الفصل السادس

المفاجأة السارة

سار حسن بضع دقائق صامتًا حتى أشرف على باب المدينة، ومن ورائه المستنقعات والتلال وغابات النخيل. وفيما هو ينظر إلى ما وراء الباب إذا بشبح وقف له في الطريق هاتفًا باسمه فالْتفت حسن وقلبُه يخفق لشدَّة وَقْعِ ذلك الصوت على أذنه، ثم أمسك زمام جمله ونظر إلى الشَّبح فإذا هو امرأة، فحدَّثه قلبه بأنها سمية، فوثب على الأرض حتى وقف بين يديها، وتنحَّى عبد الله وقد أخذ بزمام الجمل وتَشَاغَل بإصلاح الرحل.

أما حسن فإنه نادى: «سمية؟!»

قالت: «نعم، ومن الذي معك؟»

قال: «هو خادم أمين لا تخافي منه. ما الذي جاء بك إلى هنا في هذا الليل؟ أأنت سمية حقيقةً؟! … ما ألطف هذا اللقاء وما أسعد هذه الساعة! سمية حبيبتي قولي ما بدا لك.»

فتَنَهَّدت وأسندت كتفها إلى حائط هناك وتشاغلت بإصلاح نقابها، وسكنت.

وقد سُرَّ حسن لسعيها إلى ملاقاته، ولكنه أوجس خيفة مما دعاها إلى ذلك لما يعهده في أبيها من الشَّدة والغلظة فقال لها: «إني لا أرى في هذه الدنيا أحدًا أسعد مني الآن، وقد بذلت الوسع في سبيل الحصول على هذه المقابلة فلم أَفُزْ، وها قد أتتني الساعة عفوًا فالحمد لله، ولكنني أخشى أن يكون لهذه المخاطرة سبب يسوء.» فتحيرت سمية ولم تدرِ بمَ تجيب، فلبثت صامتة، فازداد هو قلقًا وقال لها: «ما بالك؟ قولي، لعلك علمت بذهابي إلى مكة فخفت خطرًا يهددني هناك؟»

فلما سمعت ذكر الخطر أجابته والبكاء يخنق صوتها: «نعم أخاف عليك الخطر، ولكن ليس في مكة فقط بل …» وشرقت بالدمع فانقطع صوتها.

فتقطع قلب حسن ومدَّ يده فأمسك أناملها، وهي أول مرة قبض فيها على تلك الأنامل، فأحس برعشة تملكته وقال لها: «ماذا؟ قولي يا سمية، يا ملكة قلبي، هل تخافين عليَّ أحدًا في هذه المدينة أيضًا؟ إنك ما دمت لي لا تحبين سواي فلست أبالي بعد ذلك إذا كان أهل الأرض كلهم أعدائي!»

قالت: «وإذا كنت أنا عدوتك؟»

فحمل منها ذلك على قصد المزاح وقال لها: «إذا كنت أنت عدوتي فلا غرض لي في الحياة. بالله قولي ما في نفسك. ممن تخافين علي؟ فأريك دمه مسفوكًا ولو كان حوله جيش جرار. قولي.»

فتنهدت ومسحت دموعها بطرف نقابها وهي تقول: «لا أريد أن أرى دمه مسفوكًا.»

فتعجب وقال: «وماذا إذن؟ أفصحي يا سمية. قولي. ممن تخافين علي؟ فقد نفد صبري وطال تأخري عن الخروج من المدينة ولي صديق ينتظرني في الخارج. قولي.»

قالت: «إني أعد قولي عقوقًا مني، ولكنني أسيرة حبك لا أرى لي حياة إلا بك.»

فقطع حسن كلامها وقد أدرك ما تريده فقال: «قد فهمت ما تريدين، إنك تخافين على من أبي، أليس كذلك؟»

قالت: «نعم.» واستغرقت في البكاء حتى كاد يُغمى عليها، وكان هو ما زال ممسكًا بيسراها، فأمسك بيدها الأخرى وقال لها: «ولا هذا يهمني ما دمتِ تحبينني. هل تحبينني يا سمية؟»

فصعدت الزفرات ولم تجب، فقال: «فإذا كنا متحابين فمن ذا يحول بيننا؟»

وسكت برهة وقد عظم عليه الأمر ثم قال: «وما الذي دعا أباك إلى بغضي وإلحاق الأذى بي وأنا لم أرتكب منكرًا ولا أسأت إليه في شيء؟!»

قالت: «ذنبك أنك أحسنتَ إليه، أو لعلَّ ذلك من سوء حظي. ولكن ما لنا ولهذا، إن الوقت لا يأذن بطول الشَّرح، فأخبرك أن أبي لا يريدك، وأخاف أن يسعى في أذاك، وقد علمت ذلك على أثر خروجك من منزلنا، فأردت إطلاعك على جلية الخبر لتكون على بصيرة.»

قال: «أما إلحاق الأذى بي فإني لا أخافه، ولكنني أخاف أن يلحق الأذى بك أنت.»

قالت: «لقد أظهرت له الطاعة والرضا ريثما أراك ثم أفعل ما تأمرني به.»

فأطرق حسن ثم قال: «إني مغلول اليدين بما أخذته على نفسي من أمر السفر إلى مكة عاجلًا في مهمة لرجل أحبه وله عليَّ فضل كبير. وكنت أحب أن أدعوك للذهاب معي ولكنني ذاهب إلى مكان به الحرب قائمة فلا أريد تعريضك لهذا الخطر.»

فقطعت كلامه قائلة: «وكيف تعرض نفسك للخطر؟ إن مكة اليوم في أضيق حصار وأهلها في ضنك شديد. بالله ألا عدلت عن الذهاب ثم تفعل ما تريد؟»

قال: «أما الذهاب فلا بد منه، فامكثي أنت هنا وأظهري الطاعة حتى أعود ونرى ما يكون. ولست أخشى بأسًا ولا خطرًا ما دمت لا تحبين سواي.» ثم سمع جعجعة الجمل فانتبه للوقت وقال لها: «كنت أود ألا نفترق منذ الآن ولكنَّ للضرورة أحكامًا. وسأرسل عبد الله معك إلى منزلك؛ لأن الليل قد أظلم ولا آمن عليك المسير وحدك، فهل تسيرين إلى بيت أبيك؟»

قالت: «لا، ولكن أعود إلى بيت سكينة؛ لأن أبي يعلم أني سِرْت إليها فإذا استبطأني سأل عني هناك فأعتذر عن تأخري، وذلك من غير أن يراني عائدة إلى البيت وحدي في هذا الليل. ولكن كيف أفارقك؟»

قال: «تشددي يا سمية، إن سفري هذا لا بد منه، ولكنه سيكون آخر الأسفار بإذن الله ثم نعود ونعيش معًا.»

فلما قال ذلك بكت سمية حتى سمع صوت بكائها فانفطر قلبه، وكاد يشاركها البكاء لولا أنه تجلد وقال لها: «لا تبكي يا سمية، بل اتكلي على الله واعلمي أني عائد إليك على عَجَل.» قال ذلك ونادى عبدَ الله وقال له: «أوصل سمية إلى بيت سكينة، ثم الْحق بي في الطريق المؤدي إلى العقيق، فإني سابقك إلى هناك، فقد أبطأت على سليمان وأخاف أن يكون قد سبقني أو عاد إلى منزله.»

•••

سارت سمية وهي تقول لحسن: «سِرْ في حراسة الله، وأسأله أن ينصرك على أعدائك.» وظلَّ صوتها يرن في أذنيه حتى توارت عنه، فركب جمله وساقه إلى باب المدينة ولم يكن مقفلًا فالْتفت يمنة ويسرة فلم يرَ سليمان.

فخرج وهو يمشي الهوينا ويصيخ بسمعه لعله يسمع صوتًا، وجعل يحدق بعينيه لعله يرى أحدًا، فسار والجمل دليله بين تلك المستنقعات ولكنه لم يَسِرْ طويلًا حتى سمع جعجعة جَمَلٍ عن بعد فاستوقف جمله وأصاخ بسمعه، وحوَّل الزمام إلى جهة الصوت، وساق الجمل سوقًا بطيئًا، فمشى به بين النخيل والظلام سادل ستاره والسكوت سائد، فلم يكن يسمع غير وقع خفاف الجمل على العشب أو الطين.

وبعد قليل سمع حسن صوت بكاء وأنين، فوقف وأصغى، فسمع صوتًا عميقًا، وخشي أن يجعجع جمله فيشوش الصوت فترجل عنه وعقله وشده إلى نخلة، ثم مشى على قدميه وهو يتلمس الأرض مخافة أن يخوض في الأوحال حتى تحوَّل عن الطريق الأصلي إلى ساحة لا نخيل فيها ولا عشب، فرأى جملًا معقولًا وشبحًا متوسدًا إلى جانبه وفوق رأس الشَّبح شبح آخر يبكي وينتحب، فاختبأ حسن في منعطف بحيث يرى ويسمع ولا يراه أحد، فسمع صوتًا يقول: «يا لتعاستي وشقائي! لقد فتكت بك يا ولدي وفلذة كبدي، إني لأستحق هذا القصاص. ولكن ما ذنبك أنت؟ تبًّا لي، ما أتعس حظي! ولدي! حبيبي! كلمني يا سليمان. سليمان … سليمان!»

فلما سمع حسن اسم سليمان علم أنه صديقه، فاقشعر بدنه وخشي أن يكون قد أصابه سوء بسببه، فنهض ومشى ويده على قبضة سيفه حتى أقبل على الشَّبحين ولم ينتبه له أحد.

ثم سمع الشَّبح الراقد يقول بصوت ضعيف: «لا تحزن يا أبي فقد ذهبت فداء صديق لي هو أحق بالحياة مني.»

فقال الآخر: «أظنك تعني هذا الشَّقي لأنه وفى بعهده. إني عاهدت الله على نصر الحسين والقتال في سبيله وجعلت نفسي في عداد التوابين، ثم رجعت لخدمة هؤلاء الطغاة، وكثيرًا ما رأيتك غير راضٍ بذلك، فلم أكن أصغي إليك حتى ضربني الله هذه الضربة على قلبي!»

فتحقق حسن أن الراقد سليمان، وأنه في ضيق، فلم يتمالك عن أن صاح قائلًا: «سليمان؟!»

فأجفل الرجل الجالس وحسب الجن تخاطبه، فوقف للحال وقال: «إنسيٌّ أنت أم جِنِّيٌّ؟» وكان الرجل كهلًا في نحو الستين من عمره والشيب قد جلَّل رأسه، وهو طويل القامة دقيق العضل قصير اللحية صغير العمامة. ولم يتم الرجل سؤاله حتى كان حسن بين يديه وقد أكبَّ على سليمان وهو راقد على ظهره وفوقه القباء وقد تلطخ بالدم، فتفرس في عينيه فإذا هو يفتحهما فتحًا ضعيفًا ويتألم، فأمسكه حسن بيده وقال له: «سليمان؟ أخي سليمان! ماذا أصابك؟!»

وكان لذلك الصوت وقْع عظيم على أُذني الجريح، ففتح عينيه وصاح: «حسن؟! أشكر الله على أن جعلني فداءك.»

ولم يتم سليمان كلامه حتى تقدم الرجل الآخر وقال: «حسن؟ أنت حسن؟! يا لله ما هذه المصيبة التي نزلت بي بسببك، ولكن الذنب ليس ذنبك وإنما هو ذنبي، أنا الشَّقي التعس!»

فأدرك حسن أن الكهل والد سليمان، وأنه كان يترصده فأصاب ابنه خطأ. فصرف عنايته إلى إنقاذ حياة سليمان، وحاول أن ينهضه قائلًا لأبيه: «إليَّ بالماء.» فجاءه بشيء منه من مستنقع قريب، فرش به وجه سليمان وغسل موضع الجرح في أعلى الصدر، وكان قد أُصيب بنبلة أخرجها أبوه.

وكان حسن قد تعلَّم بعض الوسائل الطبية من معاشرة خالد بن يزيد الأموي في دمشق؛ لأن خالدًا كان شديد التعلق بالعلوم الطبية حتى فاق بها سائر قريش، وكان بصيرًا بصنعة الكيمياء والطب متقنًا لهما، وألَّف في ذلك بعض الكتب والرسائل، وقد أخذ العلم عن راهب اسمه «بانس». ولم يكن مجلس خالد في دمشق يخلو من أهل العلم، فكان حسن يجالسهم ويسمع أقوالهم.

فلما غسل الجرح ضغطه، وأمر أبا سليمان بإيقاد النار فأوقدها بالزناد، ثم انتظر حسن حتى تكون بعض الرماد فأخذ قليلًا منه وذَرَّه فوق الجرح وربطه.

ثم سأل عن ماء للشرب فقال الرجل: «ليس معي قربة.»

فقال حسن: «اسند ظهره لآتيك ببعض الماء من قِربتي.» قال ذلك ونهض، ثم تحوَّل نحو النخلة التي عقل جمله عندها فلم يجد الجمل هناك فطار صوابه؛ لأنه كان قد ترك كتاب خالد بن يزيد في مخبأ بالرحل الذي فوق الجمل حرصًا عليه، وهذا إلى أن الجمل كان عزيزًا عنده وعليه عدته وثيابه والماء وكل شيء. على أنه لم يشأ أن يضيع الوقت وسارع إلى اقتفاء أثر الجمل، وكان قد لاحظ أن حلَّ عِقال الجمل لا يدل على حدوث عنف، فتبادر إلى ذهنه أنه لم يعقله عقلًا متينًا فانحلَّ من تلقاء نفسه، وانطلق الجمل هائمًا على وجهه أو يطلب المرعى هنا وهناك.

وسار حسن في طلب الجمل مضطربًا خائفًا؛ لأنه غريب في تلك البلاد، ثم وقف ونظر إلى ما حوله من الغياض والبساتين والظلام حالك، فلاح له ظلٌّ يتراءى بين النخيل أمامه، فتفرس جيدًا وأصغى بسمعه فسمع هدير جمل هناك فأخذ طريقه إليه، ولاحظ أن ذلك الشَّبح يبتعد، فسارع السير في إثره وهو يتعثر بالأعشاب والأحجار ونظره شاخص إليه، وما زال يمشي والشبح يمشي أمامه حتى خرجا من بين النخيل إلى الفلاة، فما كاد حسن يتفرس في الشَّبح حتى أدرك أنه هو جمله فواصل السير في إثره، وكان الجمل أجفل من المطاردة فأسرع في سيره، وظلَّ سائرًا مدفوعًا برغبته في القبض عليه حرصًا على ما يحمله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤