رجل من الناس

«زمرة الأصدقاء» — كما يسمون أنفسهم — هم عبارة عن نفر من الشبان من أوساط الشعب، وحدت بينهم فضائلهم، لأن الفضائل وحدها هي التي تستطيع أن توحد بين القلوب توحيدًا متينًا لا يقوى الانفصام على زعزعة أركانه … وجمعهم اتحاد مشاربهم ونبل مقاصدهم، وآخى بينهم صفاء قلوبهم ورقة عواطفهم، فأصبحوا مثلًا للأخوة الصادقة، والصداقة الخالصة، ورمزًا عظيمًا للمحبة والوفاء، تجمعهم كل يوم — بعد انتهاء أعمالهم — مجالس الأنس والسرور، لا يكاد يغيب واحد منهم إلا افتقدوه وتفقدوه.

كان خالد — الذي لا يفارقهم أبدًا، ولا يتخلف عن مجلسهم — رجلًا غريب الديار يعرفون أنه نزح إلى هذه البلاد منذ سنين بمفرده، وكل ما يعرفون عنه أنه أعزب، وجاء من بلاد نائية لم يشأ أن يحدثهم عنها طيلة اتصاله بهم، وأنه «رجل من الناس» لا أكثر ولا أقل، كما يقول عن نفسه، كلما سأله أحد عن أصله وموطنه، ولم يخطر يومًا على بال أحدهم أن يلح عليه في الكشف عن ماضيه، مكتفيًا بحاضره، وقد ملك الرجل عليهم مشاعرهم بلطفه وأدبه وعطفه وكرمه، وأنه (رجل من الناس) وحسبهم ذلك، ويعلمون فوق ذلك أنه عامل مثلهم، يشتغل بالكتابة عند تاجر جشع بمرتب زهيد، رغم سعة معلوماته وكرم أخلاقه وإخلاصه في عمله الكثير، ويحس الجميع بتألمه من حقارة مركزه وضآلة مرتبه الذي يوزع جله على الفقراء والمساكين، ولم يعرفوه يومًا رد سائلًا، أو اشتكى لهم الفاقة والاحتياج، فالابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه، فهو دائمًا في مرح وسرور، يمازح هذا، ويحادث هذا، يسأل ذا ويجيب الآخر. وهكذا كان نزهة مجلسهم وأنس حياتهم، يلتفون حوله كل مساء فيتصدر جمعهم ويظل يحادثهم ويباسطهم والجميع سابحين في جو مرح كله غبطة وكله سرور …

كان الناس ينظرون إلى هذا النفر من الأصدقاء نظرات مختلفة، فمنهم المعجب بهذه الصداقة وهذا الائتلاف، ومنهم الحاسد على هذا الصفا وهذه المودة، وكم حاولت جيوش الحسد بغارتها الشعواء أن تفكك عرى صداقتهم، وكم حاولت ألسنة السوء أن تشتت جمعهم دون جدوى، ولم يزدهم كلام الناس إلا ابتعادًا عن الناس وصحبةً وارتباطًا، ولم تزدهم محاولات الحساد إلا توطيدًا لدعائم الصداقة والمودة.

•••

«خالد» شاب في العقد الثالث من عمره يتمتع بثقافة متوسطة جامعة، أخذ من كل فن حظًّا وافرًا، سليم الطبع حلو الفكاهة، كريم النفس، ذو همة عالية وأخلاق فاضلة، تعلو شفتيه ابتسامة عذبة لا تكاد تفارقه إلا إذا خلا إلى نفسه وتعمق في بحور أفكاره، فتغمره سحابة من الكآبة والحزن لا يعرف أحد مصدرها … وكثيرًا ما تجده في أشد حالات السرور إذ ينتقل فجأة إلى حالة حزن وكآبة ويغيب بفكره عن جماعته، فينتبهون لذلك ويصيح الجميع مازحين: كم عدد البواخر التي غرقت لك في البحار يا خالد! علها كانت تحمل بضاعة كثيرة؟

وينتبه خالد من غفوته، ويعود إلى نفسه ومجلسه، فيرد على النكتة بأحسن منها، ثم تسمع سعلته الخفيفة المعتادة، التي يسميها جماعته «صفارة الإنذار» يرسلها كلما أراد الخوض في أمر معهم، فينقلب المجلس بغتة من المزاح إلى الجد ويفتح الجميع قلوبهم وآذانهم كأنهم تلاميذ سذج، ويبتدرهم خالد بقوله: إني لا أكاد أفكر في نفسي يا إخواني وأهتم بأموري الخاصة بقدر ما أفكر في مصائب الغير وأحوالهم التعيسة، فكل شيء في هذه الدنيا ينسيني أحزاني وآلامي، تحزنني هذه الفضيلة التي أصبحت قشورًا دون لب، مظهرًا دون مخبر، أصبحت زيًّا يتزين به الإنسان أمام الناس، ويخلعه إذا ما خلا إلى نفسه، وبذلك أضاف الإنسان رذيلة النفاق إلى رذائله العديدة، أصبحت الفضيلة أثاثًا ماديًّا يرثه الابن عن أبيه، ويشتريه ذو المال بثمن زهيد، فلم تعد الفضيلة شعارًا ساميًا يرتديه كل من عصمه الله من الرذائل، فمسخت الفضيلة غير الفضيلة وانتزعت روحها، فلم يبقَ سوى جثمانها جثة هامدة لا روح لها ولا إحساس …

وهكذا يسترسل خالد في تحليل مساوئ المجتمع ونقده، وإبداء نظرته إلى الحياة، وجماعته يؤمنون على قوله، وبدا بذلك، شاذًّا عن هذه البيئة التي قُدِّر له أن يعيش فيها، وزد على ذلك صراحته التي عُرف بها والتي كثيرًا ما تحرج قلوب بعض الناس الذين تجمعه الظروف بهم، رغم محاولاته دائمًا في الابتعاد عن هذه الطائفة من العباد الذين لا تحلو لهم الحياة إلا في جو من النفاق والكذب، وربما خرجت به هذه الصراحة إلى حدة سببت له متاعب مادية وأدبية لا يحتفل بها ولا يلتفت إليها …

•••

هكذا عاش هذا «الرجل من الناس» مع الناس، وشاع خبره بينهم، فرغب البعض في التعرف إليه والاتصال به، بينما زهد آخرون في الاجتماع به مكتفين بما يشاع عنه من خير وشر، أما هو فقد اكتفى بجماعته البسيطة لا يريد عنهم بديلًا، ولكن كل ذلك لم يمنع الناس من التساؤل عن أصل هذا الرجل العجيب، مدفوعين بدافع الفضول، فمن أين أتى؟ وإلى أي عائلة ينتمي؟ وفي أي بلد نشأ؟ ولم يجرؤ أحد منهم على سؤاله، فإن حدة لسانه وحدة أعصابه أخرست ألسنة الفضوليين. وعاش خالد في أكناف هذا الغموض كما أراد واشتهى، واستمرت حياته متتالية متشابهة لا يكاد يختلف يومه عن غده، راضيًا بمصيره لا يتبرم ولا يشتكي، قانعًا بمدخوله الزهيد وحجرته المتواضعة ومجتمعه البسيط.

وذات يوم … زار زائر أجنبي خالدًا … علم به كل من في البلدة، رغم أن زيارة الرجل القريب كانت حقيقة مقتضبة وفي ليلة حالكة الظلام، أشاع خبرها جار لخالد، لم يتعود منه استقبال زوار في حجرته لا ليلًا ولا نهارًا …

وذهب الناس يتساءلون عن هذا الزائر وعن أسباب زيارته، ولزم خالد الصمت فلم يذكر شيئًا قليلًا ولا كثيرًا عن هذه الزيارة، ولم يشأ الخاصة من أصدقائه أن يستوضحوه أمره ما دام رغب هو في الكتمان، ثم لم يتعودوا منه أن يدخلهم في شئونه الخاصة … رغم أنهم لاحظوا عليه تبديلًا واضحًا، حيث أصبح الرجل في وجوم متواصل، يتكلف الابتسام والدعابة. وبدأ الشحوب على قسمات وجهه جليًّا مما يدل على أنه يقاسي أزمة شديدة يخفي أمرها على الجميع، ولكن راعهم منه أنه لم يغير من عاداته ومجالسه وأحاديثه شيئًا، واستمر على هذه الحالة أيامًا عديدة كانت بالنسبة له قرونًا طويلة لا نهاية لها، يعد دقائقها وثوانيها …

وذات صباح علمت البلدة كلها بخبر الشرطي السري الذي ألقى القبض على خالد ونقله معه في سيارته إلى حيث لا يدرون …

وغدا الناس أيامًا، وهم يتكهنون محاولين كشف السر ومعرفة جرمه … فمن قائل إنه جاسوس يعمل لحساب دولة أجنبية، وأجاب آخرون: إن الجاسوس لا يلزم بلدة صغيرة سنوات عديدة، لم يُعرف عنه أنه فارقها منذ استوطنها … وقال آخرون إنه مجرم أثيم، يتستر تحت رداء الفضيلة وحمايتها.

غير أن الذين عرفوه واتصلوا به عن كثب ردوا عنه هذه التهمة واستبعدوا منه صدور الجريمة، وذلك لما يعرفون فيه من الأخلاق الفاضلة والعواطف السامية … وهكذا كثرت التكهنات والتخيلات، ولكن أحدًا لم يستطع أن يجزم أنه أصاب كبد الحقيقة وتوصل إلى معرفة السر الخفي …

ومرت الأيام وأسدل النسيان ستائره على حادث خالد، فنسيه الناس حتى الخاصة من أصدقائه وجلسائه، وانتقل الجميع من الحديث عنه إلى أحاديث أخرى أكثر جدة وطرافة.

وهكذا عاش «رجل من الناس» بينهم لغزًا غامضًا، واختفى لغزًا غامضًا دون أن يترك لهم مفتاحًا لحل طلسمه الغامض الخفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤