العِصامي

لا تنتظر مني أيها القارئ أن أعرض عليك هنا شخصية من الشخصيات البارزة التي ساعدها الحظ فارتفعت إلى الذرى في ميادين المال والأعمال، وأقول لك أيها القارئ لا تنتظر مني ذلك لأني أعرف أنك تعودت أن ترى مجتمعك لا يصف بالعصامية إلا هذا الصنف من الرجال، فكل فقير أثرى، وكل وضيع ارتفع (ولو نزلت عليهما الثروة والجاه من السماء دون كد أو جد) هما عصاميان عندنا يستحقان منا كل التبجيل والاحترام. وانحرفت هذه الكلمة عن مدلولها حتى كادت تختص بهذه الطائفة الخاصة من الشخصيات المرتجلة، مع أن العصامية أعم وأشمل، وهي الإرادة الحديدية والعزم القوي والاعتماد على النفس، وعدم الاستسلام للإخفاق وما يجره من يأس، والمثابرة على العمل إلى بلوغ النجاح الذي ينشده، والمثل الأعلى الذي يأمله، مهما كان نوع هذا العمل ومهما كان كنه هذا النجاح.

إن عصامينا هذا لم يصل إلى الثروة، ولم يصل إلى الزعامة، وإنما توصل إلى ما اعتقده مثلًا أعلى، وتوصل إلى ما أراده وتمناه باذلًا جهودًا جبارة وعزيمة فولاذية لا تقلان عن عزيمة وجهود أي من عظماء العالم …

كان صاحبنا واسمه عبد الباقي، عاملًا فلاحيًّا بسيطًا يستأجره أصحاب الحقول والبساتين لخدمة الأشجار، ولا يكاد يعرف البطالة طيلة السنة وذلك لما عُرف به من النصح في العمل، ولِما منحه الله من قوة البنية وصحة الجسم والعقل.

التحق عبد الباقي في صباه بمكتب قرآني تعلَّم فيه الكتابة والقراءة، وحفظ أجزاء قليلة من القرآن، ولم يستطع مواصلة التعليم؛ لأن والده انتقل إلى رحمة الله، واضطرته لوازم العيش إلى احتراف العمل في الحقول والمزارع مقابل أجر يومي زهيد. ولكن الرجل خُلق عصاميًّا له مَثل أعلى في الحياة يريد أن يصل إليه وله رغبات نفسانية شريفة يودُّ تحقيقها مهما كلفه من الجهد غير مبالٍ بالعوائق الكثيرة التي تعترض طريقه.

كان لعبد الباقي — أو للشيخ عبد الباقي كما يسميه مواطنوه — فكرة تُخامر ذهنه منذ الصغر: وهي أن يتزعم حركة التربية والتعليم القرآني في بلدته. وشيخ الكُتاب في بلدته هو كل شيء، يحترمه السكان ويبجلونه ويلجَئُون إليه لحل مشاكلهم، يعيش في شرف وعز تقف دونهما سلطة القضاء والحكم خاضعة ذليلة …

استولت على أفكاره هذه الرغبة فعمل على تنفيذها، ولم يقف الفقر ولا حاجته إلى العمل حَجَر عثرة في طريقه، فاشترى مصحفًا واشترى لوحًا خشبيًّا وقلمًا ودواة وانكب على حفظ القرآن مع مواصلته العمل، فيعمل شطرًا من الليل في إعداد لوحه وكتابته حتى إذا ما أصبح الصباح حمله معه وانكب على حفظه. وكان يشاهَد وهو مرتقٍ أعلى الأشجار أو عاملًا في الحقول ولوحُه مربوط إلى حزامه يلجأ إليه كلما ألزمه الأمر إلى مراجعته. قضى سنين وهو على هذه الحالة، إلى أن شاع أمره فأُعجب به قوم وهزئ به آخرون، ولكن الرجل لم يُعنِه إعجاب المعجبين ولا سخرية الساخرين، بل استمر قدمًا يتابع سبيله ويواصل العمل بالعمل والليل بالنهار إلى أن حفظ القرآن حفظًا متقنًا وصلى به صلاة التراويح، ثم احتل حجرة في المسجد وفتح كُتابًا قرآنيًّا وأخذ يُعلم القرآن، يعلمه بشدة وقوة محاولًا دائمًا ابتكار طرق جديدة لتعليمه، وأخذ يُعلم الصبيان في النهار والكبار في الليل، ولم يعهدوا في قريته تعليم الكبار فضرب لهم مثلًا بنفسه، مثلًا حيًّا ناطقًا، فكثر الإقبال عليه وتوصل إلى أن تزعَّم حركة التعليم في القرية لا ينازعه فيها منازع.

ارتاح الشيخ بعض الشيء إلى ذلك، ولكن التقدم العلمي جرَّف القرية، فقد نزل بها شبان أتوا يحملون فنًّا جديدًا تعلموه في جامع الزيتونة بتونس، اسمه النحو، واحتل بعضهم سواري المسجد، وتصدوا لإلقاء دروس فيه، وتعليم مباديه لمن يرغب في ذلك. تحدث الناس بهم ولهجوا بذكر فنهم الجديد، وقالوا إن الشيخ عبد الباقي لا يحسن النحو … علم الشيخ بذلك وغاضه أن تُنتزع منه الزعامة العلمية، ينتزعها منه شبان في سن الأطفال الذين يتولى تعليمهم، وصرَّح في مجمع كبير أنه يحسن النحو وهو يتحدى خصومه لتدريسه دون الالتجاء إلى كتاب ما، وضرب لهم موعدًا لذلك، وبادر بالتحصيل على نسخة من شرح الشيخ خالد على الآجرومية؛ لأن الآجرومية متنًا وشرحًا هي البضاعة الوحيدة لخصومه. وانكب على الشيخ خالد يحفظ ما فيه من متن وشرح غير عابئ بفهم عباراته ومعانيه، وحل الموعد ونزل الشيخ إلى المسجد الذي ضم جمعًا غفيرًا من المعجبين والفضوليين، وألقى الشيخ درسه بصوت جهوري دوَّى له المسجد، فكان يسرد الفقرات من المتن ثم يتبعها بما يليه من الشرح، كل ذلك دون الالتجاء إلى كتاب، ونجح في الاختبار واستولى من جديد على زمام الزعامة العلمية، وكان هذا الحادث فاتحًا جديدًا له ففتح له أبوابًا كانت موصودة دونه وعرف أن حفظ القرآن ليس هو كل العلم بل هناك علوم وفنون أخرى عليه أن يخوض غمارها. ولم ينتظر طويلًا، فبادر لحينه بدراسة النحو دراسة متقنة، ثم انكب على الفقه المالكي فحفظ خليلًا وطالع مرارًا شُراحه وحواشيه، كما درس التجويد والقرآن والفرائض ومعلومات عديدة، واستعان على ذلك بشيخ ضرير لا يدري أهل القرية من أين أتى به، أنزله عنده وخدمه وقام بجميع لوازمه. كل ذلك ولم يتخل يومًا عن عمله في الكتَّاب أو يختل يومًا برنامجه واتسعت دائرة عمله حيث لم يكتفِ بتعليم القرآن، بل أخذ يُعلم مبادئ شتى العلوم والفنون التي تعلمها، وللرجل قدرة غريبة على هظم ما يتعلم وقدرة أغرب على ابتكار طرق جديدة مبسطة لتعليمه.

كان الشيخ عبد الباقي لا يقبل التحدي ولا يرضخ لهزيمة مهما كانت قوة التحدي وعظم الهزيمة. وله في ذلك نوادر عديدة، منها أن كبار تلاميذه في مكتبه القرآني يحلو لهم في بعض الأحيان أن يتخلفوا عن الكُتاب لقضاء يومهم في لهو ولعب، ولكن الشيخ كان دائمًا يحرمهم من متعهم حيث يأتي بهم ولو كانوا في أقصى الحقول والبساتين، وهو يعرفها معرفة جيدة وقد قضى عز شبابه عاملًا بها. فدبروا هذه المرة خطة محكمة، وهي السفر إلى قرية مجاورة في الحافلة الوحيدة التي تقوم بنقل الركاب صباحًا لتعود في المساء مارة بتلك القرية التي تبعد عن قريتهم بخمسة عشر ميلًا، وبهذا فقط يأمنون تدخل الشيخ في إفساد راحتهم المغتصبة. نَفَّذَ التلاميذ خطتهم وحان موعد القراءة، وتبين الشيخ غياب التلاميذ، وبعد البحث والاستقصاء استجلى الخبر، وعرف التفاصيل، وتهامس الحاضرون من التلاميذ باستسلام الشيخ للأمر الواقع، وقالوا إنه لا يجد حلًّا للقضية إلا أن ينتظر الغد لعقابهم، وذهبوا يتخيلون العقاب ويبتسمون ابتسامات خبيثة فَهِمَ الشيخ معناها، ولكن هذا الرجل الذي لا يقبل التحدي فاجأهم بما لم يتوقعوه فقام لحينه بتكليف أكبر التلاميذ بمراقبة الكُتاب وتوجه إلى القرية المجاورة ماشيًا على الأقدام وعاد بالتلاميذ في حالة يرثى لها من التعب والخذلان.

•••

كان الشيخ عبد الباقي يقول إنه الوحيد الذي كسب من التعليم، وفعلًا فقد تمكن من شراء بساتين ودار لسكناه وتزوج وأنجب أطفالًا، ولكنه رغم كل ذلك لم ينقطع عن الأعمال اليدوية، فلا زال يباشر خدمة بستانه بيده دون الالتجاء إلى مساعدة أحد، والرجل يتمتع بقوة ويتمتع بصحة. وكان ذات يوم يقوم ببناء جدار في بستانه بمساعدة بعض المحظوظين من تلاميذه؛ لأن المحظوظ هو الذي يختاره الشيخ لمساعدته في أعماله، وما كاد يحل المساء حتى ارتفع الجدار، وكان الشيخ لا يحسن البناء ولهذا لم يلبث هذا الجدار حتى انهار، لكن الشيخ الجبار عارضه بصدره العريض وساعديه المفتولين يحاول إمساكه، وغاضه أن ينهار عمله بين يديه، ولكن قوة البناء تغلبت على قوته، وانقض الجدار فوقه فألزمه الفراش أيامًا وكانت آلام الهزيمة في نفسه أقوى من آلامه الجسمانية ورضوضه الجسدية، ولهذا ما كاد يتماثل إلى الشفاء حتى كلف مساعده بالكتاب القرآني، وانقطع لتعلُّم البناء حتى حذقه وأتقن فنونه وقام بعدة مقاولات تخص بعض البنايات في القرية وخارجها إلى أن قهر البناء وانتقم من الجدار الذي ألزمه الفراش أيامًا ثم عاد إلى أعماله العلمية وابتسامة النصر تعلو شفتيه.

•••

تخرَّج على يد الشيخ عدد وافر نجحوا كلهم في مختلف ميادين الحياة واستفادوا من عزيمته الحديدية وإرادته الفولاذية أكثر من استفادتهم من معلوماته، وكانوا جميعًا يحبونه ويحترمونه ويخضعون له، كما كانوا في عهدة التلمذة والطفولة، فلم يتغير شيخهم في نظرهم، ولم يتغيروا هم كذلك في نظره رغم المناصب المختلفة التي أحرزوا عليها.

كان الشيخ عبد الباقي يتمتع بنفسية عالية جدًّا، اشتهر بها وتحدث بها العام والخاص، فهو لا يحط همته لأحد، ولا يلتجئ إلى كائن من كان في قضاء حاجة أو طلب شيء مهما كانت حاجته شديدة إلى ذلك، فكل شيء لا يستطيع التوصل إليه بنفسه، وكل قضية تستدعي الوساطة (ولو وساطة أقرب الناس إليه) يلغيها ويحكم بعدم لزومها ويعدها من الكماليات التي لا لزوم لها ويحذفها من برنامج حياته مهما كانت ضرورية وحاجته إليها ماسة، وعاش بذلك عزيزًا مكرمًا شامخًا بأنفه إلى السماء، ولا أدري بماذا كان يفكر حينما أدركه الموت، وكيف قابل تحدي عزرائيل. ولكن الذين شاهدوه في لحظاته الأخيرة، قالوا إنه قبل التحدي بابتسامة تدل على الرضا والاطمئنان، ولسان حاله يقول: الآن أخضع وأنحني باحترام فقد لاقيت حقًّا من يقهرني …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤