الفصل الحادي والعشرون

«ستعملين إذا كان الغد يا آمنة، وستعملين عملًا يرضيك كما لم يرضك عمل من قبله قط، لا تذكري بيت المأمور، ولا تذكري بيت فلان هذا الذي دفعتك الحماقة فيه إلى هذا الذنب العظيم، ستعملين عملًا مريحًا فيه مال كثير، ونعيم كثير، ومتاع كثير، ستعملين … ستعملين وستسعدين، ليتني كنت مكانك، ليت سني تعود إلى حيث أنت من العمر، ستعملين وستسعدين …!»

قالت ذلك وهي مضطربة أشد الاضطراب، مبتهجة أشد الابتهاج، يدفعها الفرح والمرح إلى أن تأتي حركات مختلطة فيها الرقص والقفز، وفيها الجد والهزل، وفيها الدعابة التي ليس بعدها دعابة، والمجون الذي ليس بعده مجون، حركات على الوجه، وحركات باليدين، وحركات في الجسم كله مجتمعًا وفي أعضائه متفرقة، حركات هي إلى الجنون والاختلاط أدنى منها إلى الفرح المعتدل الذي يصدر عن نفس مرحة وعقل متزن، ولم تكتف زنوبة باضطرابها هي، وإنما انقضَّت علي انقضاضًا، فقبلتني وأنهضتني وراقصتني ودارت بي حول الغرفة دورانًا متصلًا سريعًا حتى انتهت بي وبنفسها إلى السقوط، كل ذلك وهي مندفعة في حركاتها وأحاديثها، لا تمكنني من أن أقول كلمة أو أنطق بحرف أو آتي من الحركات غير ما تريد، قد استحالت إلى جنِّيَّة وأصبحت الغرفة ميدانًا لاضطرابها المختلط الذي لم يقف ولم يهدأ إلا حين أسقطها الدوار وأسقطني معها على الأرض وحين أفاقت منه بعد قليل …

هنالك استطاعت أن تتكلم كلام العاقلة، واستطعت أن أسمع لها وأن أفهم عنها، فعلمت أن المهندس في حاجة إلى خادم، وأنه قد أرسل يتقدم إليها في أن تلتمس له هذه الخادم، وأنه يمنحها على ذلك أجرًا يختلف باختلاف الخادم التي تقودها إليه مع الصباح إذا كان الغد، وهي مبتهجة لي وهي مبتهجة لنفسها؛ فما أكثر ما قدَّمتْ لهذا الشاب من خدم! وما أكثر ما تقاضت منه أجر ما قدَّمت! ولكنها لم تقدم إليه يومًا من الأيام فتاة مثلي، لها مثل ما لي من جمال الوجه، واعتدال القد، ورجاحة العقل، ومهارة اليد، والعلم بحاجات الشبان المترفين، سيكون أجرها مضاعفًا، أما أنا فسأسعد السعادة كلها في هذا البيت الأنيق الجميل، وفي خدمة هذا الشاب المترف الغني الوحيد. لن تأمرني سيدة الدار، ولن ينازعني خدم الدار. سأكون وحدي صاحبة السلطان المطلق على بيت هذا الشاب وعلى قلبه إن أحببت! فقلبه مباح لمن يحسن الوصول إليه والاستيلاء عليه.

قالت ذلك وأرسلت شهيقها المرتفع، وشخيرها المنكر، وضحكها العالي، ثم انقضَّت علي وضمتني إليها ضمًّا عنيفًا وهي تقول: «إني لأغبطك وأحسدك معًا؛ أغبطك لأني أحبك، وأحسدك لأني أود لو أكون مكانك وأظفر بالسلطان على ما يحتوي هذا البيت من نعيم.»

وأنا أسمع منها وأبسم لها وأرفق بها، فلا أنبئها بأني قد دبرت لهذا اليوم تدبيرًا، وأعددت له إعدادًا، واشتريته بالمال، وانتظرت مقدمه واثقة بأنه سيقدم، مطمئنة إلى أنه سيحين، ولم أظهرها على هذا كله، وأمري كله في حاجة إلى الحزم وفي حاجة إلى المكر والكيد.

نعم! لم أنبئها من هذا كله بشيء، ولم أنبئها حين أصبحنا بأني لم أذق النوم لحظة في هذه الليلة الطويلة التي فرقت بين نفسين، وإنما قضيت الليل كله يقظة، أفكر في أمس البعيد وأفكر في اليوم، وأفكر في غد وفيما بعد غد، على حين كانت تحلم بما باعت وما ستبيع من حَبٍّ، وبما أخذت وما ستأخذ من أجر، وبما ذاقت وما بقي لها أن تذوق من لهو، وعلى حين كانت أحلامها هذه المختلفة تدعو جسمها أن يأتي حركات مختلفة تلائمها، وتدعو لسانها إلى أن ينطق بجمل متقطعة مختلفة توافقها، وكنت أرى ذلك منها وأسمعه، فأرثي لها وأرثي لنفسي أيضًا: أرثي لها في حياتها هذه الصغيرة الحقيرة التي خلت من كل حسٍّ دقيق، أو شعور عنيف، أو تفكير عميق، وأرثي لنفسي من حياتي هذه المضطربة التي يملؤها الحس والشعور والتفكير، وتفعمها الأحداث والخطوب.

نعم! قضيت الليل كله مؤرقة، وليس من شكٍّ في أنه كان طويلًا، وليس من شكٍّ في أنه كان ثقيلًا لو فرغت له، ولكني شغلت عن الليل ببنات الليل، شغلت عن طول الليل وثقله بصورتك أيتها الأخت العزيزة البائسة هذه التي لم تكد تحس أني خلوت إلى نفسي حتى تراءت لي، ثم دنت إلي ثم استقرت مني غير بعيد، ثم أخذت تتحدث إلى نفسي حديثًا أعقله ولا أسمعه، وأجد له في قلبي وقعًا لاذعًا حلوًا معًا، صورتك هذه التي رأيتها كما كنت أراها حين ذهبنا إلى الغرب، وكما كنت أراها في بيت العمدة قائمة تحت السماء ذاهلة لا تحس شيئًا ولا تلتفت إلى شيء، وكما كنت أراها حين كنت أنبهك إلى نفسك وإلى مكاني منك، وحين كنت أتحدث إليك وأستمع لك، وحين كنت أواسيك وأعزيك وأجتهد في أن أفيض عليك السكينة وأشيع في قلبك الأمن والهدوء.

ها أنت ذي تسعين إليَّ وتجلسين إلى جانبي، وهذا رأسك قد مال حتى استقر على كتفي، وهذي يدي تلاطف خدك وتبللها دموعك المنهمرة الصامتة، وها أنا ذي أخلي بينك وبين البكاء حينًا وأمضي معك فيه، ثم أثوب إلى الهدوء وأردك إليه، وهذه يدي تلاطف شعرك الغزير ملاطفة متصلة حتى يملكك الأمن ويوشك النوم أن يضم عليك ذراعيه، ولكنك تنهضين وتذهبين، ثم تعودين لي بعد قليل واجمة ثم مروَّعة، وأنا أستقبلك رفيقة بك مهدئة لك. وهذه الأشباح الحمراء تتراءى لنا كما كانت تتراءى لنا في بيت العمدة قبل أن نأخذ في هذا السفر الأثيم، ولكنك لا تكادين ترين هذه الأشباح الحمراء حتى تهيمي وتنهضي إليها، وتستحيلي إلى شبح أحمر بين هذه الأشباح الحمراء! وها أنتن أولاء تطفن بي وتضطربن من حولي وتستبقن إلى أذني تردن أن تلقين فيها ألوان الحديث. وها أنا ذي مروعة مفجعة، أرى الجنون وأشفق منه وأهم أن أصيح، وأذكر مكاني في دارنا تلك في أقصى الريف نحو الغرب أثناء العلة. وها أنا ذي أرى الينبوع الكريه يتفجر منه ذلك الدم الغزير. وها أنا ذي أنهض خائفة مولهة، أريد أن أفر من هذه الغرفة، ولكن إلى أين؟!

نعم! إلى أين والليل ساكن جاثم؟ وأين تستطيع فتاة مثلي أن تذهب والليل ساكن جاثم؟ لأوقظن هذه المرأة التي تختلف عليها الأحلام وتنعم بلذة النوم في ناحية من نواحي هذه الغرفة، لأوقظنها ولأقضين معها بقية الليل في الحديث … ولكني لا أكاد أسعى إليها حتى تأخذني الأشباح من كل مكان، وحتى تسعى إليَّ أختي وعلى وجهها ابتسامة شاحبة حزينة مستعطفة، وهي تلقي في نفسي هذه الكلمات التي تقع منها مواقع السهام المحرقة: لا توقظيها إنها تخيفنا، وإن أيقظتها تطردنا، ماذا تخافين منا؟ لقد طالما ألفتنا وألفناك، أفنسيتنا إلى هذا الحد؟! كلا! كلا! لم أنسكن ولن أنساكن، ولن أذودكن عن نفسي، ولن أوقظ هذه المرأة التي تخيفكن. أقمن معي، أطفن بي، تحدثن إلي، فمن يدري! لعلي أن أكون في يوم من الأيام واحدة منكن، لعلي أن أكتسي هذا الرداء الأحمر القاني الذي تكتسينه والذي يدعوني إليكن ويخيفني منكن …!

وهذا صوتك أيها الطائر العزيز يحمله إليَّ الهواء من بعيد فيبلغني نحيلًا ضئيلًا، ولكنه على ذلك يشيع في سكون الليل كما يشيع الضوء في الجو …

وهذا صوتك أيها الطائر العزيز يدنو مني شيئًا فشيئًا فيملؤني أمنًا ودعة وهدوءًا وحزنًا معًا. إنه يردني إلى اليقظة الخالصة التي تشعر بنفسها وتفكر في نفسها وتذكر ما مضى على علم به وتقدير له، وتستقبل ما سيأتي في روية وبصيرة واستعداد للاحتمال …

نعم! إن صوتك ليملأ أذني، وإنه ليملأ قلبي، وإنه ليغمر نفسي، وإني أفهم عنه ما يريد، وإني لأذكر أختي ومصرعها، وإني لأعرف من دفعها إلى الموت، كما أعرف من أذاقها الموت، وإني لأعلم حق العلم أني ساعية إذا كان الغد إلى بيت هذا المهندس فمقيمة فيه حيث كانت أختي، فناهضة بما كانت تنهض به أختي من العمل، فمنتهية بعد إلى شيء آخر غير الذي انتهت إليه أختي في ذلك الفضاء العريض …

لقد سمعت منك أيها الطائر العزيز، وفهمت عنك، وهذا عقلي يثوب إلي، وهذه قوتي تُرد علي، وها أنا ذي أنتظر الصبح لأسعى إلى هذا المهندس وإن قلبي لمظلم أشد الإظلام، وإن وجهي لمبتسم أجمل الابتسام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤