الأستاذ

مسرحية في فصل واحد

«كان عبد الحق عاملًا بسيطًا من عامة الناس، أميًّا، لم يتلقَّ من العلوم شيئًا، لا قليلًا ولا كثيرًا … لا يعرفه أحد سوى زملائه في العمل وبعض جيرانه في الحي المتواضع الذي يسكنه لضآلة مركزه الاجتماعي ولانصرافه عن الناس بالكد في سبيل العيش.

وذات يوم توفي عمه الثري — وكان وارثه الوحيد — فاستولى على جميع أمواله وثروته الطائلة، وأصبح من كبار الأثرياء، يشار له بالبنان، وما كاد يشيع الخبر حتى تجمهر الزوار على باب داره من مهنئين، ومتسولين، وفضوليين.»

•••

(المنظر: قاعة فسيحة في دار عمه التي ورثها، مؤثثة بأثاث شرقي من زرابي وأرائك، يبدو عبد الحق في صدر القاعة، وهو رجل في العقد الخامس من عمره ضخم الجثة مرتديًا أثوابًا جديدة فضفاضة لبسها على عجل دون ترتيب ولا نظام.)

(عبد الحق – «سلمان الخادم»)
عبد الحق : سلمان! … سلمان …
سلمان : نعم سيدي … أمرك؟
عبد الحق (وحده) : نعم سيدي … أمرك … ما أعذبها من كلمات … (لسلمان): سلمان، أنت الذي قضيت جل حياتك مع عمي رحمه الله، وفي خدمته، أرشدني لما يجب علي عمله من لباس وأحاديث وغير ذلك، فإني لا أريد أن أظهر بمظهر الغباء أمام الناس، وأنت على كل حال، لك خبرة بحياة القصور وحياة كبار الأثرياء مثلي … ولا يخفاك هذه الجموع الغفيرة من الزوار!
سلمان : ما دمت قد لجأت إلي يا سيدي واسترشدتني، فإن نصيحتي إليك هي أن تغلق بابك في وجوه هؤلاء الزوار، ولا حاجة لك بهم، فإنك لن تستفيد منهم شيئًا يعود عليك بالنفع …
عبد الحق : لا … لا … لا داعي إلى ردهم، فإنهم لن يكلفوني أكثر من فنجان من القهوة وقطعة من الحلوى، ثم إن الخير كثير … إني لا أوافقك على ذلك … لا تغلق الباب، دعهم يأتون، فإني في حاجة إليهم، أتعلم عليهم الحياة الجديدة حياة الأثرياء وخيرة الناس.
سلمان : إن خيرة الناس يا سيدي عبد الحق، لا يأتون إليك ولا يعبَئُون بك ولا بمالك، وثِقْ من أنه لا يهتم بك إلا ذو المطامع المختلفة في أموالك.

(يُسمع طرق على الباب.)

عبد الحق (يعتدل في جلسته ويصلح من هندامه) : سلمان! … أسرع … افتح الباب لهؤلاء الزوار … وأعد لهم القهوة والحلويات … أسرع …
سلمان : أمرك يا سيدي (يخرج ويعود صحبة ثلاثة شبان).
السلام عليكم؛ هذا وفد الأدب والفن يا حضرة الأستاذ جاءك زائرًا ومهنئًا …
عبد الحق : أهلًا ومرحبًا بكم … تفضلوا … سلمان أحضر القهوة والحلويات للسادة … (سلمان يخرج).
ما مهنتكم؟
زكي : نحن أدباء يا حضرة الأستاذ الجليل …
عبد الحق : إنكم تجهلون اسمي على ما أظن، فإن اسمي «عبد الحق» وليس اسمي «الأستاذ».
زكي : إن اسمكم مشهور عند عامة الناس وخاصتهم «كأنه علم في رأسه نار».
عبد الحق (يلمس رأسه) : يا لطيف! … في رأسي نار!
زكي : وإنما لفظة الأستاذ، تعبير الأدباء ولقبهم المبجل، يلقبون به من شاءوا من الأفاضل والمثقفين، ولا ريب عندنا في أنكم من كبارهم …
عبد الحق : من كبارهم … هيه من كبارهم … الخير كثير … هيه، وما معنى أدباء هذه؟
زكي (متلعثمًا) : أدباء؟ … يعني … أدباء! … يعني أناس كبار …
عبد الحق : ما ألطفكم! … وما أعذب كلامكم من كلام … وهل يمكنكم أن تجعلوا مني أديبًا مثلكم؟ إن لدي مالًا كثيرًا!
زكي : يا سلام … مال كثير … نتشرف … نتشرف يا سعادة الأستاذ الجليل أن نجعلكم رئيسًا علينا وإن الآداب والفنون تتشرف وتفتخر اليوم بسعادتكم … ومن ذا الذي ينهض بها غيركم؟
عبد الحق : الخير كثير … تستطيعون أن تعتمدوا علي، يكون خيرًا إن شاء الله … وماذا أعمل؟
زكي : يا سلام! السؤال الجميل … أولًا: بلغنا يا حضرة الأستاذ، أنكم تنوون — في هذه الأيام — زفاف ابنتكم على شخص من عامة الناس لا يمت للأدب والفن بصلة.
عبد الحق : هذا صحيح … إنه قريبي، يدعى ناصر، سيتخرج قريبًا من مدرسة الصنائع، إنه قريبي وليس من عامة الناس …
زكي : مدرسة الصنائع! … رجل عمل! … رجل غليظ! … رجال الأعمال يا سعادة الأستاذ، لا يصلحون للأدب … ولا يخفاك، إن بنت الأديب لا تتزوج إلا أديبًا مثله …
عبد الحق : عجيب، بنت الأديب لا تتزوج إلا أديبًا؟!
أحد الشبان : أجل … ذلك هو قانون الأدب كما لا يخفاك!
عبد الحق : فاتني ذلك … وكيف العمل الآن؟
أحد الشبان : الأولى أن تعدلوا عن هذا الزواج، وتبحثوا لابنتكم عمن يليق بها من رجال الآداب البارزين …
عبد الحق : هذا حق … أبحث لها عمن يليق بها من رجال الآداب البارزين … سأفعل ذلك …
أحد الحاضرين : إن الأستاذ زكي لأولى بها من غيره، وهو أديب بارز، فاضل، ذو مركز اجتماعي عظيم، يشرفها ويرفع من مقامها …
زكي (في تواضع) : أستغفر الله … أنا لست غنيًّا، ولا أظن نفسي كفئًا لها، لأن هذا العصر عصر المادة والمال …
أحد الحاضرين : وأي شيء المال بالنسبة لثروتكم الأدبية الطائلة يا أستاذ زكي …
زكي : أنا لا أقول شيئًا، الكلمة للأستاذ عبد الحق …
عبد الحق : الحق مع السيد … الخير كثير … لا يهمك المال … الخير كثير …
زكي : الخير كثير … ما أحلى هذا الكلام من فمك يا سيدي الأستاذ … الخير كثير … كلمة عذبة … وعليه فإنني أشكركم على حسن ظنكم بي، وإن هذا — لعمري — لمن أجل المساعدات للآداب والفنون! … لأن الأدب لن يترقى إلا برقي رجاله … ولا يسعنا إلا أن نستأذنكم في الانصراف ونحن منتظرون إشارتكم لعقد القران …
عبد الحق : بارك الله فيكم … سأخبركم بذلك في الوقت المناسب …

(يسلِّمون عليه وينصرفون.)

عبد الحق : سلمان! … يا سلمان!
سلمان (يظهر) : نعم سيدي، ماذا تريد؟
عبد الحق (في تعاظم) : ماذا أريد؟ … قبل أي شيء لا أسمح لك من اليوم أن تلقبني بهذه الألقاب البالية! … ألقاب عامة الناس …
سلمان : حسنًا يا سيدي، بأي اسم تريد أن أدعوك؟
عبد الحق : «بالأستاذ» … ادعني بالأستاذ … قل ماذا يريد الأستاذ، هذا هو لقبي الجديد، لقب كبار الناس …
سلمان : أستاذ … لقب جديد، إني لم أفهم يا سيدي، ماذا تعني …؟
عبد الحق : أجل إنك لا تفهم … وقد قضيت طول حياتك خادمًا … لقد كان وفد الأدباء — كبار الناس — عندي هنا، وقد لقبوني بهذا اللقب وجعلوني رئيسًا لهم …
سلمان (ضاحكًا) : أولئك المحتالون النصابون … إني أعرفهم جيدًا يا سيدي، وأعرف أعمالهم …
عبد الحق (صارخًا) : اخرس! … أيها الوقح … تصف الأدباء كبار الناس بالاحتيال … إذن أنا محتال مثلهم ما دمت رئيسًا لهم؟
سلمان (في حيرة) : عفوك يا سيدي … سامحني أخطأت …
عبد الحق (هازئًا) : عفوك يا سيدي! … ألم أمنعك الآن من تلقيبي بهذا الاسم؟ … قل عفوك يا أستاذ!
سلمان : نعم … نعم … نسيت، عفوك يا أستاذ! سامحني يا أستاذ …
عبد الحق : أحسنت، لقد سامحتك هذه المرة … على ألا تعود إلى مثله …
سلمان : ثم ماذا؟ … يا … يا أستاذ …!
عبد الحق : ثم إني سأُزوج زينب على الأستاذ زكي؛ لأن بنت الأديب لا تتزوج إلا أديبًا مثله، هذا هو قانون الأدب …
سلمان : لكن يا سيدي …
عبد الحق : لكن … ماذا؟!
سلمان : لكن يا أستاذ! و«ناصر» قريبك وخطيبها؟
عبد الحق : ناصر … رجل أعمال … قانون الأدب يمنعه من التزوج بها … ذلك هو قانون الأدب …
سلمان : إنك مخطئ يا سيدي فيما عزمت عليه وستندم.
عبد الحق : يا للوقاحة … يا لقلة الأدب … أتجرؤ علي أيها الخادم وتقول مثل هذا الكلام في حضرتي … أنا الأستاذ؟ … اغرُب عن وجهي …

(زوجته «رتيبة» تسمع الصياح والضوضاء فتدخل مستفسرة.)

رتيبة : ما هذا الصياح؟ … ماذا جرى؟
سلمان : تعالي يا سيدتي لتسمعي العجائب! … أظن أن سيدي أصيب في عقله! … إنه يهذي منذ لحظة، يقول: إنه أستاذ، وأديب … وقال يريد أن يزوج زينب من رجل محتال، أعرفه جيدًا، يقول عنه سيدي إنه أديب كبير ولا أدري ما لنا ولهؤلاء الأدباء.
عبد الحق : أما تنتهي أيها الوقح من إهانتي، وجرح كرامتي، ألم أأمرك بأن لا تدعني بغير لقب الأستاذ؟ … ثم بأي حق تتطاول بكلامك هذا على رجال الأدب؟
رتيبة (لزوجها) : ماذا يا عبد الحق؟ … أصحيح ما قاله سلمان …؟
عبد الحق : لا تقولي عبد الحق، أيتها المرأة القليلة الأدب! … قولي «الأستاذ».
رتيبة (صارخة باكية) : وا مصيبتاه! … حقًّا، لقد أصيب الرجل في عقله!

(تظهر ابنتها زينب.)

زينب : ماذا جرى يا أماه؟ أأصيب أبي بمكروه؟
عبد الحق : لماذا تقولين أبي أيتها الشقية! … ولا تقولين «الأستاذ» اتفقتم كلكم على تجريدي من لقبي المبجل، لقب الأدباء وكبار الناس …
زينب : أدباء؟ … أي شيء أدباء هذه؟
عبد الحق : أدباء … لا تعرفين الأدباء …! هم الذين أريد أن أزوجك أحدهم؛ لأن بنت الأديب لا تتزوج إلا بأديب؛ هذا هو قانون الأدب …

(يدخل ناصر خطيب زينب فتسرع رتيبة نحوه باكية.)

رتيبة : الحقنا يا ناصر يا ابني، إن عمك أصيب في عقله فإنه لم يفتر من الهذيان منذ ساعة، يقول عن نفسه إنه من رجال الأدب، وإنه يريد زواج زينب من أديب مثله، ويأبى أن ندعوه بغير «الأستاذ».
ناصر (يطمن عمته ويتقدم من عبد الحق) : ما هذا يا سيدي الأستاذ! هل من جديد؟
عبد الحق (مرسلًا زفرة) : الحمد لله … ها قد أتى أخيرًا من يقدرني، ويعرف مقامي … تعالَ يا ابني انظر لهؤلاء الجهلاء! … جعلوني مصابًا في عقلي لأني منعتهم من إهانتي، وأرغمتهم على احترام لقبي المشرف الذي أهداني إياه وفد الأدباء هذا الصباح!
ناصر : اعذرهم يا أستاذ، إنهم لا يعرفون قيمة الأدب ولا يعرف قيمة الأدب إلا أهله!
عبد الحق : وهل أنت أديب يا ناصر؟
ناصر : بالتأكيد … ومن الكبار …
عبد الحق : حمدًا لله … كنت أظنك غير ذلك، ولهذا عزمت على أن أزوج زينب غيرك؛ لأن قانون الأدب — كما لا يخفاك — يمنع أن تتزوج بنت الأديب غير الأديب …
ناصر : هذا حق … إني أعرف ذلك ودرسته جيدًا.
ثم هل يمكن أن يكون قريب الأديب، أو زوجه، أو ابنته وحتى خادمه قليلي الأدب؟
عبد الحق : صحيح، لقد فاتني ذلك … إذن كلنا أدباء؟
ناصر : ومن يشك في ذلك … كلنا أدباء وأنت السبب في ذلك.
عبد الحق : أنا السبب … أجل أنا السبب … اذهب إذن وادعُ القاضي ليعقد قرانكما وليبارك الله فيكما وفي أبنائكما ويجعلهم من كبار الأدباء والأساتذة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤