ثانيًا: هل هناك تكفيرٌ عقائدي نظري؟

كان تكفير الفرقة الناجية للفرقة الضالة الهالكة تكفيرًا عقائديًّا نظريًّا بالأساس قبل أن يكون تكفيرًا عمليًّا، إخفاءً للمواقف العملية، وإبرازًا للعقائد النظرية؛ تملُّقًا للعامة ودفاعًا عن السلطان. فهل يتم التكفير طبقًا للآراء النظرية أم للأفعال؟ إن الآراء النظرية ما دام لا ينتج عنها فعل فإنها تظل خارج نطاق التكفير، بل إن تعريف الفرقة الناجية للأمة هو كل من نطق بالشهادتين؛ فالإيمان قولٌ قبل أن يكون نظرًا أو تصديقًا أو فعلًا. فكيف يتم التكفير النظري والنظر ليس من الإيمان عند الفرقة الناجية؟ وكيف يتم التكفير في أصلَي التوحيد والعدل؟ هل يكفر أحد في التوحيد والعدل؟ لماذا يكفر من يرى أن هناك ذاتًا لها صفات وأن هناك إنسانًا حرًّا عاقلًا ومسئولًا؟ ولماذا تكفر باقي الأصول الخمسة، الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وإذا اتفقت فِرق المعارضة الرئيسية الثلاث على أصلَي التوحيد والعدل، فإن ذلك يعني التكفير النظري لها جميعًا.١ والحقيقة أن الفِرق إنما نشأت أولًا بسبب موضوعات عملية، وفي مواقف عملية، وبناءً على اختلافاتٍ عملية وليست نظرية؛ فقد نشأ صراعٌ حول السلطة وحول الشرعية، حول البيعة والعقد، ثم تحوَّل هذا الخلاف إلى مسألةٍ نظرية في الإيمان والكفر، والطاعة والعصيان. كانت المسألة إذن عملية في إطارٍ نظري مثل مرتكب الكبيرة أو التحكيم، ثم أخذت بعد ذلك طابعًا في مسألتَي الأسماء والأحكام وفي الإمامة، ثم انتقل العرض النظري لها إلى عرضٍ نظري آخر على مستوى الأصول العقلية في التوحيد والعدل. كان الخلاف إذن حول الموضوعين الأخيرين في السمعيات، ثم انتقل بعد ذلك إلى العقليات؛ أي نظرية الذات والصفات والأفعال التي هي أساس أصلَي التوحيد والعدل. لم يكن الخلاف حول النبوة والمعاد، أي حول التاريخ، في الماضي وفي المستقبل، بل كان حول الحاضر، الفرد والجماعة، العمل والدولة، ثم امتدَّ الخلاف بعد ذلك طابعًا نظريًّا في مسألتَي الأسماء والأحكام وفي الإمامة، ثم انتقال وكأنها موضوعاتٌ مستقلة بعيدة عن نشأتها العملية. ولما كان نسق العقائد يقوم على مقدمتين نظريتين، نظرية العلم ونظرية الوجود، وعلى قسمين رئيسيين؛ الأول عن الإلهيات، وهي الإنسانيات؛ الوعي الخالص (الذات) والوعي المُتعين (الصفات)، وهو الإنسان الكامل، ثم خلق الأفعال والعقل الغائي، وهو الإنسان المتعين؛ والثاني عن السمعيات أو النبوات، وهو التاريخ، تاريخ الوحي (النبوة) ومستقبل البشرية (المعاد)، وهو التاريخ العام، ثم النظر والعمل (الأسماء والأحكام) ثم الحكم والثورة (الإمامة)، وهو التاريخ المتعين وتذييلها عن انهيار التاريخ (تكفير الفِرق)؛ فإن التكفير العقائدي ينصبُّ على كل موضوع على حدة.

(١) هل هناك تكفير في المقدمات النظرية؟

يبدأ علم أصول الدين بمقدماتٍ نظرية أولى، نظرية العلم إجابة على سؤال «كيف أعلم»، ونظرية الوجود إجابة على سؤال «ماذا أعلم». والسؤال عن الذات العارفة يسبق السؤال عن موضوع المعرفة، وهي موضوعاتٌ نظرية صرفة تنبع من طبيعة الذهن، ولا يكاد يختلف عليها عاقلان. ومع ذلك كفَّرت فيها الفرقة الناجية الفِرق الضالة.

(١-١) نظرية العلم

إن الموضوعات التي تُكفر فيها الفرقة الناجية الفِرق الهالكة فيما يتعلق بنظرية العلم في حقيقة الأمر ليست عقائد، بل هي مجرد نظريات في العلم أو طرق في النظر والاستدلال يختلف فيها النُّظار دون أن يكفر بعضهم أو كلهم. فإذا كان من ضِمن نظرية العلم قسمة المعرفة إلى ضرورية واستدلالية، فإن التركيز على المعارف الضرورية، واعتبار أن كل المعارف ضرورية، حتى إن الكسبية منها تكون ضرورية كذلك ويقوم على ضروري، ليس كفرًا، بل تثبيت للمعارف واعتبارها مغروزة في النفس؛ وبالتالي تحوُّل نسق العقائد كله إلى معارف فطرية غير مُكتسَبة، تأتي من طبيعة النفس وليس من الخارج، وهو ما يجعل الإيمان واجبًا عقليًّا.٢ وما الحكمة في التركيز على المعارف المكتسَبة؟ هل السبب في ذلك الرغبة في تلقين الناس نسقًا للعقائد يُعارض الفطرة ويأمر بالخضوع للسلطان والتسليم لأُولي الأمر؟ ولكن ذلك سلاحٌ ذو حدين؛ إذ يمكن أيضًا رفض ما تُلقنه السلطتان السياسية والدينية للناس ما دامت معارفهما مكتسَبة، وتوجيه المعارف الفطرية، مثل الثورة على الظلم والخروج على الإمام الجائر، ضد المعارف المكتسبة. وفي النهاية، الضروري أقوى من المكتسَب، وأرسخ منه في النفس، وأقوى منه كباعث ومقصد. ولماذا يُكفر القول بأن المعرفة تتولد من النظر؟٣ أليس هذا هو الخلق والإبداع؟ وممَّ تأتي المعرفة إن لم تتولد من النظر؛ أي من طبيعة العقل ومن التركيز على المعارف الضرورية؟ يبدو أن الباعث أيضًا هو إبعاد الذهن عن التفكير، وجعله مجرد حصيلة لمعارف خارجة تأتي من السلطتين الدينية والسياسية، وهما بيدهما توجيه المعرفة ووسائل التلقين. ولماذا يُكفر القول بأن المعرفة واجبة بالعقل قبل الشرع؟٤ أليس ذلك احترامًا لعقل الإنسان وتأسيسًا للشرع على العقل؟ ولماذا جعل العقل خاويًا من أية معارف، وأن المعرفة لا تجب إلا بالشرع؟ فإذا كان المُتحدث باسم الشرع هو السلطة السياسية، وهو في الوقت نفسه السلطة الدينية، لزِم على الإنسان طاعة أُولي الأمر دون إعمال للعقل. ولماذا يُكفر القول بأن التواتر لا يحتمل الكذب، وأن الإجماع والقياس ليسا بحجة؟٥ وما العيب في جعل التواتر يُفيد الصدق ولا يحتمل الكذب؟ هل القصد من ذلك الطعن في التواتر وتجويز الكذب عليه بحجة الإجماع أو القياس؟ وإذا كان الإجماع يحدث من فقهاء السلطان وليس من علماء الأمة، فإنه لا يكون مصدرًا للعلم. وإذا كان القياس أيضًا إنما يقع لتبرير حكم السلطان الجائر، فإنه لا يكون حجة. إن الدفاع عن الإجماع والقياس في مواجهة النص المُتواتر ترجيح للسلطة البشرية على سلطة النص؛ وبالتالي احتكار التأويل. إن الإجماع يتغير من عصر إلى عصر، والإجماع السابق لا يلزم الإجماع اللاحق. والقياس في نهاية الأمر اجتهاد فرد واحد، مجرد رأي وظن. وإذا كان الحال كذلك فيقين التواتر أولى. فهل هذا ضلال يستحق التكفير؟ وما العيب في التشدد في الروايات وقد تطايرت الرقاب اعتمادًا على روايات تُروجها السلطة ضد الخصوم؟٦ وإن تحديد عدد الرواة بعشرين، وأن يكون من بينهم من لا يتطرق إليه الكذب مثل واحد من المبشَّرين بالجنة، لا يستدعي التكفير، وإنما يستوجب نقد شروط يصعب تحقيقها. والحقيقة أن تكفير هذه الاتجاهات في نظرية العلم إنما يتعارض مع نظرية العلم لدى الفرقة الناجية ذاتها؛ مما يدل على أن للتكفير هدف إبعاد الخصوم السياسيين، ولكنه تحت ستار العقائد وباسمها؛ فالأدلة النقلية دونَ أدلةٍ عقليةٍ ظنية؛٧ وبالتالي لا استحالة في القول بالمعارف الضرورية، أو توليد المعارف بالنظر، أو وجوبها قبل الشرع؛ بل إن بدايات نظرية العلم كنظرية في المنطق، في التصورات والتصديقات، وفي أنواع الحقائق بسيطة أو مركبة، وأنواع التعريفات بالمثل أو بالمشابهة أو باللفظ، إنما يعتمد على تحليل العقل الخالص، وأن اللفظ نفسه تكون دلالته واضحة وظاهرة على المقصود.٨ وإن إنكار المعارف الفطرية والواجبات العقلية لهُو اتفاق مع بعض نظريات العلم عند فِرق المعارضة؛ مما يدل على أن الغاية من التكفير ليس الخلاف حول العقائد بقدر ما هو استبعاد الخصوم السياسيين.٩

(١-٢) نظرية الوجود

وكما كفَّرت الفرقة الناجية الفِرق الضالة في بعض آرائها في نظرية العلم، كذلك كفَّرتها في بعض آرائها في نظرية الوجود في بحث الجواهر والأعراض. فما العيب في اعتبار الأعراض أجسامًا، وأن يكون الجوهر مؤلفًا من أعراض؟١٠ أليس هذا ما يعرفه الجميع، وما يتفق مع الموروث الفلسفي العام، بل ومع إيمان العوام؟ هل بالضرورة لا بد أن تكون الأعراض مجرد صفات، وأن يكون الجوهر وحده هو الجسم؟ إن تصوُّر علاقة الجوهر والعرَض على أنها علاقة مركز مُحيط، يكون أقرب إلى تحقيق أهداف السلطة في تصوُّر العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ وبالتالي يكون كل تصوُّر مُخالف يُعطي العرَض بعض الاستقلال عن الجوهر، أو يكون مُشاركًا له في صفةٍ مِثل الجسمية؛ يكون كفرًا! وإن بعض نظريات الفِرق الضالة إنما تُشابه نظريات الفرقة الناجية، مثل جواز خلو الجوهر عن الأعراض، وجواز قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت، ولكن بهدفين مختلفين؛١١ عند المعارضة جوازُ وجود الحاكم من غير محكوم، وضرورة وجود مظاهر الحياة الحسية؛ وعند السلطة لأن الله قادر على كل شيء، حتى على فعل المُتناقضات، فلا يصمد أمامه قانون عقل أو طبيعة. أما اعتبار المعدوم شيئًا، وبالتالي يكون له جوهر وعرض، فربما للتأكيد على وجود العدم، بل نفيه وإنكاره، وحتى يصمد العدم كطرفٍ مُقابل للوجود، وحتى يتساوى الطرفان، ولا يكون الوجود إيجابًا والعدم سلبًا مطلقًا.١٢ وما المانع من دراسة الأفعال الإنسانية دراسةً طبيعية من خلال مفهومَي الجوهر والأعراض؛ وبالتالي تتساوى الأعراض فيما بينها كأعراض لجوهرٍ واحد وإن لم تتساوَ من حيث الحكم النظري؟ فالإيمان علم، والجهل كفر، وكلاهما أعراض للفعل أو للنظر من حيث هو جوهر. والأهم من ذلك كله هو تكفير نظريات الكمون والطفرة والخلق المستمر والتقدم والتأخر والظهور في الطبيعة.١٣ ما العيب في أن يكون الخلق قد تم دفعةً واحدة، ثم يستمر الخلق من تلقاء نفسه، فتظهر الصفات الكامنة فيه؟ وما الحاجة إلى الخلق المُتقطع من الخارج، كل شيء في حاجة إلى خلق؟ ولماذا يكون الخلق المستمر نظريةً هالكة، والخلق المتقطع نظريةً ناجية؟ وأيهما أكثر تنزيهًا لله، ورعايةً لمصالح العباد، وأكثر اتفاقًا مع العقل والعلم؟ وما العيب في الطفرة التي تُشير إلى الخلق الإلهي في الطبيعة، وتجعل الكيف مُخترقًا للكم، وتضع الحرية ليس في الإنسان فقط بل في الطبيعة كذلك؟ وما الكفر في القول بأن الجنة والنار لم تُخلَقا بعدُ طالما أنه لا توجد حاجةٌ الآن لهما، أو أنهما كامنان في الوجود وسيظهران بالخلق المستمر؟ وما الكفر في القول بأن الله خلق الأجسام، ثم تظهر الأعراض في الأجسام بعد كونها فيها بفعل الخلق المستمر؟ هل كل فعل لا بد وأن يأتي من الخارج وليس من الداخل، وكأن كل ما يحدث في الكون إنما يقع بفعل إرادة خارجية، وليس بفعل إرادة ذاتية؟ وما المانع أن تجذب النار أهلها بنفسها دون أن يدفعهم أحد فيها، وكأن كل شيء يتحرك بطبيعته نحو غايته؛ فغاية النار إحراق من يستحقها، ونهاية من يستحقها الوقوع في النار؟ ولماذا تكون نظرية الجزء الذي لا يتجزأ التي رفضها الفقهاء هي النظرية الناجية، في حين تكون نظريات الطفرة والكمون والظهور هي النظريات الهالكة؟ إن القول بالطفرة والكمون والظهور ما هو إلا رد فعل على القول بالجزء الذي لا يتجزأ، ورد الاعتبار الكيفي الحيوي للطبيعة بعد سقوطها في التصور الكمي الآلي. إن المذهب الطبيعي الذي يظنُّه الناس دعامة الإلحاد القائم على العلم الطبيعي هو عند الطبائعيين أنفسهم دفاع عن التوحيد ضد المُشبهة والمُجسمة، وإبقاء على الحُسنيَين معًا، الدنيا والآخرة، العلم والدين، الطبيعة والله، دون التضحية بأحدهما من أجل إثبات وحدانية الآخر. وإن اتهام مذهب الطبائع بالإلحاد لهُو حكم من السلطتين السياسية والدينية قائم على تصوُّر وحدانية الله بمعنى وحدانية الحاكم، وإنكار استقلال الطبيعة والإرادة الذاتية للشعوب.١٤
إن الخلق من عدمٍ الذي يظنُّه الناس تعبيرًا عن الإيمان هو في الحقيقة إفراز السلطتين السياسية والدينية للتعبير عن المُزايدة في الإيمان، والتملُّق لشعور العامة، وإيقاع لها في السحر بهدف إثارة الإعجاب وسحر اللب والخيال؛ وبالتالي فإن عقيدة الفرقة الناجية ليست بأقرب إلى الإيمان من عقائد الفِرق الضالة. إن الرغبة في التعظيم والمُغالاة لتؤدي إلى عكس المقصود؛ فمثلًا جواز الاقتصار على خلق السموات مُغالاة في التعظيم؛ لأن الإرادة المُشخصة قادرة على كل شيء، ولكنه إنكار في الوقت نفسه للعناية واصطدام بالحكمة، وهما من صفات الذات المشخصة كالإرادة تمامًا، بالإضافة إلى أنه رفض لتكوين العلم وبنائه وتدمير للحياة فيه، وكأن الحياة كان يمكن أن تكون على غير ما هي عليه، وافتراض عالم آخر ممكن مُخالف لهذا العالم الواقع، واستبدال التمنِّي بما هو موجود بالفعل، وإنكار لواقعية العالم، وافتراض عالم آخر لا وجود له إلا تعبيرًا عن قدرة مُشخص يُغالي في تعظيمها إلى حد تدمير كل ما سواها. وإن افتراض وجود أجسام لا تُرى لا من حيث الوجود ذاته، بل من حيث إمكان رؤيته، هو افتراض وجود علم خارج نطاق المعرفة الإنسانية. وإن افتراض عالم متوهَّم هو هدم وإنكار لعالم الواقع. وإذا قويت الرؤية بوسيلةٍ ما، وإذا استطاعت العين أن تمدَّ بصرها من الداخل أو من الخارج، فيمكنها أن ترى الأجسام. يمكن رؤية باطن الأجسام الشفَّافة بنفاذ الشعاع، كما يمكن رؤية باطن الأجسام المُعتمة باستعمال المناظر المكبِّرة. الرؤية مُمكنةٌ ما دامت الأجسام موجودة، فإذا لم توجد الأجسام تستحيل الرؤية. وإذا وُجدت عينٌ تتوافر فيها شروط الرؤية تكون الرؤية ممكنة.١٥ إن الخلق له مَعانٍ كثيرة، وليس أحدها بأولى من الآخر أو أكثر منه. كلها تصوُّرات طبقًا لمدى الإحساس بالتنزيه، ولاستقلال الطبيعة، وإثبات الحرية الإنسانية. فقد يعني الخلق التقدير المسبق ونشأة الكون كله بناءً على قدرٍ سابق. حينئذٍ تتمُّ التضحية بالحرية الإنسانية التي لا تخضع لأي قدر مسبق، بل تُعبر عن الإمكانيات البشرية الخالصة. الخلق بهذا المعنى قضاء على فعل الإنسان وفعل الطبيعة معًا، ويُوحي بأن هذا العالم لا يفعل فيه إلا من هو أقوى منه، وأن الإنسان لا يستطيع أمامه شيئًا. يقف عاجزًا لا يفعل إلا ما قد قرَّره القدر المسبق، وفي الوقت نفسه لا ينشأ العلم الذي يهدف إلى السيطرة على الطبيعة ما دامت خارج كل سيطرة إنسانية.١٦ وقد يعني الخلق إثبات قدرة قديمة أمام كسب الإنسان بقدرةٍ حادثة من أجل إنقاذ الحرية الإنسانية داخل تصور عام للخلق. وهذا إرجاع للخلق إلى مشكلة القدرة بين القِدم والحدوث.١٧ وقد يعني الخلق إثبات قدرة مُطلَقة مسيطِرة على الطبيعة، والقضاء التام على استقلال ظواهرها، وسلب أية قوة كامنة فيها، في طبائع الأجسام، وأن إثبات الله فاعلًا للطبيعة ومجعلًا لها قضاء عليها وعلى استقلالها.١٨ وقد يعني الخلق الفعل لا بآلة.١٩ وهنا يتميز الخلق الإلهي عن الخلق الإنساني الذي يحتاج إلى آلة الخلق، وجود من وجود بلا توسط آلة، وإلا كان صنعًا. ولكن يظل التصور الإنساني هو أساس التصور الإلهي للخلق عن طريق القلب. وقد يتحول الخلق إلى تجسيمٍ مادي مشخص بتحوُّل الخالق إلى صانع، والمخلوق إلى مصنوع.٢٠ ولا يفترق تصوُّر الفرقة الناجية عن أي تصور ثنائي للعالم وقسمته إلى قديم ومُحدَث؛ فهي قسمةٌ مادية. القديم لا مادة، والمُحدَث مادة. والقسمة تتحدد على أساسٍ مادي. ويسهل أن يتحول التصور إلى تجسيمٍ خالص حتى يكون أكثر اتساقًا بدل التجسيم المقنع، وهو القول بالقديم الذي يتحدد بنفي المادة الحادثة عنه. ومن أجل رد اعتبار المادة، والتي جعلها الخلق سالبةً محضة حين سلب عنها كل قوة، فقد تحوَّلت إلى مادةٍ خالقة تُشارك الذات المشخصة في فعل الخلق.٢١ كما أن هناك تصوراتٍ عديدةً لكيفية حدوث الخلق، ليس أحدها بأولى من الآخر. هناك الخلق من عدم بفعل الإرادة وبأمر «كُن»، وهو خلق للشيء من لا شيء.٢٢ وقد يحدث الخلق لا بالإرادة وحدها، بل بالإرادة والحركة. فلا تحدث الإرادة والذات ثابتة، بل تتحرك الذات كلها، والحركة هي الإرادة.٢٣ وقد يحدث الخلق في الذات المشخصة نفسها، فالذات المشخصة محل للحوادث. ولا يحدث الخلق بالإرادة بل بالقول. وكما أن الذات المشخصة باقية، كذلك لا تُعدَم الحوادث ولا تخلو منه الأجسام. وقد نشأ هذا التصور كرد فِعل للتصور الأول الذي يجعل الله خارج العالم ومُنفصلًا عنه.٢٤ وقد يحدث الخلق على درجات كما هو معروف عند الحكماء في نظرية الفيض، وتكون بدايته أشرف نقطة، ثم تقلُّ مراتب الشرف كلما هبطنا حتى نصل إلى أقل الدرجات. قد تكون البداية جسمًا في التجسيم، وقد لا تكون جسمًا في التنزيه، أو قد تكون أسطورةً قائمة على التفسير الحرفي للنصوص.٢٥ وتتنوع تصورات الخلق إلى درجة نفي الذات المشخصة كليةً، ولا يهمُّ بعد ذلك أن يكون قِدم العالم حسيًّا ماديًّا أو معنويًّا صوريًّا من حيث الإمكانية.٢٦ كل هذه تصورات للخلق ليس أحدها بأولى من الآخر، وكلها تُمثل ردود أفعال على بعضها البعض، بما في ذلك تصورات الفرقة الناجية التي كانت السبب في حدوث تصورات بديلة عند الفِرق الهالكة. لا يكون أحدها أصوب من الآخر، أو أحق بالإيمان وأبعد عن الضلال. وهناك أسئلةٌ نظرية خالصة ناتجة عن التوتر بين التنزيه والتشبيه لا يمكن تكفير أحد فيها؛ فهي كلها آراء نظرية طبقًا لدرجة قرب الفكر من التنزيه أو من التشبيه. فإذا كان السؤال: هل خلق الشيء هو الشيء أم غيره؟ فإن جعل الخلق غير الشيء يُركز على جانب الفاعل والإرادة، أي من جانب الخالق، في حين أن التوحيد بين الخلق والشيء يجعل الخلق من جانب المخلوق. الرأي الأول يجعل أهم عامل في الخلق هو الفعل الإرادي أو العلة الفاعلة، في حين يُركز الرأي الثاني على العلة المادية. التصور الأول يضع تمايزًا بين الذات والموضوع، بين الأنا والآخر، في حين أن الثاني يُوحد بين الذات والموضوع، بين الأنا والآخر. تتصل الإلهيات بالطبيعيات في الخلق؛ فعندما تطغى الإلهيات الخلق هو الشيء أو يكون الشيء بلا صفة. في التصور الإلهي يُطلَق للإرادة الحرية في أن تخلق إلى ما لا نهاية، في حين أنه في التصور الطبيعي تتحدد الإرادة بأفعالها وبخلقها المُتناهي.٢٧ والتصور الطبيعي يقضي على التشخيص، ويرى الخلق في الشيء، والإرادة في الطبيعة، والحياة في المادة، وهو أساس نشأة العلم. والحقيقة أن ذلك ليس تفكيرًا في الخلق باعتباره صفةً إلهية، بل في الخلق باعتباره عمليةً إنسانية؛ ثم يحدث التمايز بين الإنسان والله بحجة الأولى أو المفارقة. فإذا كان الخلق هو المخلوق في الإنسان، فإن الخلق يكون مُخالفًا للمخلوق في الله. وقد يحدث تمايز بين أفعال الخلق، فيكون الخلق هو المخلوق في البداية، ولكن الإعادة غير المعاد في النهاية إثباتًا لتطور الخلق وتغايره. فإذا كان الخلق صفة فإنه يصعب بعد ذلك معرفة هل هي صفة للخالق أم صفة للمخلوق، مجرد محاولة للخروج من إشكالٍ قديم عن طريق إلغائه.٢٨ وتستمر الإشكالات العقلية في كل تصوُّر دون حل، خاصةً في التصور الثنائي الأول. فإذا كان الخلق غير المخلوق، فهل يكون الخلق مخلوقًا؟ وهنا يكتمل التصور الثنائي بتصورٍ أحادي، فيكون الخلق مخلوقًا هروبًا من قِدم العالم. فكل تصوُّر مُكملٌ للآخر، التغاير والتماثل، الاختلاف والاتفاق. ويدخل بعد الحقيقة والمجاز في التصورات؛ مما يدل على أنها جميعًا صيغٌ إنشائية، وليست أحكامًا على واقع، وإنما جميعًا تقوم على قياس الغائب على الشاهد.٢٩ والعجيب أن الفرقة الناجية اختارت تصورًا دون آخر على أنه التصور الحق، وهو أن خلق الشيء هو المخلوق اعتمادًا على عدم جواز وجود واسطة بين الخالق والمخلوق؛ وبالتالي تكون أقرب إلى التصور الأحادي الطبيعي. وفي هذه الحالة لا يجوز تكفير المُشبهة والمُجسمة.٣٠ وكما لا يجوز تكفير أحد التصورَين الإلهي والطبيعي، فإنه لا يجوز أيضًا تكفير التصور الإنساني؛ فالخلق صفةٌ إنسانية خالصة، بل إنها أولى صفات الإنسان، وأخصُّ ما يُميزه وما يُعبر عن حريته. يبدو ذلك عند الفنَّان الخالق المُبدِع. ولكن الإنسان نظرًا لاغترابه عن العالم وعجزه عن الدخول فيه، نسب إلى الذات المشخصة أفضل ما لديه، وتعبَّد صفة الخلق بدلًا من ممارسته. أما العالم فإنه ينشأ في الشعور لحظة الوعي به؛ فقد لا يكون العالم موجودًا على الإطلاق عندما يكون خارج الشعور، وقد يكون موجودًا في إنسان لأنه نشأ في شعوره، وغير موجود بالنسبة إلى إنسانٍ آخر لم يعِه بعد. ليست النشأة إذن ماديةً كونية، فذاك موضوع علم نشأة الكون، بل نشأته في الشعور. السؤال عن النشأة الكونية نظرةٌ مادية خالصة، في حين أن النشأة الشعورية نظرةٌ إنسانية مثالية. الأولى ادعاء وغُرور، والثانية تصف الواقع على ما هو عليه.

(٢) هل هناك تكفير في العقليات (الإلهيات)؟

تبدأ العقليات في علم العقائد بالأدلة على وجود الوعي الخالص (الله)، ثم بوصفه بأوصافٍ ستة ثم بصفاتٍ سبع، فهل هناك تكفير فيها؟ هل هناك رأيٌ واحد صائب ناجٍ بينما تكون الآراء كلها ضالة هالكة؟ فإذا كانت الأدلة كلها تبدأ من العالم، ومن تحليل الطبيعة ابتداءً من نظرية الجوهر والأعراض، فما وجه الكفر في القول بأن الأعراض لا تدل على الباري؛ إذ كيف يدل الأدنى على الأعلى؟ وكيف تُستعمل الأعراض للدلالة على الأجسام؟ وكيف تُستعمل الطبيعيات كمقدمة للإلهيات؛ وبالتالي ربط الثوابت بالمُتغيرات؟ بل إن رأي الفرقة الناجية بالإجماع على حدوث العالم ووجود الباري فيه تدمير للعالم لإثبات الله، وكأن الأعلى لا يثبت إلا بعد فناء الأدنى. وإذا كان النظر الصحيح هو المُفضي إلى العلم بحدث العالم، فالعلم بحدث العالم ما هو إلا مقدمة لإثبات القديم؛ أي إنه النظر المُفضي إلى الإلهيات عن طريق إثبات حدث العالم.٣١ وهل يمكن البدء بالطبيعة والانتهاء منها إلى ماهيَّتها عن طريق الذهاب من الدليل إلى المدلول، ومن الآية إلى معناها؟ يتضمن العقل أوليات أو مقدمات هي التي تؤدي إلى التوحيد؛ فعلم التوحيد يقوم أساسًا على نظرية في أوائل العقول وبداهاته. ليس التوحيد تشخيصًا أو تجسيمًا أو تشبيهًا، بل هو بناءٌ عقلي يقوم على مجموعة من المسلَّمات البديهية. التوحيد مجموعة من الحقائق الأولية تنشأ من طبيعة العقل، أو هو بناءٌ أوَّلي للعقل.٣٢
ولكن هل يُفضي الإثبات بالدليل إلى إثبات المدلول أو إلى إثبات العلم بالمدلول؟ هل يؤدي الدليل على حدث العالم إلى حدث العلم نفسه أو إلى العلم بحدث العالم؟ ما دام الأمر مُتعلقًا بنظرية العلم، فالدليل يؤدي إلى المدلول من حيث هو علم لا من حيث هو واقع؛ ومن ثَم لا ينقسم المدلول إلى وجود وعدم أو قِدم وحدوث، ولا يمكن أن تتحول نظرية العلم إلى نظرية وجود. وتكون تقسيمات الوجود هي تقسيمات العلم؛ أي أحكام عقلية على المعلوم.٣٣ والانتقال من الدليل العقلي إلى المدلول الواقعي يقوم على حكمٍ مسبق، وهو تطابق عالم الأذهان مع عالم الأعيان، وهو حكمٌ منطقي يقوم على افتراضٍ ميتافيزيقي، وهو الدليل الأنطولوجي. وهو ما يتطلب الاقتضاء والتوليد، توليد النظر للعلم، واقتضاء الذات الموضوع.٣٤ إن تكفير الفِرق الهالكة لإنكارها وجود الله لم يؤدِّ بالفرقة الناجية إلى إثباته نظرًا لتغاير العلم والمعلوم، واختلاف الدليل والمدلول؛ فالإنكار هنا أكثر صراحةً من وهم الإثبات. وإن ارتباط الدليل بالمُستدل يجعل إثبات وجود الله أو إنكاره مشروط أولًا بوجود الناظر؛ وبالتالي يأتي ثبوت وجوده أولًا قبل إثبات وجود موجود آخر. المعرفة سابقة على الوجود، والذات العارفة سابقة على موضوع المعرفة؛ لذلك أتت نظرية العلم سابقةً على نظرية الوجود. ولا سبيل إلى التطابق بينهما إلا تدريجيًّا بتحقيق الوعي الخالص في الوعي المُتعين، وتحقيق الوعي المُتعين في حرية الأفعال والعقل الغائي، ثم تحقيق التاريخ العام في التاريخ المتعين، وتحقيق التاريخ المتعين في الفرد والدولة، في فعل الفرد وفعل الجماعة، وباختصار عن طريق تحقيق الإنسان في التاريخ.

(٢-١) الوعي الخالص (الذات)

ولماذا يكون القول بأصلَي التوحيد والعدل هوًى وضلالًا، ويكون القائلون بهما في النار؟ أليس التوحيد هو التنزيه، والعدل هو الحرية والعقل والغائية والصلاح والاستحقاق؟ وما العيب في نفي الصفات لو كان ذلك هو شرط إثبات التنزيه واتقاء مَخاطر التشبيه؟ وما العيب في إثبات الصفة تكون هي عين الذات لدرء تهمة النفي والتعطيل، واقترابًا من الرأي الآخر دون الوقوع في محاذيره؟ وهل إثبات الصفات مع مخاطر التشبيه أولى بالإيمان وأبعد عن الكفر من نفي الصفات مع إثبات التنزيه؟ ولماذا يُكفر القول بأن الصفات أحوال لا قديمة ولا حادثة، لا معلومة ولا مجهولة، وضعًا للسؤال من جديد، وإيجادًا لحلٍّ وسط بين الإثبات والنفي، وتحويل المسألة كلها من المستوى الطبيعي في الجوهر والأعراض إلى المستوى النفسي للذات والأحوال؟ فإذا كان الله لا يوصف بالقِدم ولا بالبقاء، فلأنَّ كل وصف له هو وقوع في التشبيه. لا يوصف الله بالقِدم لأن القِدم من صفات البشر وخصائص الأشياء، كالحب القديم والجبن القديم والعرجون القديم.٣٥ صحيحٌ أن القول بإلهين مُضادٌّ لوصف الوحدانية، ولكنه أثرٌ من آثار الديانات القديمة، خاصةً إذا كانا غير مُتساويين؛ واحد قديم، والثاني حادث يحاسب الناس يوم القيامة، كما هو الحال في المسيحية في العلاقة بين الله والمسيح، ويكون ذلك أقرب إلى تاريخ الأديان منه إلى علم العقائد الإسلامية.٣٦ وما المانع من أن يصير أهل الآخرة إلى جمود حتى لا يُشاركوا الله في صفة الخلود؟ إن التضحية بخلود أهل الجنة والنار من أجل إثبات خلود الله أقل خطورةً من المشاركة في الخلود، والتضحية بخلود الله من أجل خلود النعيم أو العذاب. فما لا نهاية له صفة للذات؛ أي البقاء. وكما أن الله لا أول له فإنه لا آخر له، عكس الإنسان الذي له أول، وهو الخلق أو لحظة وعيه وإثبات وجوده، وله نهاية، وهو الموت أو لحظة عدمه وخموله.٣٧ وما المانع من نفي الرؤية، رؤية الله، ولماذا يكفر من يُنكرها؟ وهل الله شيء أو موضوع في مقابل الذات يمكن رؤيته بالعين؟ وهل الله موضوع أم ذات شخص أم مبدأ، شيء أم فكر؟ إن الإنسان لا يرى وعيه، بل يشعر بنفسه، ولا يرى أي وعي خالص، بل يشعر بحضوره ويتعامل معه. هل الله ذات أم موضوع، شخص أم مبدأ، جسم أو تصور؟٣٨ أما باقي الصفات السبع فإن نفيها أو تأويلها إنما كان حرصًا على التنزيه؛ فالعلم ذاته والسمع والبصر إنما هي وسائل للعلم، وليست صفات مستقلة، والقدرة والإرادة ليستا في محل، والحياة ضد الآفات، والكلام مخلوق حتى لا يوصف الصوت والحرف بالقِدم. أليس ذلك كله دفاعًا عن التنزيه وحرصًا من مخاطر التشبيه؟ إن اعتبار الكلام مخلوقًا محدثًا إنما كان غرضه تنزيه الله عن الحدوث، وإثبات الفعل الإنساني والفهم الإنساني، وتحقيق الإنسان بعلمه للوحي في التاريخ. لقد أُرسلَ الوحي للإنسان وليس لله، وفهِمه الإنسان بعلمه، وعبَّر عنه بلغته، وقرأه بصوته؛ وبالتالي يكون كلام الله هو كلام الإنسان المفهوم والمقروء والمكتوب والمُتحقق. أما اعتبار الإرادة حادثة لا في محل، فإن الغرض منه نفي المكانية عنها كما نُفيت من قبلُ عن الذات، ومن أجل إنقاذ الحرية الإنسانية.٣٩ أما الأسماء فإنه لا يجوز إطلاقها على الله نظرًا لما تُوحي به أيضًا من تشبيهٍ يقوم على قياس الغائب على الشاهد.٤٠ إن الأوصاف والصفات والأسماء كلها إنما هي تدل على الحياة الكاملة بلا آفات أو نقص، تُعبر عن الإنسان الكامل باعتباره وعيًا خالصًا ومُتحققًا في العالم.

(٢-٢) الوعي المتعين (الصفات)

وكما يتم تكفير أصلَي التوحيد والعدل، فإنه يتم أيضًا تكفير القول بالتأليه والتجسيم.٤١ وكما يرتبط التوحيد بالعدل وحق الإنسان في أن يكون حرًّا وعاقلًا، يرتبط التوحيد أيضًا بالإمامة نتيجةً للقول بألوهية الأئمة. وبالرغم من وجود أنماط سابقة في الديانات القديمة لتأليه الإنسان أو الطبيعة، كما هو الحال في اليهودية والمسيحية، أو في الديانات الشرقية في فارس والهند والصين، وبالرغم مما قد يكون وراء ذلك من نيَّات ومقاصد لإفساد العقيدة الجديدة، وبث الفرقة، وضياع القوة، والتشويش على التوحيد، فإن تأليه الإنسان أو الطبيعة إنما يخضع لظروفٍ نفسية واجتماعية وسياسية محلية. ففي مجتمع الاضطهاد تسود العواطف والانفعالات العقل والرؤية، وتتشخص الألوهية في الإمام المُنقِذ المُخلِّص، ويظهر حالًّا في كل شيء، في الإنسان وفي الطبيعة، في النفس وفي العالم. يتحول ظلم الإمام واستشهاده إلى نصره، ويؤدي النقيض إلى النقيض، وينقلب السلب إلى الإيجاب، من لا شيء إلى كل شيء، من النقص إلى العظمة، من العجز إلى القوة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الإنكار إلى الإثبات. يحلُّ الله في الإمام بعد أن رفض البشر الاعتراف به والانقياد به. وهو حي لم يُقتَل؛ فالحقُّ باقٍ لا يموت، وكل من اتصل به من ذرية أو أصحاب أو جماعة فإنه يكون مثله.٤٢ وكما أن الله والإنسان شيءٌ واحد، فكذلك الله والطبيعة شيءٌ واحد، لا فرق بين الخالق والمخلوق في أسطورة الخلق حتى يكون الله قريبًا من الطبيعة، وتكون هي قريبة من الله؛ فالتركيز على الروح يُحيلها إلى روحٍ شامل يضم الطبيعة، وصاحب الهدف يرى غايته في كل شيء. والخلق يكون من طبيعة الخالق، نورًا في مقابل الظلمة، حقًّا في مواجهة باطل. كل مظاهر الطبيعة صفات له وآثار لقدرته، السحاب والريح والرعد والبرق. يتم الخلق بالكلمة وليس بالإرادة، كلمة الحق في مقابل كلمة النفاق. ويتم الكلام بالاسم الأعظم، وليس باسم الملوك والأمراء والسلاطين. فرض الخلق على غيره لأن غيره هو الخلق، وهو ذاته. الله يخلق من ذاته إلهًا يكون هو نفسه مثل المسيح.٤٣ والله جسم، موجود واقع مرئي، وذلك أن ضياع الواقع والأرض والدولة يتحول إلى وجودٍ جسمي ملموس حق، فيكون الله جسمًا. الإمساك بشيء بدلًا من فقده، والتمسك بشيء بدلًا من تلاشيه. والجسم مكانٌ تتلاقى فيه الأبعاد وليس مُسطحًا، له عمق فيبعد عن السطحية. يتكوَّن من نور، أو نظائر مُشعة، أو معادن مُعتمة؛ نظرًا لاجتماع النور والظلمة في الجسم. إلهٌ يلمَس ويُمسَك به تعبيرًا عن رغبة الإنسان في الإمساك بالضائع والتمسك بالمفقود. يقوم ويقعد، يتحرك ويسكن، وليس موتًا وثباتًا. ما زال النشاط موجودًا فيه تعبيرًا عن الرغبة في المقاومة، واستمرار حياة النضال في مجتمع الاضطهاد؛ فالإرادة حركة، والحركة إرادة.
وتعويضًا عن سلطان الدنيا وملك الأرض يكون الإنسان الإله ملكًا على رأسه تاج، فإذا ما تكلَّم فإن التاج يقع من على رأسه من هيبة الكلام وقوة الصوت. الخير والشر نور وظلمة كونيَّان. تُعبر لغة الملوك والتيجان عن الإمامة الضائعة والملك المفقود والحكم المغصوب. وهو على صورة إنسان؛ إذ إن الإنسان الضائع يتحول إلى إله عليه وفرة سوداء كالحصان العربي، وما يتصف به من قيم جمالية. النصف الأعلى مجوَّف حتى يمتلئ بالعلم والمعرفة. والمجوَّف أكثر شفافيةً من المُصمَت، وإن كانت المُصمَت أكثر صلابة. للأجوف رنين وصوت، وللمصمت سكون وموت. وهو مُماسٌّ للعرش، لا وجود لمسافة بينهما تدل على عدم تطابق أو عدم تناسب؛ مثالًا للعظمة والإحكام. تحمله الملائكة وهو أقوى منها، مثل الكركي تحمله رجلاه، تصويرًا أقرب للناس وأقل تجريدًا. له لون وطعم ورائحة، له مذاق، وليس كالماء، أو الإله المجرد، أو الطعم المائع الذي يُصيب الإنسان بالقيء والغثيان. تنبع الحكمة من قلبه؛ مما يدل على العلم الضروري الفطري المغروز في النفس، وفي الوقت نفسه علمٌ تجريبي بناءً على خبرة العالم ومعرفة البشر وعرك الحياة. وبقدر ما يكون العلم باطنيًّا داخليًّا يكون أيضًا تجريبيًّا خارجيًّا يتغير طبقًا للأحداث، فتبدو أشياء ثم تتغير المعارف طبقًا لتطور الواقع وتغير الأحداث، ويتم ذلك خارج الخطأ والصواب؛ فالمعرفة كشف للشيء، وما دام الشيء يتغير فالمعرفة كذلك، وهذا ما بدا في النسخ. وذلك تعليم للبشر للجمع بين العلمين القبلي والبعدي، الفطري والكسبي، الضروري والنظري، الحدسي والاستدلالي.٤٤ لا فرق إذن بين القول بحدوث الصفات أو نفيها والقول بالتجسيم، كلاهما كفر.٤٥ ولكن هل التشبيه هو الإيمان؟ هل إثبات الصفات وقِدمها هو الرأي الصائب، وما دونه هو الضلال؟ وما الفرق بين تشبيه الله بالإنسان وبأن يكون له وجه ويد وعين، وبين تجسيم الله في صورة إنسان يقوم ويقعد ويتحرك، والأمر في كلتا الحالتين يتجاوز اللغة والصورة الفنية إلى الشيء نفسه؟ وما الفرق بين تصور التجسيم لله على أنه جسم، وتصور التشبيه له على أنه جسمٌ حي، لحم ودم وعظم؟ وهل السبب في استثناء الفرج واللحية نفاق السلاطين وتربية لحاهم، ثم فسادهم وانحلالهم وإطلاق العنان لفروجهم؟ إن الفرق بين التجسيم والتشبيه ليس فرقًا في النوع، بل هو فقط في الدرجة. التجسيم أكثر صراحة من التشبيه، والتشبيه أكثر خوفًا. كلاهما يقوم على تصورات الملأ والمحاذاة والبعد والتناهي والجهة والتحت والفوق والعلو والسفل.٤٦ ما الفرق بين إثبات نزول الله وصعوده إلى السماء الدنيا في التشبيه، وبين القيام والقعود والحركة في التأليه والتجسيم؟ وأيهما أكثر تنزيهًا لله، إثبات الأعضاء لله أم تأويل النصوص، فيكون الاستواء هو الاستيلاء، والقدرة والاحتواء، وأن يكون الوجه هو الحضور، واليد المَقدرة، ويكون العين والسمع والبصر هو العلم، والجنب بمعنى الأمر، والفوق بمعنى العلو والتعالي؟ هل المطلوب المحافظة على المعاني الحرفية للنصوص والوقوع في التشبيه، أم تأويل النصوص حفاظًا على التنزيه؟٤٧ أيهما أفضل؛ التفسير الحرفي للنصوص والوقوع في التشبيه، أم التأويل العقلي لها حرصًا على التنزيه؟ وما الحكمة في تصوير اليد والقبضة كيدٍ فعلية إلا الرغبة في البطش؟ وأيهما أفضل؛ الشيئية المادية المشخصة لله، أم النظرة الإنسانية العامة العقلية له؟ وأيهما أفضل؛ أن يكون لله وجه وعينان وشفتان وأذنان ووجنتان وأنف وجبهة وذقن، أم يكون له ما هو بمثابة الحضور والذات والنفس؟٤٨ وأيهما أفضل؛ أن يوصف الله بأنه «فوق» عباده حقيقةً في المكان، أم أنه المُستولي عليهم والأعلى منهم؟ وأيهم أكثر تنزيهًا؛ وصف الله بأنه متين، أي تخين جسمًا، أم أنه قوي؟ وأيهما أكثر فهمًا؛ وصف الله بأنه شديد بمعنى القوة العضلية، أم بمعنى أن حكمه نافذ؟٤٩ وأيهما أكثر عقلًا؛ إجراء النصوص على ظواهرها، أو تفويض معناها، أو تأويلها؟ إن التفسير الحرفي يوقع في التجسيم أو التشبيه، والتفويض تسليم بالعجز وهدم للعلم، لم يبقَ إلا التأويل حرصًا على التنزيه ودفاعًا عنه.٥٠ وهل الصواب مع الفرقة الناجية التي ترفض التأويل وتَقْبل النصوص على ظواهرها، فتقع في التشبيه وتلحق بالتجسيم، أم مع الفِرق الضالة التي تَقْبل التأويل حرصًا على التنزيه؟ أليس العقل أساس نظرية العلم؟ ألا يشمل التفسير الحرفي للأدلة النقلية القطعية للعقل؟ وإن فريقًا من الفرقة الناجية لينضمُّ إلى الفِرق الهالكة في التأويل إيثارًا للتنزيه دفعًا للتشبيه.٥١ كما يرفض فقهاء الأمة وحُماة عقائدها التشبيه، ويُبقون على التميز بين المستويات؛ فقياس الغائب على الشاهد يوقع لا محالة في التشبيه، وعلى هذا القياس تقوم عقائد الفرقة الناجية.٥٢ ومع ذلك فإن كل عقائد الفرقة الناجية في حاجة إلى برهان، هي مجرد تكرار لعقائد الإيمان بالاعتماد على الحجج النقلية دون تأصيل أو تأسيس لعلم الأصول، ولا مفر من الدفاع على التنزيه ولو بأسلوب النفي، كما هو الحال في «آيات السلوب». بالنفي يتمُّ استبعاد مظاهر النقص الإنساني، وبالإثبات يتمُّ استبقاء مظاهر الكمال الإنساني.٥٣ فالأوصاف والصفات كلاهما في الوصف وليس في الموصوف، في الذات وليست في الموضوع. أما الخبر فإنه لا يتوجه إلى وصف الأشياء مباشرةً دون عقل الذات وفهمه له.٥٤

(٢-٣) خلق الأفعال

فإذا ما تركنا التوحيد إلى العمل، من الإنسان الكامل (الذات والصفات) إلى الإنسان المتعين (الحرية والعقل)، فما الكفر في القول بخلق الأفعال وإثبات حرية الإنسان، وبأنه قادر على أفعاله مسئول عنها؟٥٥ وما دام هذا المبدأ قد ثبت، وحرية الإنسان أصبحت واقعًا، فما المانع من الاتساق العقائدي واستنباط النتائج من المقدمات حتى يتولد العدل من التوحيد، ويخرج منه خروج الإنسان المتعين من الإنسان الكامل؟ قد يتطلب هذا القول بفناء مقدورات الله دفاعًا عن حرية الإنسان.٥٦ والأمور كلها تشبيه في تشبيه، إنما الخلاف في الصياغات، واختلاف الإحساس بها طبقًا للعواطف الدينية. تؤدي حرية الإنسان إلى استحقاقه للمدح أو الذم، وقانون الاستحقاق لا يُخرَق لأنه نتيجة للحرية. وإذا كان الإنسان خالق أفعاله، وعلى ذلك يتم الاستحقاق، فما المانع القول كإحدى مسلَّمات التوحيد ومقتضيات العدل بأن الله لا يقدر على ما يقدر عليه الإنسان؟ فالله هو العلم والاتساق والواجب والصدق، أي إنه المبدأ النظري، في حين أن الإنسان هو الفعل والتحقق، أي الواجب العملي. لا تعارض إذن بين الإنسان الكامل والإنسان المتعين، بين المثال والواقع. هذا التفرد للإنسان إنما يتم بخلق الأفعال؛ وبالتالي لا يمكن وأد المولود الجديد باسم الأب الذي منه تولَّد. إن إرادة الله لفعل الإنسان تعني فقط أنه أمر به أو أخبر عنه، لا أنه فعله وقام به بدلًا عنه، وإلا لَزاحم الله الإنسان، ولَنافس الأب الابن. وكيف يتولد الابن ويمنع عنه الماء والهواء؟ وإذا كان الله لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علِم عدمه، في حين أن الإنسان قادر عليه، فليس ذلك تعجيزًا لله وإثباتًا لقدرة الإنسان الفائقة، بل لأن الله هو التطابق والاتساق؛ تطابق النظر والعمل، اتساق الفكر والوجود، في حين أن في الإنسان هناك توترًا بين الاثنين. فالإنسان قادر على أن يفعل ما لا يعرفه بعد، ويعلم ما لم يفعله بعد. هذا هو التمايز بين الإنسان الكامل حيث يتطابق المثال والواقع، وبين الإنسان المتعين حيث يتغايران. ولما كان العقل والصدق مُتناقضين، وكان الإنسان الكامل هو التطابق والاتساق، فإنه لا حرج من القول بأن الله يقدر على ذلك كله. وخطأ الصياغتين هو افتراض تعارض القدرة والعقل، وكلاهما صفتان مُتسقتان في الإنسان الكامل. وإنَّ كفر إعطاء الأولوية للعقل على القدرة ليس بأكثر من الكفر الناتج عن إعطاء الأولوية للقدرة على العقل. وإذا كان العقل مداد الاتساق فإنه لا حرج أيضًا، زيادةً في التأكيد عليه، ورغبةً في مزيد من التعين، من القول بأن الله لا يقدر على تعذيب الأطفال والمجانين. وإذا كانت الغاية من الإعجاز التحدي، فما المانع من قبول الإنسان الدخول في هذا التحدي، وجعل الإنسان قادرًا على أن يأتي بمثل العمل المعجز؟ وهل التحدي محكوم عليه سلفًا بعدم قدرة الإنسان الدخول فيه وقبوله والإتيان بالمثل؟ لو كان الأمر هكذا لما كانت هناك فرصةٌ مُتكافئة بين الطرفين المتنافسين،٥٧ بل إن أية محاولة أيضًا لأخذ قدرات أوسع في الاعتبار مُتشابكة مع القدرة الإنسانية، وذلك مثل قدرات الطبيعة بما فيها من دوافع وموانع يتم أيضًا تكفيرها حتى يتم استئثار الله بكل القدرات. وكأن الإيمان لا يصلح إلا بهذا التصور الأحادي المطلق للقدرة. وقد يتولد الفعل من فعلين، وقد تتعلق القدرة بمقدورين أو قادرين، ولا يعني ذلك شركة في القدرة الإلهية، بل اعتراف بالقدرة الإنسانية وتشابكها مع باقي القدرات في الطبيعة، بل قد تتولد الأعراض في الطبيعة من تلقاء ذاتها دونما حاجة إلى قدرةٍ إنسانية أو غيرها، فالطبيعة خالقةٌ تكمُن فيها الظواهر ثم تبدو تدريجيًّا أو بالطفرة.٥٨ وإذا ما ركَّزت الفرقة الناجية على الجوانب الغيبية في القدرة، فهل هو كفرٌ من الفِرق الضالة أن تُركز على الجوانب الحسية، وأن تعتبر القدرة في سلامة البنية وتأثيرها في الطبيعة؟ ليس للإنسان فعلٌ غير الإرادة، وكل ما سوى أفعال الإنسان حادثة بالطبيعة، بل إن الإرادة من الميل الطبيعي في الإنسان وليس خموله، يقظته دون سهوه وغفلته. وهل التركيز على طبائع الأشياء كفر، واللجوء إلى إرادةٍ خارجية قاهرة تفعل ما تشاء كسلطانٍ أعظم لا يردُّه أحد هو الإيمان؟ بل إن تصور أفعال الله تتم طباعًا أقرب إلى الطبيعة الخيِّرة، حيث تكون إرادة الله تعبيرًا عن حريته، لا كارهًا ولا مُكرهًا؛ ومن ثَم كانت حرية الإنسان خلق الله له في العالم، وأمره إياه دون إجباره وقهره، بل تركه لطبيعته الحرة المُماثلة لطبيعة الخالق.٥٩ وهل الإيمان بالضرورة هو إثبات قدرة قادرة على ما لا يكون وعلى ما لا يعلم القادر، ضد حرية الإنسان وضد قانون الطبيعة؟ وهل الغاية من ذلك هي عتبة السلطان الجائر؟ فما أسهل بعد ذلك إذا ما قامت العقيدة بإعداد البناء النفسي للناس على هذا التسليم للإرادة وإنكار فعلها وقدرتها وحريتها، أن تستسلم لإرادة السلطان الجائر والرضوخ لأوامره.٦٠
وقد انتهى ذلك في العقائد المتأخرة إلى عودة العدل إلى التوحيد بعد أن خرج منه، وتدمير العالم كله، حرية الإنسان وقانون الطبيعة. وأصبح العالم دائرًا بين قطبين؛ الأعلى موجبٌ يستغني عن كل ما سواه، والثاني سالبٌ مفتقر كل ما عداه إليه؛ وبالتالي تأسَّست أنظمة القهر في الذهن وفي النفس على أسسٍ تصورية كونية خالصة قبل أن تتأسس في الواقع كأنظمةٍ سياسية تعتمد على العسكر والجند.٦١ التكفير إذن سلاحٌ مشهور ضد الخصوم السياسيين، حتى ولو كانت عقائدهم تُشارك عقائد الفرقة الناجية، ولكن تُستعمل لحساب المعارضة والثورة، وليس لحساب الخضوع والاستسلام. فإثبات القدر ونفي قدرة الإنسان لو كان ذلك من أجل قدرة الثورة على الظلم، واتِّباع التكليف الذي هو أصل البقاء، فإنه يكون كفرًا. أما إذا أدَّى إلى الخضوع والتسليم فإنه يكون إيمانًا! وإثبات الجبر، والاعتراف بالقضاء والقدر، لو كان الهدف من ذلك الثورة ضد الظلم والانتصار للحق ضد الباطل — وهو ما حاولته الحركات الإصلاحية الحديثة باعتبار أن الإيمان بالقضاء والقدر يولِّد قوةً هائلة على التحرر؛ لأنه يمنع من التردد والإحجام والشك والتذبذب — فإنه يكون كفرًا. أما إذا ولَّد الإيمان بالقضاء والقدر الاستسلام للأمر الواقع، والخضوع للسلطان، فهو لُبُّ الإيمان!٦٢ إن الفرقة الناجية في موضوع خلق الأفعال تعلن عن الإيمان، وهو تحصيل حاصل دون برهان أو إقناع. وإذا كان عمل العقل في التوحيد غالبًا ما يكون تحصيل حاصل، إلا أن عمله في خلق الأفعال يقوم على تحليل السلوك الإنساني. وما الفائدة من الدفاع عن حق الله وحقوقُ الإنسان أولى بالدفاع؟ ألا تؤدي عقائد الفرقة الناجية في موضوع الأفعال إلى تدمير الإنسانية المستقلة، والقضاء على المبادرة الحرة، وإنهاء أية إمكانية للخلق والإبداع؟ ألا ينتهي ذلك إلى تبرير نُظُم القهر والطغيان، فما أسهل أن يتمثَّل السلطان دور الله، ثم يُزحزحه شيئًا فشيئًا حتى يتحوَّل إلى سلطانٍ إله، ويتحول الله إلى إلهٍ سلطان؟ هل النجاة في الاستسلام للأمر الواقع، وإنهاء أية إمكانية للتغيير في الحاضر أو المستقبل؟

(٢-٤) العقل الغائي

ولا يظهر سلاح التفكير كثيرًا في موضوع العقل الغائي، الشِّق الثاني من أصل العدل في الإنسان المتعين؛ إذ تتفق الفِرق جميعًا الناجية والضالة في أن للعقل دورًا في فهم النقل، وهو أساس نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى، بل يحتاج التشبيه إلى عقل من أجل الأحكام النظرية. ولا غرابة أن يكون أول الخلق حيًّا حتى يصحَّ منه الاستدلال؛ إذ لا استدلال بلا حياة.٦٣ وإن تحليل الألفاظ في النقل لا يتم إلا بالعقل، وإلا لكان استعمالًا لحجة سلطان بلا برهان. ولا سبيل إلى إحكام الألفاظ المُتشابهة، أو إلى تحقيق المجاز، أو تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو الاستثناء، إلا بإعمال العقل في اللغة. والألفاظ إما من الوحي أو من الاستعمال أو من العقل؛ فالعقل الذي يشمل الحس والاشتقاق قرينة لفهم النص مع الاصطلاح والعُرف. وإن تحليل الترادف والاشتراك والتضاد إنما يتمُّ ذلك كله بالعقل. وإذا كان اللفظ إنما هو وسيلة لحمل المعنى ودال على دلالة، فإن المعنى أو الدلالة لا يمكن فهمها إلا بالعقل.٦٤ لا سبيل إذن إلا استعمال التأويل؛ فإذا كان التفسير الحرفي يوقع في التجسيم والتشبيه، فإن التأويل الباطني يوقع في تجسيمٍ مُضاد، وتشخيص للنص، وتعيين له في واقعٍ نفسي معيَّن. فإذا كان التجسيم والتشبيه يتمَّان في مجتمع السلطة، فإن التأويل الباطني يتم في مجتمع الاضطهاد. فكل مضطهَد يثور على الاضطهاد يكون بيانًا للناس، وهو المخاطب بالوحي، وهو الذي يحل روح الإله فيه، ويكون الظالم هو الطاغوت والشيطان.٦٥ فإذا كان التأويل الحرفي إنما يتبع المُتقدمين ويُقلد السابقين دون إعمال لقواعد اللغة أو لمصالح الأمة، فإن التأويل العقلي إنما يهدف إلى تنزيه التوحيد وتثبيت العدل. إن الفهم الحرفي للنصوص يؤدي إلى تحويل الصورة الذهنية إلى شيء، والأثر النفسي إلى واقعةٍ مادية، والخيال إلى حس، حتى ولو اصطدم ذلك بالعقل والطبيعة والحرية وخالف المسئولية والقانون والعدل، في حين يبدو أن العقل هو السبيل لفهم حقائق الوحي، وتحويلها من الصورة الذهنية إلى المعنى العقلي، من التشبيه إلى وجه الشبه. التأويل العقلي إذن هو السبيل إلى التنزيه وفهم الوحي، والقضاء على كل أساس مادي أو حسي في التجسيم، والرجوع من الصور الذهنية إلى المعاني العقلية، والانتقال في النهاية من التشبيه إلى التنزيه. العقل هو الوسيلة التي بها يمكن إحكام التشابه في النصوص؛ إذ إن كثيرًا منها مجازيًّا لا يحتوي على فكرة بقدر ما يُوحي بصورةٍ فنيةٍ الغرضُ منها التأثير على النفوس؛ فالتأويل ضرورة للتنزيه.٦٦
فإذا كان العقل أساسًا للنقل فمن المستحيل تكفير القول بالواجبات العقلية، أو تبرئة الله عن فعل القبائح، وتنزيهه عن فعل الشرور والآثام، أو الصلاح والأصلح، والغائية والعلية، أو اللطف والألطاف، أو العوض عن الآلام. فما العيب في الإنسان العاقل؟ أليس الحسن والقبح العقليان أفضل من الحسن والقبح الحِسيَّين وأوسع نطاقًا وشمولًا؟ وما الضرر في العقل الغائي؟ ما العيب في ارتباط أفعال الله بمصلحة الإنسان وتبرئة الله عن الشرور والظلم والقبح؟ وما الضرر في اعتبار الإنسان حرًّا مسئولًا، وأن الخير والشر من فعله بدلًا من نسبتهما إلى الله وتدمير حرية الإنسان، أو تبرئة الله واتهام الإنسان؟ وأيهما أفضل في تصور العالم؛ العشوائية أم الغائية، اللامعقول أو العلية؟٦٧ إن عقائد الفرقة الناجية إنما هي دفاع عن الله، في حين أن عقائد الفِرق الهالكة إنما تُدافع عن الإنسان. وإلى أي الدفاعين نحن أحوج؟ ويؤدي الدفاع عن الله إلى الدفاع عن السلطان؛ فكلاهما دفاع عن السلطة المطلقة، فتختلط السلطتان، سلطة الله وسلطة السلطان، في أذهان العامة وفي نفوس الجماهير. في هذا التصور لا وجود لقانونٍ معروف مطلق وشامل، بل يوجد قانون مشخص بإرادة السلطان. لا وجود للغائية والقصدية، لا وجود للمراجعة والتظلم، أو الرقابة والسيطرة الشعبية، لا وجود للعدل كمقولةٍ بعد أن ابتلعها التوحيد من جديد، وأصبح مُسيطرًا على كل شيء. لا وجود للثورة على الظلم بعد أن أصبح كل واقع في العالم عدلًا.٦٨ فكيف ينجو الإنسان بنفسه بعقائد الفرقة الناجية؟ ولمَ الاتهام بالضلال وللقول بأن الإنسان هو الروح، وأن البدن آلتها؟٦٩ أليست هذه هي النظرة المثالية السائدة عند كل الفِرق وفي إيمان العوام والموروث العقائدي للأمة؟ ألا يتفق هذا التصور مع النظرة المثالية للعالم؟ إن عقائد الفرقة الناجية إنما تمَّت صياغتها من وجهة نظر الله، فيضع المتكلم نفسه مكان الله وينظر إلى العالم، فيراه ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا، ويرى إرادته المخالفة لإرادات الناس، ويراه الآمر والناهي في الأشياء، ويرى كل ما في العالم خاضعًا له. بينما تمَّت صياغة عقائد الفِرق الهالكة من وجهة نظر الإنسان، فيرى المتكلم ذاته محضة لا يمكن ردُّها إلى صفات أو إلى أفعال، ويرى الإنسان حرًّا مُريدًا قادرًا له عقل يُدرك به الحسن والقبح. فالفِرق الهالكة أقرب إلى الموقف الإنساني، أما بالنسبة للفرقة الناجية، فالله وحده هو القادر على إثباتها؛ لأن عقائدها مُتضمَّنة في العلم الإلهي. الفِرق الهالكة أقرب إلى التواضع ووصف الأمور على ما هي عليه، في حين أن الفرقة الناجية أقرب إلى الغرور والادعاء وهي يتصف الأمور من خارج الموقف الإنساني، فتنتهي إلى تحطيمه، وتقع في الاغتراب. فإذا ما قارنَّا فترتين من التاريخ، كلٌّ منهما تُعبر عن روح العصر وروح الحضارة، الأولى عصر الازدهار، والثانية عصر الانهيار، لَوَجدنا أن الإجماع السابق إنما نشأ في عصرٍ معيَّن، في مجتمعٍ مُنتصر عبَّر عن نفسه في نسقٍ عقائدي مركزي، لاهوت القوة والسيطرة والخضوع والطاعة. كل شيء يدور في كنف هذه السلطة المركزية ممثَّلةً في الله أو في السلطان أو في الأمير أو في رب الأسرة. ولما كانت روح العصر وروح الحضارة قد تغيَّرا حاليًّا نفسيًّا واجتماعيًّا، أصبح هذا اللاهوت القديم أحد أسباب مآسيه، يستغلُّه الطاغية لتركيز سلطانه في نفوس الناس. وما أسهل انقياد الجماعة للطاغية إذا كان لديهم من قبلُ الاستعداد النفسي لذلك. وفي هذا العصر حيث بدأت حركات التحرر، ينشأ لاهوت التحرر أو لاهوت الثورة، وينشأ إجماعٌ جديد؛ إذ إن لكل عصر إجماعَه يُعبر عنه وعن مصالح الناس، يثبت القدرية على خلق الأفعال وسلطة العقل وحق الجماعة وضرورة الثورة على الظلم ورفض السلطة المركزية، وما يتبعها من خضوع وطاعة وولاء.

(٣) هل هناك تكفير في السمعيات (النبوات)؟

تشمل السمعيات موضوعاتٍ أربعة: النبوة؛ أي تاريخ البشرية في الماضي وتطور الوحي. والمعاد؛ أي مستقبل البشرية وإمكانية حياة أخرى بعد الموت. والإيمان والعمل. وأخيرًا الإمامة. وكلها من السمعيات التي لا يجوز تكفير أحد فيها؛ لأنها لا يمكن إثباتها بالعقل. فإذا جاز تكفير أحد في الإلهيات، أي العقليات، لأنها من القطعيات، يستطيع الإنسان أن يصل فيها إلى يقين، فإنه لا يجوز تكفير أحد في السمعيات، أي النبوات؛ لأنها من الظنيات التي لا يستطيع الإنسان أن يصل فيها إلى يقين نظرًا لاعتمادها على النقل فقط، والنقل لا يُعطي إلا الظن، والظن لا يُغْني من الحق شيئًا؛ وبالتالي فإن تكفير الفِرق الضالة في السمعيات هو في ذاته خروج على عقائد الفرقة الناجية.

(٣-١) تطور الوحي (النبوة)

ففي موضوع النبوة، ما العيب في القول بأن نظم القرآن ليس بمعجزة في ثقافةٍ تقوم على الإبداع الشعري واللغوي؟ ولماذا لا يكون الإعجاز خارج النظم في الفكر والتشريع والمنهج، وهو ما لم يعرفه العرب كثيرًا من قبل؟ وما الذي يمنع الإنسانَ من أن يُثبت جدارته، قابلًا التحدي، قادرًا على النظم شعرًا وإبداعًا وخلقًا مُتشبهًا بالله دون تقليد للقرآن ما دام الإعجاز ليس في النظم بل في الفكر، ليس في الصورة بل في المضمون؟ ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم، بل كتاب فكر، وليس الغرض منه تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك الإنساني بقواعد، بل مساعدة الطبيعة على الازدهار، والحياة على النماء. وإن إنكار سورة منه مثل سورة يوسف نظرة تطهرية صرفة، وكأن الجنس عيب وتحليلَه رذيلة، وكأن الصمت فيه واجب والتسترَ عليه فضيلة. وإذا كان القرآن حادثًا فهو جسم؛ وبالتالي ينطبق عليه التحول إثباتًا لدخول الوحي في العالم، قراءته وسماعه بالصوت، وكتابته ورؤيته بالحرف، وفهمه بالذهن، وتطبيقه بالفعل. فما دام القرآن قد نزل فقد أصبح جزءًا من العالم ولم يعُد صفةً أزلية للذَّات الإلهية كما هو الحال في الكلام. وكلما ركَّزت الفرقة الناجية على الكلام الأزلي والقرآن القديم، حدث رد فِعل عند الفِرق الهالكة بإثبات الكلام في العالم والقرآن الحادث. وما أسهل أن يولد الدفاع عن حق الله دفاعًا مُضادًّا عن حق الإنسان. ولماذا إثبات كرامة الأولياء وتعميم المعجزة على غير الأنبياء؟ أليس ذلك خرقًا لقوانين الطبيعة، وإيهامًا للناس، وقضاءً على العقل والفعل والمبادرة والمسئولية الفردية؟ وكأن من الطبيعي أن يولد تركيز الفرقة على الأنبياء كدليل على صدق النبوة واستمرارها في الأنبياء قولَ الفِرق الهالكة بجواز بعثة الرسل بلا دليل.٧٠
وفي مجتمع الاضطهاد من الطبيعي أن يصير الإمام نبيًّا إن لم يكن إلهًا؛ فهو صاحب رسالة وبلاغ، صاحب دعوة وحق، إحساسًا بالدعوة والرسالة من أجل شحذ الهمة ولمِّ الشمل وتجنيد الدعاة. وكردِّ فِعل على اغتصاب السلطة من الإمام الجائر يرتفع الإمام المظلوم إلى مصافِّ النبي. وكأن النبوة أساس للإمام وليست للنبي. ولكن الذين أخذوا مكان الإمام، أئمة الزور، هم الذين منعوه. والقول بأن جبريل أخطأ في تبليغ الرسالة إلى الرسول الحق هو مجرد تشبيه ومغالاة من أجل إعادة الحق الضائع إلى الإمام المهضوم. وإذا كان النبي يأخذ النبوة من الله بواسطة جبريل، فإن الإمام نبي من الله مباشرة، يمسح الله رأسه بيده، ويطلب منه التبليغ للناس مباشرةً بلا حاجة أو واسطة، وهي درجة في القرب أعظم. والوحي متصل لا ينقطع، تتواصل النبوة في الإمامة؛ مما يجعلها أكثر قدرة على تجنيد الناس. وقد تُعمَّم النبوة، ويصبح كل مؤمن نبيًّا حتى ينشأ الفرد الداعية صاحب الفكرة والمُحافظ على المبدأ. وقد يبلغ إيمان البعض إيمان الملائكة؛ فليس صعبًا إنشاء الإنسان المتوفق «السوبرمان». ينالون الخلود، ويُرفعون إلى السماء كما هو الحال في تاريخ الأديان في اليهودية (أخنوخ، دانيال)، وفي المسيحية (المسيح). وقد يغلب الواقع الحلم فيموتون. النبوة والرسالة صفتان غير الوحي. والوحي هو الشيء المحمول، والرسالة علاقة النبي بغيره (البعد الأفقي)، أما النبوة فعلاقة النبي بالله (البعد الرأسي). إذا ما تطوَّرت النبوة ثبتت الإمامة؛ لأن تطور النبوة إثبات للإمامة وتحقيق لغايتها. كل مرسل رسول، وليس كل رسول مرسلًا. وذلك إثبات آخر للإمامة؛ لأن الإمام مرسل، وبالتالي فهو رسول. والمعجزة والعصمة ليسا حكرًا على النبي، بل يعمَّان الإمام. الخلاف إذن بين الفرقة الناجية والفِرق الضالة خلاف في الدرجة وليس في النوع؛ فكلاهما يُثبتان المعجزة والكرامة والعصمة، ثم يختلفان في الثبوت فيه؛ النبي وحده أم النبي والإمام. وإن الظروف النفسية لمجتمع الاضطهاد، عزل الإمام وتثبيت خلفاء النبي، هي التي ولَّدت رد فِعل دفاعي مُضاد، تثبيت الإمام حتى ولو أدَّى ذلك إلى عزل النبي.٧١ إن الفرقة الناجية لا تميز بين مراحل الوحي السابقة وبين آخر مرحلة، وتقضي على الفِرق في النوع بين العموم والخصوص، بين تطور النبوة واكتمالها، بين الحاجة إلى المعجزة كبرهانٍ خارجي، والحاجة إلى دليلٍ داخلي في الفكر والتشريع. فالوحي في آخر مرحلة عندما تكتمل النبوة لا يفعل الأعاجيب، ولا يقوم على المعجزات، بل يكون قد أدَّى غرضه، وهو الإسراع في تطور الوعي الإنساني وتحقيق كماله، حرية الإرادة واستقلال الذهن. فإذا ما تحقَّقت الغاية لم يعُد الإنسان بحاجة إلى نبوة، يكتمل الوحي وتنتهي النبوة، ويصبح العلماء ورثة الأنبياء؛ أي استمرار الوعي النظري والممارسة العملية في قيادة الأمة وتأسيس الدولة. وهو أيضًا ما أكَّدته الحركة الإصلاحية الأخيرة.٧٢

(٣-٢) مستقبل الإنسانية (المعاد)

وفي موضوع المعاد، لماذا يكفر قانون الاستحقاق؟ ولماذا الاعتراض على منع التوبة في حالة الإصرار عليها والعلم بها والقدرة عليها؟٧٣ وما العيب في أن يكون العقل مناط التكليف؟ أليست هذه كلها أيضًا من عقائد الفرقة الناجية؟ ليس المهم إذن هو التكفير العقائدي النظري، بل مدى توظيف هذه العقائد دفاعًا عن السلطة كما تفعل الفرقة الناجية، أم الثورة عليها كما تفعل الفِرق الضالة. وأيهما أفضل؛ الاستحقاق أم الشفاعة، التوبة أم العفو، الشهادة أم البشارة كطريق للجنة؟ ونظرًا لأهمية التكليف والإيمان، فمن الطبيعي أن يكون اليهود والنصارى والزنادقة والمجوس والأطفال والبهائم لا يدخلون جنةً ولا نارًا؛ فالعقل والتبليغ أساس التكليف. وهو لا يختلف كثيرًا عن عقائد الفرقة الناجية. وفي تشخيص قانون الاستحقاق بعد الموت، فإن القول بالتناسخ هو نوع من إثبات خلود الروح والمادة معًا، كما هو الحال عند آخر الحكماء في خلود العقل الكُلي ضد الفردية والتقطع من أجل الشمول والتواصل، بالرغم من الاعتراضات الفقهية عليه. وقد يكون الدافع لإنكار القيامة هو حدوث الهول والزلزلة في الدنيا، فلم يعد هناك فرق بين الواقع والخيال؛ إذ يتحول الواقع إلى خيال، والخيال إلى واقع. فالنعيم والعذاب في الدنيا وليسا في الآخرة، دون حاجة إلى تعويض عن الدنيا في الآخرة. وقد يحدث تشخيص للجنة والنار، فتصبح الجنة رجلًا تجب موالاته وهو الإمام، والنار رجلًا تجب عداوته وهو عدو الإمام، يتحول كل شيء إلى الإمام ونقيض الإمام. ولماذا تُخلَق الجنة والنار الآن ولا حاجة لأحد بهما؟ من يقطُن فيهما؟ وما الفائدة منهما وهما بلا سكان؟ وأيهما أفضل؛ مشاركة الجنة والنار صفة البقاء، أم القول بفنائهما حتى يبقى الله وحده؟ وما دام الأمر كله تشبيهًا وتشخيصًا، فالقول بأن الجنة والنار لم يُخلَقا بعدُ هو أقرب إلى العقل، وأكثر سيطرة على الخيال.٧٤ إن عقائد الفرقة الناجية في أمور المعاد تشخيص وتشبيه وتصوير، كما هو الحال في التوحيد، دون تمييز بين قانون الاستحقاق وصوره المشخصة. تقضي على قانون الاستحقاق، وتوقع الإنسان في عالم لا يضبطه قانون ولا يحكمه فكر، وتتحول الفرقة الناجية إلى أهل هوًى وضلال.٧٥

(٣-٣) النظر والعمل (الأسماء والأحكام)

ويبدو أن التكفير العقائدي النظري في أصلَي التوحيد والعدل كان الغرض منه استبعادًا عمليًّا لفِرق المعارضة. فإذا وقع التكفير في الموضوعات العقلية الأربعة، الذات والصفات وخلق الأفعال والعقل والنقل، فإنه لم يقع إلا في موضوعين سمعيَّين، النبوة والمعاد، دون الإيمان والعمل والإمامة، مع أن هذين الموضوعين هما بيت القصيد. النبوة والمعاد يُشيران إلى التاريخ العام، في حين أن النظر والعمل والإمامة تُشير إلى التاريخ المُتحقق. والقصد كله هو تكفير العمل الفردي والعمل الجماعي. الأول مُتمثل في الفعل، والثاني في الثورة. القصد من الأول إخراج العمل من الإيمان حتى لا يتم تكفير السلطان، والثاني الغرض منه الطاعة لأُولي الأمر حتى لا يقع الخروج عليهم. العمليات إذن هي الغاية من التكفير تحت غطاء النظريات.٧٦
ففي موضوع الإيمان والعمل من الطبيعي أن يتحول الإيمان في جماعات الاضطهاد إلى ثنائيةٍ مُتصارعة بين النور والظلمة في نسيجٍ أسطوري. الإيمان نور، والكفر ظلمة. والإيمان للمضطهَدين، والكفر للبُغاة. الإيمان هو نور الكون وحلو المياه، والكفر ظلمة الأشياء وملوحة البحار. وإذا كان الإيمان قديمًا في عهد الذر حيث شهد الخلق على أنفسهم بالإيمان بقولهم «بلى» في عهد «ألست»، فهو باقٍ في الجميع إلا المُرتدين. وإذا كان إيمان المنافق مثل إيمان الأنبياء، فذلك للضيق بالجميع وفقدان القدرة على الحكم، والانتهاء إلى التناقض والعدمية في كل شيء.٧٧ وكان من الطبيعي استحلال المحرَّمات في مجتمع الاضطهاد، في عالمٍ كفر بالقوانين والشرائع، يجعل الظلم دولة، والحق سجنًا، والعدل استشهادًا. وإذا سقطت الشرائع فإن ذلك دفاع عن النفس ضد الآخر، فالشرائع تُطبقها دولة الظلم ويرفضها مجتمع الاضطهاد، يكفي فهمها حتى تسقط كما هو الحال عند الحكماء والصوفية. وإذا كانت جماعة الاضطهاد هي أقليَّة مُضادة، فإن إبطال الشرائع يكون هدمًا لمجتمع الأغلبية، غيره من المجوس، وانتقامًا لزوال دولتهم. إن طبيعة المجتمع المغلَق تؤدي إلى تكييف القانون طبقًا للجماعة، فتجوز شهادة الزور على المخالفين، واستباحة المحرَّمات فيما بينهم؛ فالحلال والحرام طبقًا لنوع المجتمعات مُغلَقة أو مفتوحة، ولنوع نُظُم الحكم قاهرة أو معارضة؛ فالحلال والحرام وسيلة السلطة للضبط الاجتماعي، كما أن الإباحة وسيلة المعارضة لزعزعة أركان النظام.٧٨ وما العيب في استقطاب الناس وتجنيد الجماهير ونشر الدعوة وبث روح المعارضة من أجل القضاء على حكم الظلم والطغيان؟ وإذا كانت الدولة صاحبة فتوح باسم الدعوة، فإن الثورة صاحبة الحق. وإن تجنيد الناس في الثورة عن طريق الإقناع الفردي لهي وسيلة للانقضاض على النظام من الداخل عن طريق خلق فراغات فيه، وتكوين بؤر ثورية من داخله، حتى يقوم النظام كله على فراغ، فينهار لانحسار أمته وفقده مساندتها له.٧٩
ولا يتم فقط تكفير مجتمع الاضطهاد المغلَق لإسقاطه الشرائع كليةً، بل يتم أيضًا تكفير مجتمع المعارضة المفتوح.٨٠ والعجيب تكفير من يُسقط الشرائع ومن يُثبتها، وكأن الشرائع مجرد ذريعة فقط لتكفير المعارضة أيًّا كان نوعها. فما العيب في جعل الإيمان علمًا والكفر جهلًا؟ ألا يُشير العلم والجهل إلى مستوى النظر والمعرفة في السلوك؟ وما العيب في القول بالمنزلة بين المنزلتين، ومحاولة إيجاد حكم لمرتكب الكبيرة بين الإيمان والكفر حفاظًا على وحدة الأمة، وفي الوقت نفسه حفاظًا على وحدة الإيمان والعمل؟ ليس في القول بالمنزلة بين المنزلتين تهاوُن مع الصغيرة أو مع الكبيرة؟ فمن الفساق من هم أشرُّ من الزنادقة والمجوس. المهم هو زعزعة الأحكام المتناقضة على طرفَي النقيض، مثل رفض الإجماع على حد الشرب، واعتبار سارق الحبة مُنخلعًا عن الإيمان، وإيجاد حكم يستجيب إلى مَطلبَي النظر والعمل، ضرورة الوحدة في النظر والتمايز في العمل. وعلى هذا يقوم قانون الاستحقاق.٨١
وقد تم أيضًا تكفير الاتجاهين المُتعارضين في الإيمان والعمل، اتجاه الشدة واتجاه اللين،٨٢ وكأن الهدف هو تكفير كل فِرق المعارضة، تجريح سلوكها، سواءٌ أسقطت الشريعة أم قالت بالتوسط فيها، سواءٌ أخذت موقفًا مُتشددًا أو أخذت موقفًا لينًا. فما العيب في القول بضرورة النظر السليم ومعرفة الحلال والحرام كرد فِعل على الخلط النظري في الإيمان كأساسٍ معرفي للسلوك؟ ما الخطأ في التركيز على المعرفة كأساس للسلوك في التفرقة بين الإيمان والتكفير؟ أليست معرفة الله ضرورية للإيمان ضرورة الفعل والسلوك؟ وإذا كانت أسماء الله معايير للسلوك، فإن الإيمان يكون معرفة الإنسان بها والكفر جهله بها، ببعضها أو كلها، ومع ذلك يمكن العذر بالجهالة؛ وبالتالي لا يمكن تكفير الفرقة الناجية لذلك إلا إذا كان القصد من التكفير استبعاد المعارضة، والتستر على ذلك بالآراء والمواقف النظرية.٨٣ أما بالنسبة للعمل، فلماذا يكفر من يأخذ الأمور بالشدة في وقتٍ عزَّ فيه العمل، وعمَّ الجهل والخلط، وازدهر فيه النفاق، وتم التشريع فيه للفسق؟ وما العيب في جعل العمل جزءًا مُتممًا للإيمان، فالإيمان بلا عملٍ فارغ، والعمل بلا إيمانٍ أهوج؟ لقد كان ذلك رد فِعل طبيعي على إخراج العمل عن الإيمان، أو اعتبار مُرتكب الكبيرة مؤمنًا؛ حمايةً للسلطان، ودفاعًا عنه، واتقاءً له من مخاطر الثورة ضده. فمرتكب الكبيرة كافر نظرًا لأهمية العمل والعمل المؤثر. وقد يصل إلى حد تكفير النبي إذا ما ارتكب الكبيرة. ومع ذلك قد يظلُّ مُرتكب الكبيرة ومُوحدًا، وإن كان غير مؤمن، أو يكون كافر نعمة وليس كافر ملة. وفي هذه الحالة لا يمكن للفرقة الناجية تكفيره نظرًا لتوحيده.٨٤ ولما كان الطرفان يلتقيان فقد تتحول الشدة مع الآخر إلى اللين مع الذات؛ الشدة مع مجتمع القهر، واللين مع مجتمع الاضطهاد، فلا حرام إلا ما حرَّم القرآن. وهذا مَظهر من مظاهر التشدد مع الآخر كرد فِعل على الاحتكام إلى أهواء الناس. والسكر من الشراب الحلال حلال؛ لأن العبرة بالبداية لا بالنهاية، هذا مظهر من مظاهر اللين مع النفس. وإيقاف الحدود للقاذف والزاني تلبية لمطالب المجتمع المغلَق في مواجهة مجتمع القهر، الطهارة في مواجهة النجاسة. وإن الإبقاء على الحدود وعدم التكفير على الإطلاق هو إبقاء على بعض الصلاة بالمجتمع الأم، ومع ذلك يؤدي نظام القرابة والمصاهرة من بين مجتمع القهر وأخذ الزكاة من العبيد إلى تقويته، وإحكام غلقه في مواجهة مجتمع القهر. ويمكن قبول طاعة لا يُراد الله بها ما دامت تؤدي إلى صلاح النفس، فالطاعة حسن في ذاته.٨٥ ومن مظاهر التشدد اعتبار الأطفال كالآباء إيمانًا وكفرًا في مجتمع القهر. وما المانع أن يتحمل الأطفال المسئولية منذ الصغر مع الكبار، سواء مع الآخر أو مع النفس؟ وقد تجب البراءة من الطفل حتى يُدعى إلى الإسلام، ودعاؤه إليه بعد البلوغ.٨٦ والإمام هو عصب مجتمع الاضطهاد؛ لذلك ارتبط موضوع الإيمان والعمل بموضوع الإمامة؛ فتطبيق الحدود لا يجوز إلا للإمام، فهو السلطة الشرعية فيه في مقابل السلطة اللاشرعية للسلطان الباغي في مجتمع القهر. والأولوية لإيمان الإمام أو كفره نظرًا لآثار ذلك على إيمان الناس وكفرهم؛ لذلك يرفض التحكيم بصرف النظر عن مطالبة أنصار الإمام به، فلا تحكيم بين الحق والباطل. ويتم تكفير القعَدة عن القتال في صف مجتمع الاضطهاد، فذلك خنوع واستسلام، ومساومة على الحق، وتأييد للظلم. وقد تُمارس بعض مظاهر العنف، مثل اغتيال المخالفين، للقضاء على نظام البغي والتسلط. ويدخل الله مع مجتمع الاضطهاد في مُوالاته ومُعاداة مجتمع القهر.٨٧ والحقيقة أن مشاركة كثير من الفِرق الضالة في العقائد نفسها، مثل أصلَي التوحيد والعدل، تجعل الفِرق الضالة تُمثل تيَّارًا رئيسيًّا في عقائد الأمة، وليس مجرد فِرق متفرقة بينها فروق؛ مما يدل على إمكانية التوحيد بينها في عقائد مُضادة ضد النسق الحضاري للفرقة الناجية؛ وبالتالي تكون العقائد اثنتين؛ عقائد حكم وعقائد ثورة، عقائد سلطة وعقائد مُعارضة.
ويصل حد التكفير إلى حد تكفير الفرقة الناجية لنفسها وتضليلها لعقائدها، وذلك باعتبار الإيمان مجرد معرفة أو إقرار أو تصديق، وإخراج العمل منه وإرجائه إلى يوم الدين، يكفي أن يكون الإيمان معرفة بالله وخضوعًا ومحبةً بالقلب بصرف النظر عن الأفعال، ولا تضرُّ مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الإيمان طاعة، وأن إبليس كان مؤمنًا لأنه كان عارفًا بالله، وكفر فقط لاستكباره ورفضه الخضوع والسجود، ولا يُحكَم عن إنسانٍ فاسق على الإطلاق، بل أنه فسق في فعلٍ خاص، ولا تهمُّ الوقائع التاريخية كمصداق للإيمان؛ فالإيمان له مضمونه الداخلي وليس الحدث الخارجي، ومحمد كشخصٍ تاريخي، ومكة كمدينة، والكعبة كمكانٍ خارج مضمون الإيمان. الإيمان مُكتفٍ بذاته، مُنعكف على ذاته، لا شأن له بالعالم الخارجي.٨٨ وواضح من هذا الموقف الرغبة في تبرئة السلطان، وذلك بالفصل بين إيمانه وعمله. تكفيه معرفة الله ومحبته ورجاء أفعاله إلى يوم الدين، يُحاسَب عليها في الآخرة، ولا تُحاسبه الأمة عليها في الدنيا. وقد يكون تكفير الفرقة الناجية للإرجاء نوعًا من التعمية والتستر على مواقفها الخاصة المُشابهة للإرجاء.

(٣-٤) الحكم والثورة (الإمامة)

أما موضوع الإمامة فيكشف عن المواقف السياسية للفِرق، واستعمال الفرقة الناجية سلاح التكفير ضد الخصوم السياسيين؛ فليست الإمامة كلها رجعة وتقيَّة وعصمة وألوهية للإمام، بل هي أيضًا أحكامٌ تاريخية تكشف عن اختيارٍ سياسي، ثم نُسجت النظرية حوله فيما بعد. وفي شدة الأزمة وفي قلب الفتنة يتمُّ تكفير الجميع حتى الإمام الذي لم يُقاتل؛ فاليأس من الحفاظ على وحدة الأمة أدَّى إلى التشرذم والتقوقع، وتحوَّلت الأمة إلى أممٍ صغيرة، كلٌّ منها على حق، والجميع على باطل. وكان من الطبيعي التمسك بالإمام المظلوم وبأولاده ونسبه زيادةً في التمسك به لما تحوَّلت الخلافة إلى ملكٍ عضود؛ فابن الإمام أولى بالحكم من ابن الملك أو الأمر! ولكن لماذا يكون الخلاف السياسي مَدعاة للتكفير؟ وهل الصراع على السلطة أمرٌ عقائدي؟ ولماذا تكفير من يجمع بين النص والشورى، أو من يقول بالشورى كما تقول الفرقة الناجية، أو من يقول بالدعوة والخروج قتالًا للإمام الظالم، وهو ما تقوله أيضًا الفرقة الناجية؟ ولماذا تكفير من يتوقَّف عن التكفير؟ هل لا بد من إشهار سلاح التكفير في مجتمعٍ ديني حتى يسهل عزله سياسيًّا، فيتم حصاره بين رفض السلطة له وترك الجماهير له؟ فإذا ما تحوَّلت الإمامية إلى موقفٍ سلفي خالص، فهل ستظلُّ سببًا للتكفير؟٨٩ وفي مجتمع الاضطهاد من الطبيعي أن يحيا الإمام باستمرار في وجدان المضطهَدين، وإن غاب فإنه يعود من جديد من عزلته وتقيَّته ليقود الثورة. وهل يكون للظلم الكلمة الأخيرة؟ وهل يكون الاستسلام للأمر الواقع هو الحل النهائي والسلوك الأمثل؟ هل يموت الإمام ظلمًا دون أن يستأنف دورةً أخرى من القتال؟ لقد عاد المسيح مُعلمًا، ولماذا لا يعود الإمام مُنقذًا ومُنجيًا؟ إن المهدية و«الميشانية» صِنوان في تاريخ الأديان بالنسبة لمجتمع الاضطهاد. إن تناسخ الأرواح بين الأئمة يعني الاتصال التاريخي بينهم، ووجود روح في التاريخ وقانون باطني يحكم بانتصار الثورة على الظلم. ليس الأئمة مجرد أفراد مُنفصلين مُتقطعي الأوصال. الاتصال أقوى من الانفصال، والتواصل أمضى من الانقطاع. إن حياة الإمام وخلوده لَردُّ فِعل طبيعي في مجتمع الاضطهاد على موته ظلمًا واستشهاده في القتال. كما تدلُّ عصمة الأئمة على مدى ثقة الناس في الزعيم، وعدم جواز الخطأ عليه، في حين أن النبي لا يحتاج إلى ذلك لأنه مؤيَّد من الله. ولماذا لا يكون الإمام مُعلمًا بعد أن ضاع العلم من صدور الناس؟٩٠
وإذا شُهِر سلاح التكفير ضد فِرق المعارضة السرية من الداخل، فالأولى أن يُشهَر ضد فِرق المعارضة العلنية من الخارج الذين يُقاومون السلطان، ويجعلون العمل جزءًا لا يتجزأ من الإيمان، ويُكفرون مرتكب الكبيرة. وهل كان من يرفض شرط القرشية يكون ضالًّا؟ إن القرشية شرط حتى لا تخرج الإمامة من قبيلة بعينها، في حين أن شروط الإمامة العلم والعدل والورع، وليس فيها النسب أو الحسب. وإن عدم وجود نصب الإمام لينتُج عن إيمان بالفطرة الخيِّرة دونما حاجة إلى سائسٍ يسُوسها، على عكس الفرقة الناجية التي تُصر على وجوب الإمامة والطاعة له. وإذا وجبت الحرب فإنها لا تكون إلا ضد عسكر السلطان، ولا تكون الغنيمة إلا من أموالهم. وهي آراء سياسية لا تستوجب الكفر أو الضلال.٩١
ويتمُّ أيضًا تكفير فِرق المعارضة العلنية في الداخل؛ لأنها ترفض تكفير الفِرق المتنازعة والدخول كطرف في نزاعٍ تتطاير من أجله الرقاب، فهل رفض التكفير كفر؟ ألا يكفر من قال لأخيه أنت كافر؟ وإن عدم تفسيق أحد الفريقين لهُو أقرب إلى لمِّ الشمل وجمع الكلمة مثل عدم تفسيق أحد بعينه. ولا يوجد حلٌّ ثالث ممكن في إطار وحدة الأمة، ورفض الدخول في النزاع بين الأطراف، واستمرار نزيف الدم من رقاب المسلمين. وما العيب في الميل إلى مجتمع الاضطهاد، والتعاطف مع آل البيت وتقدير شهدائهم، وبأحقية الإمام المهضوم وفضله، وربما النص عليه لظرفٍ خاص دون أن يكسر ذلك النظرية العامة في الاختيار والبيعة؟ وقد يكون أبلغ رد فِعل على عقائد الفرقة الناجية باعتبارها عقائد السلطان هو تكفير كل من لابَس السلطان ونافقه وبرَّر صنعه. ونظرًا لأهمية الوحدة في الأمة فإن وقوع الاختلاف بينها يجعل الإمامة صعبًا. وهذا حكم واقع وليس حكم فكر، ولكنه يطعن في شرعية الإمام الجائر. ونظرًا لشدة التوتر النفسي في الفتنة فقد كان أحد الحلول إنكار الوقائع التاريخية، وجعل الأمر كله أهواءً وأغراضًا وميولًا، وكأن الهوى هو الذي يخلق الواقعة وليس فقط العقيدة. إن التكفير في الفروع وارد، والاجتهاد فيها لا يضل ولا يضلل، وإلا كان الفقهاء كلهم موضع اتهام بالضلال. هناك علم للاختلاف في أصول الفقه أُنشئ لذلك الغرض، وهو أولى من علم الفِرق واختلافات المتكلمين، وأخف وطأةً من الخلاف في العقائد.٩٢
إن ما يهمُّ الفرقةَ الناجية هو وجوب نصب الإمام والطاعة له، وتعيين ذلك في التاريخ ابتداءً من الخلفاء الأربعة على التفضيل، ثم بداية السقوط والانهيار، حتى يظل التاريخ مشدودًا إلى الوراء نحو هذا النموذج الأول في العقائد وفي الحكم. وإن كان ذلك صحيحًا فتجب الثورة على النُّظم الحالية التي أصبحت ملكًا عضودًا أو إمارة، أو غلبة معسكر تحت ستار عقائد الفرقة الناجية وبتبرير منها. ولا يكون للسلطان الحكم في الدنيا، بل تكون له أيضًا الجنة في الآخرة حتى يُطيعه الناس في دينهم ودنياهم. وهل يستوي شهداء الإسلام في معاركه الأولى، ومن أراقوا دماءهم في سبيل الدعوة، مع من آزروها سلمًا وبيعةً ونصرةً؟ إن النصرة بالدم أفضل ترتيبًا من النصرة بالقلب أو اللسان. وإذا لم يجُز تكفير أحد من أهل القِبلة فلا يجوز تكفير أحد لآرائه النظرية في العقليات أو في السمعيات، وإن حدث ذلك فإنه يكون ستارًا عقائديًّا لإخفاء العزل السياسي للخصوم. وحكم الفقهاء ليس هو حكم المتكلمين، وعلماء أصول الفقه لا يُصدِرون أحكامًا إلا على الأفعال، في حين يُصدِر علماء أصول الدين أحكامًا على الأقوال.٩٣ وبالرغم من أن الفرقة الناجية قديمًا قد تكون هي الفرقة الضالة، وأن تكون الفِرق الضالة قديمًا هي الفرقة الناجية، إلا أن جيلنا يردُّ الاعتبار إلى الفِرق الضالة قديمًا، ويُعيدها إلى حظيرة الأمة بشرعية وعلانية، ويُنهي عزلها السياسي عن جماهير الأمة.
١  هي فِرق الشيعة (الزيدية) والخوارج والمعتزلة التي تشترك جميعها في أصلَي التوحيد والعدل.
٢  عند الجاحظية المعارفُ كلها ضرورية، وكذلك الحال عند الثمامية، وكلاهما من المعتزلة (المواقف، ص٤١٧).
٣  عند الثمامية، المعارف مُتولدة من النظر (المواقف، ص٤١٧).
٤  عند الثمامية، المعرفة واجب قبل الشرع (المواقف، ص٤١٧).
٥  عند النظامية، التواتر لا يحتمل الكذب، والإجماع والقياس ليسا بحجة (المواقف، ص٤١٦).
٦  عند الهذيلية، الحجة فيما غاب لا تقوم إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة (المواقف، ص٤١٦).
٧  يتعين على كل واثق بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلَّقت به الأدلة السمعية؛ فإن صادَفه غير مُستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طُرقها، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها، فما هذا سبيله فلا وجه إلا القطع به. وإن لم تثبُت الأدلة السمعية بطُرقٍ قاطعة، ولم يكن مضمونها مُستحيلًا في العقل، وثبتت أصولها قطعًا، ولكن طريق التأويل يجوز فيها، فلا سبيل إلى القطع. ولكن المُتدين يغلب على ظنه ثبوت ما دل الدليل السمعي على ثبوته وإن لم يكن قاطعًا، وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مُخالفًا لقضية العقل فهو مردود قطعًا؛ لأن الشرع لا يُخالف العقل. ولا يُتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع ولا خفاء به (الإرشاد، ص٣٥٩-٣٦٠).
٨  الطوالع، ص١٧. وها هنا نوعان آخران من التعريف؛ الأول: بالمثال، وهو بالحقيقة تعريف بالمُشابهة. فإن كانت مُفيدة للتميز فهي خاصة، فيكون رسمًا ناقصًا وإلا لم تصلح للتعريف. والثاني: التعريف اللفظي، وهو ألا يكون اللفظ واضح الدلالة، فيُفسَّر بلفظٍ أوضح دلالة، ثم إنه يُقدَّم في التعريف الأعم، ويُحترَز فيه عن الألفاظ الغريبة الوحشية، وعن المشترك والمجاز بلا قرينة، وبالجملة ففي كل لفظ غير ظاهر الدلالة على المقصود (المواقف، ص٣٥).
٩  عند إحدى فِرق الخوارج، لا حجة لله على الخلق في التوحيد إلا بالخبر، أو ما يقوم مقام الخبر من إشارة وإيماء (مقالات، ج١، ص١٧٢). ليس على الناس فرضٌ ما لم تأتِهم الرسل (مقالات، ج١، ص١٩١).
١٠  عند النظامية، الأعراض أجسام، والجوهر مؤلَّف من الأعراض (المواقف، ص٤١٦).
١١  عند الصالحية، يجوز قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت، وخلو الجوهر عن الأعراض (المواقف، ص٤١٧).
١٢  تُسمِّي الخياطية المعدوم شيئًا وجوهرًا وعرَضًا (المواقف، ص٤١٧).
١٣  عند النظامية، الله خلق الخلق دفعةً واحدة، والتقدم والتأخر في الكمون والظهور والطفرة (المواقف، ص٤١٦). وعند الهشامية، الجنة والنار لم تُخلَقا بعد نظرًا للخلق المستمر. وعند المعمرية (معمر بن عباد)، الله لم يخلق شيئًا غير الأجسام والأعراض تخلق نفسها بنفسها، كما هو الحال عند جميع أصحاب الطبائع (المواقف، ص٤١٧). وعند الجاحظية، الأجسام ذو طبائع، ويمتنع انعدام الجوهر، والنار تجذب إليها أهلها لا أن الله يُدخلها (المواقف، ص٤١٧). والعجيب أننا نُعجَب في فكرنا المعاصر ببعض فلاسفة التطور في الغرب، ونلجأ إليهم لتجديد الفكر الإسلامي، ونكفِّر نظريات التطور عند أصحاب الطبائع.
١٤  وويل لصاحب الكتاب (ابن الراوندي) من الملحدين، والذب في التوحيد لولا إبراهيم (النظام) وأشباهه من علماء المسلمين الذين شأنهم حياطة التوحيد ونصرته، والذب عنه من طعن الملحدين فيه الذين شغلوا أنفسهم بجوابات الملحدين ووضع الكتب عليهم؛ إذ شُغل أهل الدنيا بلذَّاتهم وجمع حُطامها. وقد أخبر في عدة من أصحابنا أن إبراهيم قال وهو يجود بنفسه: اللهم إن كنت تعلم أني لم أُقصر في نصرة توحيدك، ولم أعتقد مذهبًا من المذاهب اللطيفة إلا لأشدَّ به التوحيد فيما كان منها يُخالف التوحيد، فأنا بريء. اللهم فإن كنت تعلم أني كما وصفت فاغفر لي ذنوبي، وسهل عليَّ سكرة الموت. قالوا: فمات ساعته. هذه هي سبيل أهل الخوف من الله والمعرفة به، والله شاكر لهم ذلك (الخياط، ص٤١-٤٢).
١٥  في جواز الاقتصار على خلق الجمادات. أجاز ذلك أصحابنا، وأباه جمهور القدرية غير الصالحي، وقالوا: لا يجوز أن يخلق الله جسمًا لا يُعتبر به وراء. وسألناهم عن الأجزاء الكامنة في بطون الأحجار، فزعموا أن بعض خلق الله يراها. وفي هذا بُطلان قولهم إن الأجسام التي لا ينفُذ فيها الشعاع مانعة من رؤية ما وراءها (الأصول، ص١٥٢).
١٦  عند زهير الأثري وأبي معاذ التومني، تعني «مخلوق» أنه وقع عن إرادة من الله وقوله «كُن». وعند الجبائي يعني الخلق فعل الأشياء المقدرة، وأن الإنسان إذا فعل الأشياء مقدرة فهو خالق (مقالات، ج١، ص٢٤٨؛ ج٢، ص١٩٦-١٩٧). وعند كثير من المعتزلة، مثل أبي الهذيل وأبي موسى بشر بن المعتمر، تعني «مخلوق» له خلق (مقالات، ج٢، ص١٩٨).
١٧  عند أهل الإثبات، مخلوق تعني مُحدَث (مقالات، ج١، ص٢٤٨؛ ج٢، ص١٩٦، ١٩٧)؛ لذلك لا يجوز القول عند البعض إطلاقًا إن الباري لم يزَل خالقًا، بل يجوز أن يُقال لم يزَل الباري خالقًا على أنه سيخلق (مقالات، ج٢، ص٣٠١-٣٠٢).
١٨  عند أهل السنة، الحوادث كلها لا بد لها من مُحدِثٍ صانع، وأكفروا ثمامة وأتباعه من القدرية لقولهم إن الأفعال المُتولدة لا فاعل لها. وهو صانع العالم، خالق الأجسام والأعراض. وأكفروا معمرًا لقوله إن الله لم يخلق شيئًا من الأعراض، بل خلق الأجسام، والأجسام خالقة للأعراض. وعند أهل السنة، الحوادث قبل حدوثها لم تكن أشياء ولا أعيانًا ولا جواهرَ ولا أعراضًا، خلافًا للقدرية وقولها إن المعدومات في حال عدمها أشياء، وخلافًا للبصريين وقولهم إن الجواهر والأعراض كانت قبل حدوثها جواهر وأعراضًا. وهو ما يؤدي إلى القول بقِدم العالم (الفرق، ص٣٣١-٣٣٢). وعند الجبائي، الله بخلق الحبل مُحبل. وعند آخرين، الحبل عمليةٌ طبيعية (الفرق، ص١٨٣-١٨٤).
١٩  عند الإسكافي، الخلق يعني فعلًا لا بآلة، أو بقوةٍ مخترعة (مقالات، ج١، ص٢٤٨؛ ج٢، ص١٩٦-١٩٧).
٢٠  هذا هو الأصل الثاني من أصول أهل السنة الخمسة عشرة. أما الأصل الثاني، وهو الكلام في حدوث العالم، فقد أجمعوا على أن العالم كل شيء هو غير الله، وعلى أن ما هو غير الله وغير صفاته الأزلية مخلوقٌ مصنوع، وعلى أن صانعه ليس بمخلوق ولا مصنوع، ولا هو من جنس العالم، ولا من جنس شيء من أجزاء العالم (الفرق، ص٣٢٨).
٢١  التصورات الثنائية للخلق مثل تصور أحمد بن حابط، وفضل الحدثي. للخلق ربان؛ أحدهما قديم وهو الله، والآخر مُحدَث وهو عيسى. والمسيح ابن الله على معنًى دون الولادة، وهو الذي يُحاسب في الآخرة، وهو الذي يأتي في ظل من الغمام والملائكة، وهو الذي خلق آدم على صورة نفسه. تدرَّع المسيح جسدًا، وكان قبل التدرع عقلًا (الفرق، ص٢٧٧-٢٧٨). كما تقول المجوس بصانعين؛ أحدهما شيطان مُحدث. وعند الروافض، الصانع جوهر مخلوق محدث، لكنه صار إلهًا صانعًا بحلول روح الآلهة فيه (الفرق، ص٣٣١-٣٣٢).
٢٢  خلق الأشياء من لا شيء (الفقه، ص١٨٥). وعند المعتزلة أيضًا لإنكارهم كون المعدوم شيئًا (الفرق، ص١١٥-١١٦). وعند ابن كرام، «كُن» تعني خلقًا للمخلوق، وإحداثًا للمُحدَث، وإعلامًا للذي يعلم بعد وجوده (الفرق، ص٢١٧).
٢٣  عند المُجسمة، الله قبل الخلق ليس له صفات، ثم أراد، وإرادته حركته إذا أراد كون الشيء تحرَّك فكان الشيء؛ فالله يخلق بالإرادة، والإرادة حركة (مقالات، ج١، ص٢٦٢-٢٦٣).
٢٤  ومنها قوله لذلك الحدث «كُن» على الوجه الذي علِم حدوثه عليه. والقول نفسه حروف، كل حرف منها عرَضٌ حادث فيه. ومنها رؤية تحدث فيه يرى منها ذلك الحادث، ولو لم تحدث فيه الرؤية لم يرَ ذلك الحادث. ومنها استماعه لذلك الحادث إذا كان مسموعًا (الفرق، ص٢١٧). وعند محمد بن كرام، لا يحدُث في العالم جسم ولا عرَض إلا بعد حدوث أعراض كثيرة في ذات المعبود. ولا يُعدَم في العالم شيء من الأعراض إلا بعد حدوث أعراض في ذات المعبود. منها إرادته لعدمه، وقوله لما يريد عدمه «كُن معدومًا» أو «افنَ». وهذا القول حروف، كل حرف منها عرَضٌ حادث فيه. فصارت الحوادث الحادثة في ذات المعبود أضعاف الحوادث من أجسام العالم وأعراضها. يحدث الخلق بالقول لا بالإرادة. ومنع وصف الأعراض الحادثة فيه بأنها مخلوقة أو مفعولة أو محدثة. ذوات المعبود لا تخلو من حدوث حوادث في المستقبل، وإن كان قد خلا منها في الأزل، مثل أصحاب الهيولى من أن الأزل جوهر خالٍ من الأعراض ثم حدثت الأعراض فيها، وهي لا تخلو منها في المستقبل. ولا تُعدَم الأجسام، مثل قول الدهرية والفلاسفة بأن الفلك والكواكب طبيعةٌ خامسة لا تقبل الفساد والفناء. الله محل للحوادث، أقواله وإرادته وإدراكاته للمرئيات والمسموعات، وملاقاته للصفحة العليا من العالم أعراض حادثة فيه (الفرق، ص٢١٧). وعند بعض المعتزلة، الله لا يقدر على إفناء بعض الأجسام (الفرق، ص٢١٨).
٢٥  عند الكرامية، أول شيء مخلوق هو جسم حي يصح منه الاعتبار، ولو بدأ بخلق الجماد لم يكن حكيمًا. وعند القدرية، لا بد أن يكون في الخلق من يصح منه الاعتبار، وليس بواجبٍ أن يكون أول الخلق حيًّا يصح منه الاعتبار. وعند أهل السنة، أول شيء مخلوق هو اللوح والقلم، ثم أجرى القلم على اللوح بما هو كائن إلى يوم القيامة (الفرق، ص٢٢٠-٢٢١). وعند الباطنية أن الإله خلق النفس، فالإله هو الأول، والنفس الثاني، وهما مُدبرا العالم. وقد يكون الأول العقل، والثاني النفس، يُدبران هذا العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأُول (الفرق، ص٢٨٥).
٢٦  تقول الباطنية بقِدم العالم وجحد الصانع، ولا تُقر بإلهٍ قديم ولا بحدوث العالم، ويتَّهمون أهل الشرائع بأنهم يعبدون إلهًا لا يعرفونه، ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم (الفرق، ص٢٩٥–٢٩٧، ص٣٠٤–٣٠٧). وعند أبي عفان الرقي من أصحاب الجاحظ، المزاج قديم لقِدم علته. وهو أيضًا رأي المانوية (الانتصار، ص٢٩). ويرى الإسكافي أن كل موجود على ظهر الأرض لم يكن معدومًا قط بوجه من الوجوه؛ لأن الوجود عنده ليس بمعدوم، ولم يكن معدومًا، ولا يكون معدومًا أبدًا. وهذا تصريح بأن الأجسام قديمة؛ لأن المُحدَث ما وُجد بعد عدم، وإن كان معدومًا لم يوجد بعد عدم (الانتصار، ص٩١). وعند المعتزلة الكعبي باستثناء الصالحي، الحوادث كلها كانت قبل حدوثها أشياء. وعند البصريين، الجواهر والأعراض كانت في حال عدمها جواهر وأعراضًا وأشياء (الفرق، ص١١٥-١١٦). وقد أنكر جهمٌ خلق الجنة والنار (التنبيه، ص١٣٧).
٢٧  اختلف الناس في خلق الشيء، هل هو الشيء أم غيره؟ عند أبي الهذيل خلق الشيء (الذي) هو تكوينه بعد أن لم يكن هو غيره، وهو إرادته له وقوله له كُن. والخلق مع المخلوق في حالة، وليس بجائزٍ أن يخلق الله شيئًا لا يريده، ولا يقول له كُن. وثبت خلق العرض غيره، وكذلك خلق الجوهر. وزعم أن الخلق الذي هو إرادة وقول لا في مكان. ورغم أن التأليف هو خلق الشيء مؤلفًا، وأن الطول هو خلق الشيء طويلًا، وأن اللون خلقه له ملونًا، وابتداء الله الشيء بعد أن لم يكن هو خلقه له، وهو غيره، وإعادته له غيره، وهو خلقه له بعد فنائه، وإرادة الله للشيء غيره، وإرادته للإيمان غير أمره به. وكان يثبت الابتداء غير المبتدأ، والإعادة غير المعاد، والابتداء خلق الشيء أول مرة، والإعادة خلقه مرةً أخرى (مقالات، ج٢، ص٤٨). عند معمر، خلق الشيء غيره، وللخلق خلق إلى ما لا نهاية له، وأن ذلك يكون في وقتٍ واحد معًا (مقالات، ج٢، ص٤٩). وعند عباد، المخلوق عبارة عن شيء، وخلق الشيء غير الشيء، ولا يقول الخلق غير المخلوق. خلق الشيء قول، ولا يقول إن الله قال له كُن (مقالات، ج٢، ص٤٨-٤٩).
٢٨  عند إحدى فِرق الروافض، الخلق هو المخلوق، والباقي يبقى لا ببقاء، والفاني يفنى لا بفناء (مقالات، ج١، ص١٢١). وعند النظام، الخلق من الله الذي هو المُكون، وهو الشيء المخلوق، وكذلك الابتداء هو المبتدأ، والإعادة هي المعاد، والإرادة من الله تكون إيجادًا للشيء وهي الشيء، وتكون أمرًا وهي غير المراد، كنحو إرادة الله للإيمان هي أمره به، وتكون حكمًا وأخبارًا وهي غير المحكوم والمخبر عنه. وكأن إرادة الله أن يُقيم القيامة يعني أنه حاكم بذلك مُخبر به، والابتداء هو المبتدأ، والإعادة هي المعاد، وهي خلق الشيء بعد إعدامه. وعند الجبالي، الخلق هو المخلوق، والإرادة من الله غير المراد، وفعل الإنسان هو مفعوله وإرادته غير مراده. وكان يزعم أن إرادة الله للإيمان غير أمره به، وغير الإيمان وإرادته لتكوين الشيء غيره، يثبت مثبت الخلق هو المخلوق والإعادة غير المعاد. وعند هشام الفوطي، ابتداء الشيء مما يجوز أن يُعاد غيره، وابتداؤه مما لا يجوز أن يُعاد ليس بغيره، والإرادة المراد (مقالات، ج٢، ص٤٨-٤٩). عند هشام بن الحكم، خلق الشيء صفة للشيء، لا هو الشيء ولا هو الفناء. صفة للفاني، لا هي هو ولا هي غيره (مقالات، ج٢، ص٤٩، وص١٢١).
٢٩  اختلف الذين قالوا إن خلق الشيء غيره في الخلق؛ هل هو مخلوق أم لا؟ عند أبي موسى المردار، الخلق غير المخلوق، والخلق مخلوق في الحقيقة وليس له في الخلق. وعند أبي الهذيل، الخلق الذي هو تأليف، والذي هو لون، والذي هو طول، والذي هو كذا، كل ذلك مخلوق في الحقيقة، وهو واقع عن قول وإرادة. والخلق الذي هو قول وإرادة ليس بمخلوق في الحقيقة، وإنما يُقال مخلوق في المجاز، لا يُقال الخلق مخلوق على وجه من الوجوه. عند زهير الأثري، الخلق غير المخلوق، وهو إرادة وقول مُحدَث ليس بمخلوق. وعند أبي معاذ التومني، الخلق حدث، وليس بمحدث ولا مخلوق، وأن الإرادة من الله تكون إيجادًا، وهي خلق، وتكون أمرًا. وكان يزعم أن القرآن حدث ليس بمخلوق ولا محدث (مقالات، ج٢، ص٥٠).
٣٠  يرفض ابن حزم الرأي القائل بأن خلق الشيء هو غير الشيء المخلوق، ويُفند حججه النقلية، ويؤيد الرأي الآخر أن خلق الشيء هو الشيء نفسه، ويؤيد حججه النقلية (الفصل، ج٥، ص١١١-١١٢).
٣١  عند الهشامية، الأعراض لا تدل على الباري (المواقف، ص٤٢١، ص٤٣٠). النظر الصحيح المُفضي إلى العلم بحدث العالم (الإرشاد، ص٣).
٣٢  وهو الدليل القائم على النظر والتفكر في مخلوقات الله (الإنصاف، ص٢٩-٣٠). أن يعرف بدء الأوائل والمقدمات حتى يتم له النظر في معرفة الله عز وجل، وحقيقة توحيده، وما هو عليه من صفاته التي بان بها من خلقه، وما لأجل حصوله عليها استحقَّ أن يُعبَد بالطاعة دون عبادة (الإنصاف، ص١٣). فأما المعلوم بالنظر والاستدلال من جهة العقول، فكالعلم بحدوث العالم وقِدم صانعه وتوحيده، وصفاته وعدله وحكمته، وجواز ورود التكليف منه على عباده صحة نبوة رسله بالاستدلال عليها بمعجزات، ونحو ذلك من المعارف النظرية (الأصول، ص٢٤).
٣٣  إذا نصبتم دليلًا في حدث العالم، فالمدلول حدث العالم أو العلم بحدث العالم؟ اختلف أرباب الأصول؛ فذهب بعضهم إلى أن مدلول الدليل العلم بحدوث العالم. وذهب آخرون إلى أن العلم حدوث العالم نفسه … ثم من أحاط بتعلق الدليل بالمدلول اقتضى له ذلك العلم بالمدلول. ومن زعم أن المدلول هو العلم لم يُتصور عنده انقسام المدلولات إلى الوجود والعدم والحدوث والقِدم، وإنما المدلول العلم على كل الحال، ثم المعلول يختلف بتغاير معلوماته، ولا خلاف في أن الأدلة تنقسم إلى الوجود والعدم والحدوث والقِدم … وجوه التعلق مضبوطة عند العقلاء، منها تعلُّق العلم بالمعلوم وتعلُّق القدرة بالمقدور، وليس تعلُّق الحدث بالفاعل (الشامل، ص١٠٥-١٠٦). اختُلف في أن العلم بدلالة الدليل هل يُغاير العلم بالمدلول. قال الإمام الرازي: هناك دليلٌ مستلزم ومدلول لازم، ودلالة هي نسبة بينهما متأخرة عنهما، ولا شك أنها مُتغايرة، فتكون العلوم المتعلقة بها مُتغايرة. ثم قال قومٌ وجه الدلالة غير الدليل (المواقف، ص٦٦-٦٧). ويُشترط للنظر الصحيح أن يكون في الدليل دون الشبهة، ومن جهة دلالته دون غيرها، وهي الأمر الذي بواسطته ينتقل الذهن من الدليل إلى المدلول، كإمكان العالم أو حدوثه لثبوت الصانع؛ فالعالم هو الدليل، وثبوت الصانع هو المدلول، وكونه بحيث يُفيد النظر فيه العلم. ثبوت الصانع هو الدلالة، وإمكانه وحدثه هو جهة الدلالة. وهذه الأمور مُتغايرة بتغاير العلوم المُتعلقة بها، إلا أن جهة الدلالة شديدة الاتصال بالمدلول؛ فمن هنا تُوُهِّم أن العلم بها نفس العلم بالمدلول (المقاصد، ص٧٣). قال الإمام الرازي وغيره إن العلم بوجه دلالة الدليل، هل يُغاير العلم بالمدلول، فيه خلاف. والحق المُغايرة؛ لتغايُر المدلول ووجه الدلالة، كالعلم بأنه لا بد له من مؤثر، والعلم بكون الدليل دليلًا على المدلول (شرح المقاصد، ص٧٤).
٣٤  والذي ارتضاه القاضي الباقلاني هو أن مدلول دليل حدث العالم، والمحيط بتعلق وجه الدليل بالمدلول، يعلم المدلول؛ فالأدلة العقلية تدل لأنفسها ودلالتها من صفات ذواتها، وصفات الأنفُس لا تزول مع بقاء الأنفس اتفاقًا من العقلاء. فلو أحدث الله السموات والأرض ولم يُحدث عاقلًا ينظر ويستدل، فلا تخلو الحوادث إما أن تكون أدلة مع انتفاء المُستدلين أو لا تكون أدلة؛ فإن لم تكن أدلة أيضًا عند وجود العقلاء إذن فمن المستحيل انتفاء صفة نفس في حال ثبوتها في أخرى، ولو سنح ذلك لسانح لخروج الجوهر عن تميُّزه في بعض الأحوال مع بقاء ذاته. لا يُتصور ثبوت الدليل من غير ثبوت المدلول. لو كان المدلول علمًا لاستحال ثبوته مع انتفاء المُستدلين. المدلول ليس هو علم الناظر، والأدلة لا ترجع إلى علوم النظار، بل تنقسم إلى الوجود والعدم (الشامل، ص١٠٦-١٠٧). هذه المسألة تجري بين المتكلمين عند استدلالهم بوجود ما سوى الله على وجوده تعالى، فيقولون: لا يجوز أن يكون وجه دلالة وجود ما سوى الله على وجوده مُغايرًا لهما؛ لأن المُغاير لوجوده تعالى داخل في وجود ما سواه، والمُغاير لوجود ما سواه هو وجوده فقط. الجواب أن العلم يوجه دلالة الدليل على المدلول الذي هو مُغاير لهما هو أمرٌ اعتباري عقلي ليس بموجود في الخارج (شرح المقاصد، ص٧٤). والكل (المعتزلة) اتَّفقوا على أن بعد العلم لا بد من وجود عالم صانع قادر حي نحتاج إلى إثبات بالدليل. قال الرازي إنه جهالة، ولعلهم أرادوا أنَّا بعد أن نعلم أن صانع العالم ذاتٌ تتصف بهذه الصفات، نحتاج إلى أن نُبين أن للعالم صانعًا، أي ذاتًا تتصف بها، كما نعلم أن الواجب يمتنع عدمه، ومع ذلك نحتاج إلى إثباته بالبرهان. وهذا قولٌ صحيح؛ إذ معناه أنه لا يصلُح صانعًا للعالم إلا وأن تكون هذه صفاته، وبهذا القدر لا يلزم وجوده في الخارج. وماذا نقول فيمن يقول: شريك الباري اتصافه بهذه الصفات، وإلا لم يكن شريكًا وأنه ممتنع؟ (المواقف، ص٥٧).
٣٥  قال المعتزلة بنفي الصفات، وركَّزت الواصلية عليها. وعند الهذيلية، الله عالم بعلمٍ هو ذاته، وقادر بقدرة هي ذاته، ومُريد بإرادة لا في محل، وبعض كلامه لا في محل وهو كُن، وإرادته غير المراد (المواقف، ص٤١٥). وعند المعمرية (معمر بن عباد السلمي)، لا يوصف الله بالقِدم، ولا يعلم نفسه (المواقف، ص٤١٦).
٣٦  عند الحابطية (أحمد بن حابط) من أصحاب النظام أن للعالم إلهين؛ قديم هو الله، ومحدث وهو الذي يُحاسب الناس في الآخرة (المواقف، ص٤١٦).
٣٧  عند الهذيلية، أهل الخالدين يصيرون إلى خمود (المواقف، ص٤١٥).
٣٨  عند الكعبية (أبو القاسم بن محمد الكعبي)، لا يرى الإنسان نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه. كما تُكفر المردارية من قال بالرؤية (المواقف، ص٤١٧). وعند الجبالية، لا يُرى الله في الآخرة (المواقف، ص٤١٨).
٣٩  عند أبي هاشم، الله عالم بلا صفة ولا حالة تُوجب العالمية. وكونه سميعًا بصيرًا أنه حي لا آفة به. وعنده أيضًا أن العلم لا يتعلق بمعلومين على التفضيل. لله أحوال لا معلومة ولا مجهولة، لا قديمة ولا حادثة (المواقف، ص٤١٨). وعند الخياطية، كونه سميعًا بصيرًا يعني أنه عالم بتعلُّقهما، وكونه يرى ذاته أو غيره أنه يعلمه (المواقف، ص٤١٧). الجبائي، إرادة الرب حادثة لا في محل، والعالم يفنى بفناء لا في محل، والله مُتكلم بكلامٍ يخلقه في جسم (المواقف، ص٤١٨). وعند الجبرية، الله لا يعلم الشيء قبل وقوعه، عِلمه حادث لا في محل، ولا يتصف بما يوصف به غيره كالعلم والقدرة. وافقوا المعتزلة في نفي الرؤية وخلق الكلام (المواقف، ص٤٢٨). وللمعتزلة في نفي الصفات وحدوثها ثلاث فِرق: (أ) البرغوتية، كلام الله إذا قُرئ عرَض، وإذا كُتب جسم. (ب) الزعفرانية، كلام الله غيره، وكل ما هو غيره مخلوق، ومن قال كلام الله غير مخلوق كافر. (ﺟ) المستدركة، الكلام مخلوق مطلقًا، ووافقوا أهل السنة والإجماع في نفيه، ويعتبرون أقوال مُخالفيهم كلها كذبًا، حتى قول لا إله إلا الله (المواقف، ص٤٢٨).
٤٠  عند هشام بن عمرو الفوطي لا يُطلَق اسم الوكيل على الله لاستدعائه مُوكلًا (المواقف، ص٤١٦).
٤١  الأول تكفير المعتزلة، والثاني تكفير الشيعة.
٤٢  هذا هو موقف غلاة الشيعة، إذ قالت السبئية لعليٍّ أنت الإله حقًّا. لم يمُت علي، وقتل ابن ملجم شيطانًا بدلًا عنه. الله على صورة إنسان، ويهلك كله إلا وجهه. روحٌ حلَّت في علي، ثم في أخيه محمد ابن الحنفية، ثم في ابنه أبي هاشم، ثم في بيان بن سمعان. وعند الخطابية، الأئمة آلهة، والحسنان ابنا الله، وجعفر إله، لكن أبو الخطاب أفضل منه ومن علي. وعند الذمية الذين ذمُّوا محمدًا، عليٌّ إله، وألوهية خمسة أشخاص؛ فاطمة والحسنان، ولا يقولان فاطمة تحاشيًا من وصمة التأنيث. وعند الرازمية، حلَّ الإله في أبي مسلم وهو لم يُقتَل. وعند النصيرية الإسحاقية، حلَّ الله في علي. وعند الجناحية تُتناسخ الأرواح. كان روح الله في آدم، ثم شيث، ثم الأنبياء والأئمة حتى علي وأولاده الثلاثة، ثم عبد الله (المواقف، ص٤١٨-٤١٩).
٤٣  تقول السبئية إن عليًّا في السحاب؛ الرعد صوته، والبرق سوطه. يقولون عند سماع الرعد: السلام عليك يا أمير المؤمنين. عند المفوضية، فوَّض الله خلق الدنيا إلى محمد، وقيل إلى علي (المواقف، ص٤٢٠).
٤٤  عند المغيرية، الله جسم على صورة إنسان من نور، على رأسه تاج، وقلبه منبع الحكمة. ولما أراد أن يخلق الخلق تكلَّم بالاسم الأعظم، فَطار، فوقع تاجًا على رأسه؛ ثم كتب على كفه أعمال العباد، فغضب من المعاصي، فعَرِق، فحصل منه بحران، أحدهما ملحٌ مُظلم، والآخر حلوٌ نيِّر؛ ثم اطلع في البحر النير فأبصر فيه ظله، فانتزعه، فجعل الشمس والقمر، وأفنى الباقي نفيًا للشريك؛ ثم خلق الخلق من البحرين، فالكفر من الظلم، والإيمان من النور. وعند الهشامية، الله جسد، طويل عريض عميق، مُتساوٍ، كالسبيكة البيضاء يتلألأ من كل جانب، وله لون وطعم ورائحة ومجسَّة، وليست هذه الصفات المذكورة غيره. يقوم ويقعد، ويعلم ما تحت الثرى بشعاعٍ ينفصل عنه إليه بسبعة أشبار بأشبار نفسه، مُماسٌّ للعرش بلا تفاوت بينهما. إرادته حركته، وهي لا عينه ولا غيره. يعلم الأشياء بعد كونها بعلمٍ لا قديم ولا حادث. كلامه صفة له لا مخلوق ولا غيره. وعند شيطان الطاق، الله نورٌ غير جسماني على صورة إنسان، يعلم الأشياء بعد كونها. وعند يونس بن عبد الرحمن القمي، الله على العرش تحمله الملائكة، وهو أقوى منها، كالكركي يحمله رجلاه. وجوَّزت البدائية البداء على الله (المواقف، ص٤٢٠-٤٢١).
٤٥  يقول زرارة بن أعين الرافضي بحدوث الصفات، وبأن قبلها لا حياة (المواقف، ص٤٢١).
٤٦  زاد العبيدية أصحاب عبيد الله المُكذب أن عِلم الله لم يزَل شيئًا غيره، وأنه تعالى على صورة إنسان. المُشبهة شبَّهوا الله بالمخلوقات وإن اختلفوا في طريقة التشبيه؛ فمنهم مُشبهة غُلاة الشيعة، ومنهم الحشوية كمضر وكهمس والهجيمي. قالوا هو جسم من لحم ودم، وله الأعضاء، حتى قال بعضهم: اعفوني من اللحية والفرج وسَلُوني عما وراءه. ومنهم مُشبهة الكرامية التي تقول الله على العرش من جهة العلو، تجوز عليه الحركة والنزول. واختلفوا هل يملأ العرش أم لا. قال بعضهم مُحاذٍ للعرش. ثم اختلفوا هل هو مُحاذٍ ببعدٍ مُتناهٍ أو غير مُتناهٍ. ومنهم من أطلق عليه لفظ الجسم. وهل هو مُتناهي الجهات كلها أم من جهة تحت أولًا. وتحل الحوادث في ذاته، يقدر عليها دون الحوادث الخارجية. أولٌ من خلقه حتى ليصبح منه الاستدلال (المواقف، ص٤٢٧–٤٢٩). وهذا هو موقف المُشبهة من المرجئة والكرامية.
٤٧  عند الفرقة الناجية، الله يستوي على عرشه، له وجه ويدان وعين وسمع وبصر. يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون في الجنة، ويُحجَب عنه الكافرون في النار. يُقلب القلوب بين أصبعين من أصابعه، ويضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع. يُصدقون بجمع الروايات التي يُثبتها النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ (الإبانة، ص١٠–١٢). والآيات عند المعتزلة ليست على ظاهرها باتفاق (شرح الفقه، ص١١٨). وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن قول الله «الرحمن على العرش استوى» أنه استوى وملك وقهر، وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق. وذهبوا في الاستواء إلى القدرة. ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض؛ فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مُستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء، وهو مسئول عن الأشياء كلها، لكان مستويًا على العرش وعلى الأرض … وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان، فلزِمهم أنه في بطن مريم، وفي الحشوش، وفي الأخلية. وهذا خلاف الدين (الإبانة، ص٣٢). وعند الأشعري أن كثيرًا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأوَّلوا القرآن على آرائهم تأويلًا لم يُنزل الله به من سلطان، ولا أوضح به برهانًا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين، فخالفوا روايات الصحابة عن نبي الله في «تسع مسائل»، منها: (٩) أنكروا أن يكون له يدان، وأنكروا أن يكون له عين، وأنكروا أن يكون له علم، وأنكروا أن يكون له قوة، ونفَوا النزول (الإبانة، ص٧-٨). نفت الجهمية أن يكون لله وجه، وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر وعين، ووافقوا النصارى؛ لأن النصارى لم تُثبت الله سميعًا بصيرًا إلا على معنى أنه عالم … وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل «عملت بيدي» ويعني به النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهومًا في كلامها ومعقولًا في خطابها، وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل «فعلت بيدي» ويعني النعمة، بطل أن يكون معنى قوله «بيدي» النعمة؛ وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل «لي عليه يد» بمعنى عليه نعمة، ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها، دفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة؛ إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزِمه ألا يُفسر القرآن من جهتها، وألا يُثبت إليه نعمة من قِبلها؛ لأنه إن رجع تفسير قول الله «بيدي» نعمتي إلى الإجماع فليس المسلمون على ما ادَّعى مُتفقين، وإن رجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل «بيدي» يعني نعمتي … وإن قالوا قلنا ذلك من القياس، قيل لهم ومن أين وجدتم في القياس أن قول الله «بيدي» ولا يكون معناه إلا نعمتي؟ ومن أين يمكن أن يُعلَم بالعقل أن يُفسر كذا …؟ ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره، ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه. فلما كان من لا يُحسِن لسان العرب لا يُحسِنه، وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه علم أنهم إنما علموه لأنه بلسانهم نزل … قالوا الأيدي القوة، أن يكون معنى قوله «بيدي» قدرتي. قيل لهم هذا التأويل فاسد … لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل «عملت بيدي» وهو يعني نعمتي، ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن تعني جارحتين، ولا يجوز عند خصومنا أن تعني قدرتين، وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صحَّ القسم الرابع، وهو أن معنى قوله «بيدي» إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين (الإبانة، ص٣٦-٣٧). ثم رأيت السلف أجمعوا على عدم تأويل اليد، وتبعهم الأشعري في ذلك بخلاف سائر الصفات، فإن فيها خلافًا عنهم بين التأويل والتفويض (شرح الفقه، ص٩٣). لا يجوز أن يكون معنى ناظرة مُعتبرة؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار. ولا يجوز أن تعني مُتعطفةً راحمة؛ لأن الباري لا يجوز أن يُتعطف عليه. ولا يجوز أن يعني مُنتظرة؛ لأن النظر إذا قُرن بذكر الوجوه لم يكن معناه نظر القلب الذي هو انتظار، كما إذا قُرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين، فصحَّ قوله «ناظر» «رائية» إذا لم يجُز أن يعني شيئًا من وجوه النظر. وإذا كان النظر لا يخلو من وجوهٍ أربع، وفسد منها ثلاثة أوجه، صحَّ الرابع، وهو نظر رؤية العين التي منها الوجه (اللمع، ص٦٣–٦٤٤). لا يجوز أن يكون الله عن نظر التفكر والاعتبار؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار. ولا يجوز أن يكون عن نظر الانتظار؛ لأن النظر إذا ذُكر مع الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه … وإذا ذُكر النظر مع الوجه لم يكن معناه نظر الانتظار الذي بالقلب … وإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز أن يكون الله أراد نظر التعطف؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم. وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صحَّ القسم الرابع … مما يُبطل قول المعتزلة إن الله أراد بقولها نظر الانتظار … وإنما أراد نظر الرؤية. ولما قُرن النظر بذكر الوجه أراد نظر العينين اللتين في الوجه … لا أنه أراد الثواب … (الإبانة، ص١٢-١٣).
٤٨  كان عباد بن سليمان يُنكر من قال إن لله وجهًا، وينكر القول «وجه الله ونفس الله»، ويُنكر القول «ذات الله»، ويُنكر أن يكون الله ذا عين، وأن يكون له يدان هما يداه (مقالات، ج٢، ص١٦٥). وكان عباد يُنكر أن يُقال إن الباري قائم بنفسه، وإنه عين، وإنه نفس، وإن له وجهًا، وإن وجهه هو هو، وإن له يدين وعينين وجنبًا. ولا يقول «حسبنا الله ونعم الوكيل» إلا أن يقرأ القرآن، فأما أن يطلق ذلك إطلاقًا فلا. ويتأوَّل ما ذكره الله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ (٥ : ١١٦)؛ أي تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وكان لا يقول إن الله كفيل … وكان غيره من المعتزلة يقول … له يدان بمعنى نعم، وإن الأشياء بعين الله أي بعلمه، ومن ذلك أنه يعلمها. ويتأوَّلون قولهم إن الأشياء في قبضة الله، أي في ملكه. ويتأولون قول الله: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٩٦ : ٤٥)، أي بالقدرة (مقالات، ج٢، ص١٨٣). تأويل المعتزلة اليد بمعنى النعمة، والعين بمعنى العلم، والجنب بمعنى الأمر (مقالات، ج١، ص٢٦٦).
٤٩  قال الجبائي لا يجوز أن يوصف الباري بأنه فوق عباده على الحقيقة؛ فإن وجدنا ذلك في صفات الله فهو مجاز. وقد قال الله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (٦ : ١٨)، وأراد به القادر المُستولي على العباد، فجعل قوله «فوق» بدلًا من قوله «مُستعلٍ». وقد تقول فوق عباده في العلم والقدرة؛ أي هو أعلم وأقدر منهم. وهو توسُّع. وقد يوصف الباري بأنه قريب من الخلق توسعًا، ومعنى ذلك أنه عالم بنا وبأعمالنا، سامع القول من الخلق، راءٍ لأعمالهم. وكذلك تقرب العباد بالطاعة إلى الله، هذا مجاز. ولا يوصف الباري بأنه متين في الحقيقة هو التخين، وإنما قال المتين توسعًا، وأراد أن يُبالغ في وصفه بالقوة. ولا يوصف بأنه شديد على الحقيقة على معنى قوي أو القادر منا، إنما يوصف بالشدة والجلَد على التوسع؛ لأن الجلَد وشدة البدن ليسا من القدرة في شيء؛ لأن ذلك يعني الصلابة، والله لا يجوز أن يوصف بالصلابة؛ فإن وجدنا ذلك من صفات الله فهو على المجاز. وليس يجوز أن يوصف الله بأنه شديد العقاب، وما أشبه ذلك من صفات الأفعال؛ لأن التشديد من صفات الأفعال إنما هي الأفعال. وقول الله: أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً (٤١ : ١٥)، مجازٌ معناه أنه أقدر منهم، ولو لم يكن ذلك مجازًا لكانت قوته شديدة في الحقيقة، وقوَّته في الحقيقة لا توصف بالشدة (مقالات، ج٢، ص١٩١).
٥٠  فإن قيل: هلا أجريتم الآية على ظاهرها من غير تعرُّض للتأويل، مُشيرًا إلى أنها من المُتشابهات التي لا يعلم تأويلَها إلا الله؟ قلنا: إن رامَ السائل إجراء الاستواء على ما يُنبئ عنه في ظاهر اللسان، وهو الاستقراء، فهو التزام بالتجسيم، وإن تشكَّك باستحالة الاستقراء فقد زال الظاهر، والذي دعا إليه من إجراء الآية على ظاهرها لم يستقم له، وإذا أزيل الظاهر قطعًا فلا بد بعده من حمل الآية على محملٍ مستقيم في العقول مستقر في موجب الشرع، والإعراض عن التأويل حذرًا من مواقعة محذور في الاعتقاد، ويجرُّ إلى اللبس والإيهام، واستذلال العوام، وتطريق الشبهات إلى الدين، وتعريض بعض كتب الله لرجم الظنون … (الإرشاد، ص٤١-٤٢).
٥١  ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه ثابتة للرب، والسبيل إلى إثباتهما السمع دون قضية العقل. والذي يصحُّ عندنا حمل اليدَين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود. ومن أثبت هذه الصفات السمعية، وصار إلى أنها زائدة على ما دلَّت عليه دلالات العقول، قالوا لا وجه لحمل اليدين على القدرة؛ إذ جملة المُبدَعات مخترعة لله بالقدرة؛ ففي الحمل على ذلك إبطال فائدة التخصيص. وهذا غير سديد؛ فإن العقول قضت بأن الخلق لا يقع إلا بالقدرة … وذلك متفق عليه يقضي به في موجب العقل، ثم لا بُعْد في تكريم بعض العباد بالتخصيص بالذكر … فأما الآية المشتملة على ذكر العينين فمزاولة الظاهر اتفاقًا … فلا وجه لحمل الوجه على صفة … ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه الآيات، ألزمه سوق كلامه إلى أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات تمسكًا بالظاهر، فإن سنح تأويلها فيما يتفق عليه، ولم يبعد أيضًا طريق التأويل فيما ذكرناه، وكنَّا على الإضراب عن الكلام عن الظواهر، ﻓ «الله نور» معناه «الله هادٍ»، ولا وجه إلا حمل الجنب على جهة الأمر، والكشف عن الساق تعني أهوال يوم القيامة وصعوبة أحوالها … وإذا كان للتأويل مجالٌ رحب، وللإمكان مجرًى سهب، فلا معنى لحمل الآية على ما يقتضي تثبيت دلالات الحدث … (الإرشاد، ص١٥٥–١٦٤).
٥٢  يقول ابن حزم مثلًا: وهذا تشبيهٌ محض (الفصل، ج٣، ص٥١). فقد لزِم تشبيهه بخلقه إذا حكموا بتشبيه الغائب بالحاضر (ج٢، ص٥٧، ص٩٩). وقولهم إنما يُستدل بالشاهد على الغائب، وقد أفسدناه (الفصل، ج٣، ص٥٦). لما كان الحي في الشاهد لا يكون إلا بحياةٍ وجب أن يكون الباري حيًّا بحياة (الفصل، ج٣، ص٧٣).
٥٣  أنه لا خالق سواه، وأنه قديمٌ متصف بالعلم والقدرة وسائر صفات الجلال. لا شبيه له ولا ضد ولا ند، ولا يحلُّ في شيء، ولا يُعدَم بذاته، حادث ليس في حيِّز ولا جهة، ولا تصحُّ عليه الحركة والانتقال ولا الجهل ولا الكذب، ولا شيء من صفات النقص، مرئي للمؤمنين في الآخرة … وهو غير مُتبعض، ولا له حد ولا نهاية ولا الزيادة والنقصان في مخلوقاته (المواقف، ص٤٣٠).
٥٤  في الفَرق بين صفاته وأوصافه. اختلفوا في معنى الوصف والصفة؛ زعمت الجهمية والقدرية أنهما راجعان إلى وصف الواصف لغيره أو لنفسه، ولم يثبتوا لله صفةً أزلية. وقال الأشعري إن الوصف والصفة بمعنًى واحد، وكل معنًى لا يقوم بنفسه فهو صفة لما قام به ووصف له. ويجوز على هذا المذهب وجود صفة لموصوفين كخبر المخبر عن سواه، فإنه وصف للسواد وصفة للقائل، ويجوز على هذا كون المعدوم موصوفًا عند الخبر عنه. وقال أكثر أصحابنا إن صفة الشيء ما قامت به، كالسواد صفة للأسود لقيامه به، ووصف الشيء خبر عنه. وقول القائل زيد صفة للقائل لقيامه به، ووصف لزيد لأنه خبر عنه، والعلوم والقدر والألوان والأكوان وكل عرَض سوى الخبر عن الشيء صفات وليست بأوصاف (الأصول، ص١٢٨-١٢٩).
٥٥  عند أهل السنة، من قال بخلق الأعمال كافر. وعند أبي علي الجبائي، العبد خالق لفعله (المواقف، ص٤١٧-٤١٨).
٥٦  قالت الهذيلية بفناء مقدورات الله، وأن أهل الخلدين يصيرون إلى خمود؛ لذلك سمَّاه المعتزلة (أبو الهذيل العلاف) جهمي الآخرة (المواقف، ص٤١٦).
٥٧  عند النظامية، كون الله مُريدًا لأفعاله أنه خالقها، ولفعل العبد أنه آمر به. وعند الأسوارية، الله لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علِم عدمه، والإنسان قادر عليه. وعند الإسكافية، الله لا يقدر على ظلم العقلاء، بخلاف ظلم الصِّبيان والمجانين. وعند بشر بن المعتمر، الله قادر على تعذيب الطفل، ولو عذَّبه لكان عاقلًا عاصيًا. وعند المردارية، الله قادر على أن يكذب ويظلم، والناس قادرون على مثل القرآن وأحسن منه نظمًا. وعند هشام بن عمرو الفوطي لا يُقال إن الله ألَّف بين القلوب (المواقف، ص٤١٦).
٥٨  عند المردار يجوز أن يتولد فعل من فاعلين تولدًا. وعند بشر بن المعتمر، الأعراض والألوان والطعوم والروائح وغيرها تقع مُتولدة (المواقف، ص٤١٦).
٥٩  عند ثمامة بن الأشرس النميري، الأفعال المُتولدة لا فاعل لها، والاستطاعة سلامة الآلة. لا فعل للإنسان غير الإرادة، وما عداها جاءت بلا مُحدِث، والعالم فِعل الله بطبعه. وعند الجاحظية، الإرادة في الشاهد إنما هي عدم السهو، ولفعل الغير الميل إليه. وعند الكعبية، فِعل الرب واقع بغير إرادته. وقالت الخياطية بالقدرة، وأن إرادة الله كونه غير مُكرَه ولا كاره، وهي في أفعاله نفسه الخلق، وفي أفعال عباده الأمر (المواقف، ص٤١٦–٤١٨).
٦٠  من عقائد الفرقة الناجية أنه ما علم أنه لا يقع من الحوادث فإيقاعه مقدور له؛ فإن المعنى يكون المعلوم الذي لا يقع مقدورًا لله أنه في نفسه ممكن، وأن القدرة عليه في نفسها صالحة له لا يقصُر تعلُّقها عنه حسب قصور تعلُّق الحادثة عن الألوان. فهذا معنى كونه مقدورًا، ثم ما علِم الله أنه لا يقع فإنه لا يقع قطعًا (الإرشاد، ص٢٢٩).
٦١  ويجمع معانيَ هذه العقائد كلها قولُ لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ إذ معنى الألوهية استغناء الإله عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه. فمعنى لا إله إلا الله لا مُستغنيَ عن كل ما سواه ومُفتقرًا إليه كلُّ ما عداه إلا الله. أما استغناؤه عن كل ما سواه … ويؤخذ منه أيضًا أنه لا يجب عليه فِعل شيء من الممكنات ولا تركه؛ إذ لو وجب عليه شيء منها عقلًا كالثواب مثلًا لكان مفتقرًا إلى ذلك الشيء ليكتمل به غرضه؛ إذ لا يجب في حقه إلا ما هو كمال له. كيف وهو جلَّ وعز الغنيُّ عن كل ما سواه … (السنوسية، ص٦).
٦٢  يُكفر أهل السنة الفِرق الأخرى مثل الخوارج والشيعة والجبرية ونقيض فِرق المعتزلة التي تقول برأيهم في إثبات القدر. فعند الإباضية بالرغم من أن الاستطاعة قبل الفعل إلا أن فعل العبد مخلوق لله. يفنى العالم كله بفناء أصل التكليف. وقال الشيبانية (الثعالبة العجاردة الخوارج) بالجبر ونفي القدرة الحادثة. وقالت الميمونية بالقدر والاستطاعة قبل الفعل وإرادة الله للخير دون الشر والمعاصي. وتُخالف الشعبية الميمونية في القدر. وأضافت الخليفة (العجاردة) القدر خيره وشره إلى الله. ووافقت الأطرافية (العجاردة) أهل السنة في أصولهم، وبالنسبة للقدر. وعند المعلومية (الجازمية العجاردة)، فِعل العبد مخلوق لله (المواقف، ص٤٢٥-٤٢٦). وعند المغيرية (الشيعة)، كتب الله على كفه أعمال العباد (المواقف، ص٤١٩). وعند الجبرية، إسناد فعل العبد إلى الله. وهي متوسطةٌ تُثبت للعبد كسبًا كالأشعرية، وخالصة لا تُثبته كالجهمية التي تنفي قدرة العبد أصلًا. والنجارية مُوافقون لأهل السنة في خلق الأفعال، وأن الاستطاعة مع الفعل، وأن العبد يكتسب فعله. ومع ذلك تُكفرها الفرقة الناجية. والمرجئة مثل بعض المعتزلة تقول بالقدر، مثل غيلان والصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب، وهم مثل أهل السنة، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، غنيٌّ لا يحتاج إلى شيء (المواقف، ص٤٢٨–٤٣٠).
٦٣  عند الكرامية (المُشبهة) يجب أن يكون أول الخلق حيًّا فيصحَّ منه الاستدلال (المواقف، ص٤٢٩).
٦٤  يتضح ذلك خاصةً عند ابن حزم في عباراتٍ كثيرة، مثل: إن الكلام على حكم لفظة قبل تحقيق معناها ومعرفة المراد بها، وعن أي شيء يُعبر عنها للوقوف على حقيقتها … (الفصل، ج٣، ص٢١). لفظة الاستطاعة التي في معناها تتنازع لفظة قد وُضعت في اللغة التي بها نتفاهم ونُعبر عن مُرادنا على عرض في المستطيع (ص٢٣). وهي أيضًا ألفاظٌ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن، فلا يحلُّ لأحدٍ تحريف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها الذي وُضعت له في اللغة التي خاطبَنا بها الله في القرآن إلى معنًى غير ما وُضعت له، إلا أن يأتي نص قرآن وكلام عن رسول الله أو إجماع الأمة على أنها معروفة عن ذلك المعنى إلى غيره، ويوجب صرفَها ضرورةُ حس أو بديهةُ عقل، فيوقف حينئذٍ عندما جاء من ذلك … وهذا مُوافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية … (ص٣٨). وهذا ما لا يجوز في اللغة أصلًا ولا في العقول (ص٤٣). والمجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بخلاف اختياره وقصده، فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يُسمَّى في اللغة مجبرًا (ص١٩). فإذا فُسرت جميع هذه الألفاظ، ورسمت كل ما يقع عليه، وفعلت كذلك في جميع الأجناس والأنواع، فقد انتهت المعاني وانقطعت، ولا سبيل إلى التمادي بلا نهاية أصلًا؛ لأن كل ما ينطق به العقل ويُعدد الأجناس والأنواع البتة، والأنواع والأجناس محصورة (ص٦٧).
٦٥  ادَّعى بيان بن سمعان لنفسه الربوبية كالحلولية، وهو المذكور في القرآن: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٣ : ١٣٨) (الفرق، ص٢٣٧). ومحمد بن إسماعيل بن جعفر هو الذي نادى موسى بن عمران من الشجرة، فقال له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (٢٠ : ١٢) (الفرق، ص٣٠٢-٣٠٣). يحل الله في الأجساد: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (١٥ : ٢٩). الله حل في آدم لأنه في أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٩٥ : ٤)، (وهذا هو رأي أبي حلمان الدمشقي والحلولية السلمانية) (الفرق، ص٢٥٩-٢٦٠). وعند المغيرة بن سعيد، كان وحده ولا شيء معه. فلما أراد أن يخلق الأشياء تكلَّم باسمه الأعظم، فَطار، فوقع التاج من على رأسه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. أول ما خلق ظل محمد: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (٤٣ : ٨١). والمظلوم والمجهول هما أبو بكر وعمر في: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ … وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٣٣ : ٨٢). والشيطان هو عمر في: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ … (٥٩ : ١٦). وعليٌّ هو الكسف الساقط (٥٢ : ٤٤).
٦٦  التأويل الذي تأوَّلْناه هو تأويل بعض المُتقدمين، وليس للنحويين حجة على الصحابة والتابعين! (اللمع، ص١٠٤). أما بعد، فإن كثيرًا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأوَّلوا القرآن على آرائهم تأويلًا لم يُنزل الله به سلطانًا، ولا أوضح به برهانًا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين، فخالفوا روايات الصحابة عن نبي الله … (الإبانة، ص٧-٨). وأما المعتزلة فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير الآية بالوجه الأول، ومالوا إلى الوجه الثاني، وجعلوه من باب التمثيل. وهذا منهم بناءً على أن كل ما لا يُدركه العقل لا يجوز القول به، كما عُرف من أصلهم من تقديم العقل على النقل (شرح الفقه، ص٨٧).
٦٧  من أسباب كفر المعتزلة قولهم بالحسن والقبح العقليين، ووجوب رعاية الحكمة في أفعال الله. وعند النظامية لا يقدر الله أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح لهم فيه، ولا أن يزيد أو ينقص من ثواب وعقاب (المواقف، ص٤١٥-٤١٦). توجب الجبرية المعرفة بالعقل (المواقف، ص٤٢٨).
٦٨  من عقائد الفرقة الناجية أنه لا يجب عليه شيء. إن أثاب فبفضله، وإن عاقب فبعدله. لا غرض لفعله، ولا حاكم سواه. لا يوصف فيما يفعل أو يحكم بجور ولا ظلم (المواقف، ص٤٣٠).
٦٩  عند النظامية، الإنسان هو الروح، والبدن آلتها (المواقف، ص٤١٦).
٧٠  عند النظامية، القرآن ليس بمعجزة. وعند المردارية، الناس قادرون على مثل القرآن وأحسن منه نظمًا. وعند الهشامية، لا دلالة في القرآن على حلال وحرام. وتُنكر الميمونية العجاردة سورة يوسف. وعند الجاحظية، القرآن جسدٌ ينقلب تارةً رجلًا وتارةً امرأة. وعند الجبانية (أبو علي) لا كرامة للأولياء. ويتفق مع أبي هاشم في عصمة الأنبياء. أما الإباضية فقد جوَّزوا بعثة رسول بلا دليل، وكلفوا أتباعه (المواقف، ص٤١٦، ص٤١٨، ص٤٢٥).
٧١  لهذا السبب تُكفر أهل السنة فِرق الشيعة. فعند الخطابية (أبو الخطاب الأسدي)، الأئمة أنبياء، وأبو الخطاب نبي، وفرضوا طاعته … ولِيه الإمام بزيغ، وأن كل مؤمن يُوحى إليه، وفيهم من هو خير من جبريل وميكائيل، وهم لا يموتون، بل يُرفَعون إلى الملكوت. وقيل هو عمارو بن بنان العجلي، إلا أنهم يموتون. عند الكاملية تتناسخ الإمامة، وقد تصير في شخص نبوة. وعند المغيرية أرسل محمدًا والناس في ضلال. وعرض الأمانة، وهو منعُ عليٍّ من الإمامة، على السموات والأرض والجبال فأبَين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، وهو أبو بكر. حملها بأمر عمر بشرط أن يجعل الخلافة بعده له. وقوله «مثل الشيطان» نزلت في أبي بكر وعمر. وعند المنصورية (أبو منصور العجلي)، الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين. عرج إلى السماء، ومسح الله رأسه بيده وقال: يا بُني، اذهب فبلِّغ عني. وهو «الكسف». والرسل لا تنقطع. وقالت الغرابية إن محمدًا بعليٍّ أشبه من الغراب بالغراب، فغلط جبريل من علي إلى محمد. وعند المُشبهة، النبوة والرسالة صفتان سوى الوحي والمعجزة والعصمة. وصاحبها رسول، ويجب على الله إرساله لا غير، وهو حينئذٍ مرسل، وكل مرسل رسول بلا عكس. ويجوز عزله دون الرسول. وليس من الحكمة رسول واحد (المواقف، ص٤١٩-٤٢٠، ص٤٢٩).
٧٢  عند الفرقة الناجية، بعثة الرسل بالمعجزات حق من آدم إلى محمد (المواقف، ص٤٣٠). ويُعلن محمد عبده نهاية الوحي واكتمال النبوة؛ أي استقلال الإرادة والفكر؛ إذ يقول: «ثم للإنسان بمقتضى دينه أمران عظيمان طالما حُرِم منهما، وهما استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر، وبهما كمُلت له إنسانيته، واستعدَّ لأن يبلغ من السعادة ما هيَّأ له الله بحكم الفطرة التي فُطر عليها.» وقد قال بعض حكماء الغربيين من مُتأخريهم إن نشأة المدنية في أوروبا إنما قامت على هذين الأصلين؛ فلم تنهض النفوس للعمل، ولم تتحرك العقول للبحث والنظر، إلا بعد أن عرف العدد الكثير من أنفسهم أن لهم حقًّا في تصريف اختيارهم، وفي طلب الحقائق بعقولهم. ولم يصل إليهم هذا النوع من العرفان إلا في الجيل السادس عشر من ميلاد المسيح. وقدر ذلك الحكيم أن شعاعًا سطع عليهم من آداب الإسلام ومعارف المُحققين من أهله في تلك الأزمان (الرسالة، ص١٦٠).
٧٣  انفرد أبو هاشم الجبائي بإمكان استحقاق الذم والعقاب بلا معصية، وبأنه لا توبة عن كبيرة مع الإصرار على غيرها عالمًا بقبحه، ولا مع عدم القدرة (المواقف، ص٤١٨). وعند أبي علي يجب أن يكون مكلَّفًا بإكمال عقله وتهيئة أسباب التكليف له (المواقف، ص٤١٨). وعند جهم توجب المعرفة بالعقل (المواقف، ص٤٢٨).
٧٤  عند الثمامية، اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة يصيرون ترابًا لا يدخلون جنة، وكذا البهائم والأطفال، من لا يعلم خالقه من الكفار معذور. وزاد فضل الحربي التناسخ، وأن كل حيوان مكلَّف (المواقف، ص٤١٧). وأنكرت الجناحية الجنة والنار. وعند المنصورية، الجنة رجلٌ أُمرْنا بموالاته وهو الإمام، والنار بالضد وهو ضده، وكذا الفرائض والمحرَّمات (المواقف، ص٤١٩-٤٢٠). وعند الهشامية (هشام بن عمرو الفوطي)، الجنة والنار لم تُخلَقا بعد (المواقف، ص٤١٧). وعند الجبرية (جهم)، الجنة والنار تفنيان (المواقف، ص٤٢٨).
٧٥  عند الفرقة الناجية، المعاد حق، وكذا المجازاة والمحاسبة والصراط والميزان وخلق الجنة والنار وخلود أهل الجنة فيها والكفار في النار. ويجوز العفو، والشفاعة حق (المواقف، ص٤٣٠). وجملة قولنا أن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور … وندين بألا نُنزل أحدًا من أهل التوحيد والمُتمسكين بالإيمان جنةً ولا نارًا إلا من شهد له الرسول بالجنة … ونقول إن الله يُخرج قومًا من الجنة بعد أن امتُحنوا بشفاعة محمد … ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وبأن الميزان حق والصراط حق … ونُقر بخروج الدجَّال كما جاءت به الرواية عن رسول الله … ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير، ومساءلتهما للمدفونين في قبورهم، ونُقر أن الجنة والنار مخلوقتان … وأن الأرزاق من قِبل الله يرزقها عباده حلالًا وحرامًا، وأن الشيطان يُوسوس للإنسان ويُشككه ويخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية … ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصَّهم الله بآياتٍ يُظهرهم عليهم، وقولنا في أطفال المشركين إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارًا ثم يقول لهم اقتحموها … (الإبانة، ص١٠–١٢). وقد أنكر المعتزلة الميزان والحساب والكتاب بعقولهم الناقصة مع وجود الأدلة القاطعة في كلٍّ من هذه الأبواب … ومن دسائس المعتزلة إنكار الصراط (شرح الفقه، ص٨٦–٨٨).
٧٦  هذا ما يفعله الأشعري في تكفير المعتزلة في موضوعاتٍ تسعٍ خالفوا فيها الروايات، ثلاثة في الذات والصفات، وثلاثة في الأفعال، وثلاثة في المعاد دون النظر والعمل أو الإمامة، وهي: (١) رؤية الله بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات، وتواترت بها الآثار، وتتابعت بها الأخبار. (٢) أنكروا شفاعة رسول الله للمُذنبين، وردُّوا الروايات في ذلك عن السلف المتقدمين. (٣) جحدوا عذاب القبر، وأن الكفار في قبورهم يُعذَّبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون. (٤) دانوا بخلق القرآن … فزعموا أن القرآن كقول البشر. (٥) أثبتوا أن العباد يخلقون الشر … (٦) زعموا أن الله يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. (٧) زعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، فأثبتوا لأنفسهم الغنى من الله، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه. (٨) قنَّطوا الناس من رحمة الله، وآيسوهم من رَوحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها. (٩) أنكروا أن يكون له يدان، وأنكروا أن يكون له عين، وأنكروا أن يكون له علم، وأنكروا أن يكون له قوة، ونفَوا النزول (الإبانة، ص٧-٨).
٧٧  عند المغيرية، غضِب الله من المعاصي، فعرِق، فحصل منه بحران؛ أحدهما ملحٌ مُظلم، والآخر حلوٌ نيِّر، ثم اطلع في البحر النير، فأبصر فيه ظله فانتزعه، فجعل منه الشمس والقمر، وأفنى الباقي نفيًا للشريك، ثم خلق الخلق من البحرين؛ فالكفر من المظلم، والإيمان من النير (المواقف، ص٤١٩). وعند المُشبهة، الإيمان قول الذر في الأزل بلى، وهو باقٍ في الكل إلا المرتدين، وإيمان المنافق كإيمان الأنبياء، والكلمتان ليستا بإيمان إلا بعد الردة (المواقف، ص٤٢٩).
٧٨  استحلَّت الجناحية المحرَّمات، وأبطلت الإسماعيلية الشرائع؛ لأن الغيارية، وهم طائفة من المجوس، راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوهٍ تعود إلى قواعد أسلافهم، ورأسهم حمدان قرمط أو عبد الله بن ميمون القداح. أما الخطابية فيستحلُّون شهادة الزور لمُوافقيهم على مُخالفيهم، كما استباحوا المحرَّمات وتركوا الفرائض (المواقف، ص٤٢٠).
٧٩  مراتب الدعوة عند الشيعة ثمانية: (١) الذوق، تفرُّس حال المدعو هل هو قابل للدعوة أم لا؛ لذلك منعوا إلقاء البذر في السنجة، والتكلم في بيت فيه سراج. (٢) التأسيس، استمالة كل أحد بما يميل إليه من زهد وخلاعة. (٣) التشكيك في أركان الشريعة بمقطعات السور، وقضاء صوم الحائض دون صلاتها، والغسل من المني دون البول، وعدد الركعات ليتعلق قلبهم بمراجعتها. (٤) الربط، أخذ الميثاق منه بحسب اعتقاده أنه لا يُفشي لهم سرًّا، وحوالته على الإمام في حل ما أشكل عليه. (٥) التدليس، دعوى موافقة أكابر الدين والدنيا لهم حتى يزداد ميله. (٦) التأسيس، تمهيد مقدمات يقبلها المدعو. (٧) الخلع، الطمأنينة إلى إسقاط الأعمال البدنية. (٨) السلخ عن الاعتقادات، حينئذٍ يأخذون في استعجال الملذَّات وتأويل الشرائع (المواقف، ص٤٢٢-٤٢٣).
٨٠  الأول هم الشيعة، والثاني هم المعتزلة.
٨١  عند النظامية، العلم مثل الجهل، والإيمان مثل الكفر (بصرف النظر عما إذا كان هذا الحكم من الطبيعيات كأعراض أم من الإلهيات). وتقول الواصلية بالمنزلة بين المنزلتين. وعند أبي علي الجبائي، مُرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، وإذا مات بلا توبةٍ يُخلَّد في النار، الثواب للمُطيع والعقاب لصاحب الكبيرة. وعند النظامية، من خان فيما دون نِصاب الزكاة أو ظلم به لا يفسق. وعند جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب، في فساق الأمة من هو أشرُّ من الزنادقة والمجوس. والإجماع على حد الشرب خطأ، وسارق الحبة مُنخلع عن الإيمان (المواقف، ص٤١٥-٤١٦، ص٤١٨).
٨٢  الأول اتجاه الخوارج، والثاني اتجاه المرجئة.
٨٣  عند البهيسية (الخوارج)، الإيمان الإقرار والعلم بالله وبما جاء به الرسول. فمن وقع فيما لا يعرفه أحلالٌ هو أم حرام، فهو كافر لوجوب الفحص عليه. وعند الحفصية (إحدى فرق الإباضية الأربعة) أتباع أبي حفص بن أبي المقدام، بين الإيمان والشرك معرفة الله؛ فمن عرف الله وكفر بما سواه، أو بارتكاب كبيرة، فكافر لا مشرك. وعند المعلومية، الإيمان من عرف الله بجميع أسمائه. وعند المجهولية يكفر الإنسان بمعرفة الله ببعض أسمائه. وعند المكرمية، تارك الصلاة كافر لجهله بالله، وكذا كل كبيرة، أما النجدات فقد عذروا بالجهالات في الفروع، وخالفوا الأزارقة في غير التكفير (المواقف، ص٤٢٤–٤٢٧).
٨٤  كفَّرت المُحكمة عثمان وأكثر الصحابة ومرتكب الكبيرة، وتُكفر الأزارقة مرتكب الكبيرة بما في ذلك النبي. وعند الإباضية، مُرتكب الكبيرة مُوحد غير مؤمن، كافرٌ كفر نعمة لا كفر ملة. وعند اليزيدية، أصحاب الحدود مشركون، وكل ذنب شرك (المواقف، ص٤٢٤-٤٢٥).
٨٥  قالت البهيسية: لا حرام إلا في قوله تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا السكر من شرابٍ حلال لا يؤاخذ صاحبه بما قال وفعل. وقيل هو مع الكبيرة كفر، ووافقوا القدرية، وصنعت الأصفرية (زياد بن الأصفر) التقيَّة في القول. والمعصية الموجِبة للحد لا يُسمَّى صاحبها إلا بها، وما لا حد فيه لعظمه كترك الصلاة والصوم كفر، ومن الإباضية أصحاب طاعة لا يُراد الله بها (المواقف، ص٤٢٤). وعند الأزارقة لا رجم على الزاني، ولا حد للقذف على النساء. وعند الأصفرية تُزوَّج المؤمنة من الكافر في دار التقيَّة دون العلانية. وتُجوز الميمونية نكاح البنات للبنين والبنين للبنات ولأولاد الإخوة والأخوات.
٨٦  تُجوز الأزارقة قتل أولاد المُخالفين ونسائهم، وأطفال المشركين في النار مع آبائهم، والأصفرية تُخالف الأزارقة في إسقاط الرجم وفي أطفال الكفار. وتوقَّفت الإباضية في تكفير أولاد الكفار. وأوجبت العجاردة البراءة من الطفل حتى يُدعى للإسلام، ويجب دعاؤه إليه إذا بلغ. وأطفال المشركين في النار. وعند الحمرية، أطفال المشركين في النار. وعند الخلفية، أطفال المشركين في النار بلا عمل وشرك. وعند الصلتية، من أسلم واستجار بهم تولَّوه وبرئوا من أطفاله. وقال البعض الآخر الأطفال لا ولاية لهم ولا عداوة. وتقول الثعالبة بولاية الأطفال؛ فالأطفال لا حكم لهم. وعند الميمونية، أطفال المشركين في الجنة. وتوقَّفت الإباضية في تكفير أولاد الكفار (المواقف، ص٤٢٤–٤٢٧).
٨٧  كفَّرت الأزارقة عليًّا لقبوله بالتحكيم، وابن ملجم مُحقٌّ في قتله، وكفَّرت الصحابة والقعَدة عن القتال. وكفَّرت الإباضية عليًّا وأكثر الصحابة. حرَّمت الأخنسية الاغتيال بالقتل والسرقة. وخالفت المعبدية الثعالبة في زكاة العبيد. وتقول المكرمية الثعالبة بموالاة الله ومعاداته لعباده باعتباره العاقبة (المواقف، ص٤٢٦-٤٢٧).
٨٨  تُكفر الفرقة الناجية أيضًا المرجئة وهي منهم، ومنهم أيضًا الفقهاء وأبو حنيفة. وهم يُمثلون رد فِعل على الخوارج. والمرجئة لُقِّبوا بذلك لأنهم يُرجئون العمل عن النية، أو لأنهم يقولون لا يضرُّ مع الإيمان معصية، فهم يُعطون الرجاء. وهي فِرقٌ خمس؛ اليونسية أصحاب يونس النمري، وعندهم أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له والمحبة بالقلب، لا يضرُّ معها ترك الطاعات، وإبليس كان عارفًا بالله، وإنما كفر باستكباره. وعند الغسانية (غسان الكوفي)، الإيمان المعرفة بالله ورسوله وبما جاء من عندهما إجمالًا، يزيد وينقص. مثلًا فرض الله الحج ولا أدري أين الكعبة، ولعلها بغير مكة، وبعث محمدًا ولا أدري أهو الذي بالمدينة أم غيره. وغسان كان يحكيه عن أبي حنيفة، وهو افتراء. وعند الثوبانية (ثوبان)، الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله وبرسله، وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله، واتفقوا على أنه تعالى لو عفا عن عاصٍ لعفا عن كل من هو مثله، وكذا لو أخرج واحدًا من النار، ولم يجزموا بخروج المؤمنين من النار. واختصَّ غيلان بالقدر والخروج من حيث إنه قال يجوز ألا يكون. وعند التومنية (أبو معاذ التومني)، الإيمان هو المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار، وترك كله أو بعضه كفر، وليس بعضه إيمانًا ولا بعضه كفرًا. وكل معصية لم يجمع على أية كفر، فصاحبه يُقال فيه إنه فسَق وعصى، ولا يُقال إنه فاسق. ومن ترك الصلاة مستحلًّا كفرًا بنية القضاء لم يكفر، ومن قتل نبيًّا أو لطمه كفر لأنه دليل لتكذيبه وبغضه. وبه قال ابن الراوندي وبشر المريسي، حيث قالا السجود للصنم علامة الكفر. فهذه هي المرجئة الخالصة، ومنهم من جمع إليه القدر كالصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب وغيلان (المواقف، ص٤٢٧-٤٢٨).
٨٩  هذا هو موقف الشيعة الإمامية؛ فالكاملية (أبو كامل) تُكفر الصحابة بترك بيعة علي، وتُكفر عليًّا بترك طلب الحق. وتوقَّفت الثيبرية (ثيبر التومي) في عثمان. أجازت المُشبهة إمامة علي ومعاوية، إلا أن إمامة علي على وفق السنة بخلاف معاوية، لكن يجب طاعة رعيَّته له. وعند الرزامية، الإمامة لمحمد ابن الحنفية، ثم ابنه عبد الله، ثم علي بن عبد الله بن عباس، ثم أولاده إلى المنصور. والزيدية ثلاث فِرق: (أ) الجارودية (أبو الجارود)، وتقول بالنص على علي وصفًا لا تسمية، والصحابة كفروا بمخالفته، والإمامة بعد الحسن والحسين شورى في أولادهما. فمن خرج منهم بالسيف، وهو عالمٌ شجاع، فهو الإمام. واختلفوا في الإمام المنتظر، هو محمد بن عبد الله، لم يُقتَل، أو محمد بن القاسم بن علي، أو يحيى بن عمر صاحب الكوفة. (ب) السليمانية (سليمان بن جرير)، الإمام شورى، وإنما تنعقد برجلَين من خيار المسلمين. أبو بكر وعمر إمامان، وإن أخطأت الأمة في البيعة لهما. وكفَّروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة. (ﺟ) الثيبرية (ثيبر التومي) توقَّفوا في عثمان. أما الإمامية فتقول بالنص الجلي على إمامة علي، وكفَّروا الصحابة ووقعوا فيهم، وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق، واختلفوا في المنصوص عليه بعده. وتشعَّب مُتأخروهم إلى معتزلة وإخبارية ومُشبهة وسلفية ومُلتحقة بالفِرق الضالة (المواقف، ص٤١٨، ص٤٢١–٤٢٣، ص٤٢٩).
٩٠  عند السبئية ينزل عليٌّ على الأرض ويملؤها عدلًا، وتقول الكاملية بالتناسخ، وأن الإمامة نورٌ يُتناسخ. وعند الجناحية (عبد الله بن معاوية بن جعفر ذو الجناحين)، عبد الله بجبال أصبهان. وعند المغيرية، الإمام المنتظر زكريا بن محمد بن علي بن الحسين، وهو حي في جبال حاجر، وقيل المغيرة. وعند الهشامية (هشام بن الحكم)، الأئمة معصومون دون الأنبياء. وعند الإسماعيلية، ظهر الحسن بن محمد الصباح، وجدَّد الدعوة على أنها الحجة (المواقف، ص٤١٨-٤١٩، ص٤٢١، ص٤٢٤).
٩١  هذا هو موقف الخوارج، وهي سبع فرق. المُحكمة خرجوا على علي عند التحكيم وكفَّروه. الإمام من قريش ومن غيرهم، وإذا كان عدلًا فهو الإمام. ولم يُوجبوا نصب الإمام. وعند النجدات لا حاجة إلى الإمام، ويجوز لهم نصبه. وتقول الإباضية إن مُخالفيهم كفارٌ غير مشركين، وغنيمة أموالهم من سلاحهم وكراعهم عند الحرب دون غيره، ودارهم دار الإسلام إلا معسكر سلطانهم، ويَقبلون شهادة مُخالفيهم (المواقف، ص٤٢٤).
٩٢  هذا هو موقف المعتزلة؛ فالواصلية تحكم بتخطئة أحد الفريقين من عثمان وقاتليه دون تعينه. ويجوز أن يكون عثمان لا مؤمنًا ولا كافرًا، وأن يُخلَّد في النار، وكذا علي ومُقاتلوه. علي وطلحة والزبير بعد واقعة الجمل لو شهدوا على باقة بَقل لم تُقبَل شهادة المُتلاعنين. أما المعمرية فقد فسَّقت الفريقين. أما النظامية فقد مالت إلى الروافض، ووجوب النص على الإمام وثبوته، ولكن كتمه عمر (وهو اتهام ابن الراوندي بالرغم من دفاع الخياط). وعند المردارية، كل من لابس السلطان كافر ولا يورث. وعند الهشامية، لا تنعقد الإمامة مع الاختلاف، ولم يُحاصَر عثمان ولم يُقتَل. ومن أفسد صلاةً افتتحها أولًا، فأول صلاته معصية منهي عنها (المواقف، ص٤١٥-٤١٦).
٩٣  الإمام يجب نصبه على المكلَّفين. الإمام الحق بعد رسول الله أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، والأفضلية بهذا الترتيب. أهل بيعة الرضوان وأهل بدر في الجنة. لا تكفر أحدًا من أهل القبلة إلا بما فيه نفي للصانع القادر الحكيم، أو شرك، أو إنكار للنبوة، أو ما عُلم مجيئه عليه السلام على ضرورة، أو لمُجمَع عليه كاستحلال المحرَّمات. وأما ما عداه فالقائل به مبتدعٌ غير كافر (المواقف، ص٤٢٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤