الفصل الرابع

الحياة الناطقة

(١) العقل

فوق الحياة الحاسة الحياة الناطقة تزيد على قواها المذكورة آنفًا قوتين اثنتين: أولاهما قوة إدراكية هي العقل، والثانية قوة نزوعية هي الإرادة. وقد أثبتنا فرقًا جوهريًّا بين المعرفة العقلية والمعرفة الحسية، مع الحرص على إبقاء الصلة بين العقل والحس بإبقاء الصلة بين النفس والجسم، فسلكنا طريقًا وسطًا بين المذهب الحسي الذي يرد المعرفة العقلية إلى معرفة حسية مركبة، وبين المذهب التصوري الذي يجعل من المعرفة بنوعيها مجرد تصور عديم العلاقة بالتجربة الخارجية. وبينَّا في كتاب «العقل والوجود» قيمة أفعال العقل، من تصور ساذج وحكم وقياس واستقراء، فلن نصنع عنا إلا بيان ماهية العقل بإشارات إلى أفعاله، وإشارات إلى آثاره أو مظاهره، وهي الأفعال، والآثار التي يمتاز بها الإنسان على سائر أنواع الحيوان، من علم أخلاق ودين وفن ولغة وضحك.

عند الحسين أن الفوارق بين الإنسان والحيوان الأعجم فوارق بالدرجة فقط لا بالماهية، فيفسرون الأفعال العقلية بالصور الخيالية، ويظنون أن للحيوان عقلًا؛ ولا سيما أنهم يأخذون لفظ العقل بمعنى واسع يشمل مطلق المعرفة الباطنة، بل الظاهرة أيضًا. والواجب أن ندع له المعنى المعروف منذ أفلاطون وأرسطو المحدود إلى المعارف العليا الخاصة بالإنسان، وهي أولًا معرفة الكليات، أي المعاني المجردة عن المادة، وخصوصًا تلك التي تعود إلى الرياضيات، وإلى ما بعد الطبيعة، وهي أساس المعرفة العقلية إجمالًا، والشاهد الأوضح على إدراك «النسبة» ذلك الإدراك المقوم لجميع أفعال العقل، على ما سوف نذكره الآن. وليست العجماوات مدركة للكليات؛ وليست مدركة للنسب المجردة كالعلِّيَّة والغائية؛ وجهلها للنسب نتيجة عجزها عن تكوين المعاني المجردة. أجل كثيرًا ما تستخدم الجزئيات بما بينها من نسب، ولكنها لا تدركها بما هي مجردات كليات، بل يقتصر إدراكها على ما يبدو منها للحواس في الواقع؛ وهذا التمييز لا يعلمه الحسيون؛ لأنهم لا يعلمون الفرق بين المعنى والصورة، أي: بين المجرد والمشخص.

فإذا أرادوا شرح الحكم قالوا: إنه تقارن إحساسين أو صورتين، وفسروا هذا التقارن بتداعي حدوده تداعيًا آليًّا. وليس هذا بصحيح، فإن المحمول في الحكم هو دائمًا صفة عامة أو معنى مجرد، وكذلك حال الموضوع في الأحكام العلمية حيث هو أيضًا معنى مجرد شامل لجميع أفراده؛ ثم إن بين حدي الحكم «نسبة» ليست هي نسبة التقارن، وليس يكشف عنها التقارن ذاته، فإن محض تقارن صورتين أو لحوق إحداهما للأخرى، لا يبين عن سبب ما لتركيبهما العقلي المعبر عنه بالحكم. أعني عن النسبة التي إنما إدراكها هو السبب في إصدار الحكم؛ والسبب في التصديق به عند كل من يدركها.

والاستدلال في عرفهم استنتاج جزئي من جزئي بوساطة التشابه بين الاثنين، فما هو إلا استدعاء صورة لأخرى استدعاءً تلقائيًّا، كالنار المحسوسة أو المتخيلة الآن، والحرق الذي حدث عن نار مثلها في السابق. هذه النظرية تغفل العنصر الرئيسي في الاستدلال، وهو «لزوم» التالي من المقدم وإدراك النسبة الجوهرية القائمة بين حدود الاستدلال، والنسبة العرضية القائمة بين حدود التداعي، وهاتان النسبتان واضحتان في المثال المذكور الآن، فإنه يزيد على التداعي بالتقارن رباطًا بين النار كعلة والحرق كمعلول، والعقل يدرك هذا الرباط، ويفرق بينه وبين الآخر.

في هذه الأفعال الثلاثة تنحصر المعرفة العقلية. وإذا اعتبرنا عدد الجاحدين لقيمتها المنازعين في أصالتها بالنسبة إلى الإحساس والتخيل — فقد نقول إنها دقيقة على الفهم عصية على الاستساغة؛ ولكن لها آثارًا واضحة غاية الوضوح متعلقة بها كل التعلق، فإما أن نجد أيضًا قيمة هذه الآثار وأصالتها، أو نسلم بها وبالأفعال التي هي أصولها. وفي الواقع، أول ما نرتبها ترتيبًا منطقيًّا؛ نجد فكرة العلم متقومة بها غير مستغنية عنها. فقد قلنا إن المحمول في أي قضية هو معنى مجرد، وإن هذا شأن الموضوع في كل قضية علمية، أي كلية ضرورية، وقديمًا اتفق الفلاسفة على أن العلم هو بالكلي لا بالجزئي، مع الاختلاف الشديد على طبيعة الكلي وطريقة الحصول عليه؛ فإذا لم يكن لدينا معانٍ مجردة فاتنا العلم لفوات المعنى المجرد دون رجعة من حيث إن التجريد أصل الكلية والضرورة، فإن المعنى كلي من جراء تجرده عن التخصص بالمادة وعلائقها، وهو ضروري لعين السبب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن الحكم أو القانون العلمي، إيقاع نسبة بين حدين، وليست النسبة محسوسة، فإذا لم تكن مفعولة لم نستطع تركيب الحكم ولا الحصول على قانون علمي. ومن جهة ثالثة نجد العلم يستخدم القياس، فينزل من كلي إلى آخر مساوٍ له أو أقل منه كلية أو إلى جزئي؛ فالكلي أصله وعليه اعتماده. ومن جهة رابعة نجد العلم يستخدم الاستقراء، فيصعد من الجزئي غير المفيد إلى الكلي المفيد، فالاستقراء أيضًا أصل القوانين وعمادها، ويبقى على الحسيين أن يفسروا اكتسابنا لقانون كلي ضروري، وليست التجربة كلية ولا ضرورية ولا مبررة للانتقال من البعض إلى الكل. فإذا كان العلم يوفر لنا سلطانًا على الطبيعة، فنستغل قوانينها في أشكال جديدة، فما ذلك إلا لأن العقل ينفذ إلى ماهيات الأشياء، ويدرك ما بينها من نسب جوهرية.

وإلى المعنى المجرد الكلي ترجع الأخلاق، فإنها تختلف بالمرة عن ملاحظة المنفعة والضرر الماديتين؛ وكثيرًا ما يطلب باسمها من الإنسان، أو يطلب الإنسان من نفسه، تحمل ضرر مادي، أو التضحية بمنفعة مادية في سبيل مثل أعلى وكمال روحي. إنها قائمة على معاني الخير والحلال والواجب والمسئولية، وكلها تعني ما حقه أن يكون في مقابله ما هو كائن أو ممكن من لذة وشهوة ونفع وقوة غاشمة. فإذا كان الإنسان خلقيًّا، فما ذلك إلا لأنه عاقل. وإذا كانت الأخلاق القويمة تفلح في حياة الفرد وحياة الجماعة، مع ما بينها وبين شئون البدن من تضاد، فذلك هو الدليل على أن الطبيعة الإنسانية طبيعة أصيلة تستطيع التسامي على الماديات واللحاق بالعالم الروحي.

وماذا نقول عن الدين، وهو ملازم للإنسان في كل عصر وكل بيئة حتى لقد قيل: إن الحد الحقيقي للإنسان أنه حيوان متدين؟ قوام الدين الاعتقاد بقوة أو قوى غير منظورة، أكمل وأقدر من الإنسان، فيتوق إلى التشبه بكمالها خائفًا إغضابها، مبديًا نحوها احترامًا وثقةً ومحبةً وأملًا في حياة مقبلة دائمةً. أما أصل الدين، فالآراء فيه مختلفة: يرى البعض أنه ميل إلى تأليه كبريات القوى الطبيعية، وبعض أنه ميل إلى تكريم الأسلاف أو الأبطال، وبعض إلى تقديس الجماعة التي بفضلها يكتسب الفرد كل قيمته المادية والمعنوية. والحقيقة أنه ناشئ مما للعقل الإنساني من يقين طبيعي بأن العالم لم يصنع نفسه وأنه لا يدبر نفسه، وإنما هو صنع موجود كلي القدرة، فإذا كان الإنسان متدينًا؛ فما ذلك إلا لأنه ناطق، مدرك لمبدأ العلِّيَّة، مجاوز للعالم الذي تقع عليه الحواس إلى عالم إن لم يَرَه فهو يؤمن به.

والفن يقوم على المعنى المجرد: فإن الصنوع الفني شيء مبتكر مؤلف من صور شتى، والابتكار مجاوزة للموجود بالفعل، أي إنه معنى، والتأليف تجميع حول معنى هو القطب والمحور، يختار له العقل الصور والأوضاع الملائمة، فهو «نسبة» بين الأجزاء بعضها والبعض، ونسبة بين الأجزاء والكل. فالمبتكرات الفنية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن تأليفات التداعي في اليقظة والمنام.

والنسبة هي المحور في كل فن، في العمارة والتصوير والموسيقى، وإذا رأينا الحيوان يطرب للأنغام، فطربه حسي ناشئ من وقعها؛ أما إذا وضعناه أمام مبنى جميل أو صورة جميلة، فإنه لا يفقه لهما معنى لخفاء المعنى والنسبة على إدراكه.

واللغة آية من آيات العقل؛ إنها مجموعة إشارات دالة على حالاتنا الوجدانية. وهي على نوعين: أولهما تلك التي تصدر عفوًا عن الانفعال اللاذِّ أو المؤلم، وتصاحبه كأنها مظهره الجسماني، مثل التأوُّه والبكاء والصياح فرحًا أو غضبًا أو ألمًا، وهي عامة للحيوان والإنسان يصدرانها دون قصد آخر. ولها ثلاث درجات: الدرجة الأولى أو الدنيا هي هذه. والدرجة الثانية هي أيضًا، لكن مع استخدامها بقصد الدلالة، كأصوات الحيوان طلبًا للقوت أو لغيره، وكإشارات الصم البكم ترجمة عن مرادهم. والدرجة الثالثة دلالتها على معانٍ بوساطة حركات رامزة لها. وأبلغ منها دلالة على المعاني إشارات النوع الثاني، تلك الألفاظ أو الأصوات الوضعية العرفية المختلفة باختلاف العصور والشعوب، فإنها أغزر مادة وأدق تعبيرًا عن الأفكار مهما تجردت؛ نقيدها بالكتابة فنكفل لها الدوام بعض الوقت ونبلغها للغير على بعد المكان والزمان. بدأت الكتابة تصويرية ترسم صورًا إما مشابهة أو رمزية، مفهومة للجميع؛ ثم صارت صوتية ترسم الألفاظ أنفسها. وإذا كان آدم قد تلقَّى الأسماء والعلم من الله، فليس يبطل هذا كفاية الإنسان لاكتسابهما بنفسه، فإن قوام اللغة إدراك معنى الدلالة، أي النسبة بين الدال أو الإشارة، وبين المدلول أو المشار إليه. واللفظ مرآة للفكر، فهو لاحق عليه طبعًا، فلا لغة حيث لا فكر، كما هو الحال عند الحيوان.

والضحك، وقد طالما استشهد به المناطقة للتمثيل على الخاصة في الكلام عن الكليات الخمسة، هو أيضًا أثر للعقل، فهو خاص بالإنسان لا يشاركه فيه نوع من أنواع الحيوان، ذلك أنا نضحك لانتفاء النسبة بين ما هو كائن وما حق أن يكون، فنضحك من السر كان مثلًا؛ لأن نسبته إلى الإنسانية قد انتفت بالسكر؛ ونضحك من الطفل يقلد القائد، ومن المدعي ما ليس فيه، ومن المازح يأتي حركات ويؤلف كلامًا على غير المألوف؛ وقد نضحك من المحموم يهذي رغم ما يثيره مرضه فينا من الحزن والعطف. كل ذلك وغيره كثير للسبب عينه، وهو ارتفاع النسبة المدركة بالعقل.

فهذه الآثار أخصر دليل على وجود العقل حيثما توجد، أي في الإنسان، وعلى انعدام العقل حيث تنعدم، أي في الحيوان. ومهما تبلغ الجرأة بالفلاسفة الحسيين، فلسنا نظنهم يزعمون للحيوان علمًا أو فنًّا، ولا أخلاقًا أو دينًا؛ فإنه لا يعرف سوى المحسوسات، فسلوكه برمته خاضع لغرائزه ولما يعرض له من لذة وألم. فما يلائم حاجته الحاضرة هو الذي يتغلب بالضرورة، فلا مثل عليا ولا واجب ولا حرية. كذلك لا نظنهم يزعمون له لغة: كل معرفته بهذا الصدد قاصرة على الإشارات الطبيعية، وعلى التأليف بينها وبين ما يتصل بها بالتداعي، ولا يرتقي إلى معنى الدلالة الذي هو الأصل في اختراع الكلام؛ لذا لا يرتقي إلى اصطناع الألفاظ، ودلالتها وضعية عرفية، أي عقلية، مع حصوله (أو حصول بعض) على الأعضاء الكفيلة بالتلفظ؛ والحاصل منه عليها يحاكي أصوات الحيوان محض محاكاة؛ وهو إذ يعمل بناءً على الألفاظ يسمعها من الإنسان، فليس معنى ذلك أنه يفهم مدلولات الألفاظ، بل إن أصوات هذه الألفاظ مرتبطة عنده بأفعال معينة تعود إلى مخيلته بالتداعي. ولا جدوى من محاولة تعليمه اللغة، والأفراد منه العائشة مع الإنسان منذ آلاف السنين لم تتعلم لغة من لغاته. وإذا كان العلم والفن والأخلاق والدين أمورًا دقيقة تستعصي على فكره كما يقولون، فإنا نلاحظ أن القدرة لم تنشئ صناعة ما، ولو ضئيلة كل الضآلة، بل لم تحاكِ صناعةً من صناعات الإنسان، فلم تصنعْ سلاحًا ولم تبنِ بيتًا، ولم تبتكر شيئًا كفيلًا بتحسين حياتها ورفع مستواها فوق مستوى سائر الأنواع. ذلك هو الفرق بين العقل والحس، فكيف يدعي الحس عقلًا؟

(٢) الإرادة

والإدراك العقلي يستتبع نزوعًا أو ميلًا إلى الفعل مطابقًا له. وإذا كان في كل موجود ميل إلى الفعل، فإن أصل الميل يختلف باختلاف الموجودات، ففي الجماد والنبات، وهما عاطلان من الإدراك، يحدث الميل بتعيين الطبيعة، فيتجهان إلى الغاية منه اضطرارًا أو على نحو واحد. وفي الحيوان يحدث الميل مع إدراك للموضوعات المعروضة في الحواس: يحدث بتعيين أساسي من الطبيعة في الأفعال الغريزية، وبدون تعيين في سائر ما يسعى إليه أو ينفر منه، فإن الغايات والأفعال هاهنا متنوعة كتنوع المدركات، يقبل عليها أو يهرب منها حسبما تولد فيه لذة أو ألمًا. فإن طبيعته مقصورة على الحس وبينها وبين الموضوعات المحسوسة معادلة ومطابقة، فلا يستطيع السيطرة عليها، بل يميل دون مدافعة إلى ما يلذ له أو يألم منه، فلا يعرف الاختيار بين شيئين أحدهما محسوس والآخر معقول أو أحدهما حاضر والآخر غائب.

وفي الإنسان يحدث ميل كالسابق؛ لأن الإنسان حاس كالحيوان، ويحدث ميل خاص تابع لإدراك للخير أوسع وأعمق: يدل عليه ما يلوح في النفس من معانٍ وعواطف عليا تشهد بأن هناك قوة أعلى من النزوع الحسي التابع للمعرفة الحسية؛ ذلك أن العقل يدرك المجرد الكلي، فيدرك الخير الكلي المطلق الذي يحقق السعادة التامة، والذي نرى أثره حين نلاحظ عجز الخيرات الجزئية. مهما توافرت وتعاظمت عن سد مطامعنا، وقد أفاض في ذلك المفكرون وقال بسكال: «إنما يريد الإنسان أن يكون سعيدًا، ولا يريد أن يكون إلا سعيدًا، ولا يسعه ألا يريد أن يكون سعيدًا.» فالإنسان يطلب بالضرورة الخير الكلي المعلوم بالعقل، ويطلب باختياره كل ما يجد له نسبة إلى الخير الكلي، بينما الحيوان ينزع إلى ما يدرك بالحس، ولا يضاهي بين الجزئيات إلا من وجهة اللذة الحسية، ومن هذه الوجهة توجد دائمًا لذة أقوى تجذبه وتعين فعله.

هذا النزوع العقلي الإنساني المغاير للنزوع الحسي يسمى إرادة، ولو أن الاصطلاح قد يختلف أحيانًا؛ مثال ذلك قول الفارابي: «إن كان النزوع عن إحساس أو تخيل سمي الإرادة، وإن كان عن روية سمي الاختيار، وهذا يوجد في الإنسان خاصة.»١ على حين يقول ابن رشد: «الإرادة قوة فيها إمكان فعل أحد المتقابلين على السواء.»٢ ومثل هذه القوة روحية، أي لا عضوية كالعقل؛ يتضح ذلك من كون موضوعها لاماديًّا، وهو مطلق الخير، ولا بد أن تكون القوة النازعة معادلة للقوة المدركة.
وبالطبع ينكر الحسيون وجود الإرادة، وسوف تصادف أقوالًا لبعضهم، ونذكر هنا أن كوندياك يرجعها إلى ما للتصور من قوة التحريك كما يبدو كثيرًا في الحياة العادية وفي النوم الصناعي، ويعتبر المشورة صراعًا بين تصورين متعارضين، والجزم إما قمع التصور الذي يميل إلى التحقيق، أو تثبيت الانتباه إلى التصور الذي يريد تحقيقه، فيتحقق. ويقول سنوارت مل: «إن النفس التي تشاور مثلها كمثل الميزان المتردد قبل السكون؛ وإذا أحطنا علمًا بجميع الظروف أمكننا أن نتوقع النهاية ونتنبأ بها، فإن عدم التعيين ظاهري، وإن الدواعي والبواعث يمكن تشبيهها بالقوى الآلية. كذلك يقول سبنسر: إن عدم التعيين ظاهري، وإنه يفسر بما للعلل من شدة التعقيد. وهم على العموم يردون جميع الأفعال الإنسانية إلى «المزاج» أي: جملة الاستعدادات البدنية التي حصرها القدماء في الأربعة المعروفة وهي: الدموي والصفراوي والعصبي والبلغمي، والمتكونة بالوراثة ونوع المعيشة والمناخ وسائر العوامل الخارجية، فإن الإنسان كائن طبيعي خاضع حتمًا للتأثيرات المادية، حتى من الوجهة الأخلاقية «فما الفضيلة والرذيلة سوى مركب مادي كالسكر وماء النار» على حد قول تن Taine، وما الاختيار سوى فعل منعكس موعٍ؛ فإنه لما كان لكل شخص مزاجه البدني، كان هذا المزاج قاعدة الخلق الذي هو جملة استعداداتنا النفسية الدافعة إلى العمل.

ونحن نسلم بأن للاستعدادات البدنية والأحوال الخارجية تأثيرًا كبيرًا في أفعالنا؛ ونعلم أن للقمر تأثيرًا في ماء البحر مدًّا وجزرًا، وأن اضطراب السوداويين والمجانين يشتد في رءوس الأهلة؛ فمن الطبيعي أن يكون للعلل الكونية أثرها في أجسام الناس يحدث فيها انفعالات وميولًا تتأثر بها الإرادة قليلًا أو كثيرًا. ولكننا نزعم أن الناس في جملتهم يستطيعون أن يضبطوا هاته الانفعالات والميول، وأن يتخذوها هي موضوع مشورة، وأن يختاروا بعد ذلك ما يشاءون، فلسنا نرى في جميع الأفعال الإنسانية أفعالًا حرة، بل فقط أن في وسع الإنسان أن يفعل بحرية متى وجه انتباهه إلى ذلك، واتخذ الوسائل الملائمة. ومن ناحية أخرى لا يدفع المزاج بالإرادة إلا في جهة عامة جدًّا لا تحتم قط الأفعال الجزئية: مثال ذلك أن الحاجة إلى العمل التي يولدها المزاج الدموي قد نرضيها بأفعال شجاعة وتضحية أو بأفعال عنيفة إجرامية. هذا فضلًا عن كون موضوع الإرادة المطابق لها والمضطر لها هو كما قلنا الخير المجرد الكلي، فهي بطبيعتها مسيطرة على المزاج وعلى كل عامل مادي. وإذا قارنا بين الأفعال الإرادية والأفعال البدنية بدا الفرق كبيرًا بين الطائفتين، أو بالأحرى بدا بينهما تضاد حاسم، يرجع إلى ذلك الذي فصلناه في الكلام على أصالة الحياة الحاسة، وليس عند الحسيين من جواب سوى نظرية «الظاهرة الطارئة» تلك النظرية البالغة أقصى حدود التهافت. ولا غرابة في ذلك، فإنهم يعتقدون بمصدر واحد للمعرفة وهو الإحساس، فقضى عليهم المنطق أن يعتقدوا بنزوع واحد هو الحسي.

بل إن بعض العقليين المتطرفين أبوا هم أيضًا الإقرار بوجود خاص للإرادة، وردوها إلى العقل. على رأسهم أفلاطون، وقد ذهب إلى أن «الفضيلة علم والرذيلة جهل» أو خطأ؛ لأن أحدًا لا يريد الشر عمدًا، وإنا نتبع دائمًا ما يدل عليه العقل أنه الأحسن. وذهب سبينوزا إلى أن الفعل الإرادي فكرة جلية مائلة بذاتها إلى التحقق من جراء جلائها، وأن تعليق الحكم أو إرجاءه ما هو إلا عدم إدراك الموضوع المقصود إدراكًا مطابقًا له.

ولكن حيرة أفلاطون في تعليل اختيار الشر الخلقي نشأت من عدم ملاحظته ملاحظة كافية أن كلًّا من الخير والشر نوعان: أحدهما طبيعي محسوس، والثاني خلقي معقول، وأن الشر الخلقي خير طبيعي، يراد لخيريته الحسية، أو ينبذ لشريته الخلقية، فالمعروض على العقل دائمًا خير من أحد النوعين: لأن أيهما خير من وجه وشر من وجه، فيظل العقل في حال اتزان تام لا يدعوه فيها سبب للميل إلى الواحد دون الآخر؛ فإذا ما حكم كان حكمه صادرًا عن اتجاه نظره إلى واحد منهما، فيراه خيرًا إما طبيعيًّا وإما خلقيًّا؛ ولاتجاه النظر علة طبعًا مغايرة للعقل، وهي التي تسمى الإرادة؛ فلولا الإرادة ما حكم العقل وما كان فعل. فإرادة الشر الخلقي مفهومة من حيث إرادة خير طبيعي مناسب للجسد لاذ له، وكما أن إرادة الخير الخلقي مفهومة لمناسبتها للنفس ولذتها لها. فليست الفضيلة علمًا، ولكنها فعل قوة صادرة عن علم العقل موجهة له في الحصول على هذا العلم. وكذلك ليست الرذيلة جهلًا أو خطأً، ولكنها هي أيضًا فعل تلك القوة الصادرة عن علم آخر هي موجهة للعقل إليه. فالإرادة مفترقة عن العلم والجهل، قائمة على حيالها، متجهة إلى الخير بمختلف أنواعه.

وللرد على سبينوزا يكفي أن نذكر أن جل الناس يعملون أشياء مقصودة بإرادة قوية دون إدراكها إدراكًا مطابقًا، بل إن كثيرين يعملون بقوة أعظم كلما كان إدراكهم أشد غموضًا؛ ويعملون الشر مع علمهم بشريته، أي إنهم يفضلون الخير المحسوس على الخير المعقول؛ وكل هذا خارج عن حكم العقل القويم منافٍ له، فهو راجع إلى قوة أخرى هي التي نسميها الإرادة، ولولا تدخلها لانخفض عدد الأفعال الإنسانية إلى قليل جدًّا هي الأفعال المطابقة للعقل المؤثرة للخير الخلقي.

وللإرادة خاصية لازمة هي الحرية. بحيث لا يمكن التحدث عن إحداهما إلا وتذكر الأخرى. الحرية كفاية للعمل باستقلال عن كل ضرورة تكون علة تامة له؛ أو هي اختيار الكائن العاقل فعله بنفسه دون ما إكراه خارجي أو ضرورة داخلية، بحيث حتى حين يفلح الإكراه الخارجي في إصدار الفعل تظل الإرادة متأبية قبوله محتفظة بحريتها. هذا الإكراه أو القسر أو الضرورة الخارجية تأتي من جانب فاعل، يجبر بالقوة على إتيان الفعل أو على تركه. والضرورة الداخلية تأتي من موضوع هو خير من كل وجه، كالسعادة، أو هو الوسيلة الوحيدة للبلوغ إلى غاية مرادة، كإلقاء السلع في اليم للنجاة من الغرق، فتجد الإرادة نفسها مضطرة لقبوله. فليس كل فعل إرادي فعلًا حرًّا؛ وليست ضرورة الغاية (أو ضرورة الوسيلة) منافية للإرادة؛ لأنها تجيء على وفق ميل الإرادة، بينما القسر منافٍ للإرادي إطلاقًا من حيث إن الإرادي يصدر عن مبدأ باطن وفقًا للميل، وأن مبدأ القسري خارجي مضاد للميل.

وفيما خلا حالتي الضرورة الداخلية — وهما الغاية المضطرة والوسيلة المضطرة — فالإرادة غير معينة إلى واحد، ولكنها حرة تختار ما تشاء. وهي من هذا الوجه تتحرك على نحوين: أحدهما أن تفعل أو لا تفعل، وهذه حرية التناقض؛ والنحو الثاني أن تفعل موضوعًا معينًا أو ضده، وهذه حرية التضاد أو تعيين الموضوع وتخصيصه؛ لأن الإرادة هاهنا تختار بين خيرات عدة متضادة وتعين لها موضوعًا، وفي حرية التناقض — أي حرية مزاولة الفعل والترك — تختار بين خيرين اثنين فقط.

وعلى ذلك لا يصح تعريف الحرية بأنها الاختيار بين الخير والشر (الخلقيين)، فإنَّ الشر لا يمكن أن يكون بذاته موضوعًا للإرادة، وهي لا تريده إلا من حيث يبدو لها خيرًا (طبيعيًّا)، فليس اختيار الشر (الخلقي) من لوازم الحرية، وإنما هو نقص يدل على اغترار النفس؛ إذ إن العاقل الكامل يسمو بنفسه عمَّا ليس خيرًا حقيقيًّا أو وسيلة إلى خير حقيقي. والاختيار بين الخير والشر داخل في حرية التضاد أو التعيين، فحرية التناقض هي الحرية الأساسية، وهي تتضمن الأخرى، ولا ينعكس، فإني لا أستطيع الاختيار بين متضادين إلا وأنا مستطيع ألا أختارهما.

(٣) الحرية

الدليل المباشر على وجود الحرية هي شهادة الوجدان، وهذه شهادة واضحة كل الوضوح، فلا تسمى في الحقيقة دليلًا أو برهانًا، وإنما هي تجربة ومشاهدة. فما إن نتصور غاية ما حتى نقف التصور وما يحف به من رغبات، ونمنعها من التحقيق بما لها من قوة تحريك، ريثما نتأملها ونصدر حكمًا بشأنها، فإن الحالة الوجدانية التي لا تقمع تعقبها حركة تحقيقها، فتخرج من سلطان الإرادة، ويحدث هذا في حالات كثيرة، بعضها نتيجة اندفاع وقتي، وبعضها نتيجة مرض عصبي، أو ضعف إرادي. والتأمل أو المشورة بحث في قيمة ما يختلج في النفس من دواعٍ، أي أسباب عقلية كالواجب والشرف، ومن بواعث أي انفعالات حسية كالمحبة والكراهية والطمع والحسد وما إليها. فإذا ما تمت هذه الموازنة صدر الحكم الذي هو الاختيار. وليس من طبيعة الاختيار أن يتطلب جهدًا، كما يعتقد كثيرون وكما اعتقد كنط، أو أن يغلب الواجب على الشهوة، أو الخير على الشر، وإنما هو اختيار صرف، ومن الوجهة الوجدانية، بغض النظر عن الوجهة الأخلاقية، فإذا قدرنا قيمته من هذه الوجهة، أحسسنا فضل العمل الصالح وتبعة العمل السيئ.

فالذي يقمع الدواعي والبواعث يدل في هذه المرحلة الأولى على سلطان وإرادة. والذي يدخل في مشورة يعتقد ويشعر أن الأمر راجع إليه. وفي أثناء المشورة نشعر أن الخيرات التي هي موضوعها تتنازعنا ولا يضطرنا واحد منها لاختياره كأن له سلطانًا مطلقًا. وحين نضع حدًّا للمشورة نشعر أننا أردنا ذلك الحد، لا أننا انسقنا ضرورة لأحد تلك الخيرات؛ ونشعر أننا نختار بحيث «نستطيع» أن نختار موضوعًا آخر، وأن الميل الضروري هو إلى الخير الكلي أو السعادة، بينما الخيرات الجزئية لا تجبر الإرادة، وأننا نستطيع اختيار أحدها أو ضده. وحين نقدر مسئوليتنا عن أفعالنا المروية، نراها واقعة علينا. وبالجملة نشعر بسلطاننا على الفعل في جميع مراحله، وإذا صادفنا إلحاحًا من أحد الدواعي أو البواعث استطعنا إرجاء الفعل بدل العدول عنه، فبان ذلك أسهل علينا، ودلَّ على إمكان العدول النهائي.

تلك شهادة الوجدان، وذلك تأويلها البديهي، تؤيدهما الإنسانية جمعاء، حتى الفلاسفة المنكرون للحرية يعترفون بها عمليًّا، فإنهم في إنكارهم منقادون لأسباب مذهبية بعيدة عن هذه المسألة بالذات، أولها الآلية الكلية في الطبيعة وضرورتها لقيام العلم. ولكن الناس بلا استثناء يمدحون ويذمُّون، يثيبون ويعاقبون، يبذلون النصائح والوعد والوعيد، يسنون القواعد والقوانين، فيدلون بكل أولئك على أنهم يعتبرون بني الإنسان أحرارًا. أجل قد تفيد بعض هذه الأمور في رياضة الحيوان، ولكنه لا يفقه لها من معنى سوى الرغبة الحسية في لذة حسية، أو الخوف الحسي من ألم حسي، فإننا برياضته نكوِّن فيه تداعيًا مجبرًا، لكنا لا نثني عليه ولا نذمه. وشتان بين هذا التداعي وبين المعاني الأخلاقية المتعارفة بين الناس. هذه الشهادة المجموعية ليست برهانًا جديدًا على الحرية، وإنما هي تسجيل للواقع، وتأييد لشهادة الوجدان الفردي، يستمد قوته من استحالة تكرار الخطأ لدى جميع الناس في أمر يمسهم بمثل هذا القرب.

إلى هذه الشهادة الصريحة وجهت اعتراضات، منها ما ينكرها في ذاتها، ومنها ما يزعم بطلانها استتباعًا لحجة عقلية أو علمية. فمن الناحية الأولى يقول جون ستوارث مل: «للوجدان أن ينبئني عما أفعل» لا بما أستطيع أن أفعل دون أن أفعله، من حيث إنه غير مفعول، فالوجدان لا ينبئني بالحرية. وجوابنا أن هذا حق؛ من الحق أن الوجدان لا يدرك الفعل الممكن غير الموجود بعد، ولكنه يدرك القوة الحاضرة فيه المترددة بين جهة وأخرى، ويدرك أن الإرادة غير معينة إلى إحداهما، وأن الاختيار موكول إلينا، وأننا نستطيع أن نرجئه ونستطيل المشورة، وهذا شعور بالحرية.

ومن هذا القبيل اعتراض آخر هو اعتبار الشعور بالحرية وهمًا ناشئًا من شعورنا بحركاتنا النفسية يصحبه جهلنا بالأسباب الدافعة إلى الفعل، بحيث تكون هناك ضرورة غير موعية لا حرية موعية. فيقول سبينوزا: أليس الحالم والمستهوي والسكران يتوهمون أنهم يفعلون بحرية؟ ويقول بيل Bayle وهوبس Hobbes: لو كانت الإبرة الممغنطة أو دوارة الهواء أو دوامة الماء مفكرة واعية وشعرت بدورانها وهي تجهل سببه، أليست تتوهم أنها تدور من تلقاء نفسها حرة مختارة؟ ونحن نقول: إنَّ توهم الحرية يستلزم مزاولة سابقة للحرية، فإن المضطر بطبعه لا يشعر بالحرية ولا يتوهمها. كما أنَّ الأكمه لا يتوهم الألوان، والأصم الأبكم لا يتوهم الأصوات. ثم لو صحَّ رأيهم للزم منه أن شعورنا بالحرية يزداد بازدياد جهلنا بالمؤثرات، والواقع أننا لا نضيف الحرية إلا للأفعال التي فكرنا فيها مليًّا وأتيناها ونحن على بينة من الأمر.

وثمة اعتراض منطقي مأخوذ من مبدأ العلية، فإنَّ المنطق يعلمنا أنَّ اختلاف قضيتين إيجابًا وسلبًا — وهذا هو التناقض — يقتضي صدق إحداهما وكذب الأخرى، وإذن فأفعالنا المستقبلة معينة في أنفسها، ولا سبيل إلى القول بالحرية. ولكنهم يخلطون من عدة وجوه: فقاعدة التناقض صحيحة في الضروريات كالقضايا الرياضية، لما بين حدودها من علائق لازمة؛ وصحيحة في القوانين الطبيعية لقيام هذه القوانين على ماهيات الموجودات وعلائقها الثابتة بعضها مع بعض؛ وصحيحة في الممكنات الحادثات الماضية والحاضرة، كما إذا قلنا: إن آدم عصى ربَّه وإن آدم لم يعصِ، أو إن المطر يسقط الآن في الهند وإن المطر لا يسقط الآن في الهند، فإن إحدى القضيتين المتقابلتين صادقة والأخرى كاذبة في نفسها؛ أما الممكنات المستقبلة الموجودة في عللها بالقوة البحتة دون أن تكون معينة قبل تحققها، كالأفعال الحرة، فليست مستقبلة بالتعيين، وليست القضايا المعبرة عنها صادقة ولا كاذبة لعدم تعين موضوعاتها في عللها، ولإمكان هذه الموضوعات جميعًا على السواء.

ويترجمون عن مبدأ العلِّيَّة بأن نفس العلل في نفس الظروف تُحدث نفس المعلولات، ويستنتجون من هذه الترجمة أن لا مجال للحرية، وإلا كان الفعل الحر بلا علة. يقول ليبنتز: إن الإرادة إذ تختار تميل مع أقوى الدواعي أو البواعث أثرًا في النفس كما يميل قبُّ الميزان إلى جهة الثقل؛ ويقول سبينوزا: إنَّ الفكرة الجلية تميل إلى التحقق بفضل جلائها وقوتها. ولكنا لا نسلم بصحة الترجمة؛ لأنها تقصر مبدأ العلية على عالم الجماد، أي على مبدأ القوانين الطبيعية أو العلل المعينة إلى معلولات بعينها، على حين أن مبدأ العلية أعم، إذ إن من العلل ما يفعل بالضرورة؛ لأنه معين إلى فعله، ومنها ما يعين فعله بنفسه، كالإرادة. فمن التعسف إرجاع كل علية إلى العلية الآلية المشاهدة في الكائنات غير العاقلة، لا سيما وأن المشاهدة تدل على أنَّ وطأة الجبرية أو الضرورية تخف كلما ارتقينا في سلم الكائنات؛ وليس من المنطق في شيء أن تنكر الحرية اعتمادًا على مبدأ هو قانون الكائنات غير الحرة.

نذكر أخيرًا أنَّ خصوم الحرية كثيرًا ما يستشهدون بالإحصاءات الاجتماعية، ويرتبون عليها جبرية ناتجة من تأثير البيئة الطبيعية وتأثير الوراثة والتربية وما إلى ذلك، فإنَّ الإحصاءات إذا تقاربت سنة بعد أخرى — وخصوصًا إذا أمكن توقعها — دلت على أن أسبابًا عامة تنتج الأفعال الجزئية. ولكنهم يغفلون عن أن الإحصاءات تقريبية دائمًا، ولا تلزم بردها إلى أسباب مضطرة، بل تبين فقط أنها تدخل في اعتبار الناس، فإذا قبلوها فإنما يقبلونها مختارين: مثال ذلك أن الإنسان قد يتردد في الزواج، فإذا تزوج فليس يعني هذا أنه تزوج مضطرًّا، وإنما يعني أنه أقدم مختارًا على أمر كان في قدرته أن يحجم عنه. ثم إن الإحصاءات لا تتناول الأفعال الباطنة، فلا تذكر عدد الذين يقاومون تلك الأسباب، فلمَ لا يكون هذا العدد ممثلًا للحرية؟ ويشهد التاريخ على أن مقاومة البيئة والتمرد على التقاليد حقيقة تكررت لدى الأفراد الممتازين، ولسنا نقصد أن جميع أفعالنا حرة، بل إن بعضها حر ولو كان قليلًا.

والإحصاءات لا تجيء مضبوطة إلى حدٍّ ما إلا إذا امتدت على عدد عديد من السنين، فتتلاغى وتتركب ولا تبدي سوى نتائج الأسباب المطردة. وإذا سلمنا بصحتها كانت عبارة عن متوسطات يدخل فيها بعض الأفعال، ويشذ عنها البعض، فتدل فقط على التأثيرات العامة، ولا تعني أن هذه التأثيرات تضطر كل فاعل بمفرده، فإن «قانون المتوسطات صادق على العموم كاذب على الخصوص»، كما قال كلود برنار.

تفسير الحرية يجب أن يطلب في الفرق بين الخير الجزئي المحرك للإرادة، والخير الكلي المدرك من العقل: ذلك أننا لا نفعل بالضرورة إلا إذا عرض علينا موضوع معادل لكفايتنا، أي خير كلي مطلق، فإننا حينئذ نقصد إليه بلا منازع وبكل قوتنا؛ لأننا نجد فيه الموضوع التام لإرادتنا الكفء لأن يرضي ميلنا تمام الرضى؛ لكنا في هذه الحياة الدنيا لا نصادف سوى خيرات جزئية، أو معروضة على نحو جزئي: فالشهوة تغري الحس وترضيه، فهي خير من هذا الوجه، ولكنها تجر وراءها أملًا وخسارة ومهانة، وتنزل بالإنسان إلى درك البهيمة، فهي شر من هذا الوجه؛ وللفضيلة علاقة لازمة بالسعادة الحقة، فهي إذن خير حقيقي، ولكن الحس لا يستلذها، فهي شر من هذا الوجه؛ والله نفسه، وهو الخير بالذات، غير معلوم لنا إلا بعلم استدلالي غير مطابق له، فكأنه خير جزئي، بل يمكن اعتباره شرًّا من حيث هو ينهى عن اللذة وأن محبته لا تتفق مع محبة اللذة.

لذا لا يوجد في هذه الحياة «داعٍ أقوى» على حد تعبير ليبنتز، فإن الدواعي جميعًا متساوية في البعد عن الخير الكلي الذي هو الموضوع التام للإرادة؛ وما الداعي الأقوى سوى ذلك الذي نرجحه فنمنحه القوة باختيارنا إياه؛ فإننا إذا نظرنا في الموضوعات الجزئية أو المعروضة على نحو جزئي لم نستطع أن نصدر حكمًا جازمًا بشأنها: أتطلب لما فيها من خير، أم تنبذ لما فيها من عدم خير؟ وهذا أساس التردد بين خيرين مختلفين، واستبقاء حريتنا سليمة.

وبعبارة أخرى إن تعليق حكم العقل هو الأصل في الحرية، ويعلق العقل حكمه لما في الخيرات من نقص يصرف الإرادة عنها، ويدع الطريق مفتوحة للاختيار. وإنما نخرج من التردد ونختار بالاتجاه إلى طرف من الاثنين، وحينئذ نحكم بأن الموضوع — منظورًا إليه في خيريته ومنفعته — حقيق بالاشتهاء.

من هذا الموقف عينه يفسر إمكان الخطيئة، ويصحح رأي في الحرية لبعض أنصارها، فيتبين مبلغ أهمية العقل في وظيفة الإرادة. الأصل في إمكان الخطيئة عدم نظر العقل إلى القانون الواجب على الإرادة اتباعه؛ وعدم النظر هذا لا وجود صرف، فهو في ذاته عدم خير وعدم شر؛ ثم يصير شرًّا أو خطيئة بالعزم على الفعل دون نظر إلى القانون. إنَّ الإرادة الحرة قابلة بالطبع للميل إلى إحدى جهتين، وإمكان الاختيار ينطوي طبعًا على إمكان إساءة الاختيار. فالنظر إلى القانون (الخلقي) في علوه على الشهوة ضروري لاختياره دونها.

أمَّا أنصار الحرية الذين يخطئون في تصورها، وفي مقدمتهم ديكارت؛ فرأيهم فيها أن الإرادة يمكن أن تختار دون راعٍ أو باعث، أو مع تساوي الأسباب، مثلما يخطر لي أن أخرج للنزهة وألا أخرج، فأختار واحدًا من هذين الطرفين بمحض الاعتساف. ولكن ليست الإرادة قوة عمياء، وليست الحرية ضربًا من الهوى؛ إنا نعزم أحيانًا تبعًا للهوى والاعتساف؛ لأنا نتخذ من الهوى نفسه سببًا، وأحيانًا أخرى نختار بين سببين متساويين ولدينا أيضًا سبب هو الرغبة في الخروج من التردد وتلبية داعي العمل؛ ومن غير المفهوم أصلًا العزم في غيبته كل سبب. وقد دعوا هذه الحرية «حرية عدم الاكتراث Liberté d’indifférence»، أي: حرية التوازن بين الدواعي والبواعث؛ وحرية التوازن هذه تلقائية عمياء لا اختيار حر، فإن الاختيار يجب أن يكون مسببًا واقعًا على خير معلوم. هل يريد أحد الشر؟ أو هل يستهدف أحد للشر؟ كلا، فإن الحرية خاصية العاقل، وهي خاصيته دون الموجودات غير العاقلة.

وإذا كان العاقل حرًّا حين يضاهي بين الخيرات الجزئية ومطلق الخير، فإن حريته أظهر وأروع حين يرجع إلى نفسه فيطالع فيها دستورًا مباينًا لميوله الحسية، فيؤثره على هذه الميول مهما يكن هذا الإيثار مؤلمًا ضارًّا بشئون هذه الحياة. في هذا الدستور أن مطلق الخير — الذي هو معنى كلي مثير في النفس ميلًا عامًّا — هو الأصل والأساس لكل ميل جزئي؛ وأنه الخير المطلق الذي يتشخص فيه ذلك المعنى، وتتحقق السعادة القصوى بالإخلاص لإراداته البادية في الطبيعة، والاتحاد به اتحاد معرفة ومحبة. فإذا تشككنا في الحرية لم نفهم واجب الإخلاص؛ إذ إن الواجب لا يقال إلا لمن يقدر أن يضعه باختيار؛ ولم نفهم التبعة؛ لأنها لا تقع إلا على الفاعل بملء اختياره. ولم نفهم وصفنا للأشياء والأفعال بالحسن أو بالسوء، وهما لا يقالان للإرادة المضطرة؛ ولم نفهم أمرًا من الأمور التي هي ميزة الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية. هذه الأمور معانٍ ومُثُل غير محسوسة، فوجودها في النفس ووجوبها القاطع يقضيان بوجود الإرادة، وبأنها قوة روحية كما قدمنا، وبأننا حين نعمل عن تصور صادق لغاية الحياة، وللوسائل المؤدية إليها التي هي الفضائل، تظهر قوتنا الفاعلية بأشد وضوح، إذ إننا حينئذٍ نصدر عن أنفسنا، أي عن دواعٍ عالية على الحس، أخص بطبيعتنا من بواعث الحس، بالرغم من معارضة هذه البواعث وإغراء الأسباب الخارجية. في حين أن الشهوة وما يتصل بها من لذة جسمية تسترق النفس فتنتقص من شخصيتنا ومن حريتنا ومن كرامتنا. إن رجل الشهوة يختار بين خيرات محسوسة فلا تكاد تبين حريته، ورجل الواجب رب فعله، لا يفوق في ذلك سوى فعل الربوبية بالذات جلَّ جلالها.

(٤) الجبرية

هذه الاعتراضات على الحرية تؤلف القسم السلبي من المذهب الجبري. يبقى أن نعرض للقسم الإيجابي الذي هو مبدأ المذهب، فنستكمل الرد عليه ودعم إثبات الإمكان في الطبيعة. وأعم فكرة يستندون عليها فكرة «العلم» التي تجعل من الوجود مجموع علل ومعلولات مترابطة ترابطًا ضروريًّا، وينتج منها أن الإنسان آلة، إمَّا آلة مادية خاضعة لمختلف التأثيرات الخارجية والداخلية كما يقرر الماديون، وإما آلة روحية automate spirituel على حد قول ليبنتز، وكثيرًا ما يقولون: إن افتراض علل حرة يتهدد النظام الطبيعي بالاضطراب والانهيار ويقضي على كيان العلم؛ إذ إنه لا ينهض إلا بتصور الطبيعة كلًّا متفاعل الأجزاء ثابت القوانين كما يبدو لأول نظرة نلقيها عليه.

والغريب حقًّا في أمر الفلاسفة الحسيين أنهم يتشبثون هنا بمبدأ العلية وكأشد ما يتشبث به من مبدأ، ويأبون على الإمكان أضيق مكان، بينما هم إذا عالجوا مسألة الاستقراء مثلًا من الوجهة المنطقية والميتافيزيقية، يأبون على نتيجته صفتي الكلية والضرورة، بحجة أن ليس في التجربة ضرورة ولا كلية؛ وإذا أرادوا الكشف عن أصل الأحياء يلجئون إلى الإمكان، ويستكثرون له من الاحتمالات، ويوسعون له من المدى حتى ليرفعونه إلى مقام القانون والمبدأ.

ونحن نطمئنهم ونؤكد لهم أن لا خوف على العلم البتة. إن الأصل في العلم أنه إدراك ماهيات الأشياء وخصائصها، وهذه حال الرياضيات والطبيعيات النظرية؛ أمَّا حدوث الظواهر على ترتيب مطرد، فلا يعرض له سوى بعض العلوم، كالفلك والآثار العلوية أو الظواهر الجوية، والخطأ فيها غير قليل. وليس من شأن الإرادة والحرية تغيير الماهيات والعبث بالضروريات، وإنما شأنها الأوحد اختيار فعلها الباطن، بحيث يكفي لصون نظام الطبيعة ولقيام العلم النظر في الموجودات فاعلة بحسب ماهياتها، ومرتبة بعضها إلى بعض على نحو واسع يدع مجالًا لإمكان أفعال جزئية كثيرة.

للمذهب الجبري صورتان: إحداهما عقلية هي نفس مبدئهم المذكور الآن، والثانية علمية مبنية على العلم الحديث في قوله ببقاء الطاقة. في الفريق الآخذ بالصورة الأولى نجد ابن سينا ونجده قد أجاد التعبير عنها حيث قال: «لو أمكن إنسان من الناس أن يعرف الحوادث التي في الأرض والسماء جميعًا وطبائعها، لفهم كيفية ما يحدث في المستقبل.» وأيضًا: «الإرادات كلها كائنة بعدما لم تكن، فلها أسباب تتوافى فتوجبها … والإرادات تحدث بحدوث علل هي الموجبات، والدواعي تستند إلى أرضيات وسماويات، وتكون موجبة ضرورة لتلك الإرادة.» وأيضًا: «الإرادات التي لنا كائنة بعدما لم تكن، (وعللها) أمور تعرض من خارج أرضية وسماوية، والأرضية تنتهي إلى السماوية، واجتماع ذلك كله يوجب وجود الإرادة.» ولا يعترف ابن سينا للإمكان إلا بقسط ضئيل يعبر عنه بهذه العبارة: «الحادثات الجزئية تنتهي إلى طبيعية وإرادية موجبة لنسب إرادية فاترة غير حاتمة ولا جازمة.» وقد لا يدل هذا القول على إمكان ما من حيث إن النسب الفاترة غير الحاتمة تنتهي إلى موجبة.

والرأي في هذا الموقف هو من جهة واحدة، أن الأفلاك تؤثر حقًّا في الأجسام الأرضية، ومن جهة أخرى أن هذا التأثير غير موجب لا في المادة الصرف، كتأثير القمر في البحر مدًّا وجزرًا، وحتى في هذه الناحية ليس الوجوب محتومًا، فإن الأجسام الأرضية يختلف قبولها للتأثير باختلاف استعدادها، ومن هذا يتبين بطلان التنجيم. وتؤثر الأفلاك بالعرض في القوى النامية والحاسة المتحدة بأعضاء، فتسبب فيها انفعالات حسية. أما العقل والإرادة فهما قوتان روحانيتان راجعتان إلى النفس وحدها، فليس لهما عضو، ولكنهما متصلان بالبدن، فإذا اضطربت الحالة البدنية أو المخيلة أو الذاكرة، اضطرب فعل العاقل وضعفت الإرادة. فالقول بعلية الأفلاك للأفعال الإنسانية قول الذين لا يفرقون بين العقل والحس. بيد أن أكثر الناس يتبعون الانفعالات الحسية، وأن العقلاء الذين يستخدمون حريتهم فيقمعونها قليل عديدهم، فيبدو الأولون كأن ليس لهم حرية، ويصدق إنباء المنجمين بحسب الأكثر فقط، وتتمحل الحجج في معارضة الحرية على العموم.

والصورة العلمية للنظرية الجبرية هي بقاء الطاقة. فمنذ العصر القديم قال الماديون: إن المادة أزلية أبدية، غير حادثة ولا مندثرة، وكذلك الطاقة أو القوة الملازمة لها باقية خلال تحولاتها، بحيث تكون كل ظاهرة صورة جديدة لطاقة سابقة. وقد استغلوا هذا الذي سموه «قانون بقاء الطاقة» أعظم استغلال لتأييد سيادة الضرورة على الطبيعة، ورتبوا عليه محالات تلزم القول بالحرية، من جهة أن ثبات القانون يمنع اقتدار الإرادة تغيير مجرى الحوادث، وأن الفعل المقول حرًّا وغير معين بسوابقه، يفترض خلق طاقة لترجيح كفة الداعي أو الباعث المختار، وفي نفس الوقت يفترض إعدام طاقة الدواعي والبواعث المستجدة وكل هذا عندهم محال.

والمحال عندنا هو هذا القانون والحجج المرتبة عليه؛ ذلك بأن كل ما أثبته العلم ينحصر في أن بقاء الطاقة يتحقق فيما يدعى «نظامًا مغلقًا»، أي إناء معلوم الطاقة لا يدخل إليه ولا يخرج منه طاقة في وقت التجربة؛ أمَّا تطبيقه على الطبيعة جمعاء فلا سبيل إلى إثباته لاستحالة تقدير طاقات الأحياء من نباتية وحيوانية، والإحاطة بجميع التأثيرات الواقعة عليها، وتقدير مجاوباتها هي على هذه التأثيرات، ولاستحالة قياس الظواهر الوجدانية في الحيوان والإنسان، والمعادلة بينها وبين الطاقات الخارجية، وقد لا تكون الطبيعة نظامًا مغلقًا، ونحن لا ندري ولا الماديون يدرون إن كانت بمعزل عن تدخل بعض القوى العليا؛ فبأي حق يقولون ببقاء الطاقة، ويستشهدون به على الفعل الحر الشاهد به الوجدان؟

بل قد نسلم به جدلًا فلا يضيرنا ذلك في شيء. إنَّ العلم في غير حاجة إليه، وقائم فعلًا مع جهلنا مجموع الطاقة، وليست مهمته مراقبة الزيادة فيها والنقصان كما لو كان مكلفًا بصون العالم من الدمار! ثم إن التوفيق بينه وبين الإرادة ليس بالمشكلة إلا في النظرية الثنائية كما نراها عند أفلاطون وديكارت التي تجعل من النفس والجسم جوهرين تامين قائم كل منهما بذاته، فيتعين على أشياعها أن يبينوا كيف توصل الإرادة الروحية حركة ما إلى الأعضاء المادية، وكيف توصل الأعضاء حركة ما إلى النفس، على حين لو نظرنا إلى الإنسان أولًا، قبل النظر إلى جزءيه اللذين هما النفس والبدن وإلى ما بينهما من اتحاد وثيق، لوجدناه كائنًا واحدًا لا مزدوجًا، بشهادة ظواهر واعتبارات لا تحصى، ولأمكننا الاعتقاد أو لوجب الاعتقاد أن كلًّا من النفس والبدن يتأثر بالآخر ويؤثر فيه بما له به من اتحاد وشركة، وأن الإرادة تتلقى الحركات بفضل هذا الاتحاد، وتجاوب عليها بالطاقة المختزنة في الأعضاء.

على أن العلم نفسه يغنينا عن مناقشة هذا القانون؛ إذ قد أظهرنا على قانون آخر ينقضه نقضًا، هو تضاؤل الطاقة، فإن الطاقة نوعان: أحدهما منتج عملًا حراريًّا أو كهربائيًّا، والآخر عاجز عن إنتاج أي عمل؛ والنوع الأول يتحول إلى النوع الثاني رويدًا رويدًا، أي يفقد القوة على التحول إلى عمل كما يفقد الراديوم مثلًا نصف كتلته في زهاء ١٢٠٠ سنة؛ فكأن المادة تندثر، أو كأن القوى الطبيعية تتجه باستمرار إلى التوازن التام، وأن وقتًا سيجيء تصبح فيه الطاقة المنتجة كلها غير منتجة أصلًا، ويسود العالم جمود وسكون. فإذا كانت الطاقة تتضاءل هكذا، سقطت الاعتراضات على تدخل الإرادة في سلاسل الحوادث، وكان لنا أن نؤمن بتأثير الروحيات في الماديات، وبسيادة الإمكان في الكون على الضرورة، ولو لم يظهر للحواس، ولم نستطع تقدير مداه. وهذا دليل عملي مؤيد للدليل الوجداني وللدليل العقلي: فماذا يريدون بعد ذلك للتسليم بالحرية؟

(٥) النفس الإنسانية: وجودها

إذا كان لكل ظاهرة جوهر، ولكل فعل فاعل، فإنَّ في كل كائن حي نفسًا هي مصدر حياته وأفعاله. والنفس الإنسانية تبهمنا على الخصوص لكونها أرفع أنواع النفوس، بل لكونها نفسنا، وعلى الرأي فيها تتوقف سيرتنا، وعلى طبيعتها يتوقف مصيرنا، فنختم هذا الفصل بالفحص عنها والمقارنة بينها وبين النفسين النامية والحاسة، وبذا نحصل على معرفة دقيقة عن النفس بالإجمال، وعن كل نوع من أنواعها بالتفصيل، ولا سيما النفس الإنسانية أيضًا، حيث لدينا دليل مباشر، هو الشعور الباطن، يوضح الاستدلال النظري المستخدم في الفحص عن النفسين الأخريين، ويؤيده بالحدس الوجداني أو ما يشبهه. فنسأل أولًا: هل توجد نفس؟ فإذا ثبت وجودها نظريًّا في طبيعتها، فعلمنا أنها بسيطة، ومتَّحدة بالجسد اتحاد الصورة بالمادة، وأنَّ نفس الإنسان روحية مع ذلك، أي مستقلة عن المادة في الأفعال العقلية والإرادة ومن ثمة في الوجود، وأنها لهذا السبب باقية بعد موت الجسد، فنقول:

أمَّا أن النفس بإطلاقها موجودة، فالدليل عليه أن الحياة لا تصدق على الجسم بما هو جسم، وإلا كان كل جسم حيًّا أو مبدأً للحياة؛ فلا بد في الحي من مبدأ لا يكون جسمًا، بل صورة لجسم تمنحه الحياة والفعل. وفي ردنا على قول ديكارت أن الحيوان آلة أثبتنا للحيوان نفسًا حاسة. والآن نرد على اعتراضات الحسيين بصدد النفس الإنسانية. أولها — أي أبسطها — قولهم: إنَّ النفس لا تقع تحت الحواس، وإذن فهي غير موجودة. ولكنهم بهذا القول يقعون في الغلط المسمى بالدور المنطقي؛ إذ يضعون كمبدأ أنْ لا شيء يوجد سوى المادة ويستنتجون عدم وجود النفس، مع أن النظام المنطقي يقضي — قبل استنباط هذه النتيجة — بالبرهنة على أن الحواس آلاتنا الإدراكية الوحيدة، وأن الشيء الروحي غير معقول مستحيل الوجود، هل التذكر والتفكر من الأمور المادية؟ وبأي حاسة نعرفهما؟ فمن العبث الاحتجاج بأن الإنسان قد يكون مجرد آلة، وأن في الجهاز العصبي الكفاية لتعليل الحياة الوجدانية، فلا حاجة إلى نفس لا نراها.

وهم يعولون كثيرًا على ما يدعى بتعدد الشخصية، فإنه إذا كانت الشخصية مظهر النفس، وكانت تختلف وتتناسخ على التعاقب، بل في وقت واحد، كان هذا دليلًا جازمًا على أن النفس محض فكرة، بل لفظة، وأنها «عرض طارئ» على حالة بدنية، وأننا نستخدم هذه اللفظة اختصارًا للحالات اللائحة، في الشعور، المتلاعبة به؛ الموهمة له أنه يمثل شخصًا أو جوهرًا روحيًّا، وهو مستسلم لها فاقد كل شخصية. ويحتجون باستقلال الوظائف الفسيولوجية عن الشعور، قبل أفعالها وفي أثنائها، فهي ماضية في شئونها، غنية عمن يتوقعها، ويدير وسائلها، ويراقب أفعالها. هذا صحيح؛ ولكنه لا يدل على النتيجة المستنبطة منه. أليس هذا حال الجماد والنبات؟ وقد أثبتنا غير مرة أنه لا يعفى من وضع مبادئ قريبة لأفعالهما، هي القوى، ومبدأ بعيد، هو الصورة الجوهرية، أن ترجع جميعًا إلى الله خالقها، بعضها مع توقع وتدبير، وبعضها عاطل منهما مستكفٍ بما رسم في طبيعته ليقوم مقامهما.

لا محيص إذن عن البرهنة على وجود النفس الإنسانية. وقد اعتقد ابن سينا أنه يبرهن عليه بطريقة واضحة حاسمة لا تستخدم سوى التجربة الباطنة وتمضي منها إلى المطلوب رأسًا. قال: «لو توهمت ذاتك قد خلقت أول خلقها، وفرض أنها على جملة من الوضع والهيئة بحيث لا تنظر أجزاءها، ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواء طلق، وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت إنيتها. والمدرك منك أهو ما يدركه بصرك من إهابك؟ لا، فإنك إن انسلخت عنه وتبدل عليك كنت أنت أنت. (وكل حاسة أخرى) فإن حالها ما سلف … فمدركك شيء آخر غير هذه الأشياء التي قد لا تدركها وأنت مدرك لذاتك، والتي لا تجدها ضرورية في أن تكون أنت أنت … ولعلك تقول: إنما أثبت ذاتي بوسط من فعلي … (ولكن) فعلك لم تثبت به ذاتك، بل ذاتك جزء من مفهوم فعلك، (فالذات) مثبتة في الفهم قبله، ولا أقل من أن يكون معه لا به.»٣ وهذا هو الدليل المعروف بدليل الإنسان الطائر.

ونحن نخالف ابن سينا في اعتقاده أننا ندرك وجود الذات بمعزل عن كل فعل. إن إدراك وجود الذات يحدث في إدراك الأفعال.

وحينئذٍ ندرك وجود الذات إدراكًا مباشرًا مع وقوع الأفعال. ومن باب أولى نخالفه في اعتقاده أننا ندرك ماهية النفس بمعزل عن كل فعل وكل استدلال، بإدراكها وجود ذاتها. ليست النفس حاضرة الماهية لذاتها، وإلا لما أنكرها البعض، ولم يتردد في وجودها البعض، ولم يختلف في ماهيتها البعض، وإنما هي حاضرة الذات في أفعالها، وبتأمل الأفعال تعلم ماهيتها، أما إذا غفلت عن كل شيء فإنها تغفل ضرورة عن ثبوت إنيتها.

وإلى دليل من هذا الطراز لجأ ديكارت؛ فإنَّ قوله: «أنا أفكر» يعني أنه قد صرف النظر عن موضوعات الفكر، وانعكس على ذاته، فاتخذ من فكره موضوعًا لتفكيره، حتى لقد نتج له من هذا الموقف الانعكاسي أن الفكر يعرف ذاته قبل أن يعرف الجسد المتحد به، وقبل أن يعرف شيئًا من الموجودات، وأن في هذه المعرفة الدليل الأول الدافع على وجود النفس. ولكن الواقع أن مذهبه التصوري، إذا تدبرناه على حقيقته، يحول دون الانتقال من «أنا أفكر» إلى «أنا موجود»؛ فإن التصورية تقضي بأننا لا نعرف شيئًا في ذاته، بل لا نعرف فعلًا في ذاته، وإنما نعرف فقط تصورنا لشيء أو لفعل. فلا يسوغ في التصورية سوى الانتقال من فكرة إلى ذاتها، فيقال: «أنا أفكر، وإذن فأنا أفكر». بل إن هذا كثير، إذ ليس يسوغ قول: «أنا أفكر» من حيث إن «أنا» وجودي بالضرورة، فيتعين الاكتفاء بقول: «إن هناك فكرًا» دون إسناد الفكر إلى مفكر موجود. وحتى هذا غير ممكن، فإنَّ التصوريين لا يستطيعون أن يضمنوا ألا يكون الفكر واللافكر شيئًا واحدًا بعد أن جعلوا من مبدأ عدم التناقض قانونًا فكريًّا بحتًا لا قانونًا وجوديًّا. وهكذا تنتهي التصورية، وهي مبنية على الفكر، إلى إلغاء الفكر والمفكر. وهكذا فهمها كنط، فقصر النفس أو الأنا أو الشخصية على أن تكون مجرد «مقولة» إن قدمت فباللفظ فقط، وهي تؤخر كثيرًا بنفي مدلوها.

الحقيقة أننا في كل فعل من أفعالنا وكل حالة من حالاتنا، ندرك وجود ذاتنا إدراكًا مباشرًا. وندرك أن الفعل فعلنا والحالة حالتنا. وكيف يتصور إحساس أو تعقل أو تداعي صور … إلخ بدون جوهر يحس ويفكر؟ فوجود الجوهر هو وحده يفسر حدوث أفعالنا وحالاتنا؛ وهو وحده يفسر من باب أولى ما يستمر منها في الزمان أو يعود من آن إلى آن، كالذكريات والعادات والإدراكات المكتسبة والتداعيات والأحكام والاستدلالات. وشهادة الوجدان صريحة بأن عين الأنا هو الذي يحيا ويحس ويفكر، فإننا نضيف إليه جميع هذه الأفعال، ويشعر كل منا أنه يظل هو طول عمره. فللإنسان وجود واحد نشعر به وباستمراره تحت التغيرات، فنربط حاضرنا بماضينا، ونتطلع إلى المستقبل على أنه مستقبلنا.

ومحال أن يكون الجسد علة هذا الوجود الواحد، بما فيه من تضافر متصل ونمو متسق، مما يدل على وجود مبدأ باطن يدبر ويوجه، والجسد ممتد منقسم متكثر متغير، متجدد باستمرار، ومحتاج من ثمة إلى ما يرده شيئًا واحدًا ويستبقي له وحدته. فليس يمكن أن تكون المادة مبدأً أول، وهي منفعلة وحركتها معلولة، على حين أن الفكر في مختلف صوره منبثق عن فاعلية باطنة. فلم يكن للون أن يفترض أن المادة قد تفكر: إن الفكر يقتضي شروطًا منافية لصفات المادة، فانتفاء هذه الشروط يقضي بانتفاء الفكر. وإذا لم يكن في الحياة النامية أكثر مما في الجماد، وفي الحياة الحاسة أكثر مما في النامية، وفي الحياة الناطقة أكثر مما في الحاسة، لم تختلف تلك الحيوات في الوظائف والأفعال ذلك الاختلاف العميق البادي في المشاهدة.

لأجل تفسير وحدة الكائن الحي واستمراره هو هو، يجب أن يكون حاصلًا على نفس، وأن تكون النفس بسيطة منزهة عن كل تركيب من أجزاء متمايزة. ولتفسير التفكير يجب القول ببساطة النفس أيضًا، فإنه لا يتسنى إلا لجوهر بسيط قادر على أن ينعكس على ذاته ويجمع في فعل واحد جميع عناصر الإدراك، سواءٌ كان الإدراك إحساسًا أو فكرًا مجردًا أو نسبة. وقد أقرَّ بذلك اثنان من أقطاب المذهب الحسي؛ قال هيوم: «إن في علاقة التداعي تناقضًا صريحًا: كيف يمكن أن يوجد مبدأ ارتباط إذا كانت إدراكاتنا منفصلة مستقلة بعضها عن بعض؟ هذه معضلة تفوق طاقة عقلي.» وقال ستوارت مل: «إنَّ الذهن سلسلة من الحالات تعرف نفسها ماضية ومستقبلة: فكيف تتسنى هذه المعرفة لمجرد سلسلة؟ لا يبقى إلا أن نقول: إن الذهن أو الأنا شيء آخر غير سلسلة الحالات.»

والحجة المأخوذة مما يسمونه ازدواج الشخصية أو تعددها، والتي يظنونها قاطعة، هي في غاية الوهن، قائمة على الخلط بين الشخصية ذاتها وبين الشعور بالشخصية: فمن المعلوم أنَّ الجواهر طائفتان: إحداهما حاصلة على قوة الإدراك وقوة الشعور بالذات، مع تفاوت طبعًا، والأخرى خلو عن هاتين القوتين، وينطبق على كلتا الطائفتين تعريف الجوهر بالتقوم بالذات، ولو أن التقوم أكثر كمالًا في الطائفة الأولى منه في الثانية، وأكثر كمالًا في الموجود العاقل منه في غير العاقل، وكل واحد من الأفراد شخص بمعنى الكلمة موجود لذاته. إن الشعور بالذت شعورًا صريحًا واضحًا هو من شأن الكائن العاقل. فإنه يستند إلى الانعكاس على الذات، وليست تنعكس المادة على ذاتها ولا يتسنى الانعكاس إلا للموجود المستقل عن المادة، وحيثما يحدث يكون دليلًا على هذا الاستقلال. شتان إذن بين «شخص» محصور في طبيعته، و«شخص يتصرف في الأشياء لتحقيق غايات وأفعال يعينها بذاته، ويطالب بحقوق، ويذعن لواجبات بعد إدراكها وإدراك لزومها، كما تستند الحرية على نفس الأساس؛ لأن استقلال الإرادة عن الخيرات الجزئية، سببه استقلال العقل في الحكم على الجزئيات … وإذن فليس يحقق الإنسان شخصيته تمام التحقيق، أعني قيامه بذاته، وفعله بذاته، إلا بقدر ما تسود فيه حياة العقل والحرية حياة الحواس والأهواء، وإلا ظلَّ كالحيوان «فردًا» خاضعًا للأحداث والغرائز.

ولا تقولنَّ مع بعض الفلاسفة: إن الشخصية هي عين الشعور بالذات أو إنها الإرادة الحرة والجهد المبذول منها، أو إنها الخلق المتكون للواحد منا والمميز له من سواه. هذه علامات عليها، أو بكلمة أدق: الشخصية هي المبدأ الذي تجمع فيه هذه العلامات، بالفعل أو بالقوة، فالطفل والنائم بل والمجنون لا يشعرون بذاتهم هذا الشعور الصريح إلا بعد اكتمال العقل في الأول، وبعد مزاولة الثاني والثالث لفعل التعقل كما ينبغي أن يزاول. فيلزم التمييز بكل دقة بين «الشخصية الميتافيزيقية»، أي وجود الشخص في ذاته، وبين «الشخصية الوجدانية»، أي شعوره بها، فقد يختلف هذا الشعور وتبقى الذاتية، ولاختلاف الشعور تعليل لا يمس الذاتية بحال.

الشخصية الوجدانية تشتمل على إحساسات ووجدانيات: الإحساسات هي اللمسية الناشئة من تأثير الأشياء الخارجية، ومن الحالة الجوفية والعضلية، بما في ذلك إحساسات الحرارة والراحة والقلق وما إليها؛ أمَّا سائر الإحساسات الظاهرة فلا تشعرنا بأنفسنا مباشرة، بل تشعرنا أولًا بالأشياء ونحن نشعر بأنفسنا فيها؛ وليس يقتصر شأن الأشياء على تأثيرها فينا، فإننا بجسمنا نشغل بينها خيرًا معينًا وندخل معها في علاقات، فنشعر بجسمنا كمبدأ فعل وانفعال. والوجدانيات — من ذكريات وأفكار وعواطف وإرادات وآمال — تؤلف في كل لحظة حالة وجدانية عامة هي — مع تغيرها وتجددها — متصلة بما يسبقها وما يلحقها من حالات. وفي هذه الشخصيات العامة شخصيات ثانوية خاصية معينة من نواحي حياتنا الفردية والاجتماعية، كشخصية الوالد والزميل والرئيس والمرءوس والقاضي والعامل … إلخ، وكالشخصية الفنية والعلمية والدينية. وليس من السهل أن تتفق الشخصيات الجزئية في الفرد الواحد، لما يقتضيه هذا الاتفاق من رأي صائب وإرادة قوية؛ ولكنها تتعارض أحيانًا كثيرة، فتثير في النفس صراعًا بين واجبات مختلفة، أو بين واجب وشهوة. فلِمَ نعجب لازدواج الشخصية كما يقولون؟

هذا الشعور بالشخصية في الحياة العادية كان موضع احتجاج عنيف من جانب الماديين أصحاب «الظواهر العارضة»: فقد عدُّوا عليه «اضطرابات» ظنوها قاضية على الوثوق به. اختلفوا في تصنيفها، فنقتصر على أربعة أنواع هامة؛ الأول: انفصال المجموعات الجزئية عن الشخصية العامة، وتعاقب هذه المجموعات، بحيث ينتقل المريض من الكآبة والسكون إلى السرور والنشاط مثلًا. النوع الثاني: تقمص شخصية غريبة إلى أجل أو باستمرار، فيتوهم المصاب أنه المسيح أو نابليون أو إبليس … النوع الثالث: فقدان الشعور بالشخصية، فينكر المريض جسمه وصوته، وتغيب عنه ذكرياته. النوع الرابع: ازدواج الشخصية بمعنى الكلمة، فيتوهم المريض أنه مثنى، فيستعمل ضمير الغائب في كلامه عن نفسه، أو تضرب يمناه يسراه لتمنعها من إتيان حركة تهم بها، أو يأمر نفسه ويعد بالطاعة، إلى غير ذلك.

وتنشأ هذه الحالات في الغالب عن ضعف عصبي، تضعف معه رقابة العقل التي تستبقي فينا فكرة الوحدة والذاتية، وتضعف معه الذاكرة، وإليها في النهاية ترجع جميع الاضطرابات.

بل إن اختلال الذاكرة ليس عاملًا مطلقًا حاسمًا؛ فمِنَ المرضى من يعلمون في حالتهم العادية أن لهم حالة أو حالات غير عادية، مما يدل على أن الأولى هي الراسخة وأن الثانية عارضة، والذين لا يعلمون قليل جدًّا. ومنهم من طلب إليهم العلماء المختبرون إتيان أفعال مخالفة للأخلاق القويمة، أو لأخلاقهم الخاصة، فأبوا ذلك، مما يدل على أنهم يحتكمون، لا إلى شخصية عارضة؛ بل إلى شخصية أعمق باقية بالرغم من تقلب الحالات، وهي الشخصية الوحيدة في الحقيقة. هذا فضلًا عن الذين يعالجون فيشفون ويعودون إلى شخصيتهم العادية.

فليس في الإنسان سوى شخصية واحدة هي مظهر لنفس واحدة، فالإنسان مركب من جوهر روحي وآخر جسمي يؤلفان منه موجودًا واحدًا، لا كلًّا مجموعيًّا يتجاور فيه الجوهران ويتفاعلان من خارج على ما اعتقد أفلاطون وديكارت. ليس هذا الاتحاد عرضيًّا كالذي بين جوهرين تامين، ولكنه جوهري حاصل بين جوهرين ناقصين كل منهما مفتقر للآخر متمِّم له: من النفس يقبل الجسم تركيبه ووحدته وحياته، وسائر ما يجعل منه جسمًا إنسانيًّا؛ وحالما تفارقه بالموت ينحل إلى عناصره؛ وتبقى النفس متقومة بذاته؛ ولكنها في هذه الحياة جوهر ناقص، لا تستطيع دون الجسم أن تزاول أفعال قواها التي تقتضي مشاركة الأعضاء مشاركة مباشرة، مثل الإحساس والتخيل والتذكر. فالنفس الإنسانية ناطقة بالذات، نامية وحاسة بقوى فيها، تحدث الأفعال النامية والحاسة في الجسم ومعه؛ لذا كانت القوى النامية والحاسة قوى المركب من النفس والجسم، لا قوى النفس وحدها، بينما العقل والإرادة قوتان مفارقتان بذاتهما للمادة؛ فهما للنفس وحدها. وعلى ذلك فالنفس الناطقة موجودة كلها في الجسم كله أولًا، وبالذات من حيث إنه الموضوع المتكمل بها؛ وليس لها مقدار لا بالذات ولا بالعرض، وموجودة في كل جزء من أجزاء الجسم ثانيًا بقوة خاصة بالجزء، كقوة الإبصار في العين مثلًا. ليس الإنسان إذن جوهرًا روحيًّا محضًا يستخدم الجسم من خارج، ولكنه طبيعة خاصة قوامها نفس معدة بالطبع للاتحاد بجسم اتحادًا جوهريًّا لمزاولة وظائفها، بحيث يكون الجسم تكملة ضرورية لها، لا قيدًا أو عائقًا.

(٦) النفس الإنسانية: روحانيتها

بينما جميع أفعال النفس النامية والنفس الحاسة تحدث في الجسم وبمشاركة الأعضاء، فلا نرى وجودًا خاصًّا، بل نرى لكل منهما وجودًا في المركب منها ومن الجسم، نرى للنفس الناطقة بعض أفعال مستقلة عن الأعضاء، فنحكم بأنها مستقلة عن الجسم في وجودها، تلك الأفعال هي الصادرة عن العقل والإرادة، وذلك الاستقلال هو المسمى بالروحانية. فإن النفس الناطقة تدرك موضوعات مختلفة الماهية والأعراض: تدرك الخالق والمخلوق؛ الروح والجسم، الجوهر والعرض، الموجود الواقعي والممكن والذهني، وهذا دليل على أن العقل غير مخصص بموضوع أو بطائفة من الموضوعات، كتخصص الحواس الظاهرة (العين مثلًا للضوء واللون، والأذن للسمع، وهلم جرًّا)؛ هذا فضلًا عن كون العقل يدرك موضوعاته على نحو غير مادي، مجردة عن المشخصات. لو كان العقل معينًا بعضو لكان هذا التعيين يحول دون إدراكه أشياء مختلفة، كذوق المحموم، لمرارته بالحمى، لا يشعر بالحلاوة، وكعين المصاب بالصفراء ترى جميع المرئيات صفراء، فإن لكل جسم ولكل عضو جسمي طبيعة مخصوصة تمنع من إدراك أشياء مختلفة، ومن إدراكها على نحو مجرد، أعني خلو من المشخصات المادية.

وجميع إدراكاتنا العقلية للماديات هي على هذا النحو، قاصرة على عناصر الماهية، ونحن نشعر بأننا نستخرج المعاني المجردة الكلية من الصور الجزئية المستفادة من التجربة بالحواس، وأن علومنا مطابقة للموجودات. وعلى المعاني المجردة تقوم أحكامنا واستدلالاتنا، فالحكم تحليل للمعنى المجرد، وتصور للنسبة بين المحمول والموضوع، وليست النسبة شيئًا محسوسًا، فتصورها يقتضي قوة غير محسوسة، هي العقل. كذلك الاستدلال إدراك لزوم منطقي بين النتيجة والمقدمتين، وليس اللزوم المنطقي شيئًا محسوسًا، فتصوره يقتضي قوة غير محسوسة. أما القوة الحاسة، فلارتباطها بعضو وتعينها بموضوع، لا تنفعل إلا بكيفية محسوسة، ولا تدرك موضوعًا مجردًا.

والعقل ينعكس على أفعاله، يحللها ويتأملها، كما نصنع في هذه البرهنة التي نحن ماضون فيها: ومثل هذا الانعكاس محال على قوة جسمية؛ وليست أفعال العقل محسوسة كالماديات حتى يدركها الحس بعضوه، وليست الرؤية ملونة، فالعين لا ترى رؤيتها. إن الانعكاس يدل على استقلال العقل عن كل عضو من حيث إن المادة لا تنعكس على ذاتها، بل يتطابق أجزاء منها بعضها على بعض. وبالانعكاس على الذات والاستدلال تعقل النفس اللاماديات مثل النفس والله والفضيلة والواجب والعلم وما إلى ذلك، والموجودات الذهنية، وهي لا مادية، وغير موجودة إلا في الذهن، ولا يمكن أن توجد إلا فيه، كالماهية أيًّا كانت، وكالنسب أو العلاقات الضرورية بين الأشياء، وليست النسبة أو العلاقة شيئًا محسوسًا يدرك بحس ما. وينسحب هذا الدليل على الأفعال الإرادية كما تقدم، فإنَّ الإرادة تتجه إلى مطلق السعادة، وإلى خيرات لا مادية تفترض أفعالًا لا مادية وفاعلًا لا ماديًّا، كما أن الحرية دليل على التعقل والتجرد.

وعلى ذلك ليس الدماغ عضو الفكر، ولكنه شرط ضروري لتكوين الفكر، من حيث إنه مركز الصور الخيالية المفتقر إليها الفكر ليجرد منها المعاني ويركب الأحكام والاستدلالات. والاستقلال عن الدماغ بهذا المعنى، استقلالًا ذاتيًّا من حيث الوجود ومن حيث الفعل، لا يمنع تبعية خارجية للدماغ. وهذا وجه حق في المذهب المادي لا نريد أن نغفله، فإننا محتاجون إليه للكشف عن أصل المعاني المجردة؛ وإذا أغفلناه اضطررنا إما إلى إنكارها كالحسيين فنقع في خطأ جسيم، وإما إلى وضعها في الفكر ابتداءً كالتصوريين دون الاعتراف لها بقيمة موضوعية، وهذا خطأ لا يقل جسامة عن السابق.

وقد لخص ابن سينا هذه النظرية تلخيصًا دقيقًا رصينًا، فقال من جهة واحدة: «لا شيء من المدرك للجزئي بمجرد؛ كل إدراك جزئي فهو بآلة جسمانية؛ والخيال لا يتخيل إلا أن ترتسم الصورة الخيالية فيه في جسم.» وقال من جهة أخرى: «لا شيء من المدرك للكلي بمادي. إن الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا قائم بجسم على أنه قوة فيه أو صورة له بوجه (وإنما هو مجرد).» و«تعقل القوة العقلية ليس بآلة جسدية، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة، ولا بينها وبين أنها عقلت، ولكنها تعقل ذاتها وأنها عقلت، فإذن إنما تعقل بذاتها مع العلم بأن الحس لا يحس ذاته، ولا الخيال يدرك آلته.»٤ فليست نفس الحيوان مجردة أو روحانية؛ لأنها لا تدرك المجرد، وإن إدراك المشخص هو دائمًا بعضو جسماني متحد بالقوة المدركة؛ ونفس الإنسان تدرك المجرد، فهي مجردة غير متحدة بعضو.

هذه النفس المجردة الروحانية، هل هي جوهر قائم بذاته، كالملاك في تصور أفلاطون وديكارت؟ أم هي صورة الجسد تؤلف وإيَّاه موجودًا واحدًا هو الإنسان، كما تتألف سائر الماديات من هيولي وصورة، ثم تعود الصورة إلى الكمون بانحلال التأليف؟ لقد طال الخلافُ واشتد بين الأفلاطونيين وفريق من الأرسطوطاليين من جهة، وبين فريق آخر من هؤلاء يقال: إنهم اتبعوا ابن رشد. غير أن ما سبق لنا قوله من أن الإنسان طبيعة متوسطة بين الروح الخالص والحيوان الأعجم، يعني هنا أن نفسه روح تقوم بمهمة الصورة الجسدية. فالآراء في هذه المسألة ترجع إلى ثلاثة: الرأي الأفلاطوني، وهو روحانية حاسمة مسرفة؛ والرأي الرشدي، وهو وإن قال بوجود نفس ناطقة، إلا أنه سائر مع المادية ومسرف من الناحية المقابلة؛ ورأي الأرسطوطاليين المتوسطين المعتبرين النفس الناطقة جوهرًا معطيًا الجوهرية ما دامت متصلة بالجسد ومكملة له حتى يصير إنسانيًّا.

«الأنفس الإنسانية متفقة في النوع والمعنى» من حيث إن الصورة مجردة والمادة هي المتشخصة: فكيف تتشخص كل منها بأعراض خاصة، وتتميز بعضها من بعض بعد مفارقتها للبدن؟ يحدث التشخص من جهة «نسبة النفس إلى البدن»، فإنَّ الأنفس تنفرد باختلاف أبدانها وأزمنة حدوثها وسائر هيأتها.٥ هذا رأي ابن سينا، وهو الذي يبدو صوابًا: تتباين الأنفس في مختلف أحوالها، مع اتفاقها بالماهية، وتتفاوت كمالًا بتفاوت الأجسام في الكمال، تبعًا لأحوال الوالدين البدنية والمعنوية، وحال الجنين في تأثره بجميع العوامل، ومجاوبات كل نفس على المؤثرات.
وهذه النفس الروحانية ما أصلها؟ قلنا: إن النفس النامية والنفس الحاسة تخرجان من قوة المادة. ولا نستطيع أن نقول مثل هذا عن النفس الناطقة؛ فإنها أرفع من المادة، ومضادة لها بالطبيعة، فلا تخرج منها ولا تعود إليها. ولا سبيل إلى إثبات رأي أفلاطون من أن الأنفس الأرضية صنع أنفس الكواكب من مزاج وزعه عليها الإله الصانع؛ وهذا الرأي أقرب إلى الأسطورة منه إلى الفلسفة. ولئن كان أرسطو صاحب القول بأن الصور الطبيعية تخرج من قوة المادة وتعود إليها، فإنه يستثني العقل أو النفس الناطقة، فيقول: إنها تأتي من خارج؛ ولئن كان لم يعين هذا الخارج فإن عبارته تنأى به عن زمرة الماديين، وتحشره في زمرة الروحانيين المعتدلين، أولئك القائلين بنفس روحانية هي صورة للبدن. وقال ابن سينا: «تحدث النفس كلما حدث البدن الصالح لاستعمالها إياه.»٦ غير أن البدن يحدث — فيما يرى — بتكون العناصر الأرضية الخاضعة للحركات السماوية، فكأنه اعتقد بكفاية العناصر، ولو بفضل الموجودات العلوية، أو بكفاية هذه الموجودات، لإيجاد الأنفس بطريق غير مباشر، وهذا الرأي يعطي كثيرًا لأنفس الكواكب، بل يسند إليها خلق الأنفس الإنسانية كغيرها من الأنفس الأرضية، وسنقول الآن: إنَّ الخلق غير مقدور لمخلوق ما، فلا الحيوان يخلق بدن الحيوان بالميلاد، ولا الإنسان يخلق بدن الإنسان بأي نحو كان.

هذه آراء بعض المتقدمين. وهناك رأي أقرب منها عهدًا يشبه رأي ابن سينا من جهة كونه يفترض تكوين العلويات للأبدان النامية، وإنزال نفس نامية في كل بدن، فتبدو فيه ظواهر النمو، وتبدو ظواهر الحساسية، بتأثير تلك النفس النامية وبتأثير نفس خامسة تجيء بعدها. ثم تبدو ظواهر النفس الناطقة بتأثير نفس ناطقة تجيء بعد الاثنتين وقد أدتا رسالتهما. بيد أنَّ الانتقال من النامية إلى الحاسة لا يجد له تعليلًا مقبولًا ما دامت النامية أدنى من الحاسة، وعاجزة عن إعداد النامي للإحساس. كذلك الانتقال من الحياة الحاسة إلى الناطقة لا يجد له تعليلًا كافيًا لعين السبب.

المعقول أن الخليتين الأوليين (الذكر والأنثى) حين تلتقيان يُحدث كل منهما تفاعلًا يفضي إلى تكوين «الخلية» الأم وإلى خلق الله للنفس الناطقة في تلك اللحظة، ما دامت هي روحانية عالية على قوة المادة، وما دام الخلق غير مقدور للمخلوق، ولكنه ميزة الخالق وحده، الواجب الوجود لذاته، القدير على أن يمنح منه ما يشاء أو ما يقتضيه النظام الكوني الموضوع منه، فتتَّحد الناطقة بالخلية الأم، فتتعاقب أفعال الحيوات الثلاث المطوية في قواها كلما تهيأت لذلك الأعضاء، أي: تكوين الجنين. ومن المهم للغاية أن نفهم أن هذا التدبير من جانب النفس الناطقة يصدر بصفتها علة صورية، لا علة فاعلية تفكر وتقدر وتنفذ حسب التقدير والتفكير، كما فهم بعض الفلاسفة الذين وجدوا في هذا النوع من العِلِّيَّة اعتراضًا قويًّا على ضرورة وجود النفس، في حين أن العلية الصورية لا تقتضي أكثر من العمل الآلي طبقًا لرسم غائي مطوي في الصورة الجوهرية فائق على مقدرة المادة على التركيب والفعل، كما يبدو بكل وضوح في الأفعال الفسيولوجية، كضرب القلب والتنفس والهضم واندمال الجروح وما إلى ذلك. هكذا توجد النفس الناطقة في البدن، وهكذا تفعل.

(٧) النفس الإنسانية: خلودها

إذا كانت النفس الإنسانية مستقلة بوجودها وبفعليها الخصوصيين اللذين هما التعقل والإرادة، فمن البديهي أنها لا تفنى بفناء الجسد، ولكنها تبقى متعلقة مريدة مدركة ذاتها بذاتها؛ لأنها في هذه الحال بريئة عن المادة، ومن ثمة معقولة بالفعل، بعكسها في حال اتحادها بالجسد حيث هي غير مدركة ذاتها بذاتها. وتلك هي مسألة الخلود العظيمة الأهمية للأخلاق وللدين. وعلى أهميتها هذه فالفلاسفة كثيرون الذين ينكرون إنكارًا باتًّا بقاء النفس بعد الموت. أولئك هم أشياع وحدة الوجود، من قدماء الهنود إلى أيامنا، القائلون بعودة النفس إلى «الكل المطلق» وفقدانها الشعور بذاتها فيه، وأيضًا الماديون المنكرون للروح إطلاقًا، أو الحسيون أو الواقعيون أو التجريبيون إن سميناهم من جهة المعرفة، المنكرون لما يعلو على التجربة أو إدراك الحس أو إدراك الواقع؛ أو الظاهريون، إن سميناهم من جهة المعرفة كذلك، المنكرون للجوهر مادة أو روحًا. الخلود الحق المقصود هاهنا هو البقاء الجوهري الشخصي للنفس، سواءٌ مع تناسخ، تبعًا لرأي البراهمة والفيثاغوريين، أو دون تناسخ.

نعود إلى الدليل المشار إليه في أول هذا العدد، وهو دليل ميتافيزيقي، ونضيف إليه دليلًا نفسانيًّا مأخوذًا من ميل فينا طبيعي أساسي للبقاء دائمًا؛ ودليلًا خلقيًّا مستفادًا من ضرورة الجزاء التام على أفعالنا الحرة، فنقول: أولًا؛ إن النفس بسيطة غير مركبة من أجزاء يمكن أن ينفصل بعضها من بعض، والنفس الإنسانية روحانية، فينطبق عليها هذا السبب من باب أولى، فإن النفس الحيوانية، بل النفس النباتية بسيطة، ولكنها غير باقية على حيالها، كما قد بيَّنَّا، فليست تكفي البساطة لصيانة الوجود المستقل، على ما اعتقد ديكارت، بل تكفي الروحانية البادية في فعلي التعقل والإرادة، ما دام للنفس أفعال خاصة بها تقوم بها بدون وساطة عضو ما.

ونقول: ثانيًا؛ إن في الإنسان ميلًا طبيعيًّا أساسيًّا للبقاء إلى غير انتهاء، والميل الطبيعي الأساسي يرجع إلى طبيعة الكائن، وإذن فطبيعة الإنسان أن يظل حيًّا دائمًا. إن كل حاصل على العقل يشتهي بالطبع أن يوجد دائمًا، ويحس أن هذا الاشتهاء لا يمكن أن يكون عبثًا. هذا الميل نعرفه في أنفسنا وفي سائر الناس في جميع العصور: علاماته الرغبة في تأييد أفراحنا وأعمالنا واسمنا، والنفور من الموت، ذلك النفور الذي هو صورة أخرى للميل للبقاء، والدال عليه تكريم الموتى عند الشعوب قاطبة، والعناية بدفنهم، وتزويدهم بالمأكل والمشرب. ولا نقولنَّ: إن فكرة الخلود آتية من عدم كفاية خيرات العالم لإشباع شهوتنا، فإن النفس — لكونها تحس أنها خالدة — لا ترضى بخيرات العالم، وتطمح إلى خيرات لا تزول. ثم يمكن دعم هذا الدليل، أو إعطاؤه قيمة ميتافيزيقية، باعتبار أنَّ الكائن العاقل الذي يدرك الوجود مطلقًا، لا معينًا محدودًا زمانًا ومكانًا كإدراك الحس، ينزع بطبعه إلى الوجود الدائم، ولا يجوز أن يذهب النزوع الطبيعي سدى. بل إن هذا النزوع الطبيعي يظهر أيضًا في غير فكرة مطلق الوجود، أعني في فكرات الواحد والحق والخير والتجميل، أو لواحق الوجود، تلك الفكرات التي تبدو لنا كلية ضرورية، أزلية أبدية كالوجود نفسه.

ونقول ثالثًا: لكي يكون الواجب الخلقي مفهومًا وفعالًا، يجب أن يكون الإنسان خالدًا حقًّا، وإلا لم يوجد في الحياة الأرضية جزاء كافٍ على الأفعال الخلقية، لا من جهة الطبيعة، فإنها غير خلقية، غير مميزة بين الأفعال، غير مقدرة للجزاءات؛ ولا من جهة المجتمع، فهو لا يتناول سوى الأفعال الظاهرة، وهو مبني على الخداع؛ ولا من جهة الضمير، فإنه لا يحكم على نفسه، بل يحاول جهده التنصل من التبعة والتملص من العاقبة. ومن هذه الأوجه الثلاثة ما أكثر ما يشقى الصالح وينعم الطالح! فلا بد من حياة أخرى تتحقق فيها العدالة التامة ويسود النظام، وتكون هي رادعًا قويًّا.

هل يجوز القول: إن الله قد يعدم الأنفس بعد أن يمنحها هذه العدالة الكفاية من الثواب والعقاب؟ الحقيقة أننا نطمح إلى السعادة الكاملة كما رأينا، وأن لا نهاية مدتها عنصر جوهري فيها، وأن تناهي المدة منغص للسعادة، وأن الله هو الذي أودع النفس ذلك الميل إلى السعادة الكاملة، فكيف يحدها ويلاشيها؟ لئن كانت القدرة الإلهية غير المتناهية مستطيعة من هذا الوجه إعدام أي مخلوق، إلا أن القدرة المضبوطة بالحكمة والطيبة لا تسلب الموجودات ما فطرتها عليه، والله هو الذي خلق النفس الإنسانية روحية غير فاسدة.

ماذا يصير بنفس الإنسان في الخلود؟ يجب الاعتراف أولًا بأن المفارقة حال قسرية؛ لأن طبيعة الإنسان أنه نفس وجسد معًا؛ فالمعقول أن يعد الموت حادثًا قسريًّا، ويعد البعث ضروريًّا لإعادة الإنسان إلى طبيعته. فإن قيل: إن من المحال «جمع جميع أجزاء الإنسان التي كانت موجودة في جميع عمره» قلنا: إن استئناف خلق هذه الأجزاء «إيجاد لمثل ما كان لا لعين ما كان٧ لا سيما ونحن نعلم أن مادة الجسد تتجدد مرات خلال العمر، ويظل الشخص هو هو بنفسه. بيد أن هذا النزوع، وإن اعتبرناه طبيعيًّا، لا يصلح دليلًا على البعث، لاستحالة البعث على قوة الطبيعة، أي لاستحالة عودة الجسد عودة طبيعية إلى التركيب والتنسيق؛ والبعث معلوم لنا بالوحي، ومنوط بإرادة الله وقدرته. وكل ما يصلح له هذا النزوع هو التدليل على أن البعث لا ينافي طبيعة النفس، بل على العكس يلائمها.
كذلك لا فائدة ترجى عقلية أو خلقية، من النظرية المعروفة بالتقمص أو التناسخ، والمراد بها انتقال النفس الناطقة من بدن إلى آخر، أو إلى بدن حيواني أو نباتي، على ما هو مأثور عن الهنود والفيثاغوريين وأفلاطون٨ بحجة التطهير من أدران الشر، فليس من دليل على أن المعاصي المرتكبة في هذه الحياة يجب أن يكفر عنها في هذه الحياة؛ وليس من شهادة للوجدان بأننا قد مررنا بحيوات سابقة؛ ولا ضرورة لما يستشهدون به من أن تفاوت بني الإنسان في الصفات الفطرية ليس صنع الله الكلي العدالة، فهو نتيجة حسن استعمال الأنفس للحرية، أو سوء استعمالها إيَّاها من قبل، فإن لهذا التفاوت تفسيرًا آخر هو الذي عرضناه حين قلنا: إن النفس تتشخص باتحادها بالبدن وأعراضه، فإن البدن يتفاوت استعداده، فتتفاوت صفات النفوس. والمذهبان (البعث والتناسخ) يرجعان إلى واحد، ففي كل منهما «استعمال النفس بعد خلاصها من البدن بتدبير بدن آخر»٩ بل البعث خير من التناسخ، إذ إنه لا يقلب الإنسان حيوانًا أو نباتًا، بل يحفظ عليه طبيعته.

يبقى أن النفس الناطقة يعود إليها الجسد استكمالًا للطبيعة الإنسانية، وأنها تستأنف حياتها العقلية، ولو أن إشكالًا يعترضنا هاهنا، ويبدو أسهل حلًّا في المذهب الأفلاطوني الذي طالما نقدناه، منه في المذهب الأرسطوطالي الذي كثيرًا ما ناصرناه: ذلك أنه من المقررات الأساسية عند أرسطو أن النفس لا تتعقل شيئًا دون ملاحظة صورة خيالية مصاحبة للتعقل؛ أعني دون مشاركة ما من العضو الحاس الذي كانت الصور الخيالية محفوظة فيه، وليس للنفس المفارقة مثل هذه الملاحظة لزوال ذلك العضو، فالنفس لا تقدر أن تتعقل شيئًا في حال المفارقة، وهذا نقص خطير، على حين أنها في المذهب الأفلاطوني جوهر روحي بالذات، قد تحرر من الجسد وعاد إلى طبيعته المفارقة، وإلى تعقل المجردات بذاته.

لكن يمكن أن يقال من جهة أساسية: إن النفس تقدر أن تزاول التعقل بالمعاني المستفادة في الحياة الراهنة والمختزنة فيها، أي أن تتذكرها وتؤلفها بعضها مع بعض. ويمكن أن يقال من جهة فرعية مع اللاهوتيين: إن النفس تعقل على نحوٍ ما بمعان تقبلها من لدن الله، كما تقبل الملائكة المعاني المفاضة عليها.

هوامش

(١) آراء أهل المدينة الفاضلة ص٢٠ — وإيضاف ٧ وف٢٣.
(٢) تهافت التهافت ص٩.
(٣) كتاب الإشارات، أول النمط الثالث.
(٤) النجاة ص٢٨٠، ٢٨٥، ٢٩٢، ٢٩٣.
(٥) النجاة ص٣٠٢.
(٦) النجاة ص٣٠١.
(٧) الغزالي: تهافت الفلاسفة ص٣٥٨.
(٨) تقمص: لبس القميص؛ قمصه: ألبسه القميص؛ تقمصت الروح: انتقلت من جسد إلى آخر.
تناسخوا الشيء: تداولوه؛ تناسخت الأزمنة: تتابعت؛ التناسخ: انتقال النفس الناطقة من بدن إلى آخر.
(٩) الغزالي: تهافت الفلاسفة ص٣٥٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤