سابعًا: خاتمة: الواقع التاريخي بين الإثبات والتغيير

إن كل مسائل النظر والعمل وأبعاد الشعور الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، إنما هي في النهاية تنظير لواقعٍ تاريخي قديم، ظل ينقل من البيئة القديمة على البيئة الحالية بالرغم من اختلاف الظروف، لدرجة أن الإطار النظري القديم والاختيارات القديمة أصبحت هي نفسها علم العقائد. ولما كان علم العقائد علمًا إلهيًّا مقدسًا أصبح التغيير فيه أو إعادة الاختيار بين البدائل معدومًا تقريبًا، في حين أن كل موضوعات النظر والعمل إنما هي في الحقيقة الصورة النظرية للواقع التاريخي القديم، وأكبر دليل على أن علم العقائد نشأ في واقعٍ تاريخي معيَّن، وليس علمًا خارج الزمان والمكان، بل إن هذا الواقع هو الواقع السياسي بالضرورة، وكأن الأولوية في الواقع للسياسة، وكأن علم أصول الدين هو بالأصالة علمٌ سياسي، أو بالأحرى علم نظر السياسة، تحوَّل فيها الدين إلى «أيديولوجيا» سياسية، وأصبحت عقائد الفِرق تنظيرًا للواقع السياسي، وأصبحت عقائد كل فِرقة تُعبر عن موقعها واختيارها السياسي. ولما كان الموقع والاختيار يتحددان باستمرار ابتداءً من السلطة السياسية، أصبحت عقائد الفِرق تنظيرات للسلطة لتثبيتها أو لتغييرها، عقائد سلطة أو عقائد معارضة؛ لذلك ارتبط الموضوع كله بالإمامة؛ فقد كان الأمر يتعلق بإيمان وكفر الإمام، أو إيمان وكفر مُعارضيه، وليس بسطاء الناس، ثم تحوَّل من صراع على السلطة إلى خلافٍ فقهي عام حول مرتكب الكبيرة وأنواع الكبائر؛ فالسياسة أصل العقائد.

(١) الواقع التاريخي الثابت

والواقع التاريخي الثابت هو الواقع القديم الذي يشمل الحوادث التاريخية السابقة التي وقعت وارتبطت بأسمائها وأشخاصها وظروفها وبيئتها، والتي ما زالت تُنقَل حتى الآن وكأنها جزء من العقائد النظرية، وليست مجرد حوادث تاريخية كانت وراء نشأة علم العقائد. وأصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل التفرقة بين العقائد والتاريخ، بين الأسماء والأحكام، أي النظر والعمل، وبين الإمامة كحادثةٍ تاريخية. وهناك ثلاث حوادث رئيسية تكمن وراء موضوع النظر والعمل ومرتكب الكبيرة وحكمه بين الإيمان والكفر والفسوق، وهي: إمامة عثمان، وحروب علي، والتحكيم. وواضح من عناوينها أنها مرتبطة بالأشخاص، بأسماء معينة، وليست مسألةً نظرية خالصة باستثناء التحكيم.

(١-١) إمامة عثمان

لما كانت أحكام مرتكب الكبيرة تتراوح بين الإيمان والكفر والفسوق، فإن الخلاف حول إمامة عثمان وأفعاله جعلها أول واقعة تاريخية تُثير هذا التمايز في الأحكام؛ فقد كان هناك خلاف على أعماله مثل ضرب أتقياء الصحابة، ومنعه العطاء عنهم، ونفي البعض، واستدعاء بعض المنفيين، وعدم تطبيق حد القتل، وتولية أقاربه وجزل العطاء لهم، وجمع القرآن وحرق باقي المصاحف، وحمى الحِمى، وإتمام الصلاة بمنًى، وارتقاء منبر الرسول، وعدم حضور بدر، وتأخره عن بيعة الرضوان … إلخ. وهي أفعال توجب النصح للحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فقهاء الأمة وعلمائها، أخطاء في العمل السياسي تغليبًا للهوى على المصلحة، وترجيحًا للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة.١ ثم تظهر الاختيارات الثلاثة: الإيمان والكفر والفسوق. فالإمام مؤمن، وقد كان مُصيبًا في أفعاله، ثم قُتل مظلومًا، واعتُبر قتله فسقًا. وأما القعود عن نصرته والدفاع عنه إن كان بأمر الإمام حقنًا للدماء ودرءًا للفتنة فلا حرج، وإن كان نهى الإمام عن نصرته فهم معذورون، وإن كان إعانة للمُهاجمين فهو فسقٌ مثل الهجوم عليه وقتله. إن الدليل على براءة الإمام ليس تبشيره بالجنة، فالجنة نتيجة لقانون الاستحقاق، والجزاء على الأعمال، وليس نتيجة الدعوات له، دعوة أو أكثر، أو لأنه زوج ابنة النبي، بل تطبيقًا للحكم على أفعاله. فالولاية والعداوة لقاتليه ولكل من أكفره. وهو بهذا المعنى إمامٌ مثل الإمامين السابقين عليه.٢ ويصعب أن يكون كافرًا إلا عند اعتبار الكبيرة كفرًا، بل إن كفره يمتدُّ إلى بيعته منذ قبولها، وليس فقط إلى أفعاله بعد الولاية.٣ وقد يكون الاختيار الثالث محاولة لإثبات الإيمان النظري والخروج العملي، أو عن طريق تطوره في الزمان، وتغيُّره في إيمان السنوات الأولى إلى كفر السنوات الأخيرة.٤ ونظرًا لأن الأحكام الثلاثة غير كافية نظريًّا فقد تتم تبرئة كل من الفريقين؛ إذ يصعب معرفة أيُّهما ظالم وأيُّهما مظلوم. وقد تتم إدانة كل من الفريقين، فأحدهما فاسق دون تعيينه.٥ وفي مقابل إدانة الفريقين والحكم عليهما بالفسق، من جهة الإمام لأن أعماله توجب الفسق، ومن جهة قاتليه لأن الفسق لا يوجب القتل، يتم التوقف عن الحكم كليةً لا بالإيمان ولا بالكفر ولا بالفسوق لكلا الفريقين أو لأحدهما دون الآخر.٦ وتخلصًا من المأزق قد يتم إنكار الواقعة ذاتها التي تُقلق الوجدان وتُحير النظر ويصعب معها الحكم؛ وبالتالي يتم إنكار حصار الإمام وقتله بالغلبة والقهر، إنما قتل الإمامَ شرذمةٌ قليلة على غِرة من غير حصار؛ وبالتالي التخفيف من الواقعة، وتحويلها من واقعةٍ سياسية تتشابك فيها الشرعية إلى واقعة قتل عادية يطبَّق فيها حد القصاص.٧ والحقيقة أن الغرض ليس إصدارًا للأحكام على التاريخ، بل تحليل التاريخ بقصد التعرف على طبيعة الموقف السياسي، ورؤية العوامل التي ساهمت في صنع القرار؛ فالنظرية السياسية العلمية هي التي يمكن عن طريقها فهم المواقف السياسية في التاريخ. ليست القضية الواقعة التاريخية، بل أسسها النظرية؛ فليست القضية إنكار حصار الإمام وقتله بالغلبة والقهر أو إثباته، بل الدافع والأساس النظري؛ فسبيل التحقق من الوقائع التاريخية هو الخبر المتواتر، وليس علم العقائد.

(١-٢) حروب علي (الجمل وصفين)

وبعد قتل الإمام بدأ الخلاف حول الإمامة لحد الاقتتال بالسيف بين أنصار الإمام الجديد وأتباع الإمام المقتول، وبدل أن تخفَّ الواقعة الأولى زادت تعقيدًا بالواقعة الثانية.٨ وتظهر الأحكام الثلاثة على الواقعة الجديدة، وهي الإيمان والكفر والفسوق؛ فالإمام الجديد مُصيب في حروبه، في وقعتَي الجمل وصفين، ومُحاربوه مُخطئون. ويتراوح خطأ قاتليه بين الفكر والفسوق والبغي والخطأ، وذلك يستوجب التوبة والرجوع إلى الحق والتسليم له. وتظل الإمامة للإمام الجديد دون مُنازعيه على الإمامة ومُقاتليه عليها.
وقد يُتلمَّس لمُقاتلي الإمام الجديد العذر بأنه أخطأ في التحليل وإن كان على نيةٍ طيبة؛ فالقصد هو الصلاح، وليس الأمر إيمانًا أو كفرًا أو فسوقًا بقدر ما هو خطأ في الاجتهاد. وهو أمرٌ فرعي وليس أمرًا أصوليًّا، موضوعٌ فقهي وليس موضوعًا عقائديًّا.٩ لكن قد يتم تكفير كل من قاتل الإمام الشرعي الجديد، وتكفير كل من خالفه، سواء كان الكفر خالصًا أو شركًا، مغفورًا أو غير مغفور.١٠ وبعد تكفير المُخالفين يتم الرجوع إلى الوراء تدريجيًّا حتى يتم تكفير كل الأئمة السابقين، بل قد يبلغ الأمر تكفير الإمام نفسه إن لم يُحارب مُخالفيه، ويكون مرتدًّا عن الدين!١١
وقد يكون الإمام الجديد قد أخطأ نسبيًّا أو كليًّا؛ فهو وإن كان قد أصاب في قتال مُخالفيه إلا أنه أخطأ أنصاره الخارجين عليه، وكان يمكنه أن يكون أكثر رفقًا بهم، ولكن بوجهٍ عام كانت الحرب مفروضة عليه.١٢ أما قلب الآية وتخطئة الإمام الجديد وتصويب مُقاتليه فيصعب فهمه. وإن طلب القصاص من قتَلة الإمام السابق هو تحويل للقضية العامة إلى قضيةٍ خاصة، ورد مصلحة الأمة إلى مجرد قصاص. والحقيقة أن تخطئة الإمام الجديد إنما كان مَطمعًا في السلطة مع أخذ القصاص من قتَلة الإمام السابق ذريعة وستارًا، وهو ما عُرف في التاريخ باسم «قميص عثمان»، وفي وقت الفتنة والشقاق، كأن موضوع القصاص أخفُّ وطأة من وحدة الأمة. ولما كان القصاص يتم بالإمام فإن قوة الإمام ووحدة الأمة وراءه تكون دافعًا لتنفيذ الحد، وإلا كان الإمام أضعف من خصومه، وكان خصومه أقوى منه.١٣ أما الاختيار الثالث، وهو القول بفسق مرتكب الكبيرة، فإنه احتمالٌ نظري أيضًا، وليس خروجًا على الإجماع؛ لأنه لم ينعقد إجماع على مرتكب الكبيرة والواقع التاريخي، وكانت الأمة منقسمة إلى قسمين، ومختلفة في حكمين، الإيمان والكفر.١٤ ففي النزاع بين الإمام وخصومه أحدهما، دون تحديد أيهما، فاسق. والحقيقة أن هذه حيطة تجعل الإمام الشرعي وخصومه الذين يُنازعونه الشرعية على المستوى نفسه، كما أنها تجعل الإمام الشرعي موضع احتمال في الفسق، كما أن عدم التعيين هو موقفٌ نظري صرف وليس موقفًا عمليًّا، وكأن السياسة علمٌ رياضي لا يتطلب موقفًا أو حكمًا. ولما تلاعن الفريقان وأقسم أحدهما على تكذيب الآخر لا بد أن تسقط شهادتهما؛ فإذا لم يكن الحل الوسط رياضيًّا، وكان أقرب إلى هذا الطرف أو ذاك، فيمكن أن تصح توبة خصوم الإمام لأنهم من أهل بدر؛ أي ذنوبهم مغفورة نظرًا لقتالهم من أجل نصرة الحق أولًا، فكان جزاؤهم الجنة. كما أنه لا يصح ذم الصحابة أو ذكرهم بسوء. وقد يمتد الأمر إلى جعل الجميع مغفوري الذنوب مقبولي التوبة بما فيهم الإمام؛ وبالتالي يوضع الإمام من جديد على المستوى نفسه مع خصومه؛ لذلك يمكن تولِّي كل فريق على انفراد دون ضرب أحدهما بالآخر، إيقادًا لنار الفتنة، وضربًا للمؤمنين بعضهم بالبعض الآخر.١٥ ويمكن التمييز بين النيات، فإن كانت الحرب للسلطة والسياق عليها فصاحبها فاسق، وإن كانت بغية المصالحة بين المؤمنين فصاحبها على حق.١٦ ويمكن التوقف مع عدم البراءة من الإمام الشرعي، والبراءة من خصومه.١٧ وقد يكفر الجميع يأسًا من الوصول، وزهقًا من البحث عن حقٍّ تسيل منه الدماء، وتتطاير فيه الرقاب.١٨ وفي مقابل ذلك قد يصوب الجميع، سواء كان زهقًا من التكفير وحقنًا للدماء بصرف النظر عن عدم الاكتفاء النظري، أو كان عن اجتهاد؛ فللمُخطئ أجر، وللمُصيب أجران. والإمام اجتهد وأصاب، ومُقاتلوه اجتهدوا وأخطئوا. وهذا يفترض حسن النية عند الإمام بخصومه، ويستبعد نزاع الخصوم على السلطة ورغبتهم في انتزاعها منه.١٩ وقد يكون المُصيب هو القاعد عن الفتنة والمُنعزل عن الفريقين المُتخاصمين، حقنًا للدماء وإطفاءً للنار، بالرغم مما في ذلك من تقاعس عن نصرة الحق وعدم مقاومة الباطل.٢٠ وقد يسلم القادة ويهلك الأتباع؛ وذلك لأن القادة مجتهدون في الرأي ومسئولون عن أفعالهم، في حين أن الأتباع مُقلدون لم يُعملوا الرأي ولم يجتهدوا، بالإضافة إلى أنهم أعملوا سيوفهم في رقاب المسلمين.٢١ وحلًّا للأمر كله بما في ذلك التوقف عن الحكم، قد تُنكَر الواقعة التاريخية كلها كما أُنكرَ من قبلُ مَقتل الإمام السابق، أو استبشاعًا للأمر.٢٢ إن كل هذه الحلول الوسط تمحي التقابل بين الحق والباطل، وتضع الاثنين على نفس المستوى. إن كان يبغي المصالحة العامة فهو حق دون استسلام للباطل، وإن كان يبغي تقوية الباطل وإضعاف الحق فهو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق، ونصرة لخصوم الإمام على الإمام.٢٣

(١-٣) التحكيم

وبعد مقتل الإمام السابق وحروب الإمام اللاحق، وإنهاك القوى، وضياع وحدة الأمة في فتنةٍ اختلط فيها الحق بالباطل، كان من الطبيعي أن يحدث التحكيم؛٢٤ فالتحكيم هو الحدث التاريخي الثالث الذي تظهر فيه الأحكام الثلاثة بالإيمان أو الكفر أو الفسوق. فالتحكيم — لا عن طريق التقية — صواب، تألفًا للمسلمين، ودرءًا للفتنة، ومنعًا لإراقة الدماء، وخوفًا على العسكر من الفساد والموت بلا طائلٍ ما دام الخصم قد بيَّن استعداده للحوار وتحكيم كتاب الله، والرجوع إلى الحق طواعيةً سِلمًا أفضل من الإذعان له كرهًا وحربًا.٢٥ وقد تُصيب المُحكمة الأولى ثم تُخطئ بعد ذلك بخروجها على الإمام.٢٦ وقد يُخطئ الإمام دون أن يفسق إذا كان حكمه نتيجة عن اجتهاد، وفي هذه الحال يكون خطؤه صوابًا ما دام قد تم عن اجتهاد. قد يُصيب الإمام ولكن يأتي الخطأ من أحد الحكَمين الذي خدع الآخر.٢٧ كما يصعب تكفير الإمام بعد الالتجاء إلى التحكيم، خاصةً وأنه كان مدفوعًا إليه من أنصاره قبل أن يتبرَّءوا منه، وبعد أن نزل الإمام على رأيهم وأعطى العهود والمواثيق لخصومه.٢٨ وإن رفض التحكيم وإن كان يدل على قوة اقتناع بالحق، ورفض للمصالحة مع الباطل، وضرورة إقناع الخصم بالفعل في ميدان القتال من أجل إلحاق الهزيمة به، إلا أنه قد يكون قصر نظر؛ فالتشبُّث بالحق من حيث النظر قد يكون أحيانًا طفوليةً سياسية من حيث العمل؛ لأن ما يمكن تحقيقه بالنضال المستمر يمكن أن يتحقق أيضًا بالتحكيم؛ فالتحكيم نوع من إلزام الخصم السياسي بالحجة، ويؤسِّس حياته على النظر. وفي هذا الجو النفسي المشحون، حيث يريد كل مُقاتل أن يكون صاحب رأي، ويريد كل صاحب رأي أن يكون حامل سيف، تظهر البطولة في التشدد وعدم التنازل والتطرف؛ فالتمسُّك بالحق بطولةٌ نظرية، والبطولة في القتال تمسُّك بالحق. وفي هذا الإطار من تخفيف العواطف وتهدئة الخواطر قد يتم تصويب الكل، فالكل مجتهدٌ معذور، أو قد يُمنَع الكلام في الموضوع ويُحال إلى الله، أو يتم إنكار الواقعة التاريخية رغبةً في الهروب منها.٢٩ ولكن تصويب الكل يُعارض بالحرب والقتال في الواقع، والواقع أبلغ من الموقف النظري. وإحالة الحكم إلى الله يُهدئ الخواطر، ولكنه لا يوقف الحرب. أما إنكار الواقعة التاريخية فإنه يُحدث تخلصًا من الموقف، وهروبًا من الواقع، وإيهامًا للنفس بالخلاص، وتحررًا فارغًا لها من الإشكال. والحقيقة أن المُتأمل في رواية التحكيم يجد أن الحق كان من جانب الإمام؛ فقد أنهكت الحرب الفريقين، ولم يعد هناك حلٌّ عسكري إلا بإراقة مزيد من الدماء. أما الخصوم فقد كانوا قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، ولم يكن التحكيم بالنسبة لهم إلا حيلة للقضاء على وحدة معسكر الإمام. ولم يقم مُمثل الخصوم بإجراء الحيلة إلا بعد رشوة، حكم مصر مدى الحياة. وقد نجحت الحيلة في إيقاع الشقاق في معسكر الإمام وخروج الخوارج. وقد وُضعت الحيلة بحيث يحدث الشقاق، سواء في حالة القبول لأنه لا حاكم إلا الله، أو في حالة الرفض لأنه كيف يرفض الحكم للكتاب؟ وقد تردَّد الإمام في القبول أولًا، ولكن نزولًا على رغبة الجند قبِل التحكيم. وكان لا بد من التزام الإمام بالعهود والمواثيق التي أعطاها بعد قبول التحكيم. وقد استغل الخصم الدين، رفع المصاحف على الرماح، لأغراضٍ سياسية محضة، نظرًا لما يعرفه عن تقوى الإمام وجنده، بينما ضاعت التقوى من معسكر الخصوم، حتى إن فاتح مصر هو الذي قام باقتراح الحيلة وإجرائها، وكأن عمالته تحت الخليفة الثاني كانت مخالفة لعمالته تحت الحكام من بعده، وكأن الحاكم هو الذي يفرض على العامل قيمه وسلوكه.

(٢) الواقع التاريخي المتغير

ارتبط موضوع النظر والعمل بواقعٍ تاريخي ثابت هو الواقع التاريخي القديم، حتى لأصبح من المستحيل الحديث عن موضوع الإيمان والكفر والفسوق والعصيان، بل والحكم والثورة، إلا من خلال المادة التاريخية القديمة بأسمائها وأشخاصها وفِرقها وحوادثها حول الفتنة الكبرى. والحقيقة أن القصد من تحليل هذه المادة ليس أخذ صف هذا الفريق ضد ذاك الفريق، وتبرئة فرقة وإدانة أخرى، بل إعطاء نماذج من المواقف السياسية التي يمكن أن توجد في كل عصر من أجل تحليل الاختبارات السياسية الممكنة؛ فالمادة التاريخية القديمة تُعطي أنماطًا مثالية كما هو الحال في القياس من أجل أن تُقاس عليها كل مادة جديدة.٣٠ فما هي المادة الجديدة التي يمكن أن يُقدمها عصرنا؟ ما هي الكبائر الآن؟ ومن هم مرتكبو الكبائر؟ هل هي الكبائر القديمة التسعة، أقل أو أكثر، أم أنه يُعاد ترتيبها بحيث مثلًا يوضع السحر في أولاها الذي يمنع الناس من الاعتماد على العقل والإرادة، كما يوضع الفرار عند الزحف في مقدمتها نظرًا لما نخوضه من حروب، وما نُعانيه من انكسارات؟ قد تكون الكبائر الآن سبعة؛ الأولى: كل من يعمل على احتلال أراضي المسلمين، ويُوالي أعداءهم، ويُصلي في الأراضي المغصوبة، ويُصالح الأعداء ويُسالمهم ويتقاعس عن تحرير الأرض، فلسطين المحتلة وكشمير وباقي أراضي المسلمين، وكل من يتهاون في بناء الثغور وإعداد الجيوش والقضاء على روح الجهاد في الأمة. والثانية: كل من يعمل على قهر المسلمين وإذلالهم، والقضاء على حرياتهم، وملء السجون، وكمِّ الأفواه، والسيطرة على العقول، وتزييف الضمائر، وشراء الذِّمم. والثالثة: هي كل من يعمل على نهب ثروات المسلمين وتبديدها، وسوء توزيع الدخل بينهم، وإيجاد طبقات مُتفاوتة في الرزق، وفرق شاسع بين الفقراء والأغنياء، مع احتكار الأسواق، وامتلاك ما بباطن الأرض وهو ركاز، ملكية عامة للمسلمين. والرابعة: كل من يعمل على تفكيك وحدة المسلمين وشق صفوفهم، وتجزئة أوطانهم دون وحدتهم ولمِّ شملهم؛ فقد تجزَّأت الأمة بفعل التخلف والانهيار الداخلي، وبفعل الاستعمار والسيطرة الخارجية، «أأربابٌ مُتفرِّقون خير أم الله الواحد القهار»؟! والخامسة: كل من يقضي على هُويتهم ويُوقعهم في الاغتراب، ويقطع الماضي من الحاضر، ويفصل الحاضر من الماضي، ويجعلهم مُقلدين للغير ينقلون العلم عنه ولا يُبدِعون علمًا، وكل من يجعلهم تابعين لا متبوعين، ومُتعلمين إلى الأبد لا مُعلمين يومًا ما. والسادسة: كل من يُرسخ التخلف في شتى مظاهره، سواء في التعليم أو في السلوك، في النظر أو في العمل، يمنع العلم عن الناس، إعمال العقل، ورؤية الواقع، كل من يمنع عنهم المُداواة والبُرء من الأمراض، وكل من يمنعهم النظافة وحسن العيش. والسابعة: كل من يجعل الأمة مُستكينة مُسترضية لا مُبالية فاترة، كثيرة كغثاء السيل، كمًّا بلا كيف، ملايين عددية دون قوًى فعلية ضد تعبئة الأمة وتجنيد جماهيرها. هذه هي كبائر العصر التي تُحدد من المؤمن ومن الكافر ومن الفاسق. فالتاريخ واقعٌ مُتغير، من الماضي إلى الحاضر، وإلا كُنا كمن يريد أن يأخذ جانبًا في معركةٍ قديمة ليس هو طرفًا فيها، ويترك معاركه التي هو فيها أحد أطرافها.٣١
١  اختلفوا في عثمان لأشياء نقموها منه حتى أقدم لأجلها ظالموه على قتله، منها: ضرب عمار حتى فتق أمعاءه، وعبد الله بن مسعود حتى كسر ضلعين، ومنعه العطاء سنين كثيرة، ونفي أبي ذر لطعنه عليه وعلى امرأته أنهم استأثروا بالمال وعلوا البنيان وركبوا المراكب، وتجاوز تأديب الصحابة من الضرب بالدِّرة إلى العصا، وتولية أقاربه، وكان يُحبهم ويخصهم بالعطاء، والكتاب الذي وُجد مع عبده على بعيره وما تضمَّنه في بابهم، ثم جمع القرآن وحرق المصاحف، وحمى الحِمى، وآوى الحكم طريد الرسول، وإتمامه الصلاة بمنًى، وترك قتل عبيد الله بن عمر بالهمزان، ورقيه على المنبر فوق المرقاة التي كان يقوم عليها الرسول، وعدم حضوره بدر، وتأخره عن بيعة الرضوان (الفرق، ص١٧؛ التمهيد، ص٢٢٠–٢٢٧). وقد عاب عليه النظام رده الحكم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول الله، ونفي أبي ذر صديق الرسول، وتقليده الوليد بن عتبة الكوفة وهو من أفسد الناس، ومعاوية الشام، وعبد الله بن عامر البصرة، وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وهم أفسدوا عليه أمره، وضربه عبد الله بن مسعود على إحضاره المصحف، وعلى القول الذي شافهه به (المِلل، ج١، ص٨٧). اختلفوا في قاتليه وخاذليه اختلافًا ظل قائمًا إلى يومنا هذا (الفرق، ص١٧).
٢  هذا هو موقف أهل السنة؛ فقد أجمعوا على أن عثمان كان إمامًا على شرط الاستقامة إلى أن قُتل، وأن قاتليه قتلوه ظلمًا؛ فمن استحلَّ ومن كفَّر ومن تعمَّد قتله من غير استحلال فسق، والذين هجموا عليه واشتركوا في دمه، مقطوعٌ بفسقهم. والذين قعدوا عن نصرته فريقان؛ الأول كانوا معه في الدار ودافعوا عنه (الحسن بن علي، عبد الله بن عمر … إلخ)، أقسم عليهم عثمان بترك القتال، من وضح سلاحه فهو حر، هم أهل طاعة وبر وإحسان. والثاني قعدوا في القدرة عن نصرته، وهم صنفان؛ الأول أرادوا نصرة عثمان فنهاهم وهم معذورون، والثاني قوم من السوقة أعانوا المهاجمين وهم فسقة. وهناك شهادة على براءة عثمان، وهو من المبشَّرين بالجنة (الأصول، ص٢٨٧-٢٨٨). كان مُصيبًا في أفعاله، قُتل ظلمًا وعدوانًا (مقالات، ج١، ص٤٧-٤٨). الكلام في مقتل عثمان، والدليل على أنه قُتل مظلومًا (التمهيد، ص٣١٣–٣٢٠؛ الإرشاد، ص٤٣١-٤٣٢). قال أهل السنة بموالاة عثمان، وتبرَّءوا ممن أكفره (الفرق، ص٣٥٠). تزوَّج ذو النورين بنت النبي، ودعا لأبي بكر بدعوة، ولعثمان بدعوتين (شرح الفقه، ص٦٠-٦١). أما الجبائي وابنه فإنهما يُواليان عثمان ويتبرآن من قاتليه (الأصول، ص٢٢٧-٢٢٨؛ الانتصار، ص٩٨).
٣  تُكفر عثمانَ فِرقتان، الشيعة والخوارج، أي الطرفان النقيضان. عند الروافض، لم يكن إمامًا منذ يوم قام إلى أن قُتل، وأنكروا إمامة أبي بكر وعمر (مقالات، ج٢، ص٢٢٧-٢٢٨). وتُكفر الزيدية الإمامية أنصار سليمان بن جرير عثمان (مقالات، ج١، ص١٣٦؛ الفرق، ص٣٣). والجارودية منهم تُكفر معه أبا بكر وعثمان وكل الصحابة (الفرق، ص٣٢١). كما طعنت المُحكمة الأولى في عثمان (المِلل، ج٢، ص٢٧)، وكفَّروه (المواقف، ص٤٢٤). وتُكفر الأزارقة عثمان (المِلل، ج٢، ص٣٣، ص٩٠). وأما فِرق الخوارج النجدات الصفرية والعجاردة والإباضية والثعالبة فإنها تتبرأ من عثمان وعلي، وتُقدم ذلك على كل طاعة، ولا تُصحح المناكحات إلا على ذلك (المِلل، ص١٣–٢٥؛ مقالات، ج١، ص١٥٦).
٤  عند بعض الخوارج كان عثمان مُصيبًا في السنة الأولى من أيامه، ثم أحدث أحداثًا وجب خلعه وإكفاره. هو كافر مشرك، كافر نعمة. وأثبتوا إمامة أبي بكر وعمر (مقالات، ج٢، ص١٢٧-١٢٨). وعند الزيدية كان إمامًا إلى أن أحدث أحداثًا استحق بها أن يكون مخلوعًا، ففسق، فبطلت إمامته. ووقفت في إمامة أبي بكر وعمر دون تخطئة أو لعن (مقالات، ج٢، ص١٢٧-١٢٨).
٥  يتولى أبو الهذيل عثمان وقتَلته، كلٌّ منهم على حياله، ولا ندري قُتل ظالمًا أو مظلومًا (مقالات، ج٢، ص١٢٧-١٢٨). أما جمهور المعتزلة مثل واصل بن عطاء فيؤثرون التوقف، مع العلم بأن أحد الفريقين فاسق (الانتصار، ص٩٧). وعند الواصلية، الحكم بتخطئة أحد الفريقين عثمان وقاتليه، وكذلك علي وأهل الجمل (المواقف، ص٤١٥).
٦  عند المردار وجعفر بن مبشر، عثمان فاسق، وقاتلوه فسَقة؛ لأن فسق عثمان لا يوجب قتله، وكلاهما في النار (الأصول، ص٢٨٧-٢٨٨؛ الانتصار، ص٩٨). أما أهل السنة والتبرية والسليمانية والجريرية الزيدية وجعفر بن حرب، فإنهم يتوقفون في عثمان (الفرق، ص٣٣-٣٤، ص٣٢١؛ المِلل، ج٢، ص٩٢؛ المحصل، ص١٨٠؛ المواقف، ص٤٢٣؛ الانتصار، ص٩٨).
٧  أنكر هشام بن عمر الفوطي حصار عثمان. وقتله بالغلبة والقهر شرذمةٌ قليلة، قتلوه غرةً من غير حصار (الفرق، ص١٦٣).
٨  الخلاف بين علي وبين معاوية، وحرب صفين، ومخالفة الخوارج وحمله على التحكيم، ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وبقاء الخلافة إلى وقت الوفاة، مشهور (المِلل، ج١، ص٣٤). ثم اختلفوا بعد ذلك في شأن علي وأصحاب الجمل، وفي شأن معاوية وأهل صفين، وفي حكم الحكمين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص، اختلافًا باقيًا إلى اليوم (الفرق، ص١٧-١٨). هذا الخلاف وقع بعد الرسول والخوارج لما قالوا بتكفير الفاسق، ورأوا عليًّا يقتل جمعًا من أهل القبلة ويُصلي عليهم. قالوا هذه مناقضة؛ فهو فاسق بسببٍ واحد من هذين الفعلين قطعًا، وتبرَّءوا منه (تلخيص المحصل، ص٧٥).
٩  الكلام في حروب علي ومن حارب معه من الصحابة على ثلاث فِرق؛ الأولى: الشيعة وبعض المرجئة وجمهور المعتزلة ترى أن عليًّا مُصيب، وكل من خالفه على خطأ. فعند الروافض والزيدية وبعض المعتزلة والنظام وبشر وبعض المرجئة، علي مُصيب، وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية مُخطئون. وعند واصل وعمرو وأبي الهذيل وطوائف من المعتزلة، علي مُصيب في قتال معاوية وأهل النهر (الفصل، ج٤، ص١٦٥-١٦٦). وعند ضرار وأبي الهذيل ومعمر، معاوية مُخطئٌ غير إمام (مقالات، ج٢، ص١٣٠-١٣١). تصويب قتال علي طلحة والزبير ومعاوية (مقالات، ج٢، ص١٣٠-١٣١؛ مقالات، ج١، ص١٢٢؛ المحصل، ص١٨٠). كفَّرت السليمانية الزيدية عثمان وطلحة والزبير وعائشة (المواقف، ص٤٢٣). علي كان إمامًا في توليته، ومُقاتلوه بُغاة، حسَّن الظنَّ بهم قصدُ الخير وإن أخطَئوا. أرادت عائشة بمسيرتها إلى البصرة تسكين الثائرة. كل الصحابة معرَّضون للزلل، ولا عصمة لإمام إلا للنبي (الإرشاد، ص٤٣٣-٤٣٤). أخطأ طلحة والزبير وتابا. وقُتل الزبير وقت الانصراف وكذلك طلحة (المِلل، ج٢، ص٣٣-٣٤). أرادت عائشة الإصلاح، ثم غُلبت على أمرها، ثم تابت ورجعت. رجعوا عن الخطأ. كان عن تأويل واجتهاد (الإبانة، ص٦٩؛ المعالم، ص١٨١-١٨٢). عند هشام الفوطي وعلي الأسواري، حرب الجمل لم تكن عن رأي أمير المؤمنين وطلحة والزبير، بل كان اجتماعهم بالبصرة للمناظرة، فتسرَّع أصحاب للحرب (الانتصار، ص٦٠-٦١، ص١٦٣–١٦٩؛ الفرق، ص٣٥٠-٣٥١). عند أهل السنة، علي مُصيب في قتال الجمل ومعاوية في صفين، كلَّم عليٌّ الزبير فرجع. الذين قاتلوا عليًّا فسَقة. أصحاب معاوية بغاة. صحة إيمان علي وطلحة والزبير من بيعة الرضوان (الأصول، ص٢٨٩–٢٩١؛ الفرق، ص١٢١). تصويب علي في حروبه في صفين ونهروان (الفرق، ص٣٥٠؛ شرح الفقه، ص٦١). معاوية وعمرو بغاة على الإمام، وأهل النهر شراةٌ مارقون عن الدين، وعلي على حق. وهو موقف الأشعرية (المِلل، ج١، ص١٥٨).
١٠  والخوارج تُكفر عثمان وعليًّا وطلحة والزبير وعائشة، وتُعظم أبا بكر وعمر (الاعتقادات، ص٤٦). طعنت المُحكمة الأولى في أصحاب الجمل وأصحاب صفين، فقاتلهم علي بالنهروان (الملل، ج٢، ص٢٧). وتُكفر الأزارقة طلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس وسائر من معهم، وتُخلدهم في النار (المِلل، ج٢، ص٣٣). وعند جمهور الخوارج، أصحاب الجمل وأصحاب معاوية كفار (الأصول، ص٢٩٠). وعند الروافض، طلحة والزبير وعائشة وأتباعهم يوم الجمل كُفار في قتال علي، وكذلك معاوية وأصحابه بصفين (الأصول، ص٢٩٠). وتقول النعيمية (الزيدية) بتكفيرهم وتقتيلهم، وتقول طائفة أخرى بتفسيقهم، إلا أن يكون حاربه عنادًا للرسول، فهم كفار، وكذلك من ترك الائتمام به بعد الرسول (مقالات، ج١، ص١٢٢؛ الفرق، ص٢١٣).
١١  تتبرأ الإسماعيلية الإمامية وتُكفر كل من خالف عليًّا، ويقولون بإمامة الاثنَي عشر (التنبيه، ص٣٢). أما أهل قم من الإمامية فإنهم يطعنون على السلف ويشتمونهم، ويأخذون شيئًا يحشونه تبنًا أو صوفًا يُسمونه أبا بكر أو عثمان، ويضربونه بالعصي حتى يُشفى غليلهم (التنبيه، ص٣٣). ارتدَّ الصحابة بعد النبي سوى علي وبنيه وثلاثة عشر منهم (الفرق، ص٣٢١). نسبوا الكفر والكذب إليهم (المِلل، ج٢، ص٩٨-٩٩). وقد أكفرت الباطنية والمنصورية والجناحية والخطابية أبا بكر وعثمان وأكثر الصحابة بإخراجهم عليًّا من الإمامة في عصرهم ومن أولاده (الفرق، ص٢٥٠). وعند سليمان بن جرير تكفُر عائشة مع الزبير وطلحة بإقدامهم على قتال علي.
١٢  عند بعض الخوارج، علي مُصيب في قتاله أهل الجمل وأهل صفين، مُخطئ في قتاله أهل النهر (الفصل، ج٤، ص١٦٥-١٦٦). وعند طائفة من الكرامية، أصاب علي في محاربة أهل الجمل وصفين، ولو صالحهم على شيءٍ أرفق بهم لكان أولى وأفضل. أما محاربة الخوارج فقد كانت فرضًا عليه (الأصول، ص٢٩٠).
١٣  يرى جماعة من الصحابة وخيار التابعين وطوائف من بعدهم تصويب مُحاربي علي من أصحاب الجمل وصفين (الفصل، ج٤، ص١٦٥-١٦٦). وحجتهم أن عثمان قُتل مظلومًا، وطلب القصاص فرض، والتهاون مع القتَلة مشاركة لهم عن عزم أو عن ضعف، وما أُخذ على عثمان أقل من هذا (الفصل، ج٤، ص١٦٦-١٦٧). ويُدافع ابن حزم عن ذلك بأن عليًّا لم يكن يقدر عليهم، ولو أن معاوية تابع عليًّا لقوي به (الفصل، ج٤، ص١٧٣-١٧٤). وتُصوب الكرامية معاوية فيما استبدَّ به من الأحكام الشرعية قتالًا على طلب قتلة عثمان، واستقلالًا بمال بيت المال. ومذهبهم الأصلي اتهام علي في الصبر على ما جرى مع عثمان عنه، والسكوت عنه مرق نزع (المِلل، ج٢، ص٢٢-٢٣).
١٤  فارق واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد أهل السلف في بدعة؛ وذلك أنه وجد أهل عصره مختلفين في علي وأصحابه، وفي طلحة والزبير وعائشة أصحاب الجمل، فزعمت الخوارج أن طلحة والزبير وعائشة وأتباعهم يوم الجمل كفروا بقتالهم عليًّا، وأن عليًّا كان على الحق في قتال أصحاب الجمل ومعاوية بصفين إلى وقت التحكيم، ثم كفروا بالتحكيم. وكان أهل السنة والجماعة يقولون بصحة إسلام الفريقين في حرب الجمل؛ فإن عليًّا كان على الحق في قتالهم، وأصحاب الجمل كانوا عُصاةً مخطئين في قتال علي، ولم يكن خطؤهم كفرًا ولا فسقًا يُسقط شهادتهم، وأجازوا الحكم بشهادة عدلين من كل فرقة من الفريقين. وخرج واصل عن قول الفريقين، وقال إن فرقة من الفريقين فسقة لا بأعيانهم، قد يكون عليًّا وأتباعه كالحسن والحسين وابن عباس وعمار بن ياسر، وأجازوا كون الفسقة من الفريقين، عائشة وطلحة والزبير. وقالوا لو شهد علي وطلحة أو علي والزبير أو رجل من أصحاب علي ورجل من أصحاب الجمل عندي على باقة بقل لم أحكم بشهادتيهما؛ لِعلمي أن أحدهما فاسق لا بعينه، كما لا أحكم بشهادة المُتلاعنين. ولو شهد رجلان من أحد الفريقين لقبلت شهادتهما (الفرق، ص١١٩-١٢٠، ص٣٢٠؛ المِلل، ج١، ص٧٣-٧٤؛ الاعتقادات، ص٤٨؛ الأصول، ص٣٣٥). والنظام ومعمر والجاحظ وأبو الهذيل على رأي واصل (الفرق، ص٣٢١). وتتلمذ يزيد في الأصول على واصل، مع اعتقاد واصل بأن جده علي بن أبي طالب (المِلل، ج٢، ص٨٢-٨٣). توقَّف واصل وعمرو وأبو الهذيل في قتال علي مع أهل الجمل؛ فإحدى الطائفتين مخطئة، ولا ندري ما هي (الفصل، ج٤، ص١٦٥-١٦٦). وعند ضرار وأبي الهذيل ومعمر، أحدهما مُصيب، والآخر مُخطئ، تتولى الأول دون الثاني، أو كلاهما مُتلاعن (مقالات، ج٢، ص٣٠-٣١).
١٥  جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب والإسكافي، يُصححون توبة طلحة والزبير وعائشة من خروجهم على علي (الانتصار، ص٩٥). وعند عبد الواحد بن يزيد، علي وطلحة والزبير مغفور لهم قتالهم، وأنه كفر وشرك (مقالات، ج١، ص٣٧١). مشركون في الجنة لأنهم من أهل بدر (الأصول، ص٢٩، ص٣٣٨-٣٣٩). النظامية لا تذكر الصحابة ولا عليًّا بسوء (الانتصار، ص٤١-٤٢). عند بكر بن أخت عبد الواحد بن يزيد، علي وطلحة والزبير مشركون منافقون في الجنة (مقالات، ج٢، ص١٣٠-١٣١). «اطَّلع الله على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (مقالات، ج١، ص٣١٧-٣١٨). عند البكرية، ذنوب علي وطلحة والزبير كانت كفرًا وشركًا مغفورًا (الفرق، ص٢١٣). يتولى واصل وعمرو والنظام وأكثر القدرية عليًّا وأصحابه على انفرادهم، وطلحة والزبير وأتباعهما على انفرادهما (الأصول، ص٢٩٠-٢٩١؛ الفرق، ص١٢١، ص٣٢٠-٣٢١؛ الاعتقادات، ص٤٠؛ الانتصار، ص٩٧-٩٨).
١٦  عند الأصم، إن كان قتال علي وطلحة والزبير ليتكافأ الناس حتى يصطلحوا على إمام فهو صواب، وإن كان ليجوز الأمر إلى نفسه فهو ظالم (مقالات، ج٢، ص١٣٠-١٣١).
١٧  هذا هو موقف الخازمية الخوارج، إذ يتوقفون في أمر علي، ولا يفرحون بالبراءة منه، ويفرحون بالبراءة في حق غيره (المِلل، ج٢، ص٤٨).
١٨  يُكفر ميمون عليًّا وطلحة والزبير وعائشة وعثمان (الفرق، ص٢٨٠). وتكفير الكاملية الإمامية الرافضة ومعها بشار بن برد الصحابة بتركهم بيعة علي، وتُكفر عليًّا بتركه قتالهم كما قاتل أصحاب صفين (الفرق، ص٥٤، ص٥٦). ويُكفرها أهل السنة لتكفيرها كل الفِرق (الفرق، ص٣٢٢؛ الملل، ج٢، ص١١٧؛ المواقف، ص٤١٩).
١٩  أكثر الكرامية تُصوب الفريقين يوم الجمل (الأصول، ص٢٩٠). معاوية وإن كان قاتل عليًّا فإنه كان لا يُنكر إمامته، ولا يدَّعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتَلة عثمان ظانًّا أنه مُصيب، وكان مُخطئًا، وعلي مُتمسك بالحق (اللمع، ص١١٥). وعند حسير الكرابيسي، علي وطلحة والزبير وعائشة سلكوا سبيل الاجتهاد، جميعًا مُصيبون، وكذلك قتال معاوية وعلي (مقالات، ج٢، ص١٣٠-١٣١).
٢٠  علي وطلحة والزبير لم يكونوا مُصيبين في حربهم، والمُصيبون هم القعود، نتولاهم جميعًا، ونبرأ من حربهم، ونرد أمرهم إلى الله (مقالات، ج٢، ص١٣٠-١٣١). الفريقان على خطأ، والصواب القعَدة عن القتال (سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، والفسقة) (الأصول، ص٢٩٠).
٢١  عند حوبش وهشام الأوقصي، وهما من القدرية، سَلِم القادة وهلك الأتباع (الفرق، ص١٢١).
٢٢  يرى عباد أنه لم يكن بين طلحة والزبير وعلي قتال (مقالات، ج٢، ص١٣٠-١٣١).
٢٣  قال الأصم أقوالًا في علي ومعاوية جعل معاوية أحسن حالًا من علي (الأصول، ص٢٩٠-٢٩١).
٢٤  ثم حدث الاختلاف في أيام علي في أمر طلحة والزبير وحربهما إياه، وفي قتال معاوية إياه، وصار علي ومعاوية إلى صفين، وقاتله علي حتى انكسرت سيوف الفريقين، ونصلت رماحهم، وذهبت قواهم، وجثَوا على الرُّكب؛ فوهم بعضهم على بعض، فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو! ألم تزعم أنك لم تقع في أمرٍ فظيع فأردت الخروج منه إلا خرجت. فقال: بلى. قال: فما المخرج مما نزل؟ قال له عمرو بن العاص: فلي عليك ألا تخرج مصر من يدي ما بقيت؟ قال: لك ذلك، ولك به عهد أيلة وميثاقه. قال: فأمرْ بالمصاحف فتُرفَع، ثم يقول أهل الشام لأهل العراق: يا أهل العراق، هذا كتاب الله بيننا وبينكم، البقية البقية، فإنه إن أجابك إلى ما تريده خالفه أصحابه، وإن خالفك خالفه أصحابه. وكان عمرو بن العاص في رأيه الذي أشار به كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق. فأمر معاوية برفع المصاحف وبما أشار عليه عمرو بن العاص، ففعل ذلك، فاضطرب أهل العراق على علي وأبَوا عليه إلا التحكيم، وأن يبعث علي حكمًا، ويبعث معاوية حكمًا. فأجابهم علي إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يُجيبهم إليه. فلما استجاب علي إلى ذلك، وبعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حكمًا، وبعث علي وأهل العراق أبا موسى حكمًا، وأخذ بعضهم على بعضٍ العهود والمواثيق، اختلف أصحاب علي عليه، وقالوا: قال الله … ولم يقل حاكموهم وهم البغاة. فإن عُدت إلى قتالهم وأقررت على نفسك بالكفر إذ أجبتهم إلى التحكيم، وإلا تبرأناك وقاتلناك. فقال علي: قد أبيت عليكم في أول الأمر فأبيتم إلا إجابتهم إلى ما سألوا فأجبناهم، وأعطيناهم العهود والمواثيق، وليس يسوغ لنا العذر. فأبَوا إلا خلعه وإكفاره بالتحكيم، وخرجوا عليه؛ فسُمُّوا خوارج لأنهم خرجوا على علي بن أبي طالب، وصار اختلافًا إلى اليوم (مقالات، ج١). خرجوا على علي بن أبي طالب، وصار اختلافًا إلى اليوم (مقالات، ج١، ص٦٠–٦٤). قالوا: القوم يدعوننا إلى الكتاب وأنت تدعوننا إلى السيف! قال: أنا أعلم بما في كتاب الله. انفروا إلى بقية الأحزاب، انفروا إلى من يقول كذب الله ورسوله وأنتم تقولون صدق الله ورسوله. قالوا: لترهبن الأشتر عن قتال المسلمين، وإلا فلنفعلن بك كما فعلنا بعثمان. اضطر إلى رده بعد أن هزم الجمع وولَّوا مُدبرين. كان علي يريد بعث عبد الله بن عباس فرفضوا لأنه منه، فبعث أبا موسى الأشعري، ثم قالوا: لمَ حكَّمت الرجال؟ لا حكَم إلا الله (المِلل، ج٢، ص٢٣–٢٥).
٢٥  عند بعض الروافض، تحكيم علي لا عن طريق التقية صواب. وعن البعض الآخر هو صواب حتى ولو كان بتقية. وعند الزيدية وكثير من المرجئة والنظام وبشر، علي مُصيب لما خاف على عسكره الفساد تآلف للمسلمين، ومُعارضوه مُخطئون (مقالات، ج١، ص١٢٢-١٢٣).
٢٦  الزيدية تتولى المُحكمة الأولى وتتبرأ مما بعد ذلك من أحداث (مقالات، ج١، ص١٧٠-١٧١).
٢٧  عند بعض الروافض أخطأ علي ولم يفسق (الأصول، ص٢٩٢). وعند أهل السنة، علي مُصيب، ولكن الحكمان أخطآ في خلع علي من غير سبب. خدع أحد الحكمين الآخر (الفرق، ص٣٥١؛ الأصول، ص٢٩٢-٢٩٣؛ الفرق، ص٣٥١؛ الفصل، ج٤، ص١٧١–١٧٣). عند الأصم لو كان القصد تجويز الأمر إلى نفسه فخطأ، وإن كان للوحدة ولمِّ الشمل فصواب (مقالات، ج٢، ص١٢١–١٢٧). وقد تبرَّأ أبو موسى وجعفر من عمرو ومعاوية، ويُفسق النظام أبا موسى الأشعري (الفرق، ص١٤٦). ويُصوب النظام وبشر بن المعتمر عليًّا، ويحكمان على الحكمين بالفسق. أما الجبائي فإنه يقول بصحة توبة أبي موسى. وعند الأصم أن أبا موسى أصاب في خلع علي حتى يجتمع الناس على إمام (الأصول، ص٢٩٢). وقد قيل في علي يهلك فيك اثنان؛ مُحب ومُبغض غالٍ (المِلل، ج١، ص٣٤-٣٥).
٢٨  اختلف الخوارج في كفر علي والحكمين. فعند جمهور الخوارج، الحكمان كافران، وعلي كافر حين حكَّم؛ فقد أمر الله وحكم بقتال أهل البغي، وترك علي قتالهم لما حكم، وكل تارك لحكم الله مستوجب الكفر. وعند الإباضية ليس شركًا، بل هو كفر نعمة، في حين أنه كفر شرك عن الأزارقة (مقالات، ج٢، ص١٢٦). تُكفر الأزارقة عليًّا والحكمين (مقالات، ج١، ص١٥٩؛ المِلل، ج٢، ص٣٣). سُمُّوا مُحكمة لإنكارهم الحكمين، وقولهم لا حكم إلا الله (مقالات، ج١، ص١٩١). تكفير علي بالتحكيم وابن ملجم والصحابة والقعَدة عن القتال (المواقف، ص٤٢٤). عبد الله بن وهب الراسبي، وهو أول من بُويع بالإمامة من الخوارج، تبرَّأ من الحكمين ومن رضي بقبولهما، وكفَّر عليًّا (المِلل، ج٢، ص٢٨). أول من تلفَّظ بها الحجاج بن عبيد الله. قال لمعاوية: أتحكم في دين الله؟ لا حكَم إلا الله، تحكم بما حكم القرآن به (المِلل، ج٢، ص٢٩). ويُقال إن أول من سلَّ سيفَ الخوارج عروةُ بن أوينة. قال عن علي: أتولَّاه إلى أن حكم، ثم أتبرَّأ منه وشهد عليه بالكفر (المِلل، ج٢، ص٢٩-٣٠). كفَّرت الخوارج عليًّا وابنَيه وابن العباس وأبا أيوب الأنصاري وعثمان وعائشة وطلحة والزبير، وكل من لم يُفارق عليًّا، ومعاوية بعد التحكيم، وكل ذي ذنب من الأمة (الفرق، ص٣٢١؛ الأصول، ص٢٩١-٢٩٢). وفي رأي أهل السنة الخوارج، أعراب تفقَّهوا القرآن دون السنة، يُكفر بعضهم بعضًا عند أقل نازلة (الفصل، ص٤، ص١٦٨-١٦٩؛ المواقف، ص٤٢٤؛ المِلل، ج٢، ص٢٧؛ الاعتقادات، ص٤٦؛ الأصول، ص٣٣٢).
٢٩  تقول بعض الفِرق بتصويب الكل، علي والحكمان معاوية، وإن كان الكل عن اجتهاد. وتقول الواقفة بعدم الكلام في الموضوع ورده إلى الله حقًّا أم باطلًا. أما عباد فإنه يُنكر الواقعة التاريخية (مقالات، ج٢، ص١٢١–١٢٧).
٣٠  يمكن إعطاء نماذج عديدة من عصرنا لمظاهر الشقاق والفُرقة في الأمة من الحروب الطاحنة التي تسيل فيها الدماء وتضيع الثروات، مثل الحرب بين العراق وإيران، والنزاع بين ليبيا وتشاد، والقتال بين المغرب والجزائر، والحرب بين المغرب والصحراء، والخلاف بين ليبيا والسودان، والنزاع بين العراق وسوريا، والحرب الدائرة في لبنان بين الفِرق كلها. ولكن ترك ذلك لمحاولات «قضايا معاصرة» التي تتوجه مباشرة إلى وصف أحوال العصر، وانظر أيضًا «الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١»، ثمانية أجزاء، دار ثابت، القاهرة، ١٩٨٨م.
٣١  ولهذا الغرض أنشأنا «اليسار الإسلامي»، وخصَّصنا ثمانية أجزاء «الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١» لموضوع «اليسار الديني».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤