الفصل الثامن

آمنة … آمنة … أقبلي، هذا صوت أمنا ينتهي إليَّ، وقد انتحيت ناحية مع زنوبة وخضرة على السطح، نتحدث ألوانًا من الحديث، وأختي جالسة غير بعيد قد شُغلت عنا بما يملأ نفسها من هم وحزن، فإذا سمعت الصوت أسرعت إلى أمي في الناحية الأخرى من سطح الدار، فإذا هي قائمة قد ظهر عليها النشاط وانجلت عن وجهها سحابة الحزن التي كانت تُغَشِّيه، وهي تبتسم وتشير بيديها وتقول لي: انظري انظري! هذه والله إبل «بني وركان»، فأنظر فأرى أعرابيًّا كأنه الشيطان وقد أناخ قريبًا من الدار جملين عظيمين وأخذ يحط عن أحدهما بعض الأثقال، أمي مستبشرة متهللة تشير وتلح في الإشارة وتقول: ألم تعرفي خالك ناصرًا؟ ألم تعرفي هذين الجملين؟ عرفت خالي، فما أكثر ما كنت ألقاه أيام الطفولة والصبا، وما أكثر ما كنت أخافه حين ألقاه، وأكره منه هذا العنف الذي يبتدر كل من اتصل به، وهذه اللهجة القاسية التي يمتاز بها حديثه، وهذا الصوت القاطع الذي يلقي إليك الكلمات في حزم وعزم وشدة لا تقبل مراجعة ولا تسمح بجدال!

نعم عرفت خالي ناصرًا، وذكرت أني كثيرًا ما كنت أتقيه إذا لقيته، ولا أستجيب لدعائه إذا دعاني إلا كارهة، ولا أطمئن إلى ما كان يظهر لي من مودة وعطف وحنان، ولا أقبل إلا راغمة ما كان يقدِّم لي أحيانًا من البلح والعجوة، يريد أن يتملقني ويترضاني.

نعم! عرفت خالي ناصرًا، وذكرت أني كنت سيئة الظن به، شديدة النفور منه، وأني كنت ألوم نفسي أحيانًا على سوء ظني وشدة نفوري، حتى إذا صُرع أبونا ورأيت كيف استقبل أمي بأنباء هذا المصرع وكيف قسا عليها وعلينا، ولم يفكر في أنها أيِّم وفي أننا يتيمتان، وإنما فكر في الأسرة وحديث الناس عنها، وما يجرُّ عليها هذا الخطب من عار …

ثم لم تكد تمضي أيام حتى أقبل ذات صباح، مظلم الوجه قاسي اللحظ جافي اللفظ، فأقنع أمنا بوجوب الرحيل، وأنبأها بأنه سيعد لهذا الرحيل عدته وسيصحبنا حتى يعبر بنا البحر ويبلغنا مأمنًا في قرية من قرى الريف.

ثم جاء هذا اليوم الذي أخرجَنا فيه من دارنا، وأبعدَنا فيه عن قريتنا ونفانا فيه من أرضنا، وصحبنا إلى قرية من هذه القرى المنتشرة وراء البحر ثم أسلمنا إلى القضاء، وانصرف عنا راجعًا إلى حيث ينعم مع الأسرة بالدعة والخفض وبالأمن والهدوء.

منذ ذلك اليوم لم أشكَّ في أن رأيي فيه لم يكن خاطئًا، وأن حكمي عليه لم يكن قاسيًا، وأن نفوري منه لم يكن إلا صورة صادقة لما ينبغي لهذا الرجل الغليظ في قلب فتاة ضعيفة بريئة وادعة، لم تجن على أحد شرًّا، ولا تفهم أن يجني عليها أحد شرًّا، وكانت أمي وأختي تتبعانه ببصرهما محزونتين لفراقه أشد الحزن، وكأنه كان يمثل في نفسيهما صورة الوطن الذي نفينا عنه. أما أنا فكنت أنظر نحو الغرب الذي كان يوجه بصره شطره، ولكني لم أكن أراه لأني لم أكن أحفل به.

إنما كنت أحاول أن تنفذ عيني من هذه المسافة البعيدة والأمد المنفسح إلى هذه القرية المطمئنة التي أخرجت منها إخراجًا، لعلي أرى دارنا، ولعلي أرى هذا الفناء المنبسط أمامها، والذي كنت ألعب فيه مع أترابي من الغلمان والصبيان، ولكني لم أكن أرى القرية ولم أكن أرى الدار، وإنما كنت أرى هذه الهضاب المرتفعة في السماء بعض الشيء، وأقدِّر أن قريتنا تقوم هناك على هضبة من هذه الهضاب، وكنت أرى هذا الخط من الماء يحول بيننا وبين هذا السهل الجميل الذي ينبسط من دون هذه الهضاب، والذي كنت لا أمضي فيه قليلًا حين نفينا من قريتنا إلا أحسست كأني أترك فيه قطعًا من نفسي أنثرها في أرضه الخضراء نثرًا.

نعم! عرفت خالي ناصرًا وهو قائم بإزاء جمليه بعد أن وضع أثقاله كأنه الشيطان، وما تصورته قط إلا شيطانًا، ومنذ هذه اللحظة التي رأيته فيها يضع أثقاله وسمعته فيها يسأل عن صاحب الدار، لم أزدد إلا يقينًا بأنه شيطان. سأل خالنا عن صاحب الدار، وكان رجال العمدة قد دخلوا عليه فأنبئوه بأن رجلًا أعرابيًّا عليه مظاهر القوة والبأس والوقار والثراء، قد أقبل يسأل عنه، فخفَّ العمدة لاستقبال ضيفه، وما زلت أراه يستقبل الأعرابي باسمًا وادعًا، والأعرابي يحييه في غلظة وجفوة، ثم يقول له متعاليًا: إن النبي قبل الهدية يا عمدة، يقول ذلك ويشير إلى أثقاله التي حطها عن جمليه إشارة المكبر لها الدال بها، والعمدة يدعو بعض رجاله ويشير إليهم أن احملوا هذه الأثقال وأريحوا هذين الجملين، ثم يدعو ضيفه الأعرابي، رفيقًا به شاكرًا له، إلى الراحة والدخول معه إلى الدار.

وقد اطمأنت الدار بالأعرابي، ولقي من كرم مضيفه وبشاشته ما أرضاه، فلما مضت ساعة أو ساعات والناس مجتمعون حول عمدتهم يخوضون فيما تعوَّدوا أن يخوضوا فيه من الحديث، قال فجأة: إن لنا عندك ودائع يا عمدة، فاردُد علينا ودائعنا! فالله يأمر أن تؤدَّى الأمانات إلى أهلها، قال العمدة: ودائعك محفوظة لك، مردودة عليك يا شيخ العرب، فما ذاك؟ قال الأعرابي: امرأة أقبلت منذ أيام ومعها فتاتان، سألتك الضيافة فآويتها وآويت ابنتيها وأحسنت لقاءهن وأكرمت مثواهن، ونحن أعرف الناس بحق الكرام. قال العمدة: وما أنت وهذه المرأة وابنتاها؟ قال الأعرابي: هي أختي. قال العمدة: فقد نزلن على الرحب والسعة، وما فعلت إلا ما كان يجب عليَّ، وما نفع هذه الدور إذا لم تفتح لإيواء الغرباء! ولكن ودائعك يا شيخ العرب لن تُرد عليك حتى تقيم بيننا حينًا فتسمع منا ونسمع منك؛ فإن حديث الأعراب يلذنا ويرضينا، وقد بَعُد عهدنا به منذ رحل عنا سعيد وأصحابه، وكانوا قد خيموا في ظاهر القرية أشهرًا، ثم ارتحلوا لا عن قلى ولكن عن رغبة في الرحيل. واتصل الحديث بين العمدة وأصحابه وبين هذا الأعرابي حتى انقضت ساعات السمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤