مقدمة الطبعة الثانية
الكتاباتُ الدينية في كثيرٍ منها تنشغلُ بالحديث عن الغيب وعوالمه، وكلِّ ما يشير ويرمز إليه، من شخصيات وكتب وأماكن وأزمنة وأشياء مقدسة، وتستغرقُ في الحديث عن ذلك العالَم المحجوب عنا، إلى الحدِّ الذي تنسَى فيه الإنسانَ نسيانًا كليًّا، وأحيانًا تُعطِّل عقلَ الإنسان إلى الحدِّ الذي يتيه في اللامعقول. الكتاباتُ التي لا تؤمن بالغيب تنشغلُ بالإنسان، وتتمحور حول احتياجاته المادية. وأحيانًا تنسَى احتياجاتِ الروح والقلب والعاطفة، كما تنسَى الغيبَ نسيانًا كليًّا، وتجهل ما يرمزُ إليه في عالمنا.
أكثرُ الكتاباتِ المتمركزة حول الإنسان تنسَى الدين، وأكثرُ الكتاباتِ المتمركزة حول الدين تنسَى الإنسان. الدينُ يبدأ باكتشاف الإنسان وإعادة تعريفه ليصل إلى الغيب، ولا يبدأ بالغيب ليصل إلى الإنسان. يحاولُ اكتشافَ الإنسان أولًا، في ضوء معطيات الفلسفة والعلوم والمعارف البشرية المتنوعة والمتجدِّدة، ليحدِّد ما هو مادي من احتياجاته، وما هو عقلي، وما هو عاطفي، وما هو روحي. لا يتجاهلُ الكتابُ أن أحدَ احتياجات الإنسان الأساسية هي الحاجةُ للاتصال بالله والإطلالةُ على آفاق الغيب، ليرتوي ظمأ الروح، ويطمئن القلبُ بالإيمان، وتشبع احتياجاته للمعنى الذي يوقظ الروح والقلب والعقل.
هذا كتابٌ ينطلقُ من الإنسان إلى الدين، مفتاحُ فهمه للدين ونصوصه هو الكرامةُ الإنسانية بوصفها مقصدَ مقاصد الدين. الإنسانُ يولَد مُكرَّمًا، لا يكتسبُ الإنسانُ الكرامةَ بعدَ ولادته، الكرامةُ توجدُ بوجودِ الإنسان وتلبث معه أبدًا حيثما كان. الكرامةُ رديفةُ الاستخلاف، خليفةُ الله في الأرض جعله قَيِّمًا وحافِظًا ووكيلًا ونائبًا عنه في الأرض.
يرى هذا الكتابُ أن تجديدَ فهم الدين يتطلب: إعادةَ تعريف الإنسان، وإعادةَ تعريف الدين، وإعادةَ قراءة نصوصه في أفق العصر، وإعادةَ تحديد وظيفته في الحياة، والكشفَ عما يمكن أن يقدِّمَه الدينُ للإنسان من احتياجاتٍ روحية وأخلاقية وجمالية، وما يترقبه الإنسانُ من عواطفَ ورفقٍ وشفقة ورحمة يمنحُها الدينُ للحياة، وما يُلهِمُه للروح من سكينة، وللقلب من طمأنينة.
كتابُ الدين والكرامة الإنسانية وغيرُه من كتاباتي تتبنى تعريفَها الخاص للدين، بوصفه: «حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنًى روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية.» حيثما يرِد الدينُ في كتاباتي فإنه يبتني على هذا التعريف، ويؤسِّس عليه كلَّ شيء أقوله وأكتبه في الدين. من هذا التعريف يبدأ الدينُ وإليه ينتهي، هو المعيارُ الذي يجري اختبارُ وفاء الدين بوعوده في ضوئه، وعلى أساسه يتم اختبارُ تعبيره عن معناه في حياة الفرد والمجتمع. هذا الفهم للدين مفتاحُ فهم النصوص الدينية لديَّ، وقَبول أو رفض ما تشكَّل من تراثٍ متنوِّع وواسع لشرحِها وتفسيرِها وتأويلِها.
بعد أشهر من صدور الطبعة الأولى لهذا الكتاب وازدياد طلب القُراء عليه يصدرُ بطبعة جديدة. كلُّ طبعةٍ تخضع لمِبضع الجراحة مجدَّدًا، أعود للمراجعة والتدقيق والتنقيح والتمحيص. أعرف أن كلَّ كتابة لن تبلغ كمالَها ولن تصل إلى نهاياتها؛ لأن كاتبَها ليس كاملًا. تحمُّلُ الكاتب لمسئولية الكتابة يفرضُ عليه أخلاقيًّا أن ينشغلَ بما يكتب، ويعطي كلَّ ما يمتلكه من قدرة وخبرة متراكمة حين يكتب، وأن يكون صادقًا مع ضميره، صادقًا مع الناس، صادقًا مع الله.
ليست هناك كتابةٌ مكتفية بذاتها، أعترفُ أن كتابتي جهدٌ لا يختصُّ بي ولم أنجزه وحدي. للقُراء الأذكياء دورٌ مهم في ترصينها وإثرائها وتكاملها. إنها جهدٌ يشتركُ فيه كلُّ مَنْ يقرؤها وهي مخطوطة وبعد نشرها، وينبهني إلى الوهن في شيء من كلماتها وعباراتها وأفكارها، ويقترح استبعادَها، أو معالجتَها، أو توضيحها، أو إثراءَها، أو التدليل عليها، أو اختزالها.
ما يسعدني هو تواصُل قُراء أذكياء أتعلَّمُ من إشاراتهم وتنبهاتهم ومقترحاتهم، ذلك هو ما يحفِّزني لإعادة النظر في كلِّ كلمة أو جملة كتبتُها في أحد نصوصي لأعود لتمحيصها مجدَّدًا. ما يُشعرني بالرضا لحظةَ قراءتي الأفكار في كتاباتي هو إدراكي بأنها نضِجَت في الذهن، بعد أن أثمرَتْها عمليةُ تفكير حرة، وغربلَتها واختبرَت واقعيتَها تجاربُ عملية، وتفاعلَت بآفاق مطالعات متواصلة في شتى ألوان المعرفة، قبل التعبير عنها ورسمها على الورق.
ما أكتبُه يظلُّ مفتوحًا ينضَجُ ببطء وهدوء، ولن يصل إلى نهاياتٍ مغلقة. لا تكون الفكرةُ ناجزةً مكتملة قبل أن أشرعَ بالكتابة، أدقُّ الأفكار تتبلورُ وتتجلى حالةَ الكتابة، وحالةَ العودةِ ثانية إلى الكتابة. انشغالُ لغتي بصياغة العبارات وانتقاءِ الكلمات، ليس أقلَّ من انشغال ذهني بالتفكير والتأمل والسياحة في تكوُّن وصيرورة الأفكار، خاصة إن كانت هذه الأفكارُ تتضمن فكرةً أو نقدًا أو مصطلحًا صغتُه، ولم يصادفني قبل ذلك في مطالعاتي.
يظلُّ النصُّ مفتوحًا ينمو باستمرار تبعًا لآفاق الكاتب، وانطباعات ونقد القارئ، تثريه المزيدُ من القراءة والمراجعة والتأمل. يتطور النصُّ بالتدريج ويتكامل، وإن كان لن يبلغ نهاياتِه ويكتفي بذاته مهما امتدَّ عمرُ الكاتب. الكتابةُ لا تُولد مكتملةً عند الكاتب الجاد، الولادةُ الأولى لحظةَ الفراغ من الكتابة تليها سلسلةُ ولادات متوالية. النصُّ كائنٌ حيٌّ يظلُّ مفتوحًا يتكثفُ ويتوالد، تثريه من جهة مثابرةُ الكاتب، ويقظةُ ضميره الأخلاقي تجاه القُراء من جهة أخرى، ويصفِّيه من الشوائب نقدُ القُراء الخبراء، ويضيء إبهامَه ما يعزِّز رصيدَ لغة الكاتب من قراءاتٍ نوعية. وتُثريه من جهةٍ أخرى النصوصُ المشتقة منه. النصُّ الرصين يظلُّ ينمو ويتكامل، ولن يبلغ مدَيَاته القصوى.
بغداد ٢ /٢ /٢٠٢٢م