعيةٍ له، أم أن الديمقراطية لا تجد من ينادي بها إلا حين يكون الحاكم في موقع الضعف، بينما تُسحق بالأقدام بمجرد إحساسه بالقوة؟

إن هيكل على العكس من ذلك، طلع علينا — خلال فترات الشعور بالقوة — بنظرية «الديمقراطية بالموافقة»، ويعني بها أن يكون الحاكم على وعي بمطالب الجماهير وأمانيها، فيحققها لها، وعندئذٍ لا بد أن يكون تصرفه ديمقراطيًّا؛ لأن الجماهير ستوافق حتمًا عليه؛ ولأنه تعبيرٌ صادق عما تريده الجماهير. ويدافع هيكل، في حديثٍ قريب، عن هذه الفكرة، مؤكدًا أنه لم يقل بها إلا بعد أن اتُّخذت القرارات الكبرى المعبِّرة عن موافقة الشعب، كتأميم قناة السويس والتطبيق الاشتراكي وبناء السد العالي … إلخ. ولم يدرك هيكل أنه حتى هذه القرارات الكبرى ينبغي أن تستند قبل اتخاذها لا بعده، إلى إرادةٍ شعبية، أما لو اقتصر الأمر على اتخاذها من أعلى، فستظل معرَّضة للخطر، وهذه بالفعل كانت الغلطة الكبرى للعهد الناصري؛ فقد اتخذ بالفعل قرارات كبرى وحاسمة، ولكنها لم تنبثق عن الشعب وإنما أتت من أعلى، وظلت معتمدة على بقاء الزعيم الذي أوجدها، فلما اختفى، انهارت بعده وكأنها بيت من ورق.

وهكذا كانت نظرية «الديمقراطية بالموافقة» بدعة هيكلية، ينكرها أي حسٍّ ديمقراطي سليم، بل إننا لا نعدو الصواب إذا قلنا إنها سلاح ذو حدين؛ إذ إن السادات كان يؤكد، من جانبه أن «٩٩٫٩٪ من شعبي يؤيدني في زيارة القدس، وفي الصلح والتطبيع مع إسرائيل، ولا يعارضني في ذلك إلا مجموعة من الأرذال! …» أترون إلى أين يمكن أن تؤدي بالشعب أفكارٌ خطيرة كالديمقراطية بالموافقة؟

إن الحكم الفردي، حتى لو بلغت إنجازاته عنان السماء، يظل معرضًا للوقوع على الدوام في كوارث، وما كانت كارثة ١٩٦٧م — التي لم يعرض لها هيكل في كتابه إلا بطريقةٍ سريعة وفي مساحة تقلُّ بكثيرٍ عما خصصه للحديث عن مسكن السادات أو زوجات أبيه — ما كانت في حجمها وفي فداحتها إلا نتاجًا للحكم الفردي. والواقع أن مشكلة هذا الأسلوب في الحكم هي أن خطأ الفرد فيه يمتد إلى أمته بأسرها، على حين أن تأثير الخطأ في الحكم الديمقراطي يكون أضيق نطاقًا بكثير، فضلًا عن أن احتمالاته أقل، وإمكانية إصلاحه أكبر، ومن هذا النوع كان خطأ عبد الناصر في التقدير عام ١٩٦٧م، وخطأ السادات في أسلوب التفاوض بعد حرب ١٩٧٣م، وزيارته للقدس عام ١٩٧٧م، إنها كلها قرارتٌ فردية لحاكمٍ فرد، مُعرض كسائر البشر للخطأ، ولكن خطأ يتحول، بسبب طبيعة حكمه، إلى كارثة.

وتلك كلها مسائل لم يحاول هيكل أن يتطرق لها، بل عرض في الفصل الأخير من كتابه لأخطاء السادات كشخص، ولم يتناول أسلوب الحكم الذي كان السادات أحد مظاهره؛ ومن هنا شاع التفاؤل في صفحات الكتاب الأخيرة، ما دامت الشخصية «الشريرة» قد اختفت، وحلت محلها شخصيةٌ ذات مزاجٍ مختلف.

•••

والآن فلقد كنت طوال حديثي السابق أتحدث بلسان المفكر السياسي أو الاجتماعي، ومع ذلك فإني لا أستطيع أن أقاوم إغراء العودة، في نهاية هذا الحديث الطويل، إلى ممارسة مهنتي الأصلية: الفلسفة! فحين تأملت مواقف هيكل وأساليب تفكيره، توصلت إلى مجموعةٍ من النقاط، أستطيع أن أُطلق عليها اسم «مبادئ الفلسفة الهيكلية»، فما هي هذه المبادئ؟

المبدأ الأول: في البدء كان النسيان

إن المتأمل لتقلُّبات هيكل وتغير مواقفه، يستطيع أن يدرك بوضوحٍ أن النسيان أساسٌ ضروري، يعتمد عليه هذا النوع من المفكرين، من أجل إقناع الناس بآرائهم، ولقد ضربنا أمثلةً واضحة، بل صارخة، لتحولاتٍ جذرية طرأت على مواقف هيكل من القضايا المصيرية للأمة العربية في ثلاث سنواتٍ متعاقبة: ١٩٧٠، ١٩٧١، ١٩٧٢م، بحيث بدأ هذه السنوات بموقفٍ راديكاليٍّ متشدد، وانتهى — بعد تدرُّجٍ مرسوم بعناية — إلى موقفٍ شديد الاعتدال، وانعكس اتجاه تأييده المُعلن، من الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة، واختلف تصوره للحرب المنتظرة … إلخ. مثل هذه التحولات الجذرية لا يمكن أن يجرؤ أحد على تقديمها إلى الناس في سنواتٍ متعاقبة كهذه، إلا إذا كان واثقًا من أن الناس سرعان ما ينسون، وإنك إذا كررتَ موقفك الجديد وألححتَ عليه بما فيه الكفاية، فلن يعود في ذهنهم سواه، ولن يحاسبك أحد على ما قلتَ من قبلُ.

إنها عقلية تحتقر ذكاء الجماهير، وتفترض أنها تعيش، وتفكر، يومًا بيوم، وتتصور أن كل ما يحتاج إليه السياسي هو أن يُكرِّر الأكذوبة لكي تصبح حقيقة، ولو تصور أحد أن الكاتب نفسه هو الذي ينسى مواقفه السابقة، وليس الجمهور، لكان في ذلك مُخطئًا أشد الخطأ، فمثل هؤلاء الكتاب، ومعهم الحكام الذين يعملون هم لحسابهم، يتذكرون كل شيء، ولكنهم يؤمنون بأنهم هم وحدهم الأذكياء، ويسلمون تسليمًا كاملًا بغباء الآخرين، وفي ضوء هذا المبدأ نستطيع أن نفسر جرأة هيكل على اتخاذ عددٍ كبير من المواقف، التي كانت متعارضة فيما بينها تعارضًا شديدًا؛ إذ بدأ برفض التجربة الحزبية، وأيد عبد الناصر بكل قوة ولم يقل شيئًا عن ممارساته القمعية، ثم شارك في تحطيم أقرب أعوان عبد الناصر، ومهد الطريق بكل ما يملك من قوة لعهد هدم كل الأسس التي قامت عليها سياسة عبد الناصر، وساند حياد عبد الناصر الإيجابي، وتوجهه بالتالي نحو السوفييت، ثم توجه السادات نحو أمريكا، ثم عاد أخيرًا يتباكى على أيام التوازن الاستراتيجي بين السوفييت والأمريكان، ومشى مهللًا ومصفقًا في جنازة الديمقراطية في النصف الأول من الخمسينيات، وشارك في تحديد وتبرير الاتجاهات الرئيسية للحكم الفردي، ثم بكى لوعةً على الديمقراطية الضائعة في آخر عهد السادات، ورفع السادات في أول عهده إلى عنان السماء، ثم اتضح لنا أخيرًا أنه كان يعرف عن طفولة السادات وشبابه وكهولته معلوماتٍ مشينةً مخجلة …

أكان في استطاعة أي إنسان أن يتقلَّب بين هذه المواقف لو لم يكن يرتكز على مبدأ سياسي، هو أن الإنسان حيوانٌ ناسٍ، وأن فقدان الذاكرة صفةٌ مشتركة بين جميع البشر، وأن عقول الناس تعمل يومًا بيوم، ولا تربط الماضي بالحاضر، أو الأمس باليوم، وإنه هو وحده الذكي، «الفهلوي»، الذي يستطيع أن يُغيِّر مواقفه دون أن يتنبه لذلك أحد؟

المبدأ الثاني: ديمقراطية «أنا وحدي»

في حديثٍ قريب العهد لهيكل،٢ يتحدَّث ببطولةٍ عن موقفٍ حازم، وقفه ضد وزير طالبه بأن يعرض مقالاته على الرقابة قبل ثلاثة أيام من نشرها، فرفض هيكل بشدة، وأرسل إليه يقول: «إنني لا أستطيع أن أكتب وفي ضميري أن ورائي من سوف يجري بقلمه على ما أكتب …» ثم يقول: «إنني لم أكتب بانتظام، وتحت عنوان: بصراحة، إلا بناء على اتفاق مع الرئيس عبد الناصر ألا يخضع شيء مما أكتبه للرقابة.»

موقفٌ رائعٌ، بطولي، أليس كذلك؟ ومع ذلك فإن دلالات هذا الموقف محزنة ومؤسفة، والمؤلم حقًّا أن هيكل يتحدث عن هذا الموقف في معرض التفاخر، ودون أن يلمح من ورائه شيئًا آخر. إن هيكل هنا يجعل نفسه فئةً قائمة بذاتها، فئةً مستثناة، فجميع الكتاب الآخرين يخضعون للرقابة، أما هو فقد اتفق مع عبد الناصر على أن يكتب بلا رقيب، وأعجب ما في الأمر أنه على وعي بالاختناق الذي يصيب الكاتب من جرَّاء الرقابة، ويدرك بوضوحٍ كيف أن قلم الرقيب يشلُّ ضمير الكاتب، ومع ذلك فإنه لم يحاول أن يعالج القضية بالنسبة إلى الجميع، أو يكتب إلى المسئولين منتقدًا «مبدأ» الرقابة، وإنما كتب يقول: لا بد أن أنال حريتي … أنا وحدي! وتكتمل المأساة حين يصور هذا الموقف كما لو كان بطولةً عظيمة، وتنشره الصحيفة المعارضة دون أن تعلق عليه أو تستخلص دلالاته.

ولقد أثبت هيكل في مواقفَ أخرى كثيرة، أنه يقف بحزمٍ ضد التصرفات الاستبدادية، عندما تمسُّه شخصيًّا، أو تمسُّ المقربين منه، ويتمسك «بالإعفاء الشخصي» من تجاوزات الحكام، ولكنه لا يحاول الدفاع عن «المبدأ» نفسه، أو أن «يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» كما تقول النصيحة المشهورة. فحقوق الآخرين لا أهمية لها ما دام حقه الخاص مكفولًا، وإذا حلت مشكلته الشخصية، مع أجهزة قمع الحريات، فإن كل شيء يصبح على ما يرام … هذا، في نظر هيكل، هو الوضع الطبيعي، أما ما يتجاوز ذلك فلا يهمه في شيء.

هكذا تصرف هيكل في واقعةٍ أخرى ورد ذكرها في مقالٍ سابق، هي واقعة اعتقال أجهزة عبد الناصر لزميلٍ له في «الأهرام»، فقد ثار ثورةً فردية؛ لأن الموضوع مسَّ كرامته وسلامة المقربين منه، أما المبدأ العام؛ مبدأ عدم جواز اعتقال البشر بلا سبب، وبلا محاكمة، فلم يتطرق إليه من قريب أو بعيد.

ومثل هذا ينطبق على موقفه من اعتقاله في آخر أيام السادات؛ فقد تحدث عن «محنته» الشخصية ولم يُذكِّره السجن بألوف الضحايا الذين سجنوا قبله في «جرائم» الرأي أو العقيدة، فلم يقل كلمةً واحدة عن مساوئ الاعتقال بوجهٍ عام، ولم يسهم برأيٍ واحد من أجل ضمان الحريات الشخصية للجميع على حدٍّ سواء.

وعلى العكس من ذلك، فإن هيكل اكتسب جزءًا كبيرًا من مجده، بفضل هذه الديمقراطية التي كان يتمتع بها وحده، في الوقت الذي يختنق فيه الآخرون، وكم من آراء كان يعرضها، طوال الوقت الذي كان فيه هو وحده المتحرر من الرقابة، كان من الممكن نقدها وتفنيدها وهدمها بسهولةٍ تامة، لو أتيحت فرصةٌ مماثلة للكتاب المعارضين! وكم من «نظريةٍ» جادت بها قريحته، أو «تبرير» من نتاج عبقريته، كان من الممكن إثبات تفاهته بيسر، لو كان الناس قادرين على المناقشة الحرة! غير أنه ظل وحده في الميدان، مستمتعًا بانتصاره على خصمٍ مغلول الأيدي، وظل يغزو عقول الناس صباح كل جمعة، دون منافس أو معترض. والحق أن أي مفكرٍ حقيقي يستحيل أن يقبل لنفسه هذا الاحتكار الفكري، أو أن يخطو خطوةً واحدة في حلبة هذا الصراع غير المتكافئ؛ فهو لا يرضى لنفسه بأن يعلو صوته، بينما الأصوات الأخرى مكتومة، أو بأن يتفلسف شاهرًا سيفه على أفواهٍ مُكمَّمة وألسنةٍ مربوطة. ومجرد قبول هيكل بهذا الوضع، وإصراره على أن يحقق لنفسه، هو وحده، مثل هذه الحقوق الديمقراطية، يدل على أنه في صميمه بعيد كل البعد عن الديمقراطية.

أيريد القارئ مثلًا آخر، قبل أن ننتقل إلى النقطة التالية؟ إن هيكل يشير، في الفصل الخامس، وفي معرض التفاخر كما هي العادة، إلى أن عبد الناصر كان يبدأ دائمًا بسؤاله عن رأيه في الموضوع الذي يناقَش؛ لأنه كان يتكلم بغير حرج، «وكان يشك في أن بعض الآخرين عادةً، يحومون حول الموضوع حتى يتعرفوا على رأيه (رأي عبد الناصر) فيه، ثم يسبقوه إلى ما يتصورون أنه يريده.»

هذه هي النتيجة المأساوية للدكتاتورية: الخوف، النفاق، تملق الزعيم والاستجابة لرغباته بدلًا من تحقيق مصلحة المجتمع، الامتناع عن المعارضة، وفي مقابل ذلك، شجاعة المتكلم الأوحد، الذي يستطيع هو وحده أن يتكلم «بغير حرج»، هل هذا أسلوب في الحكم يمكن أن يقيم ثورة أو يبني مستقبلًا أو يُكوِّن رجالًا؟

ومع ذلك فإن الموضوع يمر على هيكل، كما هي العادة، دون أن يتنبه إلى أن ما يعتقد أنه سبب للفخر، هو في الحقيقة أمرٌ مؤسف ومخجل، فهل من تعليل لعدم التنبه الدائم هذا؟ إنه بالقطع ليس نقصًا في القدرة على الفهم والتحليل، وإنما هو ببساطة، اعتياد على العيش في جو الحكم الفردي والاستمتاع بمزاياه الشخصية، يؤدي في النهاية إلى أن تصبح أكثر جوانب السلوك بشاعة؛ أمورًا عادية، مألوفة، ليس فيها أي خطأ …

المبدأ الثالث: الوطنية بأثرٍ رجعي

أسهل أنواع الكفاح وأقلُّها تكلفةً هو أن تكافح بعد فوات الأوان، بينما تظل متفرجًا، أو تتواطأ، عندما تكون الأحداث ساخنة، يمكن التأثير عليها وتغييرها إلى الأفضل، فبهذا اللون من الكفاح بعد فوات الأوان، تبدو أمام الناس وطنيًّا، مع أنك لم تفعل شيئًا.

وفي حالة هيكل لم يقتصر الأمر على الكفاح بأثرٍ رجعي ضد سياسات كان أثناء حدوثها متفرجًا، بل إنه كافح بعد فوات الأوان ضد سياسات كان هو نفسه قد أسهم بنصيبٍ كبير في صنعها، ومثل هذا الكفاح ليس سهلًا قليل التكلفة فحسب، بل هو أيضًا كفاحٌ خادع، إذا شئت أن أستخدم أخف الألفاظ.

وسنضرب لهذا الأسلوب في الكفاح، وفي إظهار الوطنية، بضعة أمثلة قد لا تحتاج إلى شرحٍ مفصَّل؛ لأنها سبق أن عرضت بتوسعٍ من قبلُ، فكل ما يقوله هيكل الآن عن الافتقار إلى الديمقراطية وانتهاك الدستور والقوانين الاستثنائية … إلخ هو كفاح بأثرٍ رجعي؛ لأنه لم يكن يدعو إليه في الوقت المناسب، بل نادى به — فقط — بعد أن كان كل شيء قد انتهى. وكما رأيناه من قبل، فقد كان لهيكل دورٌ هام في تهيئة الأذهان لطرد الخبراء السوفييت والتشكيك في قيمة أسلحتهم، وكذلك في الدعوة إلى تحييد أمريكا. وبعد أن تحقق ما كان يدعو إليه، ثم استخلص النظام الحاكم نتائجه الطبيعية منه، عاد هيكل فنعى على السادات تعاونه مع الأمريكان وتجاهله للسوفييت … ومتى حدث ذلك؟ بعد أن أصبح إصلاح الأمر مستحيلًا، وفرض الأمر الواقع الجديد نفسه على الجميع، أما في الوقت الذي كان من الممكن فيه تدارك الأمر، فإن كتابته كانت تسير في الاتجاه العكسي.

وبالمثل، فإن حملته الراهنة على إدارة حرب أكتوبر سياسيًّا، وعدم تطويرها عسكريًّا، وإفشاء سر الحرب المحدودة إلى الأمريكان، كل هذه وطنية بأثرٍ رجعي، لأن الأحداث انتهت منذ زمنٍ بعيد. أما في الوقت الذي كان يمكن فيه التأثير في مجرى تلك الأحداث، فقد كان هيكل يدعو بكل صراحة إلى الحرب المحدودة، وإلى التفاهم مع الأمريكان.

وأخيرًا، فإن نقده للاتجاهات التسلطية أيام عبد الناصر لم يصبح مسموعًا إلا أيام السادات، بعد أن أصبحت مراكز القوى في حالة دفاع عن النفس، أما عندما كان هؤلاء الجبابرة يسومون الناس عذابًا، ويعتقلون الآلاف بلا محاكمة، فلم نسمع له صوتًا! وهكذا تأتي البطولة دائمًا متأخرة، ويظل هيكل مشاركًا في الخطأ أثناء حدوثه، ثم يستنكره بعد فوات أوانه، من أجل كسب النقاط ورفع الأسهم وزيادة رصيد الوطنية على غير أساس.

كلمة أخيرة

أكاد، في لحظتي هذه، أسمع احتجاج القارئ، وخاصة لو كان شابًّا، وهو يقول: لقد هدمت كل مقدساتنا، ولم تترك إلا حطامًا، وشكَّكت الناس في كل شيء وكل شخص، ولم تقدم بديلًا إيجابيًّا.

وردي على هؤلاء هو أنني لم أستهدف، كما قلت مرارًا، أي شخص بعينه، وسيكون قد أساء فهم مقصدي، كل من يتصور أنني أريد أن أهدم أسطورة هيكل، أو أكشف عيوب هذا الحاكم أو ذاك، فهذه نتائج يمكن أن تأتي بطريقةٍ عرضية أو هامشية، أما الهدف الأصلي الذي كنت أسعى إليه، فهو أن أحثَّ قرائي على أن يفكروا فيما يرونه حولهم بوعيٍ وتبصر، ولا بأس خلال ذلك أن تتزعزع مقدساتٌ كثيرة، فأول مراحل العقيدة الصحيحة هي تحطيم الأصنام، ولا بأس من جرعةٍ كبيرة من النقد والتشكك في عصر أصبحنا فيه ممنوعين من أي اعتراض أو احتجاج.

إن هدفي الحقيقي ليس هيكل ولا السادات ولا عبد الناصر، بل هو عقولكم أنتم، فمن هذه العقول تأتي الهزيمة أو النصر.

ولقد كتبت هذه الصفحات كلها في أيامٍ قليلة، بعد نشر كتاب هيكل مباشرة، وكنت طوال كتابتها أعجب لحماستي التي تتدفق، وكأنني أريد أن أُسوِّي حسابًا طويلًا قديمًا، بل إن بعض القراء تصوَّروا بالفعل، أن بيني وبين هيكل ثأرًا خاصًّا، وذلك جريًا على عادتنا في تفسير كل شيء بعواملَ شخصية.

وحقيقة الأمر هي أن هناك بالفعل حسابًا أردت أن أُسوِّيه، ولكن ليس مع هيكل أو أي شخصٍ آخر بعينه، بل مع أسلوب في الحكم وفي التفكير، وفي معاملة الإنسان للإنسان، كنت أرفضه على الدوام.

كان يكفي أن أسير في شوارع القاهرة كل صيف، وأرى الفارق بين قاهرتي الجميلة التي شهدتها في طفولتي وصباي، وقاهرة اليوم التي خربت بأكثر مما يستطيع عدوٌّ مجنون أن يفعل …

كان يكفي أن أقارن بين تعليمي في طفولتي والقشور، التي يتلقَّاها أطفال اليوم بأقل الأساليب أمانةً وإخلاصًا …

كان يكفي أن أتأمل تعاسة أبناء وطني، حين يبحثون عن العلاج، أو عن مسكن، أو عن وسيلة اتصال …

كان يكفي أن أتأمل انهيار آمالنا الوطنية والقومية، منذ أن صعدت لتناطح أقدم إمبراطوريات الأرض، حتى هبطت إلى حضيض «إزالة آثار العدوان»، بعد أن أصابتنا هزيمةٌ نكراء على يد دولةٍ عميلةٍ هزيلة، يسكنها خليطٌ لا يزيد مجموعُه عن سكان بلدةٍ متوسطة في وطني …

كان يكفي أن أرى طائرات العدو، تمرح فوق سماء بغداد، وجيوشه تصول وتجول في شوارع بيروت …

كان يكفي أن أتأمل هذا كله لكي أتساءل: ما الذي حدث؟ ولكي أجد نفسي مدفوعًا بقوةٍ عارمة إلى تسوية الحساب، لا مع هيكل بالذات، بل مع كل القيم وأساليب الفكر والحكم التي كان يجسدها ويبررها …

كان يكفي أن أتأمل هذا كله لكي أغضب، ولكن غضبي لم يكن وليد خريفٍ عاصف، بل كان عمره أطول بكثير …

١  انظر الفصل الخامس من «خريف الغضب».
٢  حديث مع صلاح عيسى، الأهالي ١ / ٦ / ١٩٨٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤