التلميذ

«دروت» الذي كان قائدًا عظيمًا في جيش نابليون الأول، كان في طفولته ابن خباز فقير في مدينة «نانسي» بفرنسا، اجتاز أطواره المدرسية في ظروف قاسية وأيام شديدة، حيث كان أبواه في غاية الفاقة وشدة الاحتياج لم يسمحا له بالذهاب إلى المدرسة إلا على شرط أن يقوم بجميع أعماله اليومية خير قيام عند عودته منها. ولهذا فقد كان حتمًا عليه، بعد الرجوع من المدرسة، أن يقوم بتوزيع الخبز على عملاء أبويه، وأن يساعدهما في بقية الأعمال، وكان يقضي بقية يومه وشطرًا من ليله في إنجاز أعمال كثيرة شاقة، ولا يجد فرصة لأعماله المدرسية، سوى بضع سويعات متأخرة من الليل، يشاهَد فيها الفتى دروت وهو منكب على دروسه، يلتهمها على ضوء نور الموقد … ولكن هذه العقبات وهذه العراقيل لم تستطع أن تعوق هذا الفتى عن النجاح، أو تقف في طريقه إلى بلوغ المعالي … فقد تغلب عليها بذكائه المتوقد، وحزمه الفذ، وقوة إرادته النادرة، واستطاع هذا الفتى القروي الفقير، العديم وسائل التعليم كلها، أن يشق طريقه الوعر وأن يصل إلى هدفه مكللًا بالنجاح …

دعونا نستمع إليه يحدثنا بنفسه عن أول اختبار شارك فيه، وهو مسابقة الانخراط في سلك المدرسة العسكرية التي مهدت له السبيل إلى المجد حتى أصبح قائدًا عظيمًا من قواد نابليون خلد ذكره التاريخ.

قال: حينما كنت ذات يوم، مارًّا في شوارع نانسي أُوَزِّع الخبز على عملائنا؛ إذ لفت نظري منشور كبير مثبت على جدار إحدى المباني، يحتوي على إعلان للمدرسة الحربية تعلن فيه موعد مسابقة الالتحاق بها، الذي سيُجرى في مدينة «ميتز».

وحدثتني نفسي بالاشتراك في هذه المسابقة، والالتحاق بهذه المدرسة الحربية، ولكن كيف يمكن ذلك وقد كان أبواي في غاية الفاقة والاحتياج؟!

فلم يكن مدخولهم اليومي يقوم بسدِّ حاجتنا الضرورية، ولكن تحصلت مع ذلك على ترخيص منهم بالسفر لتأدية الاختبار، وتحصلت كذلك على مبلغ عشرة فرنكات، وهو كل المدخر عندنا. وكان المبلغ زهيدًا جدًّا لا يكفي لأجرة الركوب، فضلًا عن المصاريف الثانوية الأخرى، ولم أجد بدًّا من السفر ماشيًا على الأقدام.

وصلتُ مدينة «ميتز» يوم المسابقة نفسها وتوجهت لفوري إلى قاعة الاختبار، وما كدت أبدو في القاعة التي كانت حافلة بعدد كبير من التلاميذ والأساتذة، حتى تلقاني هذا الجمع الغفير بعاصفة شديدة من الضحك والسخرية. والحق أن حالتي كانت تدعو إلى أكثر من ذلك، فقد كنت نحيفًا ضعيفًا، تكسو ملابسي الريفية المرقعة طبقة كثيفة من غبار الطريق، أحمل في يميني عصا غليظة، منتعِلًا نعلًا ريفية خشنة تحوطها طبقة من الأوحال.

وقفت مضطربًا في وسط القاعة بين ضجيج الضحك والسخرية، ولم أنتبه إلا وأحد المختبرين يخاطبني برقة وشفقة، ردت إليَّ بعض جأشي: ضللت سبيلك، من دون شك يا صديقي؟ … ماذا تريد؟ … قال لي الرجل الطيب القلب هذا الكلام، فأجبته على الفور: أريد أن أشارك في المسابقة يا سيدي!

وما كدت أنطق بهذه الكلمات حتى ارتفع ضجيج الضحك والسخرية من جديد في جميع أركان القاعة.

– ولكن هل تدري أنها مسابقة المدرسة الحربية؟ (قال المختبِر بلطف) وأنت على علم بدون ريب، بالشروط والمواد المعلنة في البرنامج.

– سيدي درستها كلها! … (أجبته متلعثمًا).

وأجابني السيد: إذن تفضل اجلس، يا ابني وانتظر، فعندما يأتي دورك أدعوك!

ذهبت أنزوي بعيدًا في أحد الأركان، ولكن الضحك والسخرية اللاذعة كانت تلاحقني أين ما حللت، ورغم ما كنت فيه من الخجل والاضطراب أخذت أنصت بإمعان إلى أسئلة المختبِرِين وأجوبة الطلبة، وما هي إلا لحظة حتى أحسست بروح جديدة تدب في جسمي النحيل حيث يتبين لي أنه في استطاعتي الإجابة على هذه الأسئلة كلها.

وأخيرًا جاء دوري، وسمعت المختبِر ينطق باسمي، وما كدت أقف أمام لجنة الاختبار، حتى امتلأت القاعة بالفضوليين الذين أتوا من هنا وهناك لمشاهدة اختبار الفتى القروي.

ابتدرني المختبِر يسألني في قواعد الحساب، وكانت أجوبتي متتابعة، بدون انقطاع ولا اضطراب، حتى سكت المختبِر وسألني متعجبًا: أين درست الحساب؟

– درسته منفردًا يا سيدي! على ضوء موقد مخبزنا، وإذا تفضلتم بسؤالي في بقية البرنامج، أرجو أن تجدوني مستعدًّا للإجابة!

وامتد اختباري ما يقرب من الساعتين، وما كدت أنتهي حتى قام الرجل من مقعده وتوجه نحوي حيث ضمني إلى صدره وهو يردد! … أقدم إليك تهنئتي وإعجابي يا بني! وأعتقد تمامًا بأنك ستكون أحد طلبة المدرسة الحربية النجباء!

لا يستطيع أحد أن يتصور السرور الذي غمر قلبي في تلك الساعة! ولكن سرورًا أعظم منه كان ينتظرني، وشرفًا لم أكن أتوقعه كان مستعدًّا للقائي: وهو أن جميع الطلبة الذين ضحكوا مني وسخروا بي، تقدموا نحوي وحملوني على أعناقهم في موكب رهيب، حيث طافوا بي مدينة ميتز كلها هاتفين باسمي، كان ذلك اليوم أسعد يوم في حياتي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤