الكتاب الثاني: السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي

(١) منشؤه وشبابه

يحيط جوٌّ من الإبهام حول نشأة يوسف بن أيوب ونسبه؛ وذلك شأن كل رجل ينبغ من صفوف العامة فيبلغ أقصى ذُرى العظمة، وقد حاول بعض مَنْ كتبوا عنه أن ينسبوه إلى أسرة عريقة وعِرق شريف، ولا يسع الإنسان إلا أن يبتسم عندما يرى أمثال هؤلاء المتحمسين من الكُتَّاب يوصلون نسبه إلى معد بن عدنان بل إلى آدم — عليه السلام.

على أنه لا يغض من قدره أننا لا نستطيع أن نتعدَّى في نسبته الجد الأول؛ فهو يوسف بن أيوب بن شادي، وليس بعد شادي من الأسماء ما نقدر على التثبُّت منه.

figure
صورة صلاح الدين الأيوبي (خيالية).

كان أبوه وأهله من قرية «دوين» في شرق أذربيجان، وهم من بطن «الروادية» من قبيلة «الهذانية»، وهي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد. ويظهر أن جدَّه شادي نزح بولديه — أيوب «نجم الدين» وشيركوه «أسد الدين» — إلى بغداد، ثم نزل بتكريت حيث مات شادي، وقد نشأ الأَخَوَان بعد ذلك والتحقا في خدمة متولي الشحنة بالعراق «مجاهد الدين بهروز» الذي كان متوليًا من قِبَل السلطان مسعود بن غياث الدين محمد بن ملك شاه السلجوقي. ثم انتقل نجم الدين أيوب إلى خدمة عماد الدين زنكي صاحب الموصل أول أبطال دول الأسلال الجديدة، وصار حافظ قلعة بعلبك أو «دزدارها»، فلما قُتِلَ زنكي انتقل نجم الدين إلى خدمة صاحب دمشق، والتحق أسد الدين أخوه بخدمة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، وهو إذ ذاك صاحب حلب؛ ورثها حظه من دولة أبيه بعد موته، وكان له أخ ورث نصيبه الموصل وما يليها وهو سيف الدين غازي بن زنكي، وفي أثناء تلك الحوادث وُلِدَ لنجم الدين وَلَدٌ سماه يوسف، ولعل ولادته كانت في ليلة خروج أبيه من تكريت إلى خدمة عماد الدين زنكي، وذلك حوالي ١١٣٨ للميلاد/٥٣٢ﻫ، وقد نشأ في كنف أبيه بدمشق، وظل أبوه هناك إلى أن أوغل نور الدين بفتوحه إلى الجنوب واستولى على دمشق فانضم إلى خدمته، وكان إذ ذاك يوسف قد ترعرع وصار فتًى في السادسة عشرة من عمره، فدخل في خدمة نور الدين مع أبيه وعمه، وكانت مخايل النجابة ظاهرة عليه، فكان نور الدين يؤثِرُهُ ويقرِّبه، ويلوح أن الفتى كان حادَّ الذكاء له عقل ناقد، فأدرك ما في طبع سيده من كرم وعلو وشهامة، وجعل يأخذ نفسه بما أعجبه من صفاته.

على أننا لا ننكر أننا لسنا نقدر أن نعرف عن شباب صلاح الدين شيئًا كثيرًا، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان أحد صغار الملحَقين بالجيش، فلم يكن دونه مجال للعمل والظهور إلى جانب الكبار من قواد الجيش وشجعانه، وكان جيش نور الدين في هذا الوقت يحوي جماعة كبيرة من المبرزين الشجعان، وليس يذكر لنا صلاح الدين شيئًا عن شبابه إلا أنه كان يترحَّم عليه ويحنُّ إليه، وذلك أمر طبيعي لكل كبير السن إذا نظر إلى الشيب وعجزه. وأما غير ذلك فلا نسمع السلطان فيما بعدُ يذكر عن أعماله شيئًا في وقت صغره، ويمكن أن نعزو هذا إلى حسن بصره وتواضعه؛ فأكبر الظن أنه يأبى أن يذكر لنفسه شيئًا في وقت كان فيه صغيرًا بين كبار يُجلُّهم ويعرف لهم فضلهم، وأول ما يذكره التاريخ عن شباب يوسف بن أيوب وقت اشتراكه في الحملة على مصر مع عمه أسد الدين شيركوه.

ولا نملك النفس عن ذكر حقيقةٍ نراها قد تساعد على أن تُظْهِرَ إلينا صورة ذلك الرجل قريبةً من الوضوح؛ وذلك أنه قد كان في شبابه يُسيم سرح اللهو حيث يُسيم أمثاله من الفتيان؛ فإنه تاب عن الخمر وغير ذلك من اللهو — وهو في مصر — بعد أن حمل عبء الوزارة وصار من رجال الأمر، فخلع عنه ما لا يليق به في مكانته الجديدة، وهل من الغريب ألا يكون الشباب معصومًا؟! وهل ينقص من الرجل أنه كان يتذوَّق اللهو حلوًا في جهله وسَوْرة شبابه فإذا هو شعر بالواجب وثقله رمى عن نفسه لهوها وفرغ إلى واجبه يتذوَّق حلاوة القيام به بنفس الهزَّة التي كان يشعر بها في لهوه؟! على أنه بقي إلى آخر حياته محتفظًا بالمَيل إلى لذات أخرى لا عار من أن يلذَّها الرجل؛ فقد كان منذ شبابه مُغْرَمًا بالصيد: صيد الظباء في الصحراء، وسماع الأدب الطريف في المجالس الحافلة بالأصدقاء أو بالعلماء وأهل الفضل.

وكان أول عهده بالعمل الجدِّي خروجه إلى مصر في صحبة عمه أسد الدين شيركوه في سنة ١١٦٤ للميلاد/٥٥٩ﻫ وسنُّه نحو ست وعشرين سنة.

(٢) الحملات إلى مصر

ذهبت الحملة الأولى إلى مصر لمساعدة شاور في أبريل سنة ١١٦٤م/٥٥٩ﻫ، وهَزَمَ الجنود الأتراك الذين مع شيركوه جيشَ ضرغام عند بلبيس، وسارت الجنود المنصورة إلى القاهرة، وهناك وجد ضرغام نفسه مخذولًا وليس حوله مَنْ يثق به أو يركن إليه، وتخلَّى عنه الخليفة الذي كان لا يَثبُت في جانب وزير مقهور، وله في ذلك العذر؛ إذ لقد كان الوزراء أيام قدرتهم لا يرعون له حقًّا بل يجعلونه أشبه شيء بالأسير في قصره، وكانت آخرة ضرغام على يد شعب القاهرة؛ إذ ثار به فاحتزَّ رأسه قرب مشهد السيدة نفيسة، وتمَّ النصر لشاور منافسه.

على أن شاور بعد ذلك رأى الأمر قد تمَّ كما أحب، فلم تَعُدْ به حاجة إلى حلفائه: شيركوه ومَنْ معه، وكان قد احتاط لنفسه فجعل جيش شيركوه خارج القاهرة قرب النيل، ولم يتحرَّك إلى الوفاء بما كان قد تعهَّد به لنور الدين؛ فبدأت مشادَّة بينه وبين حلفائه السابقين أدَّت إلى أن أنفذ شيركوه ابن أخيه صلاح الدين إلى بلبيس كي ينزعها لتكون هي وإقليم الشرقية في يده رهنًا، فأرسل شاور إلى «أمري» ملك بيت المقدس «أملريك» يطلب مساعدته على جيش نور الدين، وكان «أمري» لا يستطيع أن يرفض ذلك الطلب؛ إذ كان يتطلَّع إلى امتلاك مصر، لا يمنعه إلا خوف نور الدين، فلما بلغته دعوة شاور ضَمِن أن يكون المصريون إلى جانبه فأقدم. وهكذا كان شاور يلعب بالنار التي ستحرقه.

بقي الجيشان الأجنبيان يتطاحنان قرب بلبيس، وكان نور الدين في أثناء ذلك يهوي بجنوده على أملاك الصليبيين بالشام؛ ففتح قلعة «حارم» إلى غرب «حلب» وبهذا صارت أنطاكية مُهدَّدة بإغاراته، ثم جدَّ في حصار حصن «بانياس» بقرب دمشق، فكان على «أملريك» أن يعود قبل أن يتسع الخرق، وكان شيركوه لا يعلم بذلك الانتصار الذي أحرزه نور الدين، وكانت جيوشه تحارب على قلة من المئونة ولم يكن له عند بلبيس حلفاء يساعدونه ولا حصن يمتنع فيه؛ ولهذا سرَّه أن يفاتحه الفرنج بالصلح على أن يخرج هو وهم جميعًا من مصر، وكان منظر خروج جيش شيركوه من بلبيس في أكتوبر سنة ١١٦٤م/٥٥٩ﻫ أشبه شيء بالنصر؛ وذلك أن الجيش سار عن بلبيس وجاء في آخره أسد الدين شيركوه يحمل في يده لتًّا من حديد يحمي ساقتهم، ووقف حول الجيش جمع من مسلمي مصر ومن الفرنج ينظرون إليه وهو يخرج عن البلاد، فقال له أحد الفرنج: «أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصرية والفرنج وقد أحاطوا بك وبأصحابك حتى لا تبقى لك بقية؟» فأجاب شيركوه: «يا ليتهم فعلوا حتى كنت ترى ما أفعل؛ كنت والله أضع السيف فلا يُقتل منا رجل حتى يَقتل منهم رجالًا، وحينئذٍ يقصدهم الملك العادل نور الدين فلا يُبْقِي منهم أحدًا.»

في مثل هذه الحال وفي مثل ذلك الجو المعنوي بدأ صلاح الدين أول جولة جدِّية له في غمار الحياة العملية.

مضى بعد ذلك أكثر من عامين كان فيهما شاور سيِّد الدولة بمصر، وكان شيركوه في أثنائهما يردِّد أمله في العودة إلى مصر لامتلاكها، وكان يحرِّض نور الدين بكل وسائل التحريض وهو يعلم أن أقرب الحُجج إلى نفسه أن مصر تساعده على جهاده مع أعدائه الفرنج، وكان يسهِّل فتحها قائلًا: «إنها دولة بغير رجال.» ولكن يجب ألا ننسى أن ثروة مصر أيضًا كانت من أكبر حُجج شيركوه أمام نفسه وأمام سيده، وكان الخليفة العباسي عندما علم بما يقصده شيركوه يساعد على غزو مصر بتحريضه ودعواته؛ فإن بيت بني العباس لم ينسَ أن بيت فاطمة في مصر كان منافسًا خطيرًا وأن الشيعة العلوية بدعة يجب أن تزول فلا يبقى على الأرض إلا السُّنَّة وأتباعها.

وقد كان نور الدين يتردَّد في إنفاذ تلك الحملة التي يحرِّضه شيركوه على إرسالها، ولكنه علم أن الصليبيين على نية غزو مصر فجعله ذلك يعزم، وما كان أقل جيشه عددًا؛ فقد كان نصف عدد أول فرقة أنفذها عمر بن الخطاب إلى مصر؛ إذ كانوا لا يزيدون على ألفَي رجل على الأصح، ولو أن الفرنج يبالغون في عدد ذلك الجيش. على أنهم كانوا ألفين من فرسان أبطال، وكان صلاح الدين مع عمه هذه المرة أيضًا.

سارت الكتيبة في أوائل سنة ١١٦٧م/٥٦٢ﻫ إلى شرق النيل عند أطفيح وعبَرت إلى البر الغربي من هناك، فأقبل «أمري» بجيش كبير من الشام فانضمَّ إلى جيش شاور، وكان عدد جنوده من الفرنج والمصريين معًا أكثر بكثير من عدد جيش شيركوه، ولو أن الفرنج يدَّعون أنهم لم يكونوا في كثرة.

بعد حينٍ كان الجيشان أحدهما عند الفسطاط، وهو جيش مصر وحلفائها الفرنج، والآخر، وهو جيش الأتراك (شيركوه)، عند الجيزة في البر الغربي، ومضت فترة انتظار كان فيها الصليبيون يَستوثقون لأنفسهم بمعاهدة أمضاها الخليفة العاضد بنفسه، وحلف عليها على أن يعطي الفرنج مائتَي ألف دينار معجَّلة ومثلها مؤجَّلة ثمنًا لمساعدتهم.١

بعد ذلك عبَر جيش الفرنج والمصريين إلى الغرب على غرَّة من شيركوه، فاضطر هذا أن يتقهقر إلى الجنوب حتى بلغ «البابين» في جنوب المنيا، وهناك على حافة السهل الغربية من قِبل الصحراء وقف شيركوه بأصحابه واستعدَّ للحرب رغم نُصْحِ بعض قواده ألا يفعل، وبدأت الموقعة العظيمة في ١٨ أبريل سنة ١١٦٧م، وكانت خطة شيركوه أن يجعل صلاح الدين في القلب، فيظن أعداؤه أنه هو شيركوه الذي في القلب حسب العادة المتبعة؛ إذ كان القلب عادة يوضع تحت قيادة رئيس الجيش، وتوقَّع شيركوه بذلك أن يكون القلب أول ما يتعرَّض لهجوم العدو. وأما هو فقد اختار جماعة من أبطاله المجربين وجعل منهم الجناح الأيمن، وأمر صلاح الدين إذا هو هوجم أن يتقهقر في نظام ولا يَثبت ثبوتًا جدِّيًّا حتى يغترَّ الفرنج ويتبعوه وهكذا كان ما توقَّع؛ فإن كتلة جيش مصر والفرنج صَدَمَت القلب صدمة قوية فتقهقر صلاح الدين بنظام وثبات، فتبعه الفرنج، وعند ذلك هبط شيركوه بالجناح الأيمن على جيش المصريين فحطَّمه حتى إذا ما عاد الفرنج من تتبُّع القلب وجدوا حلفاءهم منهزمين فاتبعوهم منهزمين كذلك. على أن شيركوه لم يَتْبَع أعداءه؛ ولعل ذلك راجع إلى قلة عدد جيشه، فآثر أن يذهب إلى الإسكندرية، وقد تمكَّن من أخذها بمساعدة أهلها، وترك بها صلاح الدين بنصف الجيش، وعاد هو إلى الصعيد يجبي أمواله.

figure
صورة لموقعة البابين.

وهناك في الإسكندرية ظهر غناء صلاح الدين وتكشَّفت مواهبه في الحرب وكيدها، وبدا منه ذلك الثبات وذلك السلطان على النفوس وتلك القوة التي ميَّزت خُلقه في حياته المقبلة.

عاد المصريون والفرنج — بعد أن جمعوا أمرهم وأصلحوا ما أفسدته الهزيمة — إلى الإسكندرية فحاصروها من جهة البر، على حين كان أسطول الصليبيين يهاجم المدينة من جهة البحر، وقد استمرَّ الحصار نحو شهرين ونصف شهر ونفدت الأقوات، ولم يكن بالناس من اطمئنانٍ على تلك الحال من الحصار، وكان صلاح الدين في قلة من الجنود لا يستطيع غير أن يبثَّ ما في نفسه من ثبات في قلوب من في المدينة من تجَّار وصنَّاع وعامَّة؛ فكان حينًا يَعِدهم بقدوم شيركوه بالزاد والثروة، وحينًا يُخيفهم إيقاع الإفرنج وقسوتهم، وحينًا يرغِّبهم بالصبر والثبات في سبيل نصر الدين على أعداء ملة محمد، وكان في الوقت نفسه يُنْفِذ الرسل إلى عمه يشكو إليه ما هو فيه من مشقة وعناء من أعدائه وأصحابه على السواء، وأخيرًا جاءت البشرى بقدوم أسد الدين من الصعيد إلى القاهرة وحصاره لها. وعند ذلك رأى «أمري» أن النصر غير ممكن فاتفق مع شيركوه على أن تُخْلَى الإسكندرية وأن يخرج الجيشان جميعًا من مصر، وأن يأخذ شيركوه كل ما استولى عليه من الأموال ويزيد عليه خمسين ألف دينار. وهكذا انتهى دور الحرب الثاني على بقاء مصر خالصةً لشاور، ولعله تبسَّم إذ ذاك وفرك يديه مهنئًا نفسه عندما رأى نجاح لعبه بالقوَّتين العظيمتين؛ قوة الصليبيين وقوة الأتراك، وبقائه سالمًا بين تنافسهما، ولكن مثل هذا السلاح — سلاح الخداع والحيلة — قد يرتدُّ على مَنْ يستعمله فيقتله، ولا شك أن صلاح الدين حمل لشاور في تلك المرة كثيرًا من الكره ممزوجًا بالاحتقار إذ أدرك حقيقته.

لم يقُم الفرنج بما تعهَّدوا به؛ فأبقوا منهم حراسًا على أبواب القاهرة، وضربوا على مصر جزيةً نحو مائة ألف دينار كل عام، وكانوا يطمعون في أكثر من هذا؛ أي إنهم كانوا لا يرضون بأقل من ملك مصر بعد أن عرفوا من ضعفها أكثر مما عرفه شيركوه.

وقد عادت جيوشهم بعد نحو عام من معاهدتهم لغزو مصر، وكان عزمهم هذه المرة عزم مَنْ لا يريد هوادة، غير أن شاور أظهر من المقاومة ما لم يكن منتظَرًا منه؛ فأحرق الفسطاط حتى لا تكون غنيمة لأعدائه الذين كانوا حلفاءه بالأمس، ومنذ ذاك الوقت ذهبت أول عاصمة إسلامية لمصر ولم يرجع إليها بعد ذلك شيء من روائها القديم؛ إذ ظلت النيران تأكلها أكثر من خمسين يومًا.

وكان جماعة من المصريين — الذين حول الخليفة العاضد والذين كانوا أعداء شاور — يراسلون نور الدين لكي يأتي لمساعدة مصر على أعدائها، وكان نور الدين يميل إلى التدخل بطبيعة الأمر، فما هو إلا أن أرسل إليه العاضد يستنجد به حتى أخذ يعدُّ جيشًا لغزو مصر، وكانت الشروط التي وعد بها العاضد شروطًا لا تبررها إلا الضرورة القصوى التي كانت بها مصر؛ فقد وعد نور الدين بثلث أرض مصر وإبقاء جيش احتلال مع شيركوه فيها، وأن يُقْطِعَ الجنود أرضًا خارجة عن ثلث البلاد الموعود به لنور الدين.

أما شاور فإنه لم ينسَ أن يلجأ إلى الحيلة منذ رأى نفسه بين عدوَّيْن لا حظَّ له مع أيهما، فأحب أن يعمل على صرف الفرنج عن البلاد بالمال، فجعل يفاوضهم حتى اتفق معهم على ألف ألف دينار يعطيها لهم ليرحلوا عنه، وعجَّل لهم منها مائة ألف، ولكنه لم يستطع أن يحمل إليهم سائر المال.

وبينما هو كذلك إزاء أعدائه الفرنج كان نور الدين وشيركوه يسرعان في الاستعداد حتى أتمَّاه، وسار جيش من ستة آلاف بينهم كثيرون من الأمراء النابهين وفيهم صلاح الدين الذي سار مع الجيش على كرهٍ بعد إلحاح عمه وتكرُّر طلب نور الدين، ويظهر أن صلاح الدين كان غير راضٍ عن الاشتراك في غزو هذه المرة؛ لما شهده في الحرب الماضية من الشدة لا سيما في الإسكندرية، ولكنه على أي حال، سار مع الجيش. وكان الجميع في مصر في أوائل يناير سنة ١١٦٩م/٥٦٤ﻫ، وكان «أمري» ملك الفرنج عند وصول جيش نور الدين واقفًا يستنجز شاور وعْده في المال المتفق عليه، فلما أتى جيش نور الدين ورأى «أمري» موقفه الحرِج وهو بين شاور من جهة والجيش الإسلامي المُغِير من جهة أخرى لم يستطع البقاء، فعاد إلى الشام بغير أن يصطدم بالجيش القادم، وبقي شيركوه وحده بمصر، وكان الخليفة العاضد ظاهر الفرح به، فأكرمه وخلع عليه. وأما شاور فلم يكن راضيًا عن وجود ذلك الجيش القوي على كثب منه، غير أنه بلع غيظه العظيم، ولم يُظهر شيئًا منه خوفًا وعجزًا، وجعل يماطل في إنفاذ الشروط التي اتفق عليها العاضد ونور الدين، وجعل يُظْهِر اللين لكي يخلص من عبء ذلك التعهُّد الثقيل، وكان يريد أن يستميل شيركوه بالملق والمداهنة، بل لعله كان يفكِّر في أن يوقع به لولا مقاومة ابنه لذلك الرأي.

رأى شيركوه مماطلته، ويلوح أنه كان يميل إلى التساهل قليلًا، ولكن كان هناك مَنْ يكره ذلك الرجل المخادع ويحتقره ويستشف الخيانة من وراء لين ظاهره؛ وذلك هو صلاح الدين. ففاتَحَ عمه في القبض على ذلك الثعبان فلم يرضَ شيركوه، فعزم هو على أن يأخذ الأمر في يده. وفي ذات يوم خرج شاور على عادته إلى معسكر الجيش التركي خارج القاهرة فلم يجد شيركوه. وقيل له: إنه خرج لزيارة قبر الإمام الشافعي، فرأى شاور أن يذهب إليه هناك، وفي أثناء سيره قرب منه صلاح الدين ومعه عز الدين جورديك — أحد أمراء الجند — وقبضا عليه فأنزلاه إلى الأرض وقيَّداه، وانهزم أصحابه عنه ووُضِعَ في خيمة وحده، وما هو إلا أن بلغ نبأ القبض عليه لخليفته العاضد حتى أرسل يُلِحُّ في طلب رأسه، فأطيع أمر الخليفة. وهكذا ذهب رجل كان يلعب بأمر مصر نيِّفًا وست سنين، وانتهى كل مَكْرِهِ الذي كان يدلُّ به بدخول جيش نور الدين واستيلائه على البلاد.

وقد كان من الممكن أن نمرَّ على هذا الموقف مرورًا سريعًا، فليس به ما يستحق أن نقف عنده لعبرةٍ أو مناقشة، ولكنَّ حرصَنا على إظهار حقيقة نفس صلاح الدين كما هي يجعلنا نسائل النفس: هل هناك في عمله بشأن شاور ما يؤخذ عليه؟ لقد قبض على الرجل وقيَّده حتى جاء أمر الخليفة العاضد بقتله، ولعله كان ذا يدٍ في إنفاذ أمر العاضد، أو لعله — على الأقل — حبَّذ ذلك الأمر وسُرَّ له.

ألم يكن ذلك غدرًا من صلاح الدين في أوَّله وقسوة في آخره؟ إنَّا لا نستطيع أن ننسى شخص شاور إذا أردنا مناقشة هذا الرأي؛ فقد كان صلاح الدين يحمل في نفسه عنه رأيًا سيئًا منذ الحملتين الأولى والثانية؛ إذ عرف لين ملمسه وخبث نيته وضعف نفسه الذي يُغطي عليه بمَكره، وقد انكشف له جشعه الذي كان يحاول إقناعه مضحيًا بالدماء الغزيرة من أصحابه ومنافسيه على السواء، فهل عجيب مع ذلك أن يكره صلاح الدين مثل هذا الرجل ويسعى في تطهير مصر منه؟ أليس من الطبيعي أن تَخِزَه تلك البسمات التي كان يراها على وجهه المخادع وهو يعلم ما انطوى تحتها؟ وإذا هو رأى مماطلته ومداهنته أليس من المتوقَّع أن تثور نفسه الحرة الصريحة التي غذَّاها هواء الجبال والصحراء ولم تعرف إلا الحقيقة الجاهمة في ميادين الموت التي كان يخوضها؟ وإذا هو سمع الإشاعات عن نية ذلك الرجل الغدر بعمه أسد الدين، أما كان واجبه أن يتخذ الحيطة منه وهو مَنْ يُعرف عنه الخبث والغدر؟ حقًّا لقد احتقر شيركوه أن يؤاخذ شاور بما يشاع عنه، وتكبَّر أن يأْبَهَ بالخطر الذي كان يهدِّده من ناحيته، فكان في ذلك مثله مثل مَنْ يرى الحية تريد أن تنهشه فلا يرضى لها إلا عقِبَ نَعْلِه يدفع به عن نفسه أمامها، ولكن شجاعة شيركوه وكِبره شيء وعدالة موقف صلاح الدين شيء آخر؛ فقد أخذته الحفيظة فعزم على أن يوقف ذلك المُرائي عند حدِّه، فأسَرَه مع جماعة من إخوانه ولكنه لم يقتله، فإذا كان قتلُه ذنبًا فالذنب إذن على الخليفة العاضد الذي ألحَّ في قتله وأمر به غير مرة. على أن صلاح الدين لو قتله لما كان آثمًا ولا معتديًا؛ فإن شاور رجل قلَّ أن تجد في التاريخ مَنِ استحق القتل مثله، ولا مَنْ يكون قاتِله أشد رضاءً عن نفسه وأسلم من تأنيب الضمير والندم؛ فهو رجل أثار حربًا من أجل الوزارة بمصر، وبعد أن نصره جيش قُتِلَ مَنْ قُتِلَ من رجاله وأبطاله رجع يغدر به ويستنصر عليه بعدوِّه. وقد كان من الممكن أن يرضى الإنسان عن خطة شاور لو أنه اتخذ لنفسه جانبًا وسار مخلصًا فيه إلى غايته، ولكنه كان مثل اللاعب فوق الحبل يميل تارة ههنا وتارة ههنا يحاول أن يحفظ نفسه فوق مكانه الدقيق، فإذا نحن أردنا الحكم عليه وعلى خطته كان لا بد لنا أن نقرَّ له بالمهارة في الانتفاع بمن حوله ومقدرته على التقلب مع الظروف والأحوال، ولكن ذلك كل ما يمكننا أن نقوله معه؛ فقد كان مثلًا للسوء في تعامله وتعهُّده ونيَّته، ولقد كان صلاح الدين — باشتراكه في أَسْرِهِ — آلةً من آلات العدالة الإلهية.

وقد اختار الخليفة العاضد — بعد قتل شاور — أسدَ الدين شيركوه ليكون وزيرًا محلَّه، وبالغ في إكرامه وخلع عليه وسمَّاه الملك المنصور، وجعله قائد قواده وأمير جيوشه، غير أن الأجل لم يمهله ليتمتع بفقاعة مجد الدنيا أكثر من شهرين وخمسة أيام، وقد كان جديرًا بمصر وملكها؛ لأنه في الواقع أكبر مَنْ دفع على غزوها وإليه أكبر الفضل في فتحها. وقد قيل: مات من الخناق من وراء تخمة؛ إذ كان كثير الأكل، وهو أقرب الآراء إلى التصديق. وقيل: مات من حُلة مسمومة، وما أحرانا أن نُلحق ذلك القول الأخير بأمثاله في أقاصيص الشرق، فما زال الخيال الشرقي ميَّالًا إلى أن يحيط أبطاله بالأسرار والخفايا.

وعند موت شيركوه كان في الجيش جماعة من كبار الأمراء، وكان المتوقع أن يُخْتَار أحدهم وزيرًا بعد شيركوه؛ فما كان من الممكن أن يتجاهل الخليفة العاضد وجود ذلك الجيش المحتل في بلاده. وكانت المظاهر كلها تدل على أن خليفة مصر ورجاله يحبون الإبقاء على مساعدة جيش نور الدين خوفًا من تدخُّل الصليبيين؛ فقد كانوا يرون أنه إذا كان لا بد من احتلالٍ أجنبي فليكن ذلك الجيش من المسلمين؛ ولهذا كان المنتظر أن يختار العاضد وزيرًا له من كبار أمراء الجيش النوري، ولكن حدث ما لم يكن منتظرًا؛ فإن السياسة المصرية إذ ذاك كانت لا تنسى أن تلجأ إلى الدهاء في مقابلة المصاعب الكثيرة التي كانت غير قادرة على حلها في ميدان الصراحة والقوة؛ ولهذا عمد الخليفة العاضد إلى حيلة يحسبها تضمن له مساعدة جيش نور الدين مع أَمْن شره واتقاء استبداده، فجرى على عادة المصريين في تفضيل الأصاغر لكي يكونوا أسهل قيادًا، فتخطى الأمراء الكبار في الجيش واختار للوزارة ذلك الشاب الذي كان مظنَّة اللين والسهولة وهو صلاح الدين؛ فقد رأى الخليفة فيه ما ظنَّه ضعفًا واستكانة؛ لما كان عليه من الحياء والاعتزال وقلة التظاهر، ولو كان الخليفة ورجاله أنفذ نظرًا وأعمق فكرًا لعرفوا أن تلك المظاهر إنما تُخفي نفسًا كبيرة توَّاقة؛ إذ إنه لم يكن سوى ذلك الجندي الذي أبلى بلاءه في موقعة البابين، وذلك القائد القادر الذي دافع عن الإسكندرية دفاعه المجيد مع حداثة سنِّه وشدة الظروف التي حوله. على أن الأمور جرت بقدر، وكان خطأ الخليفة العاضد ورجاله من حسن حظ مصر والإسلام، فأصبح صلاح الدين وزيرًا لمصر وأميرًا لجيوشها.

(٣) وزارة صلاح الدين

لم تكن بصلاح الدين رغبة في الوزارة؛ فقد كان يرى حرج موقفه فيها، ويعلم أنه لا بد يلقى فيها متاعب ومصاعب، فدونه أمور سياسة الدولة، وأي دولة! إنها مصر التي يتطاحن عليها جماعة من المستوزَرين من الداخل يريدون السلطة، وجماعة من الصليبيين من الخارج لا يدعونها سالمة، وكان كذلك يستشفُّ كراهة الأمراء الكبار لتوليته، ولم تكن نفسه من تلك النفوس الجشعة التي إذا لُوِّحَ لها بالمجد طارت إليه طائشة، بل لعله كان يرى من نفسه غنًى عن ذلك المجد بما يشعر به في نفسه من عظمة.

ولهذا نعلم أنه تردَّد كثيرًا حتى رضيَ — بعد لَأْيٍ — أن يكون عند اختيار الخليفة، فذهب إلى القصر وخُلعت عليه الوزارة «من جبة وعمامة وغيرهما» ولُقِّبَ بالملك الناصر.

ولسنا نجد غرابة في أنه قَبِلَ الوزارة بعد امتناع؛ فإنه فكَّر في نفسه وفي مَنْ حوله فلم يشعر بما يجعله يظن في غيره قوة ليست عنده، ورأى أمورًا معوجة طمع أن يكون له فضل إصلاحها، ولعل آمالًا أشرقت في نفسه عندما رأى صغر نفوس رجال الدولة التي أمامه، فأقدم وهو يشعر بثقل الأمانة وصعوبة المرتقى.

كان اختياره مغضبًا لكبار الأمراء كما توقع؛ فلم يأبهوا به واعتزلوه، حتى سعى بينه وبينهم رجل من رجال الدين والسيف معًا؛ وهو البطل الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري، فأقنعهم بأن يظلوا على الولاء له، حتى قَبِلوا جميعًا إلا جماعة؛ أكبرهم عين الدولة الياروقي؛ فإنه خالفَ وعاد مع جماعته إلى الشام. وبقي صلاح الدين بمصر ليقابل أمورها واحدًا فواحدًا، ولسنا نسمع بعد ذلك عن خلاف بينه وبين الأمراء الذين رضوا بالخضوع له، فلم يظن أحد منهم أنه خضع لغير شريف، أو أذل في ذلك الخضوع، وقد رضي نور الدين عن ذلك الاختيار وفرح به، وصار يرسل إليه في مخاطباته: «إلى الأمير الأسفهسلار»؛ وذلك لقب معناه «الأمير الحاكم» كان يُطْلَق في ذلك الوقت على كبار القواد.

ولكن إذا كان صلاح الدين قد أمِن جانب مَنْ معه من الأمراء فإنه لم يأمن جانب الياروقي ومَنْ معه في الشام وهم يرقبون منافسهم الفتى عن بُعْد.

غيَّر صلاح الدين من نفسه بعد أن صارت له الوزارة، فامتنع عن اللهو والخمر واستشعر الجد في كل أعماله، وأخذ جوهره يظهر صافيًا خالصًا، وكان من أكبر الصفات التي ظهرت فيه كرمه في البذل لمن معه وتعفُّفه عن أن ينال لنفسه شيئًا.

ولعله شعر أنه محتاج إلى أمناء أوفياء لا يداخله شك في أمرهم، فأرسل يطلب من نور الدين أن يبعث إليه أباه وإخوته، فأرسلهم إليه بعد أن استوثق منهم أن يطيعوه، ولم يدْرِ نور الدين أن ذلك الفتى الناشئ لم يكن في حاجة إلى ذلك الاستيثاق؛ فقد كان له من عظمة نفسه ما يجعل مَنْ معه يخضع له راضيًا. وهكذا كان، فلم تمضِ على وزارته سنة وأشهر حتى كان كل مَنْ معه من الأمراء والأهل خاضعًا محبًّا لسيادته في آنٍ واحد.

ولعله من المفيد أن نقول: إن سنَّه وقت أن تولَّى الوزارة لم تكن بأزيد من واحد وثلاثين عامًا.

وكانت الأمور التي شغلته منذ تولَّى الحكم بعضها في الداخل وبعضها من الخارج، وكان الداخل أول ما استوجب منه العمل؛ وذلك أنه بعد وزارته بأربعة شهور شعر رجال القصر أنهم بإزاء رجل ذي بأس وليس كما ظنوه ضعيفًا، فأخذوا يدسُّون له، وكان رئيسهم خصيًّا أسود (مؤتمن الدولة)، فبدءوا يراسلون الفرنج سائرين على سُنَّة شاور، فعلم صلاح الدين بالأمر وكتمه حتى رأى فرصة في مؤتمر الدولة فقبض عليه وقتله، فتعصَّب له الجند السودان حراس القصر وثاروا بصلاح الدين، ولكنه كان مستعدًّا فأوقع بهم بين القصرين ولم ينجُ منهم إلا القليل الشريد، ومنذ ذلك الحين جعل على القصر خصيًّا أبيض من رجاله وهو بهاء الدين «قراقوش».

لم يمضِ زمن طويل بعد تلك الثورة حتى واجهته أخطار من وراء البحر، فجاءت أساطيل الدولة الرومانية الشرقية والفرنج لحصار دمياط في عدة كبيرة؛ إذ بلغت سفنهم نيِّفًا ومائتين، ولعلهم حسبوا أن خلوَّ مصر من شيركوه يجعلها سهلة الفتح، فأظهر صلاح الدين أنه يقدر على كثير في غير جَلَبَة، فأرسل العسكر والذخيرة إلى دمياط بالنيل ومكَّنها بذلك من مقاومة هجمات المغيرين العنيفة، وأرسل في الوقت عينه إلى نور الدين يذكر له الحال ويطلب منه المعونة، ثم لم يتوانَ في الأمر فذهب في جيش دمياط ليشغل المحاصرين عن فتح المدينة، وقد أسعفه نور الدين كعادته إذا جدَّ الجدُّ، فأرسل إليه البعوث أرسالًا يتلو بعضها بعضًا، ثم أهوى هو في الشام إلى بلاد الفرنج فنهب فيها وخرَّب، فاضطر المهاجمون الصليبيون أن يرفعوا حصار دمياط ويعودوا إلى الشام ليحموه من هجمات نور الدين بعد خمسين يومًا من الحصار. وكانت سياسة صلاح الدين الداخلية عاملًا من عوامل الاطمئنان والوفاق في مصر؛ حتى إن الخليفة العاضد لم يضِق به كما كان يضيق بمَنْ سبقه من الوزراء، ولم يفرح بهجوم الصليبيين هذه المرة ولم يستعن بهم، بل أرسل إلى صلاح الدين كثيرًا من المال والذخيرة، حتى لقد قدَّر صلاح الدين نفسه ما أرسله العاضد إليه بمقدار مليون من الدنانير المصرية؛ نذكر ذلك تشريفًا لآخر خلفاء الفاطميين في مصر.

(٤) انقراض الدولة العلوية الفاطمية بمصر

بقيت الدولة الفاطمية بمصر نحو قرنين وهي تحاول بسط سلطانها على ما جاورها من البلاد، وكان امتداد ملكها إنقاصًا من سلطان دولة العباسيين.

وظلت الدولتان متنافستين تعلو كفَّة العباسية مرة وكفَّة الفاطمية مرة، إلى أن جاءت الدولة السلجوقية — كما سبق القول — وكانت الدولة الفاطمية قد اضمحلَّ أمرها منذ أن مضى أوائلها العظام.

على أننا لا نستطيع أن نعرف على وجه البتِّ: هل كان لوجود هذه الدولة العلوية في مصر قرنين أثر في عقائد أهلها؟ فإن كل الظواهر تدل على أنه لم تكن هناك رسوم دينية خاصة تخالف أساس ما اعتاد أهل السُّنَّة في عباداتهم ومعاملاتهم؛ فإنه إن كان ثمة شيء من ذلك فهو من الزخرف والزينة والأُبَّهة في رسوم الدين، ولم يكن على ما يظهر اختلاف في أساس العقيدة؛ فلم يكن خلفاء دولة الفاطميين من غلاة الشيعة، ولم تكن لهم تلك العقائد الغريبة السرِّيَّة التي تُميِّز الشيعة في الأقاليم الأخرى. أما الزخرف الذي ذكرناه في رسم الدين بمصر فلم يُنكره أحد، وقديمًا كانت مصر تميل إلى الزخارف في رسوم الدين، وليس بأس من ذلك ما دام لا يمسُّ العقيدة، ولعل طبيعة أرض مصر الوادعة وطبيعة أهلها الميالين إلى المرح والبسطة والسهولة الذين يقدِّرون الجمال ويحبونه؛ لعل كل ذلك حبَّب إلى نفوسهم ما كان للدولة من تكلُّف في الدين وأُبَّهة وزينة في الحفلات. وأما العبادات والمعاملات بحسب القانون الديني فإننا لا نجد ما يدل على أن دولة الفاطميين قد أحدثت فيهما تغييرًا يُذْكَر.

ولم يكن بالمصريين كُرْه للدولة الفاطمية. على أنه لم يكن بهم كذلك مَيْل إلى التضحية بشيء في سبيلها كما هي عادة الدولة إذا كان حكمها في يد طائفة معينة دون جمهور الشعب. وكان الشعب المصري يرى في كثير من الأحيان — لا سيما في الأيام الأخيرة — ظلمًا وضعفًا من جانب الدولة، ولكنه كان دائمًا يُميِّز بين الوزارة صاحبة القوة فيحقد عليها وبين الخلافة صاحبة الأمر الأعلى ويعلم أنها لا حول لها ولا قوة؛ ولهذا كان يعطف عليها؛ فعندما أبصر الشعب صلاح الدين على الوزارة ورأى كرمه في البذل وتصرُّفه في الدفاع وقوَّته في الحرب أُعْجِبَ به وأحبه والتفَّ حوله. وكان صلاح الدين منذ أخذ الوزارة في يده يسعى لتوطيد أمره بأن يجعل الشعب يثق به ويلتف حوله، ولكنه آثر ألا يصدمه بتغيير فجائي، فبدأ ينشئ المدارس السُّنِّيَّة على مذهب الإمام الشافعي، وعارض سيده نور الدين في أمر القضاء على الحكم الشيعي من أوَّل الأمر؛ إذ كان نور الدين يحب أن يبدأ بإزالة الخلافة الفاطمية عند أول دخول جيشه مصر، فراجعه صلاح الدين مُظْهرًا ما قد ينتج عن مثل هذا الانقلاب الفجائي.

إلا أن إلحاح نور الدين في قطع الخطبة العلوية بمصر جعله يفكر كيف يعمل، فاستشار أصحابه فانقسموا في الرأي بين محبِّذ ومُنكِر، واتفق بعد ذلك أنْ مَرِضَ العاضد واحتجب في قصره فرأى الوزير الفرصة ممكنة، فجرَّب قطع الخطبة من أحد المساجد، وقام بالخطبة للخليفة العباسي رجل أعجمي يُعْرَف «بالأمير العالم» فلم يحدث استنكار من جانب الناس، فأمر صلاح الدين الخطباء جميعًا أن يقطعوا خطبة العاضد ففعلوا، وتمَّ الانقلاب بدون حدوث شيء. وقد أوَّلَ جماعةٌ تردُّد صلاح الدين بأنه كان يرغب في بقاء الخطبة للعاضد خوفًا من نور الدين. ولا حاجة بنا إلى الوقوف هنا لردِّ هذا الزعم؛ إذ لا نجد حجة هذه الجماعة جديرةً بالتفنيد؛ فإن الحكمة السياسية وحدها كانت تقضي عليه بسلوك ما سلك من طريق التريُّث.

أُرْسِلَت البشائر إلى نور الدين وبغداد وازَّيَّنَتْ عاصمة الخلافة العباسية، وأُرْسِلَت الخُلَع من الخليفة العباسي إلى نور الدين وصلاح الدين، وأصبح في الشرق كله خليفة واحد من بني العباس لا ينازعه أحد ينتمي إلى ذلك البيت الجليل: بيت بني هاشم.

وقد حدث أن العاضد في أثناء مرضه أرسل يستدعي صلاح الدين، فخاف صلاح الدين أن يلبِّي، وظنَّها خدعة ومؤامرة على عادة المصريين، ولكنه عرف — فيما بعد — أن العاضد كان مخلصًا في طلبه فندم على ذلك؛ إذ كان لا يرى من ذلك الشاب الخليفة إلا كل ما يرضيه من حب ومساعدة وإخلاص، وقد كان من حسن حظ العاضد أنه لم يعرف ما حدث من الانقلاب؛ فقد توفِّي من مرضه في سبتمبر سنة ١١٧١م/٥٦٧ﻫ، ولم يُعْلِمْهُ أحد بأن الخلافة نُزِعَت عنه بعد أن لبثت أكثر من قرنين ونصف قرن في بيته منذ كان في شمال أفريقية قبل هبوطه مصر.

وهنا فلنسكت عما كان في قصر الخليفة من تُحَف ثمينة وآثار قيِّمة وكتب نفيسة وآلاف العبيد والإماء والثروة الطائلة، ولنكتفِ بأن نقول: إن صلاح الدين لم يرزأ من كل ذلك شيئًا لنفسه، بل ذهب كله لرجال الجيش والأمراء الذين معه، حتى القصر نفسه، وبقي الوزير العظيم مقيمًا حيث كان في خشونة من العيش وسذاجة من الحياة تقرُب من حياة الزاهد.

(٥) الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين

نحن مضطرون أن نقف قليلًا نناقش تهمة يوجهها كثير من المؤرخين إلى صلاح الدين؛ وهي أنه منذ شعر بثبات مكانه بمصر أثار وحشةً بينه وبين سيده، وعزم على الخروج عليه ومحاربته إذا دعا الأمر، وما كان للإنسان أن يَتَّهِم حتى يكون عنده الدليل القاطع، واتهام صلاح الدين بالخروج على نور الدين وإثارة الوحشة بينه وبين سيده — الذي يُجِلُّه والذي كان له عليه فضل التربية والعناية والتشجيع — اتهام خطير يجب على مَنْ يسوقه أن يكون من أشد الناس احتراسًا في قوله؛ ولهذا نؤثِر أن نذكر تهم المؤرخين ثم نرى مقدار قوَّتها على ضوء المنطق ودلالة التاريخ، وهذه هي التهم التي تساق:
  • (١)

    بعد القضاء على الدولة الفاطمية سار صلاح الدين سنة ١١٧١م/٥٦٧ﻫ راغبًا في حرب الفرنج، فحاصر حصن الشوبك بفلسطين على مسيرة يوم من الكرك، فعلم نور الدين بذلك الحرب، فرغب في مساعدة صلاح الدين، فسار من دمشق نحوه، وكان صلاح الدين قد أوشك أن يأخذ الحصن من الفرنج، فلما علم بمسير نور الدين تركه ورجع إلى مصر، وكتب إلى نور الدين يعتذر له باختلال الأمور في مصر، فلم يقبل نور الدين ذلك الاعتذار وعزم على المسير إلى مصر وإخراج ذلك المتمرد عنها، فجمع صلاح الدين أهله وفيهم أبوه وخاله ومعهم سائر الأمراء واستشارهم، فقال قائل: نمتنع عليه ونحاربه، فقام نجم الدين أيوب أبو صلاح الدين وقال قولًا معناه أنه لا يوافق وأنه أول مَنْ يطيع نور الدين ويعصي ابنه إذا خرج عليه. وانفضَّ المجلس على نصيحة أيوب أن يرسل صلاح الدين إلى نور الدين يستميله ويطلب عفوه ويُذعن له ويُظهر الخضوع، ثم لما خلا أيوب بابنه قال له: «ما كان ينبغي أن تصنع ما صنعت؛ فإن الأخبار لا شك تبلغ نور الدين»، ثم قال له: «ألا فاعلم أننا لا نُسلِّم البلاد له، ولو أراد قصبة من قصب السكر لحاربناه عليها.»

  • (٢)

    بناءً على المفاوضة بين صلاح الدين ونور الدين استقرَّ الأمر أخيرًا على أن يقصد الاثنان حصن الكرك ويحاربا هناك معًا، فلما كانت السنة التالية (أوائل سنة ١١٧٣) ذهب صلاح الدين وحصر الحصن، فلما بلغه مجيء نور الدين رجع ورفع الحصار وعاد إلى مصر، وأرسل الفقيه عيسى الهكاري يعتذر لنور الدين بأنه ترك أباه على مصر فمرض، وأنه يخشى أن يموت فتخرج البلاد من أيديهم، وأرسل مع الفقيه من الهدايا والتُّحَف ما يجلُّ عن الوصف، فلم يقتنع نور الدين بذلك الاعتذار واستوحش باطنًا ولكنه لم يُظْهِر شيئًا من تأثُّره.

  • (٣)

    ما بين غزوة الشوبك سنة ١١٧١م/٥٦٧ﻫ، وغزوة الكرك في أوائل سنة ١١٧٣م/٥٦٩ﻫ قد أرسل صلاح الدين أخاه الأكبر شمس الدولة توران شاه ليفتح النوبة؛ لكي تكون لهم موئلًا يلجئون إليه إذا أجلاهم نور الدين عن مصر، ولكن تلك الحملة لم تنجح؛ لأنها وجدت البلاد صحراء لا تُغنِي.

  • (٤)

    بعد غزوة الكرك في سنة ١١٧٣م/٥٦٩ﻫ لمَّا رأى صلاح الدين أن النوبة لا تغني أحبَّ فتح ملجأ آخر، فأرسل يستأذن نور الدين في فتح اليمن «فأذن له نور الدين»، فذهب أخوه شمس الدين توران شاه إليها وفتحها ونظَّم أحوالها وأصلح شئونها، واستقام أمر الأيوبيين بها نحو خمسين سنة.

هكذا يصوِّر كثير من المؤرخين موقف صلاح الدين بإزاء سيده، وحقًّا إن في الحوادث التي يذكرونها كثيرًا من الحقيقة، ولكن تأويلهم — في ظننا — تأويل لا تبرِّره الظروف ولا يقبله العقل، وما كان لنا أن نُكذِّب تأويلهم لولا أننا نرى أن الأدلة كلها تشير إلى أن ذلك التأويل صادر عن الخيال لا عن الحقيقة، فهناك الأدلة المادية التي تُظْهِرُ تأويلًا غير هذا، وهناك ما نعلمه من صلاح الدين وخلقه ما ينفي أن الأمر كان كذلك.

هنا أمر يستوقف النظر: وهو أن المؤرخين الذين يذكرون تلك الأمور يتفقون في إيرادها، وفي كثير من الأحيان تتفق ألفاظهم مع اختلاف في الإيجاز والإطناب، وهذا ما يجعلنا نظن أن مصدر القصة واحد أخذ عنه الجميع، ولا يبعد أن يكون ذلك المصدر من جانب الشام أو جانب مَنْ كان مع نور الدين من الأمراء الحاقدين على صلاح الدين أمثال الياروقي. أما نحن فنرى لكل تلك الحوادث تفسيرًا آخر نعتقد أنه أكثر اتفاقًا مع الأحوال والأشخاص.

(١) فرجوع صلاح الدين عن الشوبك سنة ١١٧١م وعن الكرك سنة ١١٧٣م كان أمرًا طبيعيًّا، ولولا تلك القصة التي يذكرونها عن اجتماعاته بأمرائه وما يَعْزُونه إليهم من الأقوال لما كان هناك ما يُسْتَغرب في عمل صلاح الدين؛ فالشوبك والكرك حصنان من أمنع الحصون في فلسطين، وكان فتحهما من أكبر الفتوح التي تغنَّى بها الإسلام — فيما بعد — بعد جهود عظيمة ومحاولات متكررة أخفقت مرارًا، وكان يحميها جماعة من المحاربين المستبسلين الذين يقاومون حتى لا يكون دونهم ما يقاومون به من مال أو دم، وكان صلاح الدين في سنة ١١٧١م خارجًا من إحداث انقلاب بمصر وإزالة دولة لها في البلاد أصل ثابت من قرنين، وكان لها أتباع وأنصار يفكرون في الدفاع وإرجاع الأمر إلى ما كان عليه، ولا سيما أنه كان إذ ذاك حديث عهد بثورة السودانيين، ولا يأمن أن يترك مصر إلا قليلًا؛ ففي سنة ١١٧١م عندما حصر الشوبك رأى أن الحصن لن يسلِّم إلا بعد أمد قد يطول، وأن نور الدين قد يشترك في الحرب فيجعلها واسعة الدائرة فينتقل من ميدان إلى آخر، وهو الرجل الذي يحب الجهاد ويجعل حياته له، فآثر الرجوع وأرجأ فتح ذلك الحصن إلى وقت آخر، ولو كان يخشى الاقتراب من نور الدين، فما كان الذي دعاه أن يفكر مبتدئًا في غزو فلسطين؟ أمَا كان يؤثِر من أول الأمر إبقاء الصليبيين بينه وبين مَنْ يخافه؟

(٢) وأما في سنة ١١٧٣م فقد كان صلاح الدين يشمُّ خطرًا في الجو لا تفوته حركة من حركات صديقه وعدوِّه على السواء، فلما دعاه نور إلى حصار الكرك لم يستطع أن يمتنع حتى لا يسيء سيده به الظن، فذهب إلى هناك في شوال، وكان هو السابق، وظلَّ على الحصار وحده مدة شهرين، ثم أقبل نور الدين بعد ذلك متأخرًا في ذي الحجة.

ورأى صلاح الدين أثناء ذلك امتناع الحصن عليه، ولعل نور الدين لو كان اشترك معه من أول الأمر لكان الحصن قد سُلِّم أو لكان على الأقل هناك تساوٍ في المجهود يبعث نور الدين على الاكتفاء وترك الحرب إلى حين، فتأخُّر نور الدين كان معناه أن غياب صلاح الدين عن مصر سيستمر إلى مدة أطول، ولا سيما وأن جيش نور الدين كان لا يزال جديد الهمة وهو يعرف أن نور الدين إذا بدأ الحرب فلن ينتهي منه إلا بعد أن يُبلي بلاءً ويُعْذَر، ولعله ينتقل من ميدان إلى آخر، ولن يستطيع صلاح الدين أن يترك الحرب إذا هو بدأ فيه إلى جانبه؛ لئلا يكون ذلك تخذيلًا، فآثر أن يتبع — من أول الأمر — ما تُمليه الرجولة ويُوجبه الحذر، فأرسل في أدب معتذرًا وأظهر خضوعه بما أرسل من هدايا، وأنفذ رسوله رجلًا يعرف ما كان عليه من صفات ولا يطعن أحد في إخلاصه؛ وهو الفقيه عيسى الهكاري، وكان رجلًا شجاعًا ديِّنًا، فلو وجد شيئًا على صلاح الدين من الخيانة لسيِّده لكان يُفضي بذلك إلى نور الدين؛ إذ كان يعتقد أنه المجاهد في سبيل الله المخلص في غزواته القائم في عبادته الزاهد في دنياه، ولم يكن نور الدين في قلوب الناس — ولا سيما الفقهاء — بأقل مما كان صلاح الدين، بل إن الناس جميعًا كانوا أمْيَل إلى الخضوع له واتباعه مما كانوا يميلون إلى الفتى الناشئ، ولكن الفقيه لم يذكر إلا كل خير، ولم نسمع عن نور الدين أنه قال إلا جوابًا مرضيًا.

ولكن كان حول نور الدين جماعة من أمثال الياروقي الذين كانوا يرون صلاح الدين قد سلبهم مُلْك مصر، ولا بد أن هؤلاء كانوا يحاولون ما استطاعوا أن يُظْهِروا لنور الدين سوء نية منافسهم لعله يحقد عليه ويخلعه، فيكون ذلك انتقامًا لهم منه، فجعلوا يفسرون حركات صلاح الدين بما شاءت لهم نفوسهم المغضبة.

ولا يبعد أبدًا — بل نرى — أن تفسير حركات صلاح الدين بعدم رغبته في مقابلة نور الدين من وحي هؤلاء وإشاعاتهم.

أما قصة المجلس الذي جمعه صلاح الدين بعد رجوعه عن الشوبك فإنها تشبه القصص التي نسمعها في المؤلفات الخيالية، حتى إنها لتورد الألفاظ التي قالها أيوب لابنه في خلوة وهو ينصحه ألا يقول شيئًا في العلن إلا الخضوع لنور الدين، ويؤكد له في نفس الوقت أنه لو أراد نور الدين قصبةً من مصر لحاربه عليها، وأن نجم الدين الحريص ليكون ممن ينصح بشيء ويخالفه، ويعلم وهو محتاج إلى التعلم لو كان أسمع أحدًا ما قاله لابنه إذ ذاك في خلوته؛ وإلا أفليس من المضحك أن يعرف مؤرخ ما قاله نجم الدين لابنه في خلوة ولا يعرف ذلك نور الدين نفسه؟!

على أن هناك ما يفيد أن سيرة ذلك المجلس وما وقع فيه لم تكن إلا خيالًا؛ فإن ابن شداد — وهو القاضي بهاء الدين — مؤلِّف سيرة صلاح الدين وصاحبه في مسيره وحروبه لم يذكر شيئًا عن ذلك المجلس، ولم يذكر والد صلاح الدين ولا نصيحته، ولكنه نقل إلينا وهو مصدَّق فيما يقول سمعته قال: سمعت صلاح الدين نفسه يقول: «كان بلغنا أن نور الدين يقصدنا بالديار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نكاشف ونخالف ونشقَّ عصاه ونلقى عسكره بمصاف نردُّه إذا تحقق قصده، وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لا يجوز أن يقال شيء من ذلك.»

فالحقيقة هي إذن أن نور الدين تغيَّر على صلاح الدين وأساء الظن به؛ لأنه حُمِلَ على أن يُؤوِّل حركاته وأعماله بغير ما قصده، وعزم على السير إليه وصلاح الدين صابر لا ينوي مقاومةً ولا يُظْهِر إلا الخضوع ولا يُبْطِن إلا الإخلاص.

(٣)، (٤) وأبلغُ من كل ذلك ذكر فتح النوبة والقول بأن ذلك كان مقصودًا به فتح أرض تكون ملجأً من نور الدين، والواقع أن تلك الحملة لم تكن إلا لتطهير جنوب مصر من بقايا الحرس السوداني الذي كان لا يزال منه بقية ثائرة بالصعيد حتى تكون مصر كلها مطمئنة له من البحر إلى أقصى حدودها الجنوبية. وأما فتح اليمن فمن الغريب أن يستأذن صلاح الدين نور الدين لو كان عنده نية المخالفة، ومن الغريب أن نور الدين يأذن له بإرسال الجيش إلى هناك لو كان حقيقةً يعتقد أن ذلك الرجل يخون.

فالواقع الذي نراه هو أن سوء ظن نور الدين لم يبدأ منذ سنة ١١٧١م، بل إنه قد بدأ يتجسَّم له من بَعْدِ موقعة الكرك، وبعد السماح بحملة اليمن سنة ١١٧٣م، وأن ذلك الظن لم يتجسَّم إلا مِنْ سعي أعداء صلاح الدين ومنافسيه، وأن صلاح الدين ظلَّ إلى نهاية الأمر لا يتأثَّر بما يشاع عن تغيُّر نور الدين عليه. وأما أبوه نجم الدين — رحمه الله — فلم يكن له من أمر ذلك المجلس المزعوم شيء، بل نعتقد أنه عندما مات بمصر — أثناء المدة التي كان فيها صلاح الدين عند الكرك أو عائدًا منها سنة ١١٧٣م — كان لا يفكر تفكيرًا جديًّا في أن هناك سوء ظن بين ابنه وبين سيده.

(٦) ثورة المصريين

لعل صلاح الدين لم يكن في حياته كلها في خطر أعظم مما كان فيه في سنة ١١٧٣م/٥٩٩ﻫ وسنة ١١٧٤م/٥٧٠ﻫ؛ فإن عوامل كثيرة اجتمعت على عداوته، ولما لم تجد فرصة تمكنها منه علنًا في ميادين النضال عمدت إلى الدسائس والمؤامرات، فكان في مصر حزب موالٍ للشيعة العلوية أصحاب الخلافة المنقرضة، كان في جيش صلاح الدين جماعة من الجند لم ينالوا ما يرضيهم فكرهوا حكمه، وكان بقية من الجند السودانيين الذين يكرهون صلاح الدين لا يزالون بمصر، وكان هناك الإسماعيلية الفدائيون الذين كانوا يميلون إلى الفتك بمن قضى على دولة علوية مذهبها الديني مثل مذهبهم، وكان صلاح الدين صاحب ذكاء متوقِّد وحذر لا تفوته فائتة، فأدرك أن بالجوِّ أمورًا تنذر بالخطر؛ ولهذا لم يأمن أن يبقى خارج مصر طويلًا فرأيناه يعود من الكرك سنة ١١٧٣م قبل أن يُتِمَّ فتحها، ولم ينتظر لكي يشترك في الحرب مع نور الدين كما مرَّ، وقد حسب أعداؤه أن الفرصة سانحة لبُعْدِ جزء كبير من الجيش في حرب اليمن سنة ١١٧٣-١١٧٤م فأحكموا أمرهم ودبَّروا الوثوب به. ولا يسعنا إلا أن نبصر ما ارتكبه صلاح الدين من الخطأ بتسيير حملة في ذلك الوقت مع توقعه الخطر، ولا نجد مبررًا لإنفاذ تلك الحملة إلى ذلك القُطْر البعيد إلا رغبته في أن يملك طرف البحر الأحمر من الجنوب كما ملك ثغر أيلة على رأسه من الشمال؛ ليمنع الخطر الذي كان في ذلك الوقت يهدِّد البلاد المقدسة من ناحية المسيحيين؛ إذ كانوا يفكرون في حشد أساطيل عظيمة في ذلك البحر لغرض الإغارة على الحجاز وقبر النبي. ولكن لحسن حظه علِم بأمر المؤامرة قبل أن تنفذ خطتهم، وذلك بسعي زين العابدين علي بن نجا الواعظ، فقبض على رؤساء المتآمرين فصلبهم بعد أن حاكمهم وأقرُّوا، وبذلك قضى على النار قبل أن تشبَّ، ولكنه إذا كان قد قضى على رأس الحية فقد خلَّف ذَنَبَها، وسيجد — فيما بعد — صعوبة في تحطيم ذلك الذَّنَب كما سيأتي.

وكان أكبر مَنْ صلَبهم من رؤساء المؤامرة عمارة اليمني الشاعر، وهو الذي حسَّن إلى شمس الدولة أخي صلاح الدين فتح اليمن، وكان يباهي بأنه هو الذي أفسح السبيل للمتآمرين بأن حمَل شمس الدولة على الإقدام على حملة اليمن، وبذلك أبعد جزءًا كبيرًا من الجيش عن مصر، وكان لعمارة أشعار في الفاطميين منها:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة
لك الملامة إن أقصرت في عذلي
بالله زر ساحة القصرين وابكِ معي
عليهما لا على صِفِّين والجمل
وقل لأهلهما والله لا التحمت
فيكم جروحي ولا قرحي بمندمل

وقد أظهر صلاح الدين — كعادته — حكمةً عظيمةً في أنواع العقاب؛ فإنه بعد أن صلب القادة الكبار اكتفى بأن نفى مَن اشترك في المؤامرة من أجناد مصر إلى أقاصي الصعيد، واحتيط على مَنْ بالقصر من سلالة الفاطميين. وأما الذين نافقوا عليه من جنده فلم يتعرَّض لهم ولم يُعلمهم أنه علم باشتراكهم وآثر أن يستميلهم بإزالة ما يشكون منه، وحدث ذلك كله في أبريل سنة ١١٧٤م/رمضان سنة ٥٦٩ﻫ.

ولكن الفرنج لم يعلموا أن المؤامرة قد كُشِفَت وقُضِيَ عليها؛ ولهذا جاءوا من البحر إلى الإسكندرية في يوليو سنة ١١٧٤م/ذي الحجة سنة ٥٦٩ﻫ يحسبون أنهم سيضربون جبهة صلاح الدين يصدعونها على حين يخرج أحلافهم الخونة من خلفه فيجهزون عليه، ولكن خاب ما أمَّلوا.

(٧) وفاة نور الدين

بعد القضاء على تلك المؤامرة بنحو شهر ونصف أتى إلى صلاح الدين نعي نور الدين العظيم، وإنَّا لا نستطيع إلا أن نذكر بالإعجاب ذلك البطل «نور الدين» الذي جعل كل حياته وقْفًا على الدفاع أمام قوم أغاروا على بلاد ليست لهم وأتوا ما أتوا من المظالم في شعب يرى نفسه حاميًا له وملزمًا بالدفاع عنه. وقد كانت حياته سلسلة حروب لا بأس من أن نسميها جهادًا. وقد كان نجاحه فيما قصد إليه نجاحًا كبيرًا؛ فكوَّن دولةً عظيمةً وردَّ تيار الانتصار نهائيًّا من جانب الصليبيين فأصبح في جانب دولة الإسلام، وكان يُدْعَى له على منابر مصر والشام إلى الموصل واليمن. على أن دولته كانت على النظام الإقطاعي؛ يحكم كلَّ إقليم منها حاكمٌ شِبه مستقل يدين له بالدعوة ويرسل إليه العسكر والمال كلما لزم له حرب. وكان نور الدين في خُلقه مثلًا من الأمثلة العليا في الزهد في غير مرارة، والتدين في غير تعصب، والعدالة في غير تشدُّد. وكان هو نفسه في مقدمة المحاربين لا يتأخَّر، بل يحارب بنفسه غير خائف أن يصاب، ولا يطيع مَنْ ينصحه بالاحتراس؛ ولا أدل على روحه من أن نُورِد ما قاله مرةً وقد نصحه ناصح أن يدع الحرب خوفَ أن يصاب فيكون في إصابته هلاك المسلمين، فقال: «ومَنْ محمودٌ حتى يقال له هذا؟ إن مِنْ قبلي مَنْ حفظ البلاد والإسلام؛ وذلك هو الله.»

ولا ندري كيف كان وقْع نبأ موته على صلاح الدين، وأكبر ظننا أنه أساءه أيَّما إساءة وأحزنه أعظم حزن.٢ على أننا لا نقدر أن نتناسى أن موته أخرج صلاح الدين من خطر عظيم؛ وذلك أن الخلاف الذي دبَّ بينه وبينه بعد سنة ١١٧٣م كان لا بد يصل إلى حدٍّ بعيد لو بقي نور الدين حيًّا، ومَنْ يدري هل كان صلاح الدين يحتفظ إلى آخر الأمر بما سار عليه إلى ذلك الوقت من الحفاظ والاعتدال؟

(٨) بدء العصر الثاني من حياة صلاح الدين

بعد أن مات نور الدين تُرِكَت الدولة الإسلامية الكبرى لابنه الملك الصالح إسماعيل وهو صبي يبلغ من العمر نحو إحدى عشرة سنة، وجعل مقامه بدمشق، وحلف له الأمراء الكبار، وضُرِبَت النقود باسمه في كل جهة من أول مصر إلى أطراف الشام. وكان في البلاد الشامية والجزيرة عواصم ثلاث أخذت القيادة في حوادث تلك الأيام؛ وهي دمشق وحلب والموصل، وكان أول صوت أذَّن بالاضطراب في دولة نور الدين آتيًا من نحو الموصل؛ إذ إن سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين (أي ابن عم الملك الصالح) أسرع إلى الاستقلال بما يليه من البلاد وأعلن نفسه أميرًا على الجزيرة، وكان حوله من أمرائه مَنْ يحسِّن له أن يذهب إلى الشام ويستولي عليها؛ فليس بها من مانع، ولكنه آثرَ أن يَقْنع بالجزيرة، وبقيت الشام في أيدي الملك الصالح أو بقولٍ أدقَّ: بقيت في أيدي الأمراء الذين استولوا على الملك الصالح تحت اسم الوصاية عليه وتولِّي تربيته، فكان الأمر في الواقع في يد شمس الدين محمد بن عبد الملك المشهور بابن المقدم بدمشق، وشمس الدين علي ابن الداية؛ وهو أكبر الأمراء النورية، وكان في حلب. وقد شهد الفرنج ما أصاب دولة نور الدين من الصدع بعد موته؛ فإن مصر صارت مستقلة ولو أن صلاح الدين كان خاضعًا في الظاهر للملك الصالح داعيًا باسمه على منابره، وكانت الجزيرة في يد سيف الدين غازي، وحلب في يد شمس الدين ابن الداية، ودمشق والملك الصالح بها في يد شمس الدين محمد ابن المقدم، وكان بين هؤلاء جميعًا تنافس على أيهم يسود، وكلٌّ منهم ينظر إلى الآخر مترقبًا حذِرًا أن يَثِب به إذا هو لقي منه غِرَّة. فانتهز الفرنج الفرصة وألقوا بفرسانهم إلى دمشق وما جاورها، ولم يستطع شمس الدين ابن المقدم أن يقاوم هجماتهم، أو لعله كان يستطيع ولكنه آثرَ أن يَذِلَّ لهم زعمًا منه؛ لأن الأمراء في الموصل وحلب وصلاح الدين في مصر إذا رأوه منشغلًا في حرب الفرنج ينتهزون فرصة انشغاله فيهبطون على ما في يده فيسلبون طعمته. وهكذا يضمحلُّ أمر الدول إذا هوى في أيدي قوم لا يتطلَّعون إلى أبعدَ من أنوفهم ولا يدركون إلا ما تقدره نفوسهم الصغيرة.

فصالَحَ شمس الدولة ابن المقدم الفرنج على مالٍ يعطيه لهم وأسرى يُطْلِقهم ممن كانوا عند المسلمين منذ حروب نور الدين.

وأعقب ذلك بالشام تنافسٌ شديد بين أمير حلب وأمير دمشق على أيهما يستولي على الملك الصالح، وأدى ذلك إلى أخذ الملك الصالح إلى حلب ثم إلى مفاوضة مع سيف الدين صاحب الموصل أن يأتي إلى الشام لكي يُنجي دولة نور الدين من سفه أمرائه المتنافسين، ولكن سيف الدين أبى أن يتدخَّل في ذلك، فارتدَّت المفاوضة إلى جهة مصر، وبلغت الدعوة صلاح الدين ليأتي إلى الشام، وكان قد فرغ من إصلاح أمر مصر وتثبيت قواعد دولته فيها، فلبَّى الدعوة وسار نحو دمشق، وبذلك بدأ أول خطوة في سبيل التدخل في أمر حكام الأنحاء الأخرى من الدولة الإسلامية، ولن ينتهي السير به في ذلك السبيل دون توحيد جميع الدولة في يده فتكون قوة واحدة للجهاد كما كانت في يد نور الدين، وقد وقع ذلك ما بين سنتَي ١١٧٤–١١٨٦م.

(٩) الإفرنج أمام الإسكندرية

كان موت نور الدين — كما قدَّمنا — مؤذِنًا بسعي الفرنج من جديد لكي يستردوا ما أخذه منهم ذلك الملك العظيم، فثاروا بالشام وذهبوا إلى قرب دمشق، وكان أبناء نور الدين ووزراؤهم على غير ما عهد الفرنج من أبيهم العظيم، وكذلك ظنَّ الفرنج الذين اشتركوا في التآمر على صلاح الدين — كما أسلفنا — أنهم يستطيعون عند ذلك أن يضربوا ضربتهم لتكون قاتلة. فاجتمع لهم سفن كثيرة من الشام وصقلية بلغت عِدَّتها نحو ٢٨٢ سفينة، وجاءوا إلى الإسكندرية ونصبوا المجانيق والدبابات عليها في يوليو سنة ١١٧٤م، ولكن شتَّان بين ما لقيهم به صلاح الدين من العدة وبين ما لقيهم به وزير الملك الصالح بدمشق؛ فقد كان أهل مصر واثقين بقائدهم وحاكمهم؛ ولهذا أبدى أهل الإسكندرية من الشجاعة ما أدهش المهاجمين، ثم وصلتهم نجدات العسكر فزادهم ذلك صبرًا في الحرب، ثم بلغ الأمر إلى صلاح الدين فأسرع بجيش إلى الإسكندرية وبالغ في الاحتياط، فأرسل جيشًا آخر إلى دمياط، فلما عرف المدافعون مسيره إليهم دبَّت فيهم حماسة عظيمة وأبلوا بلاء حسنًا، فهُزِمَ الفرنج وغرقت لهم سفن كثيرة وفشلت حملتهم فشلًا تامًّا. ولسنا ندري ماذا كان يحدث لو وقع الهجوم من أربعة شهور قبل أن يقضي صلاح الدين على رءوس المتآمرين في داخل البلاد؟

(١٠) استتباب الأمر لصلاح الدين في مصر

دخل صلاح الدين مصر أول مرة مع عمه سنة ١١٦٤م، ودخلها آخر مرة مع عمه أيضًا سنة ١١٦٩م، ثم أقام بها وزيرًا للعاضد إلى سنة ١١٧١م، ومن ذلك الوقت صار فيها شِبه ملك مستقل خاضع لنور الدين على الأسلوب الإقطاعي، وقابل مشاكل مصر العديدة منتصرًا في كل موقف بغير أن يُحْدِثَ زعجة أو يثير ضجَّة، بل لقد وقف — وهو وزير — بين نور الدين السُّنِّي المجاهد وبين العاضد الفاطمي، واستطاع بكياسته وحسن اختياره أن يحفظ توازنه ويُسيِّر الأمور سيرًا ناعمًا، فلم يحقد عليه العاضد بل ظلَّ على تقديره والإخلاص إليه حتى مات، وليس أدل على ذلك من طلبه رؤيته وهو في أشد حال من مرضه قبل وفاته. وكذلك لم يجد نور الدين في سلوكه ما يجعله يندم على إقرار أمره والموافقة على تقديمه أمام الجلَّة من كبار أمرائه. ثم أصبح — بعد موت العاضد — ملكًا على مصر فعلًا مع بقائه على الخضوع لنور الدين، وبدأ يشترك في أمور الدولة الإسلامية العامة في حين ضبطه لمصر في داخلها وخارجها، فإذا قلنا: إن سياسته كانت تامة النجاح لم يكن في ذلك شيء من المبالغة؛ إذ ما أتى آخر عام ١١٧٤م حتى كان قد أسَّس دولةً فتيَّةً على رأسها جيش واثق برئيسه وتدعمها سياسة اقتصادية حكيمة ملأت خزائن الدولة بغير أن تنسى الإصلاح والتعمير، وإذا كان لرأي الشعب في تلك العصور قيمة فقد أدرك الشعب المصري أن فوقه رجلًا ولا كالرجال، بل هو القائد الفذ والمُصلح الذي لم يُعْهَد مثله؛ فهدأت أحوال مصر وسارت في سبيل الاطمئنان الذي سيعدها لاستقبال عصرها المجيد أيام دولة بني أيوب ومَنْ جاء بعدهم من السلاطين المماليك، فلا نسمع بعدُ بثورة إلا كان القضاء عليها أمرًا لا يحتاج لأكثر من أيامٍ كثورة قامت بها البقية القليلة من أعداء دولة صلاح الدين وكانت في الصعيد بقيادة رجل يُعْرَف بالكنز، فلم تلبث أن قُضِيَ عليها قضاءً يدل على أن أساس الدولة قد صار راسيًا متينًا.

figure
باب زويلة (مثل من بناء سور القاهرة).

ولم ينسَ صلاح الدين أن يجعل لمصر حصنًا كما كان لبلاد الشام حصون، ولم يرضَ عن سور القاهرة ولا عن حصنها فصعد في الجبل واختار أقرب رأس منه مشرف على القاهرة، وفكَّر في أن يبني عليها قلعة، ولا نقدر إلا أن نرى في عزمه هذا أثرًا من آثار العصر وروحه؛ فإن المحاربين عند ذلك كانوا لا يثقون إلا في القلاع سواء في ذلك الفرنج والمسلمون، وكان الشرق من الشام إلى فارس لا يرى العز والمنعة إلا في القلاع في تلك العصور المضطربة، وكانت مصر بلادًا سهلة؛ فمَنْ ملك ناصية الجبل المطل على عاصمتها استطاع أن يمتنع على المغير الأجنبي إذا غزا أرباض القاهرة، وكذلك يستطيع مَنْ يملكها أن يُظهر لكلِّ ذي عينين في تلك العاصمة أن هناك قوة كبيرة ماثلة أمامه يقبض عليها رأس الدولة ويقدر أن يقذف بها على مَنْ يخالفه.

ولكن مشاكل الدولة الإسلامية بعد موت نور الدين دعت صلاح الدين إلى أن يترك مصر وأمورها إلى حين؛ ولهذا لم يبدأ بناء القلعة والسور الذي عزم على إقامته بينها وبين والقاهرة، بل أجَّل ذلك حتى يقابل الأخطار التي كانت تهدِّد دولة نور الدين؛ فأسرع إلى الثغرة ليسدها؛ لأنه شعر أنه وارث العبء بعد وفاة العميد الأول (نور الدين)، وأن عليه واجبًا كبيرًا: وهو جمع الأزمَّة في قبضة واحدة ليتمَّ عمل السابقين في جهاد أعداء الدولة الإسلامية.

(١١) حروب الشام الأولى

كانت رحلة صلاح الدين الأولى أشبه شيء برحلة زيارة؛ إذ إنه لم يُعِدَّ عدَّة الحرب ولم يَظْهَر بمظهر الفاتح، وإنما ذهب إجابةً لدعوة توجَّهت إليه، ووجد في البلاد التي دَعَتْهُ استعدادًا للانضمام تحت لوائه وسرورًا بالاتحاد مع دولته المصرية العظيمة.

سار في نحو سبعمائة فارس في أواخر عام ١١٧٤م/٥٧٠ﻫ حتى بلغ دمشق، ولم يجد حربًا لا من أصحاب البلاد المسلمين ولا من المسيحيين الذين على جانب طريقه، فخرج إليه أهل دمشق وعسكرها ورحَّبوا به، وأعلن أنه إنما جاء في خدمة الملك الصالح ونصرته، وسُلِّمت له القلعة بدمشق، وحدث الانقلاب بغير سفك دماء، ثم سار إلى الشمال نحو حمص وحماة وهو يردِّد إعلان أمره، وأنه إنما جاء في سبيل نصرة الملك الصالح ليمنع عنه جوار ابن عمه سيف الدين غازي من جهة، واستبداد أمرائه من جهة أخرى، واعتداء الفرنج على بلاده من جهة ثالثة، وقد قاومته قلعة حمص حينًا إلى ما بعد حصار حلب ثم سُلِّمت إليه. ولكن انضمَّ إليه صديقه القديم «جورديك» وكان حاكمًا على قلعة حماة وسارا معًا إلى حلب، وكان الأمراء الذين مع الملك الصالح يفزعون من أن يستولي صلاح الدين على حلب خوفًا من أن يكون الملك الصالح في يده دونهم، فقاوموا وجعلوا الملك يستثير حميَّة أهل حلب للدفاع عنه حتى ساعدوه مستبسلين وخرجوا إلى حرب صلاح الدين، وقد بذل أمراء حلب في ذلك الوقت همَّة في الدفاع عن أنفسهم لم يكن صلاح الدين يتوقَّع مثلها منهم؛ فقد كان الأمر أمر حياة أو موت لهم؛ ولهذا أرسلوا باسم الملك الصالح يستنجدون بمَنْ يتوقَّعون منهم المساعدة؛ لا يبالون بشيء إلا بأن يخلصوا من خطر صلاح الدين؛ فأرسلوا إلى الفرنج يطلبون مساعدتهم، وكان كبيرهم «الكونت ريمون» — حاكم طرابلس — ويسميه العرب القمص ريمند، وكان إذ ذاك أكبر أمراء ملك الفرنج المجذوم «بلدوين الرابع»، وكذلك أرسلوا إلى سنان مقدَّم طائفة الباطنية الفدائيين الإسماعيلية لكي يرسلوا فتَّاكهم يغتالون الرجل المخيف الذي قد يعجزون هم وحلفاؤهم عن مقاومته صراحةً في ميدان النضال الشريف، وأرسلوا إلى جهة ثالثة غير مؤمِّلين منها مساعدة — وهي الموصل — حيث كان سيف الدين غازي.

فكان صلاح الدين يحاصر المدينة ويقابل دفاع أهلها الشجعان، في حين كان القمص ريمند يتحرَّك عليه ليأتي إليه من الجنوب فيقطع عليه خط الاتصال مع قاعدة ملكه، وفي الوقت نفسه أرسل رئيس الإسماعيلية جماعة من رجاله فوثبوا بصلاح الدين ولكنهم لم يقدروا أن يصلوا إليه. فرأى صلاح الدين أن قوَّته أقل من مقابلة كل هذه المقاومة التي ما كان يتوقَّعها، وخشي من حركة الفرنج في جنوبه فرفع الحصار عن حلب وعاد إلى حمص ليقابل الفرنج، ولكنهم عادوا ولم يخاطروا بمحاربته عندما رأوه يتحرَّك ضدهم. وأما هو فاغتنم الفرصة لكي لا يجعل من ورائه قلعة تهدِّد ظهره فاستولى على قلعة حمص التي كانت إلى ذلك الحين تقاوم، واستولى كذلك على بعلبك ثم عاد إلى حلب بعد أن جمع من مصر إمدادًا لجيشه، وأعدَّ العدة للنضال والحرب الذي لم يكن في نيته أول الأمر.

وقد كانت العداوة التي أظهرها أمراء الملك الصالح ومقاومتهم تلك التي استعانوا فيها بالفرنج والإسماعيلية ونزولهم إلى وسائل يأباها النضال الشرعي؛ لقد كان ذلك سببًا في أن يقطع صلاح الدين اسم الملك الصالح وأن يعلن في خطبته استقلاله منذ سنة ١١٧٥م، وقد خلع عليه الخليفة العباسي ولقَّبه سلطانًا وأصبح له مكان شرعي فوق قوَّته الفعلية، فلما عاد إلى حلب كما تقدَّم وجد جنود سيف الدين غازي قد وصلت؛ لأن ذلك الأمير قد تغلَّب عليه الخوف من صلاح الدين، فبعد أن كان حذرًا لا يريد التدخُّل في أمور الشام رأى أن يساعد الملك الصالح حتى لا يدع مُلْك صلاح الدين يقوى ويصبح خطرًا على استقلاله في الجزيرة، فقابل صلاح الدين جنود الموصل عند «قرون حماة» فهزمهم، ثم عاد إلى حلب فحاصرها حتى اشتدَّ الأمر على مَنْ بها، ففاوضوه في الصلح على أن يُبْقِي كلٌّ من الجانبين ما في يده من البلاد، وبهذا أصبح ملك صلاح الدين ممتدًّا من مصر إلى حماة، وجعل ينظِّم دولته الجديدة فولَّى على إقطاعها أمراء من أهله وممن يثق بهم.

غير أن الصلح بين الجانبين لم يدم طويلًا، وكان نقضه على يد سيف الدين غازي صاحب الموصل؛ إذ عاد بعد عام إلى حلب، وكان صلاح الدين مطمئنًّا إلى المعاهدة التي أبرمها معه في العام الماضي فأرسل جنوده إلى مصر، وكانت تلك غِرَّة منه لو عرف أعداؤه أن ينتهزوها، ولكنهم — لحسن حظه — تباطئوا، ولعل ذكر النصر الماضي الذي أحرزه صلاح الدين هو سبب ذلك التباطؤ الذي نشأ عن مبالغة أعدائه في الحذر منه؛ فوجد صلاح الدين زمنًا كافيًا لجمع الجنود والسير إلى أعدائه والراحة بعد جهود السير السريع، وكان لقاء جيش سيف الدين قرب حلب عند «تل السلطان»، وهناك كان اسم صلاح الدين وعدم ثقة جنود سيف الدين بقوادهم سببين داعيَين إلى الانهزام بغير مصاف، وهرب سيف الدين عائدًا في خوف إلى الموصل تاركًا جيشه تحت أخيه عز الدين. وتبع صلاح الدين المنهزمين إلى حلب وبعث بعوثه إلى الحصون المجاورة مثل منبج وأعزاز ففتحهما، وحدث له في حصار أعزاز حادث يستحق أن يُذْكَرَ؛ وذلك أن فتَّاكي الإسماعيلية عادوا مرة أخرى إلى الوثوب به، حتى إن أحدهم وصل إليه بيده وضربه في رأسه بسكين ولولا المغفر لقتله، فأمسك صلاح الدين بيده ولكنه لم يقدر على منعه من الضرب، فكان يضربه في عنقه ضربات ضعيفة لم تؤثِّر فيه؛ إذ كان عليه الكزاغند يحميه، واستمرَّ الفاتك يحاول التخلُّص من قبضته ويضربه حتى أدركه بعض أمرائه فقتلوا ذلك الفتَّاك، فهجم آخر عليه، ثم ثالث، فقُتِلَا دونه ونجا صلاح الدين نجاة عجيبة، ولكنه مع ذاك بقي على حصار قلعة أعزاز حتى فتحها، فأصبحت حلب معزولة وسط أملاكه، ورأى مَنْ بها ضعف موقفهم ففاوضوا في الصلح مرة أخرى. ومن العجيب أن صلاح الدين مع انتصاره ومع ما شهده من دناءة أعدائه في التجائهم إلى النذالة في الكيد له ونقضهم العهد معه، نقول: من العجيب أنه قَبِلَ مفاوضتهم ولم يشتطَّ عليهم في الشرط، بل ترك لهم حلب ونزل عن أعزاز إكرامًا لابنة صغيرة لسيده نور الدين، وكانوا أخرجوها إليه فطلبت تلك القلعة التي كاد يهلك في أثناء فتحها، فأجابها إلى ذلك وأضاف هدايا ذات قيمة مراعاةً لذكرى أبيها، واتفق الجميع في آخر يوليو سنة ١١٧٦م على أن يكونوا يدًا واحدة على مَنْ ينقض العهد.

ولنترك هذا التصرف بغير تعليق لعله ينبئ بشيء مما كان عليه صلاح الدين، أو لعل فيه ردًّا بليغًا على مَنْ يتهمه بقلة الوفاء.

(١٢) موقف صلاح الدين أمام أسرة نور الدين محمود

لا يضير الرجل العظيم أن يُذْكَرَ له عيب، ومتى كان الإنسان كاملًا؟! وهكذا أمر صلاح الدين؛ فليس يضيره أن يقول قائل: قد كان به نقص ولو كان ذلك النقص خُلقيًّا؛ فكثيرًا ما يعمد رجال الدولة — ولا سيما رجال السيف — إلى وسائل تأباها الأخلاق ولكن تبررها الحاجة العملية، فيمر عليها التاريخ متساهلًا كأنما يهزُّ رأسه مستسلمًا لطبيعة الأشياء، ولكنا مع ذلك لا نرى مَنْ يطعن على صلاح الدين في موقفه أمام أسرة نور الدين ويتهمه بقلة الوفاء والجحود؛ فإنَّا نرى الوقائع كلها تدل دلالةً لا شك فيها على أن صلاح الدين كان دائمًا يؤثِر أن يخسر شيئًا من الدنيا في سبيل الأخلاق والقلب، وما كان هو ممن يتخطَّون الفضائل في سبيل شيء من الأشياء ولو كان مما يكبر في الأعين. حقًّا لقد سار صلاح الدين إلى الشام واستولى على دمشق ثم وقف بعد ذلك وحارب جنودًا اسمها جنود الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين. وهكذا يقول بعض القائلين: لقد كان صلاح الدين رجلَ طمعٍ في الدنيا فضحَّى من أجلها بما كان يجب أن يرعى من ذمة في بيت له عليه فضل النعمة والتربية.

لسنا ندري ماذا كان هؤلاء يريدون؟ استولى الملك الصالح اسمًا، وتنافس على اسمه أمراء أيهم يسود فيستعمل رقية ذلك الاسم في النفوذ إلى غرضه؟ وكان من وراء ذلك التنافس أن أصبحت الدولة الإسلامية واهنة محطمة تمد يدًا سفلى إلى أعدائها الفرنج بعد أن كانت تُمْلِي عليهم إرادتها أيام نور الدين. وقد كان صلاح الدين شريكًا في إقامة تلك الدولة العظيمة، وشهد من نصرها ما كان يجعله يدرك مرارة الموقف الجديد من الخذلان، ثم رأى الأمراء المتنافسين وهم يتهافتون على أشياء لا يقيم هو لها وزنًا، وما كان نور الدين العظيم ليرضى عن ابنه ومن استولوا عليه لو أنه شهد ما صنعوا؛ ولهذا نرى أن صلاح الدين كان يخطئ أفحش خطأ لو هو رضي بما وقع ولم يحرِّك يدًا لمنع الصرح المجيد من أن يهوي إلى الأرض محطمًا.

وكان من حسن حظ دول الإسلام أنه اتبع ما أملاه عليه قلبه العظيم، ولم يخشَ تهمة يتهمه بها جانب من الجوانب ما دام هو يحس من نفسه شرف ما هو صانع وخلاص نيته في القصد إلى المصلحة.

(١٣) فترة السلام

إذا قلنا: إن صلاح الدين أقبل منذ ١١٧٦م/٥٧٢ﻫ على فترة سلام دام نحو ست سنين إلى سنة ١١٨١م/٥٧٧ﻫ فليس معنى هذا أنه لم يحارب طول تلك المدة؛ إذ إنه لم يخلُ عام من حياته من حرب منذ دخل ميدان العمل. وقد كان عصره عصر كفاح مستمر وعصر اضطراب وثوران في داخل النفوس، واضطراب وثوران في العالم الخارجي، وقد كان هو نفسه نتيجة ذلك الاضطراب إلى حد عظيم. وإذن فمعنى أن هذه الفترة كانت فترة سلام ينصرف إلى علاقاته بالدول الإسلامية؛ فإنه يظهر في هذه السنين الست بمظهر المصلح الداخلي الذي يريد أن يقيم دولته على قواعد ثابتة من القوة الحقيقية: قوة الثروة والقانون؛ فكان يتردَّد بين مصر والشام؛ يُصلح من أمر مصر بحسب ما تقتضيه حاجاتها الزراعية، ويحاول أن يحصِّنها تحصينًا يمنع إقليمها السهل أن يكون طعمة للمغيرين، ولم ينسَ أن طبيعتها تستلزم حكومة موحَّدة قوية المركز فقلَّل من الأقطاع فيها، وجعل أمراء الأقطاع الذين فيها لا استقلال لهم ولا تصرُّف إلى جانب الحكومة المركزية، وجعل يقيم فيها المدارس والمستشفيات وأمثالها من مستلزمات المدنية المستقرة، على حين كان يُصلح من أمر بلاد الشام بحسب ما يقتضيه موقعها؛ إذ كان ذلك القُطْر جبهة الإسلام وميدان النضال بينه وبين القوة المسيحية المغيرة، فكان من الطبيعي له أن تغلب عليه الصفة الحربية، فأقطع بلاده لأمرائه وجعلهم أشباه مستقلين تحت زعامته لا يطمع منهم في أكثر من أن يتبعوه إلى الحرب ويظلوا معه حتى يعطيهم الدستور فيعودوا إلى بلادهم، وكان في كثير من الأحوال يداري هؤلاء الأمراء ويَقْنع منهم بأن يخضعوا راغبين تحاشيًا لكثرة الاحتكاك معهم، وهم قوم قد جرَّأتهم كثرة الحروب وضرَّاهم النضال المستمر، فلم يكن نضالهم بالهيِّن ولا شوكتهم بالليِّنة.

ولعل انصراف صلاح الدين إلى إصلاح دولته قد جعل جيرانه المسيحيين يشعرون بخفة وطأة الدولة الإسلامية، أو لعل ظروف أوروبا ووجود حركة جديدة بها ترمي إلى تعزيز كلمة المسيح في الشام وتجديد قوة الصليبيين التي حطَّمها نور الدين، أو لعل كلا السببين عملا معًا على أن يتجرَّأ الصليبيون ويُغِيروا على ما يليهم من البلاد الإسلامية التي أُخِذت منهم في مدة السنين الماضية؛ ولهذا تجد أن صلاح الدين في هذه السنوات الست لم يكن في سلام تام، ولكن أكثر الحروب التي خاضها كانت مع المسيحيين، ولم يكن هو البادئ بها بل كان في أغلبها مدافعًا.

على أنه كان بين حين وحين يدخل في نضال هيِّن مع بعض الأمراء المسلمين إما لخروج أمير من أمراء أقطاعه عليه وإما لتمنُّع جارٍ عن أداء واجب تعهَّد به.

كان أول عمل اهتمَّ له السلطان — بعد صلح سنة ١١٧٦م — محاولته القضاء على الإسماعيلية؛ لتكرُّر اعتداء فتَّاكيهم عليه، وكان لهم قلاع بالشام أكبرها «مصيات» فذهب إليها ونهب عسكره منها غنائم كثيرة واكتفى بهذا المقدار ورجع عنهم بشفاعة خاله.

وبعد ذلك بدأت أول حلقة من سلسلة مواقعه مع الفرنج، وكان الحرب بين الطرفين سجالًا، ولكن صلاح الدين ابتدأ حروبه بانهزام عظيم سنة ١١٧٧م/٥٧٣ﻫ عند الرملة، وكان ذلك الانهزام نتيجة نقص في الاحتراس وتراخٍ في النظام عندما كان جيشه يعبُر نهرًا، وقد قُتِلَ في تلك الواقعة جماعة من أهله وأُسِرَ غيرهم، وكان من أعز الأسرى عليه الفقيه المحارب عيسى الهكاري صديقه القديم الذي كان له يد كبرى في منع خروج الأمراء عليه عندما تولَّى الوزارة بعد موت عمه شيركوه، وقد افتداه السلطان بستين ألف دينار، وكانت كسرة الرملة ذات أثر كبير في نفسه، حتى إنه ذكرها لأخيه شمس الدولة تورانشاه في خطاب قال فيه:

ذكرتك والخَطِّيُّ يخْطِرُ بيننا
وقد نهلت منا المثقَّفة السُّمر

ويقول أيضًا: «لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما أنجانا الله إلا لأمرٍ يريده سبحانه.»

وقد أطمعت واقعة الرملة المسيحيين فساروا إلى حماة، وكان صاحبها خال صلاح الدين «شهاب الدين الحارمي»، ولكن حظ الإفرنج كان هذه المرة أقل سعدًا فانهزموا بعد أيام أربعة، وساروا إلى قلعة حارم (بقرب حلب) — وهي داخلة في دولة الملك الصالح — فلم يقدروا على أخذها كذلك، وأغاروا على حمص فاكتفوا بنهب ما وصلت إليه أيديهم.

وكان صلاح الدين قد عاد إلى مصر بعد كسرة الرملة ليُصْلِحَ ما أفسدته تلك الهزيمة، ولم يطُلْ مكثه بها بل عاد إلى الشام، وكانت عودته في الوقت المناسب؛ لأن الصليبيين كانوا يسيرون بين حلب ودمشق في جرأة لم تُعْهَد منهم منذ نصف قرن. ومنذ عودته إلى الشام رجحت كفة المسلمين فهزموا أعداءهم مرة قرب دمشق سنة ١١٧٨م/٥٧٤ﻫ، وسار صلاح الدين بعد ذلك إلى حصن كان الفرنج بنَوه بقرب دمشق واسمه مخاضة الأحزان، وهناك كانت موقعة كبرى سنة ١١٧٩م/٥٧٥ﻫ هَزَمَ فيها الفرنج وأَسَرَ كثيرًا من أبطال الصليبيين مثل مقدَّم الداوية (رئيس فرقة التمبل أو المعبد)٣ ومقدم الاستبارية (رئيس فرقة القديس يوحنا)٤ و(هيو) صاحب طبرية. وما زال صلاح الدين بعد ذلك النصر حتى فتح الحصن (مخاضة الأحزان) ودمَّره وألحقه بالأرض. ومنذ ذلك الحين استمر الرجحان إلى جانب الدولة الإسلامية وأخذ صلاح الدين خطة الهجوم، وكان يده اليمنى في هذه الحروب الأمير عز الدين «فرخشاه» ابن أخيه «شاهنشاه»، وكان بطلًا أظهر مقدرة كبرى في موقعة دمشق سنة ١١٧٨م وموقعة مخاضة الأحزان سنة ١١٧٩م، وقد جعله صلاح الدين أميرًا على بعلبك، ومن هناك جعل يهوي على ما جاوره من بلاد الفرنج مثل الكرك سنة ١٨٨١م، وكان من أمنع حصون الفرنج وصاحبها البرنس أرناط «رجنالد دي شاتيون» وهو من أشجع أمراء الفرنج كما كان من أقساهم وأكثرهم غدرًا.

وكان صلاح الدين في أثناء هذه الحروب غير خالص من المتاعب مع جيرانه المسلمين، ولكن يجب أن نذكر أن الملك الصالح وسيف الدين غازي (الثاني) بقيا على عهدهما إلى أن لحِقَا بربهما، وسواء أكان بِرًّا بالعهد أم خوفًا من النضال الذي لا أمل للانتصار فيه فإن صلاح الدين لم يذمَّ جوارهما بعد صلح سنة ١١٧٦م، وكان أكبر نضاله مع صاحب قونية وهو «قلج أرسلان»، ولا حاجة بنا أن نقول: إن قلج رأى بعد قليل أن الحكمة في أن ينثني أمام قوة جاره العظيم.

(١٤) أعمال صلاح الدين بمصر بين سنة ١١٧٦–١١٨١م/٥٧٢–٥٧٧ﻫ

كان صلاح الدين يتردَّد إلى مصر بين حين وحين عندما يرى يده خالية من أعمال الحرب في الشام وما يليها، وكان ينتهز فرصة وجوده في تلك البلاد لكي يقيم فيها المدنية التي هي جديرة بها؛ فقد كان يحس أن مصر هي الإقليم الذي يليق للمدنية بحكم ثروته وطبيعة موقعه؛ فإن ذلك الوادي الخصب منعزل عن العالم الخارجي بصحاري تكنفه من الشرق والغرب، وحدوده من الشمال طبيعية لا يسهل على المغير اختراقها لا سيما في تلك الأزمنة، فلا بد أن تكون منه دولة وأن تكون دولة عظيمة إذا وجدت مَنْ يُسيِّر دفَّتها تسيير حكيم خبير. وقد أدرك صلاح الدين بعينه الثاقبة وذكائه المتوقِّد أن عظمة تلك البلاد في الماضي آية على أنها من أصلح أراضي العالم للمدنية لو عرف أهل الحكم فيها كيف يصلون إلى إقامتها من قواعدها الصحيحة. ولكن الحرب عدو للاطمئنان والاستقرار، والمدنية لا تنبت إلا في جوٍّ من الطمأنينة التامة؛ ولهذا رأى أن يجنب ذلك القُطْر شرور الاضطراب بقدر ما تسمح به الظروف، فعمل ما في وسعه لتحصين بلاد الشمال من إغارة الفرنج بعد أن علم مَنْ سبقت لهم إغارة عليها أن حربه تُكلِّفهم كثيرًا. ثم رأى أن الوقت لائق لتحصين الداخل ببناء القلعة التي سبق له التفكير فيها وبناء سور حول العاصمة يقيها العدوَّ إذا هو هبط إليها.

figure
برج في القلعة.

فبدأ في بناء القلعة بعد عوده من الشام سنة ١١٧٦م بعد أن انتهى من الصلح مع الملك الصالح وسيف الدين غازي (الثاني)، وبعد أن فرغ من نهب بلد الإسماعيلية كما تقدَّم، ولكنه لم يستطع إتمام كل البناء في حياته؛ لأن الحرب لم تلبث أن دَعَتْه مرة أخرى إلى ترك ما في يده من الأعمال الوادعة وخوض غمار الدماء بعد سنة ١١٨١م، وسيظل في ميدان القتال بعد ذلك إلى وفاته.

وليست القلعة الحالية التي نراها بالقاهرة هي قلعة صلاح الدين بعينها؛ فقد دخل عليها من التغيير شيء كثير في مدة مَنْ جاء بعده من أسرته أولًا ثم من دولة المماليك بعد ذلك. والذي تمَّ بناؤه من القلعة في حياة صلاح الدين هو هيكلها وبئر الحلزون الذي حُفِرَ في الصخر إلى عمق نحو تسعين مترًا، وكذلك السور بين القلعة والقاهرة على حافة الجبل الشرقي في المكان الذي به (باب الوزير). وأما سائر القلعة فلم يتم إلا في مدة الملك الكامل ابن أخيه بعد نحو ثلاثين سنة من وفاته. وقد أقام صلاح الدين سورًا آخر على حافة الصحراء الغربية بالجيزة تحصينًا للقاهرة من الغرب، ولكن ذلك العمل كان في مدة متأخرة بعد عام سنة ١١٨١م. وبناء القلعة والسور ليس مثل بناء سور القاهرة القديم ولا مثل السور الذي جدَّده بدر الجمالي في دولة الفاطميين؛ فإن مباني القاهرة كانت — في الغالب — على النمط البوزنطي منقولة عن مباني القسطنطينية والدولة الرومانية الشرقية.

figure
باب في قلعة صلاح الدين.

وأما مباني قلعة صلاح الدين فكانت على النمط الفرنجي، وليس ذلك بغريب؛ فقد نشأ صلاح الدين في الشام وحارب فيها وعرف أساليب دفاع الفرنج في حصونهم، فكان ذلك النمط أقرب إلى نفسه. ولعله كذلك كان أوفى بغرضه من النمط البوزنطي، وكان يجعل عماله في بناء القلعة جماعات من الأسرى المسيحيين الذين كان يأسرهم في حروبه.

لكن نظر صلاح الدين إلى الإصلاح لم يكن مقصورًا على التحصين، بل إنه كان يرى أن أساس عظمة الدولة لا بد أن يكون الشعب فانصرف إلى العناية به.

ولقد كان صلاح الدين بطبعه رجل سلام ومدنية، ولو أنه كان ملكًا في غير تلك العصور لكان كالمأمون وأمثاله، ولكنه اضطر — بحكم عصره — أن يجعل حياته للكفاح والنضال؛ ولذلك نجد أعمال السلم قليلة إلى جانب حروبه العظيمة.

فبينما كان يُطهِّر الترع القديمة ويقوِّي جسور النيل وينظِّم الضرائب بمساعدة رجال أفاضل مثل القاضي الفاضل والعماد الكاتب كان لا ينسى الوجهة الأدبية؛ فأدخل نظامًا جديدًا في التعليم لم يكن من قبلُ موجودًا بمصر؛ وذلك هو نظام المدارس.

figure
صورة باب في سور القاهرة على الشكل البوزنطي.

لقد كان من قبلُ في مصر مدارس كبرى مثل دار الحكمة والأزهر وجامع عمرو، ولكن الأول والثاني كانا خاصين بتعليم أسرار الشيعة والباطنية، فكان التعليم بهما مصبوغًا بصبغة الدعوة الفاطمية. وأما جامع عمرو فكان في الواقع مدرسة صغيرة لا تفي بغرض التعليم العام؛ ولهذا بدأ صلاح الدين بإدخال نظام المدارس العامة التي يسمح فيها بالعلم لكل مَنْ شاء، وبدأ في ذلك منذ صار في مصر وزيرًا للعاضد الفاطمي. وما زال بعد ذلك يزيد في هذه المدارس حتى صار منها كثير في أنحاء القاهرة مبعثرة من قرافة الإمام الشافعي في الجنوب إلى سوق السلاح في الشمال، ولعل عظَمة الأزهر — بصفته مدرسة للعلم — لم تبدأ إلا منذ ذلك الوقت. ولكن لم يكن في تلك المدارس ما سُمِّي باسم صلاح الدين، ولعل ذلك كان ناشئًا من خُلقه المتواضع، فلا نعرف إلا قليلًا من أعماله ما أطلق عليه اسم نفسه قصدًا.

على أننا لا نستطيع أن نقول: إن صلاح الدين أدخل التعليم بالمعنى الحديث وإلا كان ذلك إنكارًا منا لروح العصر؛ فإن التعليم الدنيوي — أي تعليم الناس كيف يعرفون الحياة ويعملون فيها — لم يكن القصد من المدارس في ذلك الوقت؛ فإن أكبر ما كان يدرس فيها هو القانون أو الشريعة على المذاهب الأربعة. وأما التعليم الصناعي وغير ذلك من فروع العلم المتعلقة بالحياة المادية فلم يكن ذا شأن في تلك المدارس، بل كان متروكًا إلى أهل الصناعة أنفسهم، كل طائفة تسير على خطتها فيه، ويتعلَّم الصغار بالممارسة طريقة الكبار الذين سبقوهم في الصناعة.

وأما التعليم الحربي فكان في داخل الجيش نفسه، وكان كل ما يتعلَّق بآلاته واستعمالها يتعلَّمه الأفراد ممن نبغوا في الفن. وكان رجال الجيش كلهم — أو على الأقل جُلُّهم — من الأتراك والأكراد الذين في خدمة الأمراء، فكان التعليم مقصورًا على طائفتهم، فيدخل الصغير الخدمة ولا يزال بها يتقلَّب على أنواع الأعمال ويتعلَّم أثناء ذلك تدريجًا ما يؤهله للجندية، واستمر هذا إلى أن زاد الأمر زيادة كبرى في هذا السبيل عندما صار الجيش من المماليك بعد عصر صلاح الدين وصدر الدولة الأيوبية.

وإذا قلنا: إن التعليم في ذلك العصر كان ناقصًا من هذه الجهة فليس معنى ذلك أنه كان ناقصًا إذا قِسْناه بما كان في العالم إذ ذاك؛ فإن الواقع كان غير ذلك؛ لأن الدولة الإسلامية كانت في ذلك العصر هي الدولة المستنيرة ذات العلم والصناعة والمدنية الموروثة عن القرون الماضية من مدنيات الدول الإسلامية السابقة، في حين كان العالم الغربي لا يزال ناشئًا يفتح عينيه لأول أشعة النور الضئيلة.

وكان للإصلاح الذي أدخله صلاح الدين أثر عظيم في مصر بنوع خاص؛ وذلك أن مصر بقيت بعد ذلك دولة محصَّنة قاومت الهجمات العنيفة التي صدمت العالم الإسلامي بعد ذلك بقليل عند هجوم التتار ذلك السيل الجارف المخرب، واحتفظت مصر لهذا بكنز من العلم الأدبي ودراسة القانون الإسلامي، فلم ينحطَّ مستوى الحياة الأدبية في الشرق عامة وفي مصر خاصة إلى المستوى الذي هبط إليه في القرون الوسطى والعصور المظلمة في أوروبا، بل بقي الشرع عاليًا أمام الناس؛ يحفظه كثير من أهل البلاد، وتعلو أصواتهم بالاحتجاج على مَنْ يعبث بالناس ويخرق القانون، فقلَّل ذلك من سوء الحال أيام الاستبداد الذي هوى إليه العالم الإسلامي في القرون التي تَلَتِ القرن الثالث عشر.٥ ولعل هذا هو السر في أن الشعب الإسلامي — ولا سيما المصري — لم ينحطَّ إلى درك العبودية أو شِبه الرِّقِّ الذي كان فيه شعب أوروبا في عصر جهالته؛ فقد كان من حفظة الشرع مَنْ ينشر على الناس أحكام القانون ويُعلمهم ما يجب عليهم وما يحق لهم، ومَنْ يرفع منار القانون عاليًا أمام الحاكم حتى لا تضلَّ أحكامهم ضلالًا بعيدًا أو تجرفهم فوضى الحروب إلى الاستهانة بالحريات؛ ولهذا كان الشعب دائمًا محتفظًا بكثير من كرامته وحقوقه. وأما ما نسمعه عن مظالم العصور التي أتت بعد القرن الثالث عشر فكان أكثرها مظالم مالية لا شخصية، وكانت أكثر المظالم الشخصية واقعة على الأمراء والجنود، وهؤلاء منعزلون تمام الانعزال عن الشعب؛ فقد كان الأمراء يوقعون بعضهم ببعض ويخترقون القانون في أثناء نضالهم ويرتكبون الفظائع، ولكن ذلك لم يتعدَّ كثيرًا إلى الأهالي الذين كان العلماء على رأسهم حُماة للحريات الشخصية،٦ واستمر هذا الأثر طول مدة استقلال مصر إلى أن تغيَّر الحال بعد فتح الأتراك العثمانيين لها.

(١٥) استئناف الحروب بالشام والجزيرة

لم يستطع صلاح الدين أن يُبْقِي على أعمال الإصلاح رغم مَيله للسِّلم؛ فإن الظروف دعته أن يترك العيشة العملية السلمية ويقبض على السيف مرة أخرى؛ فإنه في مدة الفترة التي سبق الكلام عليها في الفقرة السابقة توفِّي صاحب الموصل سيف الدين غازي (الثاني) أحد المشتركين في صلح سنة ١١٧٦م، وتولَّى بعده أخوه عز الدين؛ إذ لم يكن له إلا ولد صبي صغير، ورأى قواد الدولة أن تولية ذلك الصغير ذات خطر خوفًا من أن ينتهز صلاح الدين تلك الفرصة فيضم بلاد الجزيرة والموصل إلى دولته.

ثم مات الملك الصالح أيضًا سنة ١١٨١م وأوصى أن تسلَّم حلب إلى ابن عمه عز الدين نفسه صاحب الموصل حتى لا يتمكَّن صلاح الدين من أخذها. وهكذا كان بيت عماد الدين زنكي يخشى كل الخشية أن يذهب ملكه إلى صلاح الدين. ومن أجل هذه الخشية كان عز الدين ومَنْ معه من الأمراء يجتهدون في إثارة المصاعب أمام منافسهم القوي حتى لا يفرغ لهم. ولكنهم دلُّوا بذلك على أنهم لم يفهموا ما انطوت عليه نفس ذلك الرجل.

فإنهم لو سكتوا عنه لكان أغلب الظن أنه يدعهم حيث هم؛ فقد كان يَقْنع بأن يكون آمنًا من ورائه، بل إنه كان يكتفي من فتوحه في البلاد التي يحكمها حاكم مسلم بأن يخضع له ذلك الحاكم فيقره على حكمه ولا ينقص من سلطته شيئًا، أما وقد حاول هؤلاء أن يخونوه بإثارة المتاعب أمامه وتحريض أعدائه الفرنج عليه فقد رأى أنه لن يستطيع التفرُّغ لعمله آمنًا إلا بعد أن يأمن ناحية الشمال من قِبَلِ حلب والجزيرة، وعلى ذلك نراه ابتدأ — بعد موت الملك الصالح — بأن يضرب الضربة الفاصلة عند حدود دولته الشمالية.

وقد كانت الظروف مساعِدَة له؛ لأن خلافًا نشأ بين عز الدين وبين أخيه عماد الدين زنكي (الثاني) على اقتسام تلك الدولة الشمالية، واستقرَّ بينهما الأمر أخيرًا على أن تكون حلب لعماد الدين والموصل والجزيرة لعز الدين، وبهذا كان أمام صلاح الدين قوتان منقسمتان بدل دولة موحَّدة تقف في سبيله.

خرج صلاح الدين من القاهرة في مايو سنة ١١٨٢م/٥٧٨ﻫ، وكان ذلك آخر عهده بها؛ فقد بقي في الشام في حربه وجهاده إلى أن مات سنة ١١٩٣م/٥٨٩ﻫ، وقد حدث أثناء وداعه حادث اتفق صدقه؛ فإنه كان مجلس وداع ينتظر اجتماع الجيش ليسير وكان بين الحاضرين معلِّمٌ لبعض أولاده فأخرج رأسه من الحاضرين كأنه يودِّع السلطان، وقال البيت المشهور:

تمتَّعْ من شميم عَرَار مجدٍ
فما بعد العشية من عَرَار

فتطيَّر صلاح الدين منه وتنكَّد المجلس، وقد صدق ذلك الفأل فلم يعُد صلاح الدين بعد ذلك إلى القاهرة حتى مات.

ذهب صلاح الدين إلى الشام وبدأ بإغارات صغيرة على بلاد الفرنج، وحاصر بيروت حصارًا قصيرًا بمساعدة الأسطول المصري الذي أصبح عند ذلك قوة يُعْتَد بها في حروبه، غير أنه لم يلبث في هذه المناوشات طويلًا بل قصد إلى غرضه الأول وهو حرب الجزيرة، فعبَر الفرات سنة ١١٨٢م وساعده جماعة من أمراء عز الدين الموصلي؛ ولهذا تمكَّن من امتلاك كثير من البلاد بغير حرب أو بحرب يسيرة، وكان عز الدين قد أوعز إلى الفرنج أن يهاجموا دمشق ليفرجوا عنه، إلا أن صلابة صلاح الدين تغلَّبت، فبقي على حربه وحصر الموصل. على أن مناعة المدينة جعلته يرفع حصارها ويذهب إلى بلاد أقل منها مناعة مثل سنجار، فملكها وبذلك صار له أغلب بلاد الجزيرة وأصبحت الموصل معزولة عن حلب، وصار يستطيع أن يهبط إلى كلٍّ منهما على حِدَة، فالتمس عز الدين مساعدة جيرانه من الأمراء مثل شاه الأرمن (وهو أمير مسلم)، ولكن ذلك لم يُجْدِهِ كثيرًا فتفرَّق عنه حلفاؤه بعد قليل.

واستمر صلاح الدين على تملُّك البلاد الجزرية وشمال الشام مثل آمد وتل خالد وعينتاب، وكان انتصاره فيها — كما سبق القول — سهلًا في أغلب الأحوال؛ لميل الأمراء إلى الانضواء تحت لوائه المنصور وترك جانب عز الدين.

وفي أثناء هذه الانتصارات على أمراء الجزيرة وشمال الشام كانت الأساطيل المصرية في البحر الأبيض والبحر الأحمر تُحرز الانتصارات الباهرة على الفرنج حلفاء عز الدين؛ ففي سنة ١١٨٢م انتصر حسام الدين لؤلؤ القائد البحري المصري عند أيلة على رأس خليج العقبة، ثم عند ساحل الجوزاء في شمال الحجاز على جماعة من الفرنج أرسلهم البرنس أرناط «رجنالد دي شاتيون» صاحب الكرك؛ ليوقعوا بالمسلمين الذاهبين إلى الحج، وقد أخذ لؤلؤ جماعة من أسرى الفرنج وأرسلهم إلى «مِنَى» ليُنحروا بها، فكان ذلك جوابًا قاسيًا على محاولة أرناط الفتك بالحُجَّاج المسلمين، وكان الأسطول المصري بالبحر يتربَّص بالفرنج إذا هم قربوا من سواحله، وكان كثيرًا ما ينقضُّ على سفنهم فيأسر ويغنم، حتى اضطرَّ المسيحيون إلى عقد هدنة مع صلاح الدين لمدة أربع سنوات تنتهي سنة ١١٨٨م/٥٨٤ﻫ.

وقد تُوِّجَت انتصارات صلاح الدين أخيرًا بملك حلب سنة ١١٨٣م وأخذها من عماد الدين زنكي الثاني صاحبها. على أن يعطيه بدلها بعض بلاد الجزيرة، وبذلك أصبح آمنًا على حدوده الشمالية، وصار عماد الدين الضعيف حاكمًا على غرب بلاد الجزيرة — وهي بلاد يسهل عليه فتحها إذا أراد، وأصبحت بلاد عماد الدين مانعًا من الاصطدام بينه وبين الأمير القوي الشجاع عز الدين صاحب الموصل.

لم يجد صلاح الدين بعد ذلك صعوبة في أخْذِ سائر القلاع الشمالية من الشام مثل حارم، وكان يَقْنع من أصحابها الأمراء المسلمين بالخضوع ويصالحهم على إقرارهم على ما في أيديهم بشرط أن يكون إقطاعًا لهم وأن يكونوا هم وعسكرهم معه إذا دعاهم إلى الجهاد.

(١٦) آخر النضال مع الموصل

هل كان صلاح الدين ليَقْنع بدولته هذه ويرجع إلى مصر ليضع أساس ملك ثابت الأركان؟ أو كان لا بد له من الاستمرار على الحرب إلى نهايته المُرَّة؟ لا حاجة بنا لأن نقف طويلًا متردِّدين عند هذا السؤال؛ فقد كان صلاح الدين وارث دولة نور الدين، وكان عليه عبء الاستمرار على جهاده مع الفرنج، وما كان يقدر أن يخرج على روح العصر وينتحي وادعًا مسالمًا، ولا يزال الخلاف بين الشرق والغرب على أشد ما يكون ولم تَخْبُ ثائرته، ولو أنه استطاع ذلك وقعد عن الحرب لاضطرَّ إلى الدفاع عن دولته بعد قليل؛ لأن الفرنج كانوا إذا شعروا بهدوء في هجوم المسلمين قاموا إلى تحقيق حلمهم القديم وهو تكوين دولة مسيحية عظيمة في أحشاء الشرق الأدنى، فكان صلاح الدين مرغمًا على أن يحارب؛ ولهذا رأى بعينه الثاقبة أنه لا بد أن يستعدَّ للنضال الذي جعله قصد حياته.

ولم يبقَ أمام صلاح الدين بعد ذلك إلا خطوة واحدة حتى يصبح سيد كل الدول الإسلامية بالشام والجزيرة؛ فيقدر أن يهوي بتلك القوة العظيمة على الصليبيين فيضربهم الضربة التي كان يستعد لها طول تلك المدة. على أنه لم ينسَ أن يجسَّ المسيحيين بين حين وآخر، وكان موضع جسه حصن الكرك وفيه ذلك الفارس الشجاع «أرناط». على أنه كان كلما حاصره عرف عجزه عن أخذه مع خوفه من جانب الموصل، وكان موقنًا أنه إذا اشتبك مع المسيحيين كان النضال نضال حياة أو موت، فلا يفارق أحد الجانبين عنق الآخر إلا بموت واحد منهما؛ ولهذا آثر أن يبدأ بعلاج البثرة التي في جانبه قبل أن يلج باب النضال الهائل مع أعدائه المسيحيين. وهكذا ذهب إلى ميدان الموصل وقضى فيه ما بين سنة ١١٨٥-١١٨٦م/٥٨١-٥٨٢ﻫ بين حصار لتلك المدينة وانصراف عنها ثم عودة إليها، وكان جماعة من أمراء الجزيرة يصحبونه، فلما قرب من الموصل أول مرة سنة ١١٨٥م أرسل إليه عز الدين يطلب الصلح على يد جماعة من الأمراء، وأرسل معهم والدته وابنة عمه نور الدين محمود؛ سيِّد صلاح الدين، وغيرهما من النساء النبيلات، وهناك كان كل الناس يعتقدون أن صلاح الدين لا بد أن يجيب طلب هذه الوفود؛ لما كان معروفًا عنه من رقَّة الخُلق ولا سيما مع النساء، ولما كان مشهورًا عنه من إجلاله لبيت سيده نور الدين. ولكنه هذه المرة لم يعمل بما يوحيه إليه قلبه، بل رأى الأمر أمر دولة يجب ألا يدخل فيه اعتبار العواطف، فجمع أمراءه فأشاروا عليه برفض الرجاء. وهكذا كان، وارتكب صلاح الدين برفض طلب هذه الوفود خطأين: أحدهما خُلُقي والآخر سياسي، وإذا كان الخطأ الخُلُقِي لا يعني أهل السياسة فإنه على كل حال يعني مَنْ يدرس حياة صلاح الدين الذي لا يكاد المدقق يرى شائبة في خُلُقِهِ من قسوة أو نقص في المروءة والشهامة. على أنه قد يُغْفَر له الخطأ لو اعتبرنا الظروف التي كانت تحيط به، ورأي كبار أمرائه الذين أكدوا له أن أمر الدولة يجب ألا يدخل في تدبيره ضعف الرحمة أو الحفاظ.

وهكذا استقرَّ الأموأما الخطأ السياسي فذلك أنه رفض الصلح وهو غير عارف تمام المعرفة بحال خصمه، وكثيرًا ما يطلب الخصم الصلح وهو قوي حتى يخلص من ويلات الحرب، أو لعل الخصم يتظاهر بحب السلام لكي يضع خصمه أمام الناس موضع المعتدي الظالم فيكسب عطف العالم. وعلى كل حال فقد لقي صلاح الدين جزاء تلك الغلطة سريعًا، ويدلنا على حسن رأيه أنه عرف خطأه بعد قليل، فعاد يلوم مَنْ أشاروا عليه بسلوك سبيل المخاشنة، وتحمَّل لوم مَنْ لامه وقبَّح فعله مثل القاضي الفاضل مساعده الكبير بمصر. وقد نجح عز الدين بسلوكه ذلك في استنهاض همم الناس معه، فساعده عامة أهل الموصل وحاربوا مع جنوده مستبسلين؛ ولهذا لم يقدر صلاح الدين على أخذ المدينة، وانصرف عنها مدةً قضاها في بلاد الأرمن الإسلامية التي فسد أمرها بعد موت صاحبها «شاه أرمن»، فاستولى على ميَّافارِقِين أكبر بلادها وحصونها، وأقر أمراءها عليها بشرط أن يكونوا تبعًا له على حسب عادته كلما فتح بلدًا إسلاميًّا، ثم رجع إلى الموصل فاستمر على حصارها، وتردَّدت الرسل بينه وبين عز الدين بالصلح، فقَبِلَ أخيرًا على أن يكون عز الدين تابعًا له ويخطب له على منابر بلاده ويكتب اسمه على السكة وينزل له عن كل ما وراء نهر الزاب من بلاد الجزيرة.

وهكذا استقرَّ الأمر أخيرًا بين صلاح الدين وجاره الشجاع عز الدين الذي يمثِّل البيت المجيد: بيت عماد الدين زنكي، وقد حدثت في أثناء المفاوضة حادثة تستحق أن تُذْكَر؛ وذلك أن صلاح الدين مرِضَ حتى أشرف على الهلاك، وكان ابن عمه محمد بن شيركوه قريبًا منه، وكانت له أقطاع حمص والرحبة، فسار إلى حمص وجعل يمهد السبيل إلى تملُّك الملك لو مات صلاح الدين، ولكن صلاح الدين عوفي وعرف الخبر، فلم يمضِ غير قليل حتى مات ابن شيركوه على أثر ليلة شرب فيها كثيرًا من الخمر، وتقول ألسنة السوء: إن صلاح الدين دسَّ إليه مَنْ قتله بالسم وهو ينادمه. والحق أن المؤرخين يُظْهِرون في هذه القصة كثيرًا من الاحتراس فيقولون دائمًا: «والعهدة على مَنْ يقول ذلك»؛ لأنهم شاعرون أن مثل هذا العمل لا يتفق وما عُرِفَ عن صلاح الدين من الزهد في الدنيا والتغاضي عن الإساءات؛ فقد كان يعرف من عدوِّه الغدر ثم إذا رأى نفسه قدر عليه عفا عنه ولم يحرجه، بل لقد كان يُحسِن إلى عدوِّه ويتغاضى عن ماضي إساءته، فهل كان مثل هذا الرجل ليسمَّ ابن عمه لأنه سمع عنه خبر عزمٍ على أن يملك البلاد لو مات، ولم يفكر في الخروج عليه ولا إضرام نار ثورة؟!

وهل كان صلاح الدين يخشى أن يجرِّد ابن عمه من أقطاعه لو صح عنده العزم على عقابه؟! إنه كان على رأس الدولة؛ يطيعه أمراؤه جميعًا، ويحبه أهل البلاد والعسكر على السواء، فما كان من العسير عليه أن يعاقب ابن عمه بأية عقوبة لو رآه مستحقًّا لهذا. ولئن كان خشي من إثارة ثورة بين أمرائه أو بين أفراد أسرته لو أوقع بابن عمه؛ أما كان يخشى أن يثير ثورةً أكبر بمثل هذا الغدر وتلك الخيانة؟! على أن صلاح الدين أثبت أقطاع محمد بن شيركوه لابنه الصغير، ولو كان الأمر قد بلغ حد أن يسقي الأبَ السمَّ لما كان يرعى حقه في ابنه. وقد قال ذلك الابن علنًا مرة في حضرة صلاح الدين قولًا يفيد أنه يتهمه بالاستيلاء على شيء من ميراثه؛ لأن صلاح الدين كان قد أخذ للدولة أكثر آلاته وخيله وأمواله، ولو كان هناك شك في أن صلاح الدين شريك في قتل أبيه لما كان تردَّد — وله تلك الصراحة — أن يتهمه بذلك علنًا. إن الظنون تذهب في الخطأ بعيدًا في العادة، فما بالك وقد اتفق موت الرجل المتهم بعد جنايته فجأة؟ إنه من الطبيعي أن يظن الناس في الأمر شيئًا من الأسرار؛ ولا سيما وقد كان ذلك العصر عصر أسرار خفية كثيرة.

على أن هذه القصة تلوح لنا محض رواية خيالية فيما يتعلق بابن عمه محمد بن شيركوه، ولعل هناك خلطًا بين الحوادث؛ فقد ورد ذكر مثلها عن تقي الدين ابن أخي صلاح الدين وكان بمصر؛ وذلك أنه أثناء مرض صلاح الدين جرى من تقي الدين حركات تدل على عزمه على الاستبداد بالملك إذا مات السلطان، فلما عوفي بلَغه الأمر فأرسل إليه صديقه الفقيه عيسى الهكاري وكان مطاعًا في الجند وأمره بإخراج تقي الدين من مصر، وأرسل في نفس الوقت إلى تقي الدين يدعوه إلى الحضور إلى الشام، فعصى تقي الدين أولًا وعزم على الخروج إلى برقة، وكان مملوكه «قراقوش» قد ملكها ولكنه عدَل أخيرًا وذهب إلى الشام، فأحسن إليه صلاح الدين وأقطعه حماة وبلادًا كثيرة غيرها بالشام وأرمينيا، ولم يعاقبه على شيء مما بدر منه، بل إنه «لم يُظهر له شيئًا مما كان».

فإذا كان هذا سلوكه مع مَنْ خالف وحاول العصيان أيكون غدارًا قاتلًا مع مَنْ نوى أن يستقلَّ ولم يتعدَّ عمله النية؟!

(١٧) الجهاد الأعظم (عرض عام)

دانت جميع البلاد لصلاح الدين من آخر حدود النوبة جنوبًا وبرقة غربًا إلى بلاد الأرمن شمالًا وبلاد الجزيرة والموصل شرقًا. هذا عدا تفضيل الخليفة له واعترافه بسلطانه، وذلك ليس بالأمر القليل. وقد كان في ذلك مَقْنع لنفس ذلك الرجل لو كان يريد ملكًا ونعمة، ولكنه كان ينظر إلى تلك الدولة نظرة الحارس إلى ما في حراسته لا يرزأ منها إلا مقدار أجره، ويرى أن الملك إنما هو واجب عليه يؤديه بما تقتضي نفسه ويحتم شعوره بالأمانة؛ ولهذا كان أقلَّ الناس تنعُّمًا بما في يده من متاع. ولو كان صلاح الدين في غير ذلك العصر الذي وُجِدَ فيه لأنشأ مدنية عظيمة في مصر والشام وحواشيهما، ولتنكَّب ما يعوق التقدم السلمي بما استطاع؛ فقد كان لا يحب سفك الدماء، وكان يكره أن يرى من يحب سفك الدماء. ومما يُذْكَر في ذلك أن بعض صغار أولاده طلب منه مرة بعض الأسرى ليقتله؛ فلم يرضَ وزجره، فقيل له في ذلك فقال إنه يخشى على الولد أن يضرى على سفك الدماء وهو لا يميز بعدُ بين المقام الذي يستلزم القتل وغيره.

وكانت الحرب عنده شرًّا لا بد منه، وقد اضطر إلى أن يقضي أكثر عمره في حروب ودماء؛ وذلك لأن روح العصر كانت تقضي عليه أن يكون محاربًا طول عمره؛ فإن الصليبيين أتوا من وراء البحار — تدفعهم حماسة شبيهة بحماسة الطفولة — إلى فتح بيت المقدس والقضاء على الإسلام، وقد نجحت صدمتهم الأولى في تكوين دولة مسيحية ولكنها لم تكن دولةً بالمعنى الصحيح؛ إذ كان أساسها فوق السطح غير راسٍ على شعب في البلاد، بل عماده جماعات تأتي بين حين وحين من وراء البحار من متحمِّسي الدين. ولكن الحماسة تخبو كما تخبو النار بعد شدتها، ولكل عصر مشاغل وآراء، والمشاغل والآراء تتغير؛ ولهذا بدأت الموجة تضمحل على طول القرن الثاني عشر، وفي أثناء ذلك كان المسلمون يرون أنفسهم أهل بلاد أغار عليهم قوم من الأغراب يريدون سلب بيت يقدِّسونه هم كما يقدِّسه أولئك الأغراب، وثارت عزة المسلمين مِنْ تذكُّر هزيمتهم أمام قوم كانوا يرونهم أقل مدنية وأدنى مكانة، وهم الذين تعوَّدوا — في تاريخهم الماضي — أن ينتصروا على سواهم من مسيحيين وغير مسيحيين في أكثر مواقفهم. وكان عصر صلاح الدين لا يزال على هذه العقيدة التي دفعت زنكي ونور الدين إلى الجهاد، فكان محتومًا على مثله أن يقود الدولة الإسلامية التي أقامها إلى حيث تُحْرِز انتصارًا جديدًا.

وكان الوقت ملائمًا لانتصار صلاح الدين في جهاده أكثر مما كان في مدة مَنْ سبقه؛ فإن زنكي كان أميرًا صغيرًا يحاول صدم قوة المسيحيين في عنفوانها، وكان نور الدين يحارب المسيحيين وهم لا يزالون محتفظين بكثير من قوَّتهم، وزادوا عليها في النصف الأول من القرن الثاني عشر أن كوَّنوا فرقتَي الفرسان الرهبان وهما الداوية (فرقة المعبد أو التمبل) والاسبتارية (فرقة الهسبتاليين أو القديس يوحنا). وكان فرسان هاتين الفرقتين من أكثر المحاربين شجاعة في الحرب وحماسة للدين؛ ولهذا كانوا شديدي الوطأة في حروب المسلمين.

فلما أتى عصر صلاح الدين في أواخر القرن الثاني عشر كان المسيحيون قد أنهكهم طول الحرب مع المسلمين نحو نصف قرن أو يزيد، وكان مَنْ يأتي من وراء البحار — لإمداد الصليبيين بالشام — لا يعوض مَنْ يُفقد منهم، أو على الأقل لم يكن الجديد مثل القديم نجدةً ودُرْبة. وزيادة على ذلك قد دبَّ الفساد في داخل الحكم وأصبح مُلك بيت المقدس مثل أي مُلك آخر إذا تقادم العهد على مَنْ بنَوه؛ تتنازعه الدسائس والأغراض، وكانت بقية بيت الملك في أيام صلاح الدين الأخيرة محصورة في «بلدوين الرابع» أولًا و«بلدوين الخامس» ثانيًا، وكان الأول مصابًا بداء الجذام ضعيفًا لا يستطيع شيئًا، وكان الثاني في يد أُمٍّ لم يشهد التاريخ كثيرًا مثلها غلظة ولا دناءة. وتشاحن الأمراء على الوصاية، وكان أجدر هؤلاء الأمراء وأشجعهم «ريمون» صاحب طرابلس، إلا أنه بعد وصايته مدةً عُزِلَ وتولَّى بعده رجل أحبته الملكة أم بلدوين الخامس، واسمه عند العرب «كي» وهو «جي دي لوسنيان»، ولم يلبث الطفل بلدوين أن مات ويقال: إن أمه قتلته.

ومن ذلك الوقت بدأ التنافس يتخذ شكلًا جديدًا؛ فإن «كي» كان من أجمل الناس ظاهرًا وأدنئهم حقيقة، حتى إن أخاه قال مرة: «إذا كان هذا ملكًا فما أجدرني أن أكون إلهًا!» وكان من الطبيعي أن كبار الأمراء بالشام يحقدون عليه، وأكبرهم «ريمون» الطرابلسي. والحقد يدفع إلى شيء كثير، حتى إلى الخيانة؛ ولهذا يلوح لنا أن ريمون بدأ يراسل المسلمين وكانت له يد في انهزام المسيحيين.

إلى جانب ريمون كان أرناط «رجنالد أو أرنولد دي شاتيون» صاحب الكرك، وهو رجل من أشجع فرسان المسيحيين ولكنه كان غِرًّا متهورًا غدَّارًا؛ فإذا كانت خيانة ريمون ساعدت المسلمين بتوطئة سبيل النصر لهم فإن غدر أرناط وتهوُّره قد ساعدا صلاح الدين؛ إذ جعلا الحق إلى جانبه، وقديمًا كان الحق قوةً للمعتدى عليه ولو بعد حين.

(١٨) اتقاد النيران (موقعة حِطِّين)

إذا كان صلاح الدين قد فرغ من مشاغل دولته ودانت له الإمارات الإسلامية جميعًا، فجمع كل تلك القوة الهائلة بين يديه واستعدَّ ليقذف بها الصليبيين فيرميهم وراء البحر الذي أتوا منه؛ فإن الصليبيين في الناحية الأخرى كانوا على قلق كبير يريدون أن يقوِّضوا ذلك البناء المخيف الذي علا إلى جانبهم يهدِّد وجودهم بالشام، وكان جماعة من أمرائهم يدفعهم الخطر الداهم إلى الاستبسال والاستماتة في النضال، وكان من هؤلاء: البرنس أرناط صاحب الكرك.

وإلى جانب أرناط كان فرسان الداوية والاسبتارية يتحرَّقون شوقًا إلى لقاء المسلمين لعلهم يستطيعون بهجماتهم العنيفة صَدْع دولة صلاح الدين، فكان بذلك المسلمون والمسيحيون على السواء متحفِّزين للوثوب بحماسة متشابهة، وكان ما بينهما جوٌّ من التحدِّي مملوء بالمادة الملتهبة تنتظر أول شرارة؛ ليندلع لهيبها فيلتهم كل شيء، ولنذكر أن هدنة سنة ١١٨٤م التي كان أجَلها إلى سنة ١١٨٨م كانت لا تزال قائمة في سنة ١١٨٧م.

لم يكن أرناط حديث عهد بعداوة المسلمين؛ فقد كانت جنوده تهوي على الحاج والتاجر، وأساطيله تسير في البحر الأحمر تلتمس الفريسة الإسلامية، ولكنا رأينا أنه لم يجد في تصيُّده إلا ما لا يصاد من ذي شوكة حادَّة أو ناب قاطع، وكأن هدنة سنة ١١٨٤م طالت به فدفعه تهوره إلى خرقها، وكان صلاح الدين لا ينتظر إلا ذلك الغدر منه ليبدأ بجهاده الذي استعدَّ له.

سارت قافلة قيل إن فيها ابنة السلطان وشيئًا كثيرًا من المال، وكانت القوافل تجتاز بقلعته غير خائفة، واثقة من العهد الذي بينه وبين السلطان. فأهوى أرناط إلى تلك القافلة وغنم منها وقَتَلَ وأَسَرَ، فلما بلغ خبر ذلك إلى صلاح الدين ثار ثورة مشروعة ولم يُرْضِه أرناط كما كان ينبغي، فنذر السلطان أن يقتله بيده لو ظفر به، وكانت تلك الحادثة هي الشرارة أشعلت نار الحرب التي لن تنتهي إلا بعد ست سنوات؛ كانت أعلام صلاح الدين تخفق بعدها على القدس وجميع بلاد الشام إلا بضعة بلاد على الساحل.

أرسل صلاح الدين يجمع الجيوش في ربيع سنة ١١٨٧م، وجعل مركز القيادة العليا دمشق، فأتته الجنود من أطراف دولته وكان أول بعوثه اثنين؛ جعل أحدهما إلى الكرك بقيادته هو للانتقام ومنْع أرناط من مهاجمة الحاج والوقوف في سبيل العسكر المصري القادم إليه، وأرسل الآخر إلى عكا لكي يشغل الداوية والاسبتارية عن مساعدة الكرك، وقد نجح في إحراز غرضه من هذين البعثين نجاحًا تامًّا، ومما يجدر بالذكر أن ريمون لم يتحرَّك أثناء هذا للمساعدة.

فلما تكامل الجيش الإسلامي في الصيف كان أمام صلاح الدين خطتان: الأولى أن يقف أمام الصليبيين في معركة فاصلة. والثانية أن يتابع الخطة القديمة من إغارات متكررة ونهب وسبْي بغير معركة فاصلة حتى يَضْعُفَ أعداؤه أولًا ثم يضرب الضربة القاضية أخيرًا، ولكنه فضَّل الخطة الأولى، ولعل أكبر ما دفعه إلى اختيارها شدة حماسته؛ فقد قال مرة: «إن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا، ولا ينبغي أن نفرِّق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد.»

وهكذا سار إلى طبرية في يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الآخر سنة ٥٨٣ﻫ الموافق ٤ يوليو سنة ١١٨٧م، وكان يتخيَّر لغزواته أيام الجمعة؛ «لتقع حروبه في وقت تكثر فيه الدعوات والصلوات»، ثم خلَّف طبرية وراء ظهره وسار إلى غربها عندما علم أن الجموع الصليبية جاءت ووقفت له عند جبل طبرية من جهة الغرب. ولكن الصليبيين لم يبرزوا له وتحصَّنوا في مواقفهم، فأراد أن يحرِّضهم على لقائه فجعل يهبط إلى طبرية فيخرب فيها ويغنم ويحرق. وكان قصده من مهاجمة المدينة أن ينفر الجيش الصليبي لمساعدتها فيخرج من أماكنه فيلقاه صلاح الدين في ميدان مفتوح، وقد نجح في ذلك نجاحًا تامًّا؛ فإن الصليبيين تحرَّكوا لنجدة طبرية، فعاد صلاح الدين مسرعًا عنها وجعل جيشه على الماء، وأفنى ما أمامه من ماء الصهاريج، وكان الوقت قيظ الصيف، فلما أقبل المسيحيون لم يقدروا على بلوغ الماء الذي وراء المسلمين ولم يجدوا في الصهاريج التي دونهم ماءً، فكانوا يحاربون على شدة الجهد من العطش والحر، ولم يستطيعوا الرجوع إلى حيث كانوا خوفًا من جيش المسلمين، فكان هذا انتصارًا لصلاح الدين قبل أن يضرب ضربة واحدة، وعَلَتْ نفس جنود المسلمين ووثقوا بالنصر قبل اللقاء، فباتوا الليلة في تكبير وتهليل بينما كان قائدهم المدرَّب الذكي الحذر يراقب نظام جيشه ويوقف كل جماعة في مكانها استعدادًا للمصاف في الغد.

وحاول المسيحيون في اليوم التالي بلوغ الماء كلَّفهم ذلك ما كلفهم، فمنعهم صلاح الدين من ذلك إذ أدرك قصدهم، وجعل يدور بهم حتى حصرهم حصرًا تامًّا، ولم يتمكَّن أحد من الخروج من تلك الدائرة إلا «القمص ريمون» في جماعة قليلة، وكان خروجهم من دائرة الحصار مكيدة دبَّرها ابن أخي صلاح الدين؛ وذلك أنه رأى أن قتال «ريمون» وجنوده قتال المستميت، فأفسح لهم حتى أخرجهم من الدائرة، فخرجوا وهم يحسبون ذلك نصرًا، ثم ما لبثت دائرة الحصار بعد ذلك أن الْتَأَمَتْ فلم يجد ريمون أمامه غير ترك الميدان والذهاب عن الحرب جملة، وضعفت صفوف الصليبيين بذلك النقص في صفوف المحاربين.

وبدأت منذ ذلك الحين الهزيمة، غير أن المحصورين احتلوا تلًّا عند حطِّين وتحصَّنوا به مع ملكهم «كي» وأبلوا بلاءً عظيمًا في الدفاع عن أنفسهم، وكان المسلمون يكرُّون عليهم بين حين وآخر فتعُود الجنود منحدرةً عن التل وهي تحمل من الأسرى والأسلاب شيئًا كثيرًا، وكان من بين ما غنموه صليب الصلبوت. وكان السلطان يبعث ما في نفسه من حماسة وثبات إلى قلوب المحاربين، فكانوا — تحت عينيه — يأتون بالعجائب من أعمال الشجاعة والإقدام؛ ومثل ذلك أن واحدًا من صغار مماليكه أخذته الحماسة عند رؤية سيده وقائده — وهو صبي لم يبلغ حد الرجولة — فحمل حملة منكرة على الفرنج وهو وحده فأوقع فيهم، حتى تكاثَروا عليه وقتلوه، فلما رآه المسلمون يفعل ذلك أخذتهم الحفيظة لقتله وثاروا ثورةً فصدموا جيش الفرنج صدمة زعزعته. وبعد استمرار الهجمات العنيفة حينًا هَوَتْ خيمة الملك بعد كَرَّات ثلاث واستأسر مَنْ بقي من الفرسان، وكان النصر تامًّا لصلاح الدين وجنده، وسجد شكرًا لله وبكى من السرور. وكان بين الأسرى الكثيرين في هذه الموقعة الملك «كي» والبرنس «أرناط».

«وكان مَنْ يرى الأسرى لكثرتهم لا يظن هناك قتلى، فإذا رأى القتلى حسِب أنه لم يكن هناك أسرى.»

وقد أكرم صلاحُ الدين الملك وقدَّم إليه ماءً مثلجًا بعدما وجد من جهد العطش والدفاع، فشرب الملك وأعطى فضلة للبرنس أرناط، فقال صلاح الدين عند ذلك: «إن هذا لم يشرب الماء بإذني.» يريد أنه لم يَصِر آمنًا من عقابه. وكان إكرامه للملك لا يعادله شيء إلا تقريعه للأمير الذي أثار تلك النيران وهو «أرناط» الغادر؛ فقال له: «ها أنا أنتصر لمحمد.» وكان ذلك ردًّا على سبِّ «أرناط» لمحمد ودينه فيما سبق. ثم عرض عليه الإسلام فكان ذلك سخرًا بليغًا، ولكن الرجل أبى؛ فسلَّ صلاح الدين النمجاة وضربه بها فحلَّ كتفه وتمَّم عليه مَنْ حضر، وبذلك أوفى بنذره الذي سبق أن نذَره إذا هو ظفر بعدوِّه أن يقتله بيده عقابًا لما قدَّم من نقض العهد. وقد اشتدَّ خوف الملك عند ذلك وعظُم اضطرابه فأمَّنه صلاح الدين وسكَّن جأشه قائلًا: «لم تَجْرِ عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوزَ حدَّه فجرى ما جرى.» يشير بذلك إلى أرناط. وأما ريمون صاحب طرابلس فقد عاد بعد انهزامه من الموقعة إلى صور ثم إلى طرابلس حيث مات بعد أيام قلائل.

(١٩) توالي الفتوح بعد انتصار حِطِّين (فتح القدس)

بعد موقعة حِطِّين — التي دامت يومين — لم يبقَ صلاح الدين في مكانه، بل هبط إلى طبرية في اليوم الثالث، وهناك سُلِّمت له القلعة، وفي أثناء ذلك كان يبعث بمن يريد الإبقاء عليهم من الأسرى إلى دمشق ويفتك بمن يريد الفتك بهم، وكانت يده شديدة على طوائف الفرسان الرهبان «الداوية والاسبتارية»؛ وذلك لما كانوا يبذلون من نفوسهم في سبيل نصر المسيح بشدة تدعمها حماسة عظيمة وإيمان قوي في عقيدتهم. ولم يلبث صلاح الدين طويلًا عند طبرية بل سار إلى الغرب نحو عكا فلم يبقَ أمامها إلا قليلًا حتى سُلِّمت. وهكذا كان انتصار حِطِّين يسبق صلاح الدين إلى المدن فتُسلِّم واحدة فواحدة وهي قوية على المقاومة. ومما يسترعي النظر أن صلاح الدين أعطى كل ما للداوية في عكا لرجل من أصحابه كان على طريقة الفرسان المحاربين إذ كان فقيهًا محاربًا، وذلك هو الفقيه عيسى الهكاري صديقه القديم. وكانت غنائم عكا عظيمة أفادت جنود صلاح الدين، ولو أن السلطان نفسه لم يُرزأ منها شيئًا؛ دأبه في ما كان يغنمه في انتصاراته دائمًا.

وبعد أخذ عكا اندفع تيار النصر بإزاء الساحل، فأخذ المسلمون كثيرًا من مدنها من يافا إلى ما بعد بيروت، واجتمعت فلول الجيوش الصليبية وجند الحصون الساحلية جميعها إلى صور، وهناك تحصَّنوا ووقفوا على أقدامهم مرة ثانية بعد أن جرفهم سيل الهزيمة، وأتى إليهم أمداد من وراء البحر بقيادة مَنْ يسميه العرب «المركيش» وهو «كنراد دي منتفرات» فقوَّى ذلك عزمهم على الدفاع.

وكان صلاح الدين قد عقد النية على أخذ عاصمة الصليبيين «بيت المقدس»، فبعد أن رأى ألوية النصر تخفق له على السواحل ورأى الثغور تتفتح لجيوشه بلا مقاومة، غير مدينة صور التي بدأت تتحصَّن وتتجهز؛ سار إلى قلب فلسطين، وأخذ كل ما كان بين بيت المقدس والساحل من حصون الداوية وأوقف على البحر رجلًا من كبار قواده على رأس أسطول؛ لكي يمنع إتيان الفرنج إلى الساحل قبالة القدس، وذلك القائد البحري هو حسام الدين لؤلؤ المعروف بالشجاعة ويمن النقيبة. فلما أمن هذه الناحية من البحر ألقى الحصار على العاصمة وعرض على أهلها الصلح على أن يُسلِّموا إليه المدينة نظير تعويضهم أرضًا يزرعونها، ولكنهم أبَوا ذلك، فاستعد لأخذ المدينة عنوة، وجعل يلتمس في أسوارها نقطة ضعف يهاجمها حتى وجدها بعد فحص دقيق قضى فيه خمسة أيام؛ وكانت نقطة الضعف التي اختارها جهة الشمال عند المكان المعروف بباب كنيسة صهيون، وكانت الجموع في بيت المقدس كبيرة والحماسة للدفاع ثائرة، فآثر صلاح الدين الاستعداد بما معه من قوة لأخذ المدينة سريعًا قبل أن يفيق عدوُّه من الضربات التي توالت عليه منذ وقعة حِطِّين وقبل أن يأتي إمداد متوقَّع من وراء البحر، فنصب المنجنيقات ونظم الرماة، فوصلت جنوده إلى الأسوار ونقبوا فيها ثغرات، وكانوا يُظْهِرون في هجومهم من البسالة ما لا يعادله شيء غير بسالة المحصورين أنفسهم؛ إذ كانوا يخرجون كل يوم على خيلهم يقاتلون مستبسلين. وكان الأمراء في جيشَي المسلمين والفرنج سواء في الإقدام يحاربون في أول الصفوف ويبعثون في الناس الحماسة بمَثَلهم الحسَن. وكان مقتل أحد الأمراء يدعو دائمًا إلى ثورة في نفوس الجند يتردَّد لها صدًى قويٌّ في اشتداد لهيب الحرب، غير أن ذلك التصادم لم يَدُمْ أكثر من أسبوع واحد، ورأى المحصورون أن لا أمل لهم في النجاة؛ فأرسلوا إلى صلاح الدين يفاوضونه في شروط التسليم، فتمنَّع أولًا وقال إنه لن يرضى بغير أخْذِ المدينة عنوةً ليفعل بالفرنج نظير ما فعلوه بالمسلمين يوم أن استولوا على القدس منذ نحو قرن، ولكنه عاد فرضي بالصلح بعد أخذٍ وردٍّ طويلين، واتفق على شروط التسليم؛ وأكبرها: أن يدفع المسيحيون ضريبة عشرة دنانير عن الرجل وخمسة عن المرأة واثنين عن الطفل، فمن أدى ذلك في مدة أربعين يومًا خرج ونجا، ومَنْ لم يؤدِّه صار أسيرًا مملوكًا. على أنه سمح لليونان وأهل الشام من المسيحيين أن يبقوا حيث هم بين رعاياه، وكذلك أباح للفرنج أن يقيموا في فلسطين إذا شاءوا، وبدأ تسليم المدينة وخروج مَنْ يريد منها في أكتوبر سنة ١١٨٧م. على أن صلاح الدين لم يُصِبْ مالًا كثيرًا من وراء فداء أسرى بيت المقدس؛ فقد ذهب أكثره لأمراء الجند الذين وقفوا على الأبواب يراقبون دفع الضريبة ممن يخرج. وقد أطلق صلاح الدين عددًا كبيرًا من أهل المدينة بغير فداء، وَمَنَّ على نحو ثمانية عشر ألف رجل نظير ثلاثين ألف دينار وزنها عنهم أمير من أمراء المسيحيين، وبقي بعد ذلك عدد عظيم لا يستطيع أن يعطي شيئًا وكانوا نحو ستة عشر ألفًا، فتسامح صلاح الدين تسامحًا كبيرًا في أمرهم، وكان كثير العفو عن نساء الفرنج وشيوخهم وأطفالهم خاصة، فأطلق لملكة بيت المقدس مالها وحشمها لم يَنَلْ من ذلك شيئًا، وكذلك فعل بغيرها من كبيرات الفرنج ومن بينهنَّ امرأة «أرناط» نفسه، وأكرم رجال الدين فخرج كبيرهم مع أمواله وتحف الكنائس وكنوز ذات قيمة عظيمة، فلم يرضَ أن يتعرَّض له بل أخذ منه العشرة الدنانير المفروضة، وسيَّر مع الجميع مَنْ يحميهم إلى مدينة صور.

وقد بلغ عدد مَنْ دفع عنهم صلاح الدين الفداء نحو عشرة آلاف نفس عدا مَنْ أطلقهم أخوه سيف الدين الكريم، ورأى جماعةً من المسيحيين وهم خارجون يحملون على أكتافهم مَنْ يعجز عن السير لسنِّه أو ضعفه؛ ففرَّق فيهم مقدارًا عظيمًا من المال، وحمل بعضهم على دواب من عنده. وقد أظهر صلاح الدين من التكرُّم ورقة القلب في هذا الفتح ما يجعلنا نرى حقيقة نفسه واضحة، فإنه أبى أن يغدر بأحد من فرنج بيت المقدس ولو عظُم الداعي إلى الغدر، وكان لا يعميه تعصبٌ للإسلام عن الرحمة بمن كانوا في صفوف أعدائه، بل كان يرحم المتألم وتأخذه الشفقة بالضعيف من امرأة أو طفل تجمعه به روابط الإنسانية.

ولهذا يظهر لنا في ذلك الموقف بطلًا ينصر جانبًا مظلومًا على من اعتدى عليه، ولم يكن بالقائد الأعمى المندفع إلى القتل والعداوة بغريزة القسوة والحقد، فكان في ذلك نقيضًا واضحًا لما كان عليه الصليبيون عند فتح بيت المقدس سنة ١٠٩٧م.

وبعد أن انتهى خروج مَنْ أراد الخروج من المدينة دخل بجيشه إليها منصورًا، وكان ذلك يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ٥٨٢ﻫ، وجعل يُصْلِح ما أفسده الحرب والحصار، وبدأ فيها الإصلاح بأنواعه؛ فأعاد الأبنية إلى أصلها بعد أن كان الصليبيون حوَّروا فيها بحسب أذواقهم وحاجات تعبُّدهم، وأقبل على المسجد الأقصى فأرجعه إلى حاله الأولى وجعل فيه منبرًا كان قد أعدَّه نور الدين محمود بعناية كبرى ليُنْصَب بالبيت المقدس إذا فتحه، «فكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة»، ثم جعل يحسِّن المسجد وينمق فيه بأنواع النقوش والفرش بالرخام الثمين والتمويه بالذهب، ثم أقبل على الإصلاح الاجتماعي جاعلًا المدارس محل الأساس من البناء سيرًا على سُنَّته التي اتبعها في مصر، وبعد أن قضى زمنًا يسيرًا في الأعمال السلمية والإصلاح ذهب إلى إتمام عمله في الحرب فقصد إلى صور.

(٢٠) حصار صور ورفعه وفتوح سنة ١١٨٨م/٥٨٤ﻫ

كانت صور حصينة بموضعها، وزادها مَنَعَة ما قام به المركيش «كنراد» من حفر الخندق حولها حتى أصبحت كالجزيرة، وكانت مثل الكف أو الرأس بارزة في البحر ويصلها بالساحل طريق كالعنق أو كالساعد، وكانت الحرب عند ذلك العنق المتصل بالساحل من أشقِّ الأمور على المسلمين؛ إذ كانت الجنود تحاربهم من المدينة أمامهم والسفن تحاربهم من البحر من جانبَي العنق، فرأى صلاح الدين أنه لا يستطيع أخذ المدينة إلا بمساعدة الأسطول، فأرسل إلى أسطوله المصري لذلك الغرض، ولكن قلة عدد السفن التي أتت مكَّنت الصليبيين من هزيمة المهاجمين، وبذلك رأى صلاح الدين أن يترك حصارها، وكان هذا الخذلان مشدِّدًا لعزائم الفرنج بعد انهزامهم الكبير عقب حِطِّين. وقد قضى الشتاء من عام ١١٨٧م في راحة من الحرب، فلما بدأ الربيع من عام سنة ١١٨٨م كان عليه أن يعود إلى الحرب وقد تنفَّس عدوُّه راحةً مدة طويلة.

وفي أوائل سنة ١١٨٨م/٥٨٤ﻫ قام ببعض غزوات انتصر فيها انتصارات صغيرة، وكانت نتيجتها زيادة تمكُّنه من الساحل ودخوله إلى الإقليم التابع لأنطاكية، وكذلك زيادة تمكُّنه من الإقليم الواقع بين بيت المقدس والبحر، وكان لا يزال به بقايا حصون الداوية والاسبتارية أبطال الصليبيين. وقد انتهى حرب أول سنة ١١٨٨م بهدنة مع أمير أنطاكية «بوهمند» وهو أكبر الأمراء الباقين من دولة الصليبيين. وكان شرط الهدنة لمدة ثمانية شهور نظير أن يطلق بوهمند مَنْ عنده من الأسرى. وكان غرض «بوهمند» أن تأتي إليه بعد تلك الفترة مساعدة من أوروبا كما كان غرض صلاح الدين التفرُّغ للميدان الجنوبي، فذهب توًّا إليه لمساعدة الجيوش المحاصِرَة لقلاعه وفتح أكبر ما بقي من تلك القلاع؛ وهي الكرك والشوبك وصفد وكوكب. وكان صلاح الدين كلما فتح بلدًا من تلك البلاد تسليمًا بغير حرب أَذِنَ لأصحابها بالرحيل عنها، وكانوا جميعًا يختارون مدينة صور، وقد لام كثيرون تلك السياسة وقالوا إنها كانت غلطة من صلاح الدين وقِصَرًا في النظر؛ إذ مهَّد السبيل إلى جمع عدد عظيم من المحاربين في مدينة صور، وبذلك خلق لنفسه قلعة حصينة معادية له على الساحل تستطيع مقاومته بمن رحل إليها، ولكنا يجب ألا ننسى أنه عندما أوسع صدره لكل مَنْ يُسلِم وأباح ذهاب مَنْ أحب إلى صور، قد شجَّع أعداءه على التسليم بغير حرب وقلَّل بذلك من ضحايا القتال.

وكذلك يجب ألا ننسى أنه كسب بسياسته شيئًا كبيرًا وهو تطهير الداخل من أعدائه وحشدهم جميعًا في جهة واحدة على الساحل، والحصون الداخلة في البلاد — لا شك — أشد خطرًا لو بقيت على المقاومة من حصون الساحل؛ لأن الأولى تتخلَّل دولته وتهدِّد كل حركاته. وأما حصون الساحل فيمكن الوقوف دونها ومَنْع مَنْ فيها من ولوج البلاد مع شيء من المراقبة الدقيقة، ولا يستطيع قومٌ البقاء في الساحل إلا مع استمرار الأمداد وتوالي النجدات من الخارج، وهذا أمر لا يمكن بقاؤه إلى الأبد؛ إذ إن حماسة القوم لا بد تخبو متى أدركوا أن موقفهم غير طبيعي ولا يُنتظر منه نجاح. فكأنه كان واثقًا أن دفاع صور لن يدوم، بل لا بد من سقوطها متى طال عليها الزمن وانقطع عنها ما يكفيها من الأقوات والأمداد من الخارج، ولعل هذا يبرِّر خطته التي يلوح على ظاهرها أنها كانت غير سديدة.

(٢١) الحملة الصليبية الثالثة

لقد مرَّ نحو قرن على الهزَّة العظيمة التي اهتزَّتها أوروبا أيام البابا «أربانوس الثاني»، وذهبت أجيال من الناس بعد مَنْ سمعوا خطابات الناسك بطرس يستفز إلى تخليص بيت المقدس من المسلمين ونصرة الصليب. وقد أتى ذلك القرن الذي مرَّ منذ تلك الأيام بتغيُّر عظيم في أوروبا، فكانت الحياة الجديدة تتمشَّى في شعوبها، وكانت فوضى نظام الإقطاع تكاد تنجلي غبرتها عن حكومات جديدة، وكانت عقول أهلها تستقبل العلم القديم الذي اندثر ودُفِنَ قرونًا عدة وهي تحسبه شيئًا جديدًا، فأخذت تتذوَّق لذته. ولكن مع كل هذا التغيير بقي في أوروبا شيء كبير من الدافع الأول إلى نصرة الدين، ونشأت منه حملة جديدة وهي المعروفة بالحملة الصليبية الثالثة. وإنَّا لنلمح فيها أثر التغير الذي طرأ على أوروبا، ولو أن الظواهر كلها تخدع وتُفهم الناظر السطحي أن هزَّة أوروبا في أواخر القرن الثاني عشر هي نفسها الهزَّة التي اهتزتها من قبلُ في أواخر القرن الحادي عشر.

ما كانت تنقضي سنة من القرن الثاني عشر منذ سنة ١١٠٠م بغير أن ترِدَ إلى الشام وفود من الحجاج المتحمسين بعضهم رجل مسن أو امرأة عجوز أو طفل صغير، وبعضهم شاب أو كهل يلتهب شوقًا أن يجد الشهادة في البلاد الطاهرة وهو يقتل المسلمين، غير أن تلك الوفود ما كانت في العادة تأتي للحرب قصدًا، بل كانت إذا وجدت حربًا اشترك مَنْ يقدر من رجالها وشبانها فيها، وكانت الحروب لا تفتر سنةً واحدة لا سيما بعد أن نبغ عماد الدين زنكي أتابك الموصل، وبدأ سيرة جهاد طويل استمرَّ فيه ابنه نور الدين محمود وتلقَّى من بعدهما سيف الجهاد صلاح الدين.

غير أن بعض الحوادث كانت تُثير في أوروبا حماسةً فوق المعتادة؛ فعند أخذ الشهيد عماد الدين مدينة «الرُّها» ثارت في أوروبا ثورة أجَّجها بعض نوابغ رجال الدين مثل القدِّيس «سان برنار»، وكانت نتيجتها حملة عظيمة يعدُّها التاريخ (الحملة الثانية) متجاهلًا ما كان بين الحملة الأولى وبينها من وفود الحجاج والأمداد العسكرية التي كانت — كما قدَّمنا — تَفِدُ بين حين وحين إلى الشام. وكذلك ما حدث في أواخر القرن الثاني عشر؛ فقد كانت الجنود تتوالى في مجيئها إلى الشام نصرةً لجنود المسيح بالشام أو للإغارة على مصر بعد أن أصبحت قاعدة دولة صلاح الدين، ولكن التاريخ لا يُسمِّي هذه الحملات والأمداد بل يمر بها لا يَعدُّها.

فلما سقط بيت المقدس في يد صلاح الدين بعد وقعة حِطِّين وما تلا ذلك من الانتصار على الساحل وفي الداخل؛ قامت قيامة من عويل واستصراخ في أوروبا، وأجَّج رجال الدين النيران، كما كانت العادة دائمًا؛ إذ كانوا أكثر الناس تحمُّسًا للحرب وتخليص بيت المقدس من أعداء المسيح، وبالغوا في استنهاض الهمم وإثارة النفوس حتى غضب للدين مئات الآلاف وقام على رأسهم أمراء وملوك، وكانت على أثر هذا حرب عظيمة يُسمِّيها التاريخ الحرب الثالثة. ويحسُن بنا أن نمرَّ مرًّا سريعًا على ذكر الوفود الكثيرة التي بادرت للنجدة آتية من بلاد مختلفة من بلاد البحر الأبيض المتوسط في الجنوب إلى بلاد الدانمارك والفلندر في شمال أوروبا.

ولكن لا بد لنا من شيء من الإطالة عند ذكر ملوك ثلاثة جاءوا متأخرين بعد هذه الوفود يلبُّون دعوة المستصرخين وهم: الإمبراطور «فردريك» المعروف بلقب «برباروسا» إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة ويسميه العرب ملك الألمان، والملك ريكارد «قلب الأسد» ملك إنجلترة ويُطْلق عليه العرب اسم «الإنكتير أو الإنكتار أو الإنكلتار» و«فيليب أوجوست» ملك فرنسا ويُطْلِق عليه العرب اسم «الفرنسيس». أما فردريك فقد كان إمبراطورًا على دولة عظيمة تشمل ولايات ألمانيا من الشمال وبلاد نهر الرين من الغرب وإيطاليا من الجنوب، وكانت في بلاده مشاغل كثيرة أكبرها مسألتان عظيمتان: الأولى نضاله مع أمرائه الإقطاعيين، والثانية نضاله مع الرئيس الديني وهو البابا. وقد نجح فردريك نجاحًا لا بأس به مع أمراء ألمانيا الذين كان نفوذهم — قبل توليته — زاد زيادة تضاءل إلى جانبها سلطان الإمبراطور، وبعد نضال دام سنين طويلة أمكنه أن يعلي اسم الحكومة المركزية ودان له أكبر أمراء الدولة. ولكنه لم يَلْقَ مثل هذا النجاح في نضاله مع البابا؛ فقد أدى النضال إلى حرب كان سجالًا بين الجانبين، وانتهى أمره بأن سوَّى الأمر وتصالح الرئيس الديني مع الرئيس الدنيوي، وكان من شروط الصلح أن يتفق الاثنان على مَنْ يعاديهما.

figure
صورة الإنكتار (ريكارد ملك إنجلترة).

ولعل أكبر مَنْ كان عدوًّا في نظر البابا ونظر هذا العصر هو الإسلام حيث كان سواء في الشرق أو في الغرب، فكان الإمبراطور يحب أن يقوم إلى حرب المسلمين؛ لكي يُعْلِي من شأن نفسه ويزيد من هيبته وسلطانه، وكان البابا كذلك يحب أن تنصرف قوة الإمبراطورية إلى حرب دينية يصدر الناس ويردون فيها عن كلمته هو إذ كان لا يدفع ولا ينازع في رئاسة الدين.

figure
صورة الفرنسيس (فيليب ملك فرنسا).

ألا يلمح الإنسان في هذه الحرب الصليبية دافعًا غير الدين والحماسة له والإخلاص للجهاد في سبيل المسيح؟ إنَّا لا نستطيع أن نتجاهل الفرق العظيم بين الحالة النفسية في عصرَي الحملة الأولى والحملة الثالثة؛ فقد قامت الحملة الأولى تلبيةً لدعوة ألكسيوس إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية، وهو مخالف لغرب أوروبا في الدين، ولكن حماسة العصر وفكرة الدين غلبت كل شيء في سبيلها.

وأما الحرب الثالثة فلم تكن بنت حماسة مثل الحماسة الأولى بل دخلتها عناصر دنيوية أخرى.

وها نحن نرى للبابا غرضًا من تشجيعها وللإمبراطور كذلك غرضًا غير وجه الدين والدفاع عنه.

وأما «الإنكتار» ريكارد فقد كان ملك إنجلترة ولو أنه لم يُقِم في تلك البلاد، ويسميه قومه بالملك الغائب، وكان من سلالةٍ امتزج فيها دمان: الأول دم النرمان أبناء وليم الفاتح الذي غزا إنجلترة في القرن الحادي عشر، والثاني دم الفرنسيين أمراء إنجو.

وكان هناك في ذلك الوقت نضال كبير بين ملوك إنجلترة وملوك فرنسا على كثير من ولايات فرنسا؛ كلٌّ منهما يدَّعي فيها حقًّا، ولكن في مدة «فيليب أوجست» وريكارد بدأت كفة فرنسا ترجح، وجعلت إنجلترة تسير في أول طريق نموها الطبيعي وهو تكوين قومية منعزلة في جزائرها وإنماء نظامها الدستوري تدريجًا على يد أمرائها الذين بدءوا يعدُّون إنجلترة بلادهم بعد أن كانت نظرتهم إلى فرنسا أولًا أنها منشؤهم ووطنهم، وكان ريكارد من أشجع الناس على أنه كان من أغلظهم كبدًا، ولم يكن بالقديس ولا الذي يعبأ بأمر الدين كثيرًا، فذهب إلى الحرب الصليبية محاربًا بيده (بلطته) أو رمحه ومعه رماته وفرسانه وهم يلتمسون جميعًا في الشام النصر والمجد الذي التمسه أجدادهم في ميادين أخرى. ولكن ميدان ذلك الوقت كان مع المسلمين في الشام.

وأما «الفرنسيس» (فيليب أوجست) فقد كان من سلالة الأسرة الفرنسية الكبيرة التي أولها «هيوكابيه»، وقامت في فرنسا على أنقاض دولة أبناء «شارلمان»، وكانت مدة أسرة «هيوكابيه» يشغلها نضال دموي بين الأمراء الإقطاعيين وبين بيت الملك، وكان الانتصار في أول الأمر للأمراء حتى لم يكن للأوائل من بيت «كابيه» إلا ملكٌ اسميٌّ، ولكن بدأت الكفَّة ترجح إلى جانب الحكومة المركزية، وأخذ الملوك يزيدون من نفوذهم وملكهم حتى جاء فيليب أوجست فكان من أكبر مَنْ عملوا على إضعاف شوكة الأمراء وزيادة نفوذ الملك. وكان انتصاره على أمرائه بفرنسا وعلى منازعيه ملوك إنجلترة مما جعله من أكبر ملوك أوروبا الذين تُوجَّه إليهم الدعوات إذا أزمة أزمت؛ ولهذا قام فيليب إلى نصرة الصليبيين بالشام بعد أن هدأ له الأمر في داخل بلاده، غير أنه ما كان ينظر إلى الحرب إلا نظرة ملك عظيم يجب عليه ألا يتخلَّف عن مهمة تحرَّك لها غيره من العظماء، ولن يلبث أن يعود إلى بلاده التي كانت في نظره محل أداء واجبه وليس بلاد الشام.

كل ذلك يُظْهِر لنا أن الذين كانوا زعماء الحرب الصليبية الثالثة لم يهبُّوا هَبَّة مضطربة صاخبة مثل هَبَّة الحرب الأولى، بل ساروا لغرضٍ مدبَّر وقصد معيَّن، كلٌّ يرمي من ناحيته إلى هدف يبغي أن يصيبه.

على أننا لا نقدر أن نقول: إن الحماسة كانت غير متأجِّجة في نفوس المحاربين؛ فإن الحماسة بين عامة الجند كانت عظيمة ثائرة للجرح الجديد وهو الاستيلاء على بيت المقدس وسواه من البلاد التي كانت للمسيحيين مدة قرن ثم استولى المسلمون عليها، لكن تلك الحماسة لم تكن بها شدة الحماسة الأولى ولا مرارتها.

ولا يسعنا إذا رأينا ما تخلَّل تلك الحرب الثالثة من المداعبات بين المسلمين والمسيحيين ومن المزاح أحيانًا، وما كان بين ملوك هؤلاء وأولئك من التقدير والتفاهم أحيانًا والإجلال المتبادل؛ نقول لا يسعنا إذا رأينا ذلك إلا أن نعدَّ تلك الحرب ميدانًا للمسابقة بين الشرق والغرب، كلٌّ يريد أن يُظْهِرَ صلاحه وقوته، فلم تكن كلمة اليوم بها مثل كلمة اليوم في الحرب الأولى:

ليس بيني وبين قيس عتاب
غير طعن الكلى وضرب الرقاب

(٢٢) أمام عكا

اجتمع من اجتمع من الفرنج في صور، وأوقف صلاح الدين تجاههم جماعة من رجاله يراقبونهم، وكان يعرف أنه قد ارتكب شرًّا بسماحه للفرنج أن يذهبوا إلى صور من كل جانب.

ولكنه في الوقت ذاته كان مضطرًّا إلى ذلك بحكم السياسة، فكان ذلك في نظره أهون الشرَّين، وما كان مخيَّرًا إلا بين هذا وبين أن يستبسل له كل حصن ويضيع عليه الوقت في حصارات لا عدَّ لها. وعلى أي حال لقد أصبحت صور مجتمع بقية فرسان الصليبيين، وزادهم قوةً مَنِ انضمَّ إليهم من وراء البحر، ولما شعروا بقوة عددهم وأن صلاح الدين لا يستطيع حصار مدينتهم جعلوا يخرجون بين حين وحين إلى ما جاورهم من البلاد، وكان صلاح الدين يدبِّر لهم الكمائن والبعوث تمنعهم من أن يفسدوا شيئًا من بلاده، وأخيرًا استقرَّ رأيهم على أن يذهبوا إلى عكا لاسترجاعها فيكون بذلك لهم مدينتان عظيمتان على الساحل الأوسط.

كان صلاح الدين عند حصن الشقيف في الجبل ينتظر أن يأخذه، فبلغه خبر سير الفرنج من صور نحو عكا، فظنَّ ذلك خديعة منهم يريدون صرفه عن الحصن الذي هو دونه، فتريَّث حتى عرف أنهم جادُّون في السير نحو عكا، فأسرع بمكاتبة الأمراء ليأتوا إليه، فاجتمع إليه جيش عظيم، وجمع مجلسًا حربيًّا ليختار طريق السير، أيساير الفرنج على الساحل ويقاتلهم قبل بلوغ عكا؟ أم يلقاهم هناك على المدينة بعد أن يسلك طريقًا في الداخل مارًّا بطبرية؟ فاختار أمراؤه الخطة الأخيرة فهي أهون، وكان هو غير راضٍ عنها؛ لأن الفرنج متى تُرِكُوا آمنين حتى يصلوا إلى عكا أمكنهم اختيار المكان اللائق والتحصُّن حولها، فيصعب بعد ذلك حربهم، ولكنه على كل حال اتبع ما أقره المجلس على حسب عادته فقد كان رأي أمرائه أكبر من أن يهمله، وكانت نتيجة إرغامهم على سلوك خطة معينة أخطر من أن يجربها ذلك السلطان العاقل؛ فالحقُّ أن سلطته كانت قائمة على قوة شخصه ونفوذه في أمرائه أكثر مما كانت قائمة على سلطان دولة مركزية قوية.

وكان أول همِّ صلاح الدين عند بلوغه عكا أن يرسل إليها الأمداد بعثًا وراء بعث قبل أن يستفحل أمر حصار الفرنج لها.

وأصبحت المدينة — بعد زمن قصير — محصورة بالفرنج تحت ملكهم «كي» والأمير الكبير المركيش «كنراد»، ونزل حول الفرنج من الخارج جيش صلاح الدين، وكان البحر مفتوحًا يمد الفرنج من جهة بما يأتي مع أساطيلهم، ويمد المدينة خفية؛ لأن أسطول الفرنج في البحر كان عند ذلك أقوى من أسطول المسلمين.

وهكذا اجتمعت كل قوة الفرنج وكل قوة الدولة الإسلامية عند عكا في أغسطس سنة ١١٨٩م شعبان ٥٨٥ﻫ، فكان ما حولها ميدانًا واسعًا في البر والبحر ظهرت فيه من الجانبين آيات باهرة من الشجاعة والتضحية، وأتى الأفراد في كلا الجيشين أجلَّ أعمال البطولة الخارقة للعادة. حقًّا لقد كان سباقًا عظيمًا بين الشرق والغرب، وقد ظهر فيه كلاهما بمظهره الأسمى كُلٌّ بحسب طبعه، وكان كلا الجانبين المتسابقين من جانبه جليلًا.

واستمرَّ النضال هناك عامين حدث في خلالهما معارك كثيرة بعضها كبير وبعضها صغير، إلى أن جاء فيليب ثم ريكارد في ربيع سنة ١١٩١م/٥٨٧ﻫ، فأصبحت قوة الفرنج أكبر من أن يغلبها صلاح الدين، فآثر ترك المدينة إليهم، فسُلِّمت بعد قليل في يوليو سنة ١١٩١م/١٧ جمادى الآخرة ٥٨٧ﻫ، وقد تقلَّب ذلك النضال بين المتحاربين وحدثت فيه فترات؛ ولهذا يحسن تقسيمه إلى أدوار ثلاثة: الأول من أول الحصار إلى هجوم شتاء سنة ١١٨٩م/٥٨٥ﻫ، والثاني من ربيع سنة ١١٩٠م/٥٨٦ﻫ إلى أول شتاء سنة ١١٩٠م، والثالث من ربيع سنة ١١٩١م/٥٨٧ﻫ إلى سقوط المدينة.

(٢٣) الدور الأول للحصار

حدث ما توقَّعه صلاح الدين؛ فعندما ذهب إلى عكا كان الفرنج قد اختاروا مكانهم وحصروا المدينة حصارًا تامًّا، وكان عددهم ألفَي فارس وثلاثين ألف راجل، فكان همُّ صلاح الدين الأول أن يجعل في الحصار ثغرة يستطيع أن يصل بها إلى المدينة بالجنود والأقوات حتى تقدر على المقاومة. وانفتح الطريق أخيرًا إلى المدينة بعد أن لقي صلاح الدين مشقَّة عظيمة من مقاومة الفرنج له، وكان كثير الاهتمام أثناء هذا حتى لقد بقي ثلاثة أيام بغير أكل إلا شيئًا يسيرًا. ولكن الفرنج جعلوا يعاودون الكَرَّات حتى يُتِمُّوا الحصار مرة أخرى، فكانت المعارك تحدث كل يوم حول الأسوار، وهنا نلاحظ أمرًا يمكن أن ندرك منه روح الحرب بين الطائفتين؛ فقد جعل الحرب بين المسلمين والفرنج شبه تعارف ومودة — وما أغرب ذلك — فكانوا بين الهجمات العنيفة يضعون السلاح ويتحدَّث الجماعة من المسيحيين إلى الأخرى من المسلمين، وقد يغني البعض ويرقص البعض، بل لقد كانوا يمزحون؛ كما فعلوا مرة إذ أتوا بصبيَّين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، ووقف الجانبان ينظران إلى نضالهما حتى تغلَّب المسلم وقبض على أسيره المسيحي، فافتداه بعض الفرنج المازحين بدينارين. وهكذا كان الناس من الطائفتين يقطعون بعض وقتهم في فترات الحرب، أحقًّا كان في هذه الحرب مرارة الجهاد وتجهُّم الحقد المتأصل في النفوس وعبوس العداء الذي كانت تمتاز به الحرب الصليبية الأولى؟

لسنا مبالغين إذا قلنا: إن عصر الحرب الصليبية الحقيقية كان قد انقضى منذ أوائل القرن الثاني عشر، ولم يبقَ إلا نضال دنيوي يدافع فيه المسلمون عن بلادهم ويحاول الفرنج أن يُبقوها في يدهم إباءً وأنفة أن يكونوا مخذولين وحذرًا من معرَّة الهزيمة. وقد بلغ النضال أشدَّه في هذا الدور من الحصار بعد نحو شهر ونصف من البدء فيه، فدارت رحى أشد معركة شهدتها أسوار عكا، وتقلَّب فيها الحظ بين الجانبين، ولكن ثبات السلطان وإخلاص أهل بيته وشجاعتهم وانقياد أمرائه لأوامره، كل ذلك جعل النصر للمسلمين بعد أن قُتِلَ من الجانبين عدد عظيم، ولكن قتلى الفرنج كانوا آلافًا؛ قيل: سبعة.

وبعد هذه الموقعة جمع السلطان مجلسًا حربيًّا كعادته، وكان يرى أن هذه الصدمة الأولى لا بد تؤثِّر في نفوس أعدائه، فإذا تابع الهجوم كان رفع الحصار عن عكا محققًا، ولكن أمراءه رأوا تفضيل الراحة بعد وقوفهم عند عكا نحو خمسين يومًا فنزل على رأيهم، وكان هذا من غلطاته؛ لأن الراحة أفادت الصليبيين أضعاف ما أفادت المسلمين. ولم يُستأنف بعد تلك الراحة قتالٌ جدِّيٌّ في هذا العام لدخول الشتاء، فاكتفى صلاح الدين بإدخال المؤن والرجال إلى عكا، وسرَّح جنوده لمدة الشتاء الذي تكثر فيه الأمطار وتتعذَّر الحركات، وتراجع بباقي الجيش إلى الخروبة تخلصًا من عفونة الميدان الذي حول عكا؛ لما كان به من جثث القتلى. ولم يكن خالي البال في أثناء راحته؛ لأنه كان يتوقَّع مجيء الإمداد إلى عدوِّه من أوروبا، وكان كل يوم يتطاول به الحرب يزيد من توقُّع العجز عن رفع الحصار.

وكان أكثر ما يرِدُ إليه من أخبار الفرنج يدل على مسير ملك الألمان «فردريك برباروسا» في جيش عظيم لنصرة الصليبيين.

(٢٤) الدور الثاني للحصار

بعد انقضاء الشتاء أرسل صلاح الدين إلى أطراف دولته الواسعة يدعو أمراءه لاستئناف القتال في الربيع من سنة ١١٩٠م/٥٨٦ﻫ فأتت إليه الكتائب يلي بعضها بعضًا، وجاءته مساعدات من الخليفة ببغداد، وقد استعدَّ هذه المرة بالنفَّاطين والزرَّاقين الذين يرمون النيران والنفط على آلات الحصار. وقد أبلى في ذلك بلاءً حسنًا شابٌّ من صنَّاع دمشق، فإنه أدخل من التحسين على صناعة النار ما جعلها تُحرق آلات الحصار المنيعة التي كان الفرنج يطلونها بطلاء يمنع تعلُّق النار بها، وكان أشد الآلات على المدينة الدبابات؛ وهي أبراج عالية ذات طبقات يركبها الجنود وتسير على عجل وفي مقدمتها حديد قوي؛ فتصطدم بالأسوار فتصدعها، ثم يعمل الجنود المجتمعون بها في الأسوار فيهدمونها.

وقد تمكَّن ذلك الشاب المجتهد من إحراقها باختراع سائلٍ يرميه أولًا في قدور على هذه الدبابات المدرَّعة، ثم يقذف بعد ذلك النار فيلتهب ذلك السائل ولا يقاوم ناره شيء.

وقد تأخَّر وصول الأسطول المصري إلى ما بعد أن استؤنف القتال؛ ولهذا وجد صعوبة في الوصول إلى الميناء، ولم يصل إليه إلا بعد أن قام صلاح الدين بهجوم عام من الخارج في البر؛ ليشغل جنود الفرنج فيخفِّف بذلك الضغط عن البحر، فدارت معركة برية بحرية في وقت واحد وانتهت بانتصار عظيم، ودخل الأسطول المصري إلى عكا محمَّلًا بالمؤن والمحاربين، وكان صلاح الدين يجدُّ في الحرب خاشيًا من وصول ملك الألمان بالمساعدة المنتظرة، ولكن لحسن حظه كانت حملة ملك الألمان غير موفقة.

فقد سار فردريك بارباروسا عن طريق البر من ألمانيا مخترقًا بلاد المجر إلى البلقان والقسطنطينية. وكانت تلك الخطة في الواقع خطة غير ممكنة؛ لأن سير جيش عظيم في البر لا بد يؤدي إلى احتكاك كثير مع الأهالي، ولا سيما في الدول التي يوجد فرق بين مذهبها الديني وبين مذهب الغربيين، وهذه عامة أمم البلقان.

فما زال الجيش يجد صعوبة بعد صعوبة حتى وصل أخيرًا إلى القسطنطينية، وكان ملك القسطنطينية هذه المرة غير محتاج إلى الصليبيين، بل لقد كان يخشى زيادة أعدادهم عنده ويكره أن يجوسوا خلال بلاده، ولم يكن سلوك الجيش الألماني سلوكًا يطمئنه على سلامة بلاده؛ فقد أوقعوا شيئًا من النهب فيها وطلبوا منه كثيرًا من الأموال كأنهم في بلاد معادية. وكان عند «فردريك» نفسه سوء ظن بالإمبراطور الشرقي، وهذا ما جعله يطلب منه الرهائن على حسن نيته، ولعل هذا يفسر لنا الخطاب الذي أنفذه إمبراطور القسطسنطينية «إيساكوس» إلى صلاح الدين يذكر له كرهه للألمان وولاءه له. نعم لقد تغيرت الأحوال منذ تلك الأيام التي كانت القسطنطينية تطلب مساعدة غرب أوروبا على المسلمين أيام أثار «ألكسيوس» نيران الحرب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر.

وبعد صعاب جَمَّة عبَر «فردريك» المضائق إلى آسيا الصغرى، وهناك لقي أشد الصعاب من التعب والجوع من جهة ومن المرض من جهة أخرى ومقاتلة فرسان مملكة الروم الإسلامية وملكها «قلج أرسلان». وقد جاءت الضربة القاضية لذلك الجيش أخيرًا؛ إذ مات عميده الإمبراطور «فردريك» في نهر شرق آسيا الصغرى. قال جماعة: مات غرقًا، ويقول متحمسو المسلمين: إنه غرق في ماء لا يتجاوز علوه نصف علو الرجل لإظهار يد الله في الأمر، ويقول جماعة آخرون: بل مات إذ نزل إلى ماء النهر — وكان شديد البرد — ليستحم فيه عقيب تعب عظيم، فمرِض من ذلك وقضى المرض عليه.

سمع صلاح الدين أولًا بالأخبار المريعة — وهي اقتراب جيوش فردريك من بلاده عند وصولهم إلى شرق آسيا الصغرى وبلاد الأرمن — فاتخذ الحيطة — وهو القائد الحذِر — فأرسل جماعة كبيرة من أمراء جيشه ليرابطوا على منافذ الشام من الشمال، وحاول أن يهدئ الناس مما نالهم من الفزع لهذه الأخبار، ولكنه حاول عبثًا، فبدءوا يخزنون الأقوات ويستعدون للشدائد، ولكن ما لبث أن أتته أخبار الضعف الذي انتاب ذلك الجيش العظيم، فتنفَّس الصعداء وفرح الناس بذلك، وما زالت الأخبار ترِدُه كل يوم بزيادة الضعف إلى أن عرف أخيرًا أن فلول ذلك الجيش قد لجأت إلى أنطاكية، وكانت البقية من الجيش العظيم ليست مما يُحسب له حساب كبير.

وقد شعر الفرنج الذين حول عكا بنقص جنود صلاح الدين عندما أرسل بعض أمرائه إلى الشمال لحمايته من جيش «فردريك» فأحبوا أن ينتهزوا الفرصة وهاجموا الجهة التي نقصت جنودها نقصًا كبيرًا وهي ميمنة جيش صلاح الدين، وكان عليها أخوه الملك العادل، فدارت هناك معركة عظيمة تُعْرَف باسمه وهي المعركة العادلية.

واستمرَّ النضال أكثر النهار، واشترك فيه المحصورون في المدينة؛ فإنهم خرجوا على الفرنج من ورائهم أثناء المعركة، فتمَّ النصر بذلك لصلاح الدين، وقُتِلَ من الفرنج عدد عظيم يُقدره المسلمون بنحو ثمانية آلاف، فكان هذا النصر من جهة وأخبار ضعف الجيش الألماني وتشتُّته من جهة أخرى عامِلَين على فرح عام في جيش المسلمين زادت له الروح المعنوية في عكا، مع أن الحصار كان قد أثَّر في رخائها تأثيرًا كبيرًا. وهذه الموقعة العادلية أكبر مواقع الدور الثاني للحصار، ولكن الفرنج قد لحقتهم هذه الهزيمة فإنهم احتفظوا بكثير من ثباتهم بقية الصيف، ولا سيما وقد جاءتهم أولى مساعدات الصليبيين من غرب أوروبا بقيادة مَنْ يسميه العرب «الكند هري» أو «الكونت هري» وهو «هنري دي شمبانيا» قريب ملكَي فرنسا وإنجلترة في آن واحد، فما كاد صلاح الدين يفيق من الحلم المزعج بالخطر الذي كان يتهدَّده من قِبَل الألمان من الشمال حتى أتته طلائع الإمداد العظيم الذي أرسلته أوروبا مجتمعة.

وبدأ الحصار يشتد مرة أخرى بعد وصول هذه الإمدادات، وجعل الفرنج يقذفون أسوار المدينة بالمجانيق بقوة لم يسبق عهد بها، غير أن شجاعة المدينة لم تفلَّ أمام هذه الهجمات العنيفة، فقد كان «بهاء الدين قراقوش» و«حسام أبو الهيجاء» بين العسكر يوقدون فيهم الشجاعة بأعمالهما وقدوتهما، فكان المدافعون يخرجون بين حين وآخر فيوقعون بالمحاصرين وقعات ذات شأن بين أَسْرٍ وقتل ونهب، وكان الزرَّاقون والنفَّاطون دائبين على الدفاع بالنيران بهمة تعادل همة المحاصرين في قذف المدينة من الخارج.

وقد ظهرت شجاعة الجانبين جليًّا في آخر ذلك الدور، وإذا كان لا بد من التمييز بين الجانبين فلا بد من تمييز المحصورين؛ لما بذلوه — في شدتهم — من التفاني في الدفاع والصبر، وكان من الأفراد مَنْ يبذل جهدًا خارقًا للعادة في أدء واجبه، فكان بعضهم يعوم من المدينة مخترقًا صفوف السفن الفرنجية إلى أن ينفذ إلى صلاح الدين فيحمل إليه الأخبار ويعود بعد ذلك يحمل ما يراد منه أن يحمله من رسائل أو من أموال يشدها حول جسمه ليمدَّ بها المحاربين. وإذا كان بين عامة الأفراد أبطال لا يسميهم التاريخ فقد سمى التاريخ بطلًا من عامة أهل عكا أبلى بلاءً عظيمًا في أثناء ذلك الدور حتى قضى نحبه وهو يؤدي واجبه؛ وذلك هو عيسى العوام، واشتد الحصار بعد ذلك اشتدادًا أعظم حتى صار التراسل غير ممكن إلا بالحمام الزاجل بين المدينة وجيش صلاح الدين، ولكن مع هذا أمكن السلطان أن يُنفذ إلى المدينة بعض السفن بين حين وآخر محمَّلة بالمؤن التي أصبحت المدينة في أشد الحاجة إليها، ولكن كان دخولها المدينة بعد مشقَّة عظيمة؛ إذ كانت قوة الفرنج في البحر قد زادت بما انضمَّ إليها من إمداد أوروبا. ولعل الذي كان يمكِّن سفن المسلمين من دخول الميناء أنه كان هناك عند مدخلها برج عظيم اسمه برج الذباب مبني على الصخر يحرس الميناء، فإذا عبَرته المراكب أمِنت غائلة العدو، فلما رأى الفرنج قيمته الحربية جعلوه همَّهم، ودارت حوله معركة عظيمة بذل فيها الجانبان مجهودًا كبيرًا، ولكن الفرنج عجزوا عن أخذه. وفي أثناء حصار برج الذباب وصلت بقية جيش الألمان بقيادة «المركيش» صاحب صور و«دوق سوابيا» ابن ملك الألمان، فزاد القتال شدة، واستمر هذا النضال بعد ذلك شهرين طويلين ظهرت فيهما نفس صلاح الدين وثباته رغم مرضه بحمى صفراوية، وقد تفشَّى المرض في الجيش للوخم الذي أصاب الهواء بقرب عكا من كثرة القتلى، ولكن عزيمة صلاح الدين كانت لا تفل، وقد نصحه ناصح أن يترك الميدان لما فيه من الخطر ثم يعود إليه بعد ذلك، فتذكر السلطان الحازم خطأه السابق إذ انصرف عن العدو في الدور الأول، وقال لناصحه: «إذا كان لا بد من الموت فليكن؛ فهو عليَّ وعلى أعدائي.»

ثم تمثَّل وقال: «اقتلاني ومالكًا واقتلا مالكًا معي.»

وجعل صلاح الدين يحتال على عدوِّه بتدبير الكمائن والهبوط عليه بين حين وآخر، ولكن لم يُجْدِهِ ذلك، وهجم الشتاء قبل أن يستطيع رفع الحصار عن المدينة. وهكذا اضطرَّ أن ينصرف بقلب ثقيل عن المدينة، وجعل يصرف جنوده للراحة مدة الشتاء وهو يشعر بأن المدينة قد حان أَجَلُ تسليمها. وقبل الرحيل انتهز فرصة هياج البحر وذهاب أكثر سفن الفرنج من تجاه ميناء عكا لاجئةً إلى الشاطئ، فأدخل إلى المدينة جماعة من الجنود والأمراء بدل مَنْ فيها ممن طال عليهم الدفاع واشتد التعب، وأدخل معهم ما تيسَّر من المؤن والذخائر، ولكن لم يكن الإقبال على دخول البلد كثيرًا؛ ولهذا لم يدخل من الأمراء والجنود عدد يعادل مَنْ خرج منها.

ولسوء حظ المدينة لم تستطع السفن الآتية من مصر بالمؤن أن تدخل إليها؛ وذلك لشدة هياج البحر، فغرقت وتكسَّرت وكان لذلك أثر كبير في نفوس من في المدينة، وسيكون أثر هذا أعظم بعد انقضاء الشتاء وعودة القتال واشتداد الحصار؛ فإن المدينة ستدخل على الدور الثالث من الحصار وليس بها من المدافعين ولا من المؤن ما يقيمها أمام هجمات عدوِّها العنيفة.

(٢٥) الدور الثالث للحصار

مضى على حصار عكا صيفان وشتاءان، وجاء الربيع من سنة ١١٩١م (وسنة ٥٨٧ﻫ) فأخذت جيوش صلاح الدين تجتمع إليه من كل أنحاء الدولة كما بدأ الفرنج يجدِّدون إغاراتهم على المدينة ويشدِّدون حصارها.

ولكن المدينة في هذا الربيع لم تكن على مناعتها في الدورين السابقين إذ كان الأقوات فيها قليلة، وكان المدافعون عنها أقل عددًا وحماسة ممن كان فيها من قبلُ. وقد زاد الأمر شدة على المدينة مجيء أسطول فرنسي وآخر إنجليزي يحملان جنود فيليب أوجست (الفرنسيس) وريكارد (الإنكتار).

وقد جاء ريكارد متأخرًا قليلًا عن جيش الفرنسيس بعد أن أخذ في سبيله جزيرة قبرص، وكان معه خمس وعشرون قطعة كبارًا من السفن.

وقد اجتهد الفرنج منذ أول هذا الدور في طَمِّ الخندق الذي حول عكا، ولكن أهل المدينة صبروا على المقاومة صبرًا حميدًا، فكانت جماعاتهم يُخرجون ما يلقى في الخندق ويُلْقُونه في البحر تحت حراسة إخوانهم، ويجدُّون في ذلك مع المشقة العظيمة، وكان صلاح الدين في الوقت عينه يجد مشقة كبرى في الهجوم على الفرنج لتحصنهم في خنادقهم؛ ولهذا أمكن الفرنج أن يضيقوا الحصار على المدينة وصار من أشقِّ الأمور إيصال شيء إليها من المئونة.

ولكن لا بد من ذكر أحد البعوث البحرية التي أرسلها صلاح الدين إمدادًا إلى عكا، وكان معها ستمائة وخمسون رجلًا ومقدار عظيم من المؤن والأسلحة؛ فإن المهارة الحربية في البحر التي امتاز بها الإنجليز كانت أكبر مما عهده جنود المسلمين من الفرنج، فأحاط الإنجليز بالسفن الإسلامية حتى كان لا مناص من استيلائهم عليها، ولكن مَنْ فيها آثروا الموت فأهووا على جوانب السفينة بالمعاول حتى ثقبوها وغرقت وغرق كل ما بها ومَنْ بها، وكان قائد هذه البعثة يعقوب الحلبي؛ نذكره فخرًا وإعجابًا.

وقد بدأ ملك الإنجليز بإرسال الرسل إلى السلطان منذ أول مجيئه يفاوضه في قواعد الصلح، ولكن شروطه كانت أشد مما يقبله السلطان؛ فإن الضعف إذا كان قد دبَّ في عكا فإن دولة صلاح الدين كانت راسية الأساس متينة لا يستطيع مهاجم أن ينال منها شيئًا؛ ولهذا لم تنجح المفاوضات الأولى بل أصر السلطان على أن يظل على الحرب حتى يخضع له عدوُّه في النهاية.

ولم يخلُ هذا الدور الثالث من ظهور آيات جديدة تدل على ما كان عليه صلاح الدين من الخلق، ولنذكر قصة الرضيع مثلًا لهذا؛ وذلك أنه حدث في بعض إغارات المسلمين أن استولى مسلم على طفل رضيع؛ فطار عقل الأم وراء ابنها وخرجت إلى معسكر المسلمين حتى وصل أمرها إلى السلطان. فلما وقفت أمامه وعرف قصتها بكى رحمةً لها وأمر بردِّ ابنها إليها، فالتُمِسَ حتى وُجِدَ بعد أن كان قد بيع في السوق، فدفع السلطان ثمنه إلى المشتري وسلَّمه إلى أمه وحملها على فرس وأعادها إلى معسكر الفرنج.

على أن الفرنج — وإن زاد عددهم — لم يكونوا على وفاق؛ فقد كان فيهم رؤساء عدة، كلٌّ منهم يحسد الآخر ويغار منه، فكان هناك الملك القديم «جي دي لوسنيان» أو «كي» كما يسميه العرب، وكان معهم المركيش صاحب صور، وجاء بعد ذلك فيليب وريكارد.

وكان أول مَنْ ثار من هؤلاء الرؤساء المركيش، فإنه هرب من صفوف إخوانه عائدًا إلى صور، وهناك تنحَّى عن الميدان حتى قُتِلَ كما سنذكر بعدُ.

وكان صلاح الدين في هذه المدة كثير الألم؛ لما يراه من الضيق الذي أحاط بالمدينة حتى كان لا يأكل إلا قليلًا لهمِّه وغمه، وبدأت تَرِدُ إليه رسائل من المدينة يشكو مَنْ فيها الضيق والشدة، وذلك بعد نحو شهرين من بدء الحرب في هذا الدور؛ إذ كان الفرنج قد نجحوا في أخذ الخنادق التي حول المدينة وعملوا تلًّا مستطيلًا من التراب يحتمون وراءه، وجعلوا يقربون من أسوار المدينة حتى أصبحوا بجوارها، ولم يقدر السلطان على مساعدة المدينة مساعدة كبرى مع محاولته ذلك بكل ما استطاع، فلم يجد مَنْ في المدينة بُدًّا من مفاوضة الفرنج في التسليم بعد نحو ثلاثة أشهر من تجدُّد الحرب، وكانت شروط الصلح أن تسلَّم المدينة للفرنج بما فيها من الآلات والعدد والمراكب، وأن تدفع نظير الأسرى المسلمين مائتي ألف دينار، وتُطلِق ألفًا وخمسمائة فارس من مجاهيل الأسرى الفرنج ومائة فارس معيَّنين، وأن يُرَد صليب الصلبوت، وأن يخرج جميع مَنْ في المدينة سالمين بما معهم من الأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم، ولكن تلك الشروط لم تُنَفَّذ كلها كما سيأتي.

وهكذا سُلِّمت المدينة للفرنج في ١٢ يوليو سنة ١١٩١م/١٧ جمادى الآخرة سنة ٥٨٧ﻫ بين حزن الجنود الواقفة في الخارج وألم السلطان الذي كان أشد الناس شعورًا بتلك الصدمة، وتهليل الفرنج لما نالوا من نصر بعد عامين قضوهما في حرب مُهلكة عند أسوار تلك المدينة.

(٢٦) عدم إنفاذ المعاهدة وقتل المسلمين بعكا

كان ميعاد بذل المال فداء الأسرى شهرين، فبعد أن سُلِّمت المدينة كان هناك جانبان كلٌّ منهما يشك في نية الآخر؛ فالفرنج — وقد أخذهم زهو النصر — لا يريدون أن يُسلِّموا شيئًا من أسراهم حتى يتأكدوا من المال، والمسلمون وقد وخزهم الانهزام يريدون ألا يزيدوا عدوَّهم قوة بالمال المشروط إلا إذا تأكدوا من أنهم يُطلِقون الأسرى المسلمين. وهكذا بدأ الصليبيون بالاحتياط فحبسوا المسلمين الذين في عكا ممن يجب فداؤهم.

وأما المسلمون فبدءوا في تحصيل المال، وعرضوا أخيرًا أن يُسلِّموا منه النصف بشرط أن يضمن الداوية (فرسان المعبد أو التمبل) إطلاق الأسرى عند تمام دفع المال؛ لأنهم كانوا أهل دين ومحافظة على العهد يعرفهم المسلمون بذلك، فأبى الداوية أن يضمنوا، وقال الفرنج: إنهم يصرون على دفع المال كله، ولهم بعد وصوله أن يطلقوا مَنْ شاءوا ويحفظوا مَنْ شاءوا، فشكَّ صلاح الدين في نيتهم وأنهم يريدون وصول المال ليتقووا به، ثم يطلقوا الفقراء والصغار ويحتفظوا بالأمراء والأغنياء؛ ليصيبوا من وراء ذلك غُنْمًا جديدًا يتقوون به؛ ولهذا أبى أن يُسلِّم المال الذي جمعه.

ثم استمرَّ القتال بين الفريقين بعد أخذ الفرنج عكا، وما كان أشد دهشة المسلمين عندما رأوا بعد القتال جثث أسرى عكا وقد قتلهم الفرنج، وكان عددهم نحو ثلاثة آلاف رجل، وذلك في أغسطس سنة ١١٩١م، ولم يبقَ من الأسرى إلا الأمراء والأغنياء، وعلى ذلك لم يرسل السلطان المال ولا الأسرى الفرنج ولا الصليب.

وإنَّا لا نقدر أن نشدِّد النكير في اللوم على الفرنج على ما أتوه؛ فلا نستطيع أن ننسب ذلك إلى التعصب والكره والحقد كما يذهب جماعة من المؤرخين، بل نرى ذلك نتيجة لسوء في التفاهم بين الجانبين في وقت كانت العداوة ثائرة والنفوس متألمة بعد قتال عنيف استمرَّ سنتين عند أسوار المدينة، وكان ذلك النصر بعد الهزائم المتكررة دافعًا بطبيعة الأمر إلى ارتكاب ذلك الشطط.

على أننا لا نتمالك الإعجاب بصلاح الدين واعتداله وحكمه لنفسه إذ أرجع أسرى الفرنج إلى دمشق سالمين مع شدة غضبه وحنقه على مَنْ نقضوا العهد ولم يأخذهم بجريرة إخوانهم.

(٢٧) الحرب الأولى بعد أخذ عكا

قد كان لأخذ عكا أثر أدبي كبير فوق ما كان له من أثر مادي في تقوية الفرنج وتخذيل المسلمين؛ فإن الصليبيين ساروا بعد أخذها منتصرين، وخشي المسلمون بأسهم فكانوا يفرُّون في أكثر مواقف اللقاء، ولولا ثبات صلاح الدين نفسه وأخيه العادل وبعض كبار الأمراء لكان الخطب أعظم، وكان قائد الفرنج — بعد أخذ عكا — في أكثر الوقت ريكارد؛ وذلك لأن فيليب ملك فرنسا عاد إلى بلاده عقيب أخذ تلك المدينة، ولعل من أسباب عودته ما كان بينه وبين ريكارد من الخلاف والمنافسة.

سار ريكارد إلى الجنوب على رأس الجيوش الصليبية قاصدًا أخذ بلاد الساحل، ثم إذا اطمأنَّ له ذلك نفذ إلى الداخل ليستولي على بيت المقدس.

وسار صلاح الدين وأمراؤه بإزائهم، ولكن المسلمين كانوا يسبقون إلى الجنوب مسرعين على حين كان الفرنج يتريَّثون في سيرهم إما لانتظار المدد من وراء البحر وإما للخوف من الكمائن. ولم يحدث قتال يستحق الذكر إلا عند أرسوف ١ سبتمبر سنة ١١٩١م شعبان ٥٨٧ﻫ، وهناك انهزم المسلمون هزيمة كبرى، ولولا ثبات صلاح الدين في القلب مع جماعة قليلة، ولولا أثره الشخصي في تحميس الجنود أو إشعارهم الخجل من فرارهم لكانت موقعة أرسوف نكبة من أكبر نكبات هذه الحرب. ولم يستفد الفرنج من انتصارهم عند أرسوف؛ إذ كانوا دائمًا يحسبون فرار المسلمين خديعة ويحسبونهم قد أكمنوا لهم الكمائن، وزاد فيهم هذا الاعتقاد عندما رأوا في القلب جماعة ثابتة والكئوس تُضْرَب وسطها، وهي الجماعة الملتفَّة حول السلطان.

ولما رأى صلاح الدين ضعف الحالة المعنوية في جيشه جمع أمراءه عقب الموقعة ليروا رأيًا في الخطة التي يجب اتباعها، فقرروا أن يتركوا الساحل للفرنج ولا يحاولوا المدافعة في مدينة من مدنه، ولكنهم قرَّروا تخريب المدن الجنوبية القريبة من حدود مصر حتى لا يتحصَّن الفرنج بها إذا أخذوها فيكونوا خطرًا على المواصلة بين مصر وبين ميدان الشام، وتقرَّر البدء بتخريب عسقلان. وقد تألَّم صلاح الدين أكبر ألم لذلك؛ إذ قال لأحد ثقاته: «والله لأن أفقد أولادي بأَسْرِهم أحب إليَّ من أن أهدم منها حجرًا واحدًا، ولكن إذا قضى الله ذلك لحفظ مصلحة المسلمين كان.»

وقد بدأ هدم المدينة بعد قليل وسط آلام الناس جميعًا، وكان صلاح الدين يسرع بتدميرها قبل أن يعلم الفرنج بأمرها خوف أن يسرعوا إليها فيأخذوها قبل إتمام الغرض ويعيدوا حصونها فتكون لهم بها قوة ومنعة.

وكانت تلك الخطة في الحقيقة خير ما يمكن في تلك الظروف إذا نظرنا إلى ما كانت عليه النفوس في جيش صلاح الدين بعد صدمتَي عكا وأرسوف. وقد اتبع صلاح الدين خطة التدمير والهدم نفسها في اللد وقلعة الرملة، وذهب في أثناء ذلك إلى القدس يزيد من تحصينه وتجديد أسواره، فكان غرضه ظاهرًا من أعماله: وهو أن يدع الساحل للفرنج ويقوِّي الداخل عالمًا أن أعداءه أقوياء قرب البحر وأن فرصته إنما تكون إذا هم بعدوا عنه متوغِّلين في الداخل.

واستولى الفرنج فعلًا بعد قليل على كل مدن الساحل، وحاولوا أن يعيدوا حصون عسقلان وسواها مما خرَّبه السلطان، وبدءوا يفكرون في غزو الداخل، ولكن في هذه الأثناء دبَّ خلاف جديد بين المركيش «كنراد دي منفرات» وبين الإنكتار «ريكارد»، وجعلت رسلُ كلٍّ منهما تَفِد إلى صلاح الدين أو إلى أخيه الوديع الملك العادل تطلب الصلح، وقد أدرك «ريكارد» أن الاستمرار في الحرب غير ممكن، وأنه إن أحرز نصرًا مرة أو مرتين فلن يقدر على طول النضال؛ ولهذا أراد أن ينتهز فرصة ضعف الروح في الجيش الإسلامي ليفوز بشروط رابحة، فكانت رسل المركيش تأتي عارضة شروطًا للصلح، ورسل الإنكتار تأتي عارضة شروطًا أخرى كما يفعل المتنافسان، وكان الملك العادل هو السفير في المفاوضات في أكثر الأحيان.

وكانت شروط المركيش أن يكون له صيدا وبيروت على أن يكون حليفًا للمسلمين ضد الفرنج.

ولكن صلاح الدين كان غير واثق من صدق نيته، فاشترط عليه أن يبدأ بحرب الفرنج ومهاجمة عكا قبل أن يصالحه.

وأما شروط الإنكتار فقد كانت الاستيلاء على القدس وإرجاع الصليب وأخذ البلاد التي بين نهر الأردن والساحل، وأن يكون تحالفٌ بين الدولة الإسلامية والصليبيين، ويتزوَّج الملك العادل بأخت الإنكتار، ويكونا معًا حاكمين على الدولة الجديدة بمقتضى المعاهدة، ولكن تلك الشروط لم تَرُقْ أحدًا من الجانبين.

والظاهر أن الجنود الإسلامية بدأت تسترجع قواها بعد شهرين من سقوط عكا، وبدأت تقف ثابتة وتحرز بعض النصر في مواقف الحرب، وبدأ الإنكتار يرى الحقيقة التي كان انتصار عكا أخفاها عن عينه: وهي أنه ليس من الطبيعي أن ينتصر في بلاد بينها وبين مقر دولته سفر طويل في البحر، ويكون النصر على قوم في وسط بلادهم تتجدَّد قوتهم بعد حين إذا ضعفت، وتأتي إلى ميدان النضال فيها كتائب تحلُّ محلَّ مَنْ قُتِلَ ومَنْ أُسِرَ؛ ولهذا بدأت المفاوضة من جديد وكانت الشروط هذه المرة ألين وأهون. ومما يسترعي النظر أن المفاوضة بين الجانبين كانت تتخلَّلها فكاهات ومداعبات وهدايا ومجاملة، فيحمل الملك العادل من طعام المسلمين وتُحَفهم إلى الإنكتار، ويحمل الإنكتار من طعام الإنجليز وتحفهم. حتى إذا ما اجتمع الاثنان تجاذبا أطراف الحديث من سمر ودعابة وفكاهة ينسى الإنسان معها أن هذه مفاوضة في حربٍ مُرَّة ثار لهيبها طول قرن لم يخبُ ولم ينطفئ، حتى لقد نشأت شبه محبة بين العادل وريكارد، واستمرت إلى أن انتهى الأمر بالصلح أخيرًا.

وكان صلاح الدين في أثناء كل هذا لا يرغب رغبة حقيقية في الصلح على تلك الشروط، فكان لا يرضى بدون خروج الفرنج من جميع البلاد، ولكنه كان يرضى بدخول أخيه في المفاوضة؛ لكي يضرب جانب المركيش بجانب الإنكتار ويحدث له من وراء ذلك الربح والفوز، ولعله كان أمْيَل إلى المعاهدة مع المركيش؛ لأنه كان يرى أن شروطه أهون شرًّا، وأنه إذا بقي في بلاد الساحل فلن يكون شديد الخطر بل يسهل طرده منها بعد حين، ولكن الأمراء رأوا أن الصلح مع الملك (الإنكتار) أتم وأضمن للسِّلْم لقوته وشجاعته.

وقد دخل شتاء سنة ١١٩١م بغير أن يتمَّ صلح مع أحد الجانبين، فرجع صلاح الدين إلى الداخل، وعاد الإنكتار إلى عكا. على أن المفاوضات لم تنقطع بين المسلمين وطائفتَي المركيش من جهة والإنكتار من جهة أخرى. وقد أراد صلاح الدين أخيرًا أن يُبْرِمَ الأمر على ما يراه هو، وأن يصالح المركيش إذ رأى أن الصلح معه يُضْعِف الفرنج، فإذا تمَّ له النصر أخيرًا على الإنكتار سهل عليه أمر المركيش، ولكن ما لبث أن سمع بنبأ قَتْل المركيش في صور: قتله اثنان من أصحابه على قول جماعة، ويقول آخرون: بل قتله اثنان من الفدائيين من طائفة الباطنية الإسماعيلية، ويعتقد الجميع أن قتله كان بدسٍّ من أعدائه، ولكن هناك خلافًا؛ فتقول طائفة: إنه قُتِلَ بإيعاز صلاح الدين، ويقول آخرون: بل قُتِلَ بإيعاز الإنكتار، ولكن مهما يكن من الأمر فإن صلاح الدين لم يدسَّ على المركيش مَنْ قتله؛ وذلك لعدة أسباب يكفي أحدها أن يكون برهانًا قاطعًا؛ فإن صلاح الدين لم يكن رجل الدسيسة والغدر. حقًّا كان يجاهد ويحارب ولكنه كان يحارب في الميدان المفتوح واثقًا من النصر؛ إذ كان يرى الحق معه، ولم تكن في حياته شبهة من غدر أو خيانة. وكذلك لم يكن صلاح الدين على وفاق مع الإسماعيلية، بل إنه كان موتورًا منهم لسابق اعتدائهم عليه. ولئن كان لصلاح الدين غرض في الغدر فكان الأَوْلى به أن يغدر بعدوِّه الأكبر ريكارد، وكانت فرص الغدر به كثيرة لو شاء، وما كان أقرب إليه إذا كان رجل غدر أن يدسَّ على «ريكارد» مَنْ يقتله أثناء اجتماعه بأخيه للمفاوضة، أو يدسَّ له السم في الطعام الذي كان يأكله من يد المسلمين آمنًا، وهل يُتَّهم صلاح الدين — وهو الرجل الذي كان يرسل لعدوِّه الدواء وهو مريض — بأنه يدسُّ على عدو آخر مَنْ يقتله؟!

وقد رأينا أن صلاح الدين كان أمْيَل إلى مصالحة المركيش، وأنه كان يرى المصلحة في الاتفاق معه ليكون مساعدًا له على الصليبيين، فكان من مصلحته أن يبقى حيًّا وليس أن يدسَّ عليه مَنْ يقتله في الوقت الذي كان قد استقرَّ رأيه فيه على مصالحته وتفضيل التعاهد معه على مصالحة ملك الإنجليز.

فيلوح لنا أن الحقيقة هي أن «ريكارد» صاحب الدسيسة كما أقر القاتلان نفساهما. وأن قتله كان على يد اثنين: إما من المسيحيين المتحمسين، وإما أنه استأجر اثنين من الإسماعيلية، وقد تنكَّرا في زي المسيحيين لهذا الغرض. ومن السهل أن نتصوَّر الباعث على قتله؛ فإن المركيش كان في نظر الصليبيين خائنًا خارجًا على الدين مواليًا لأعداء المسيح ثائرًا على أوليائه.

(٢٨) الميدان الأخير

دخل ربيع سنة ١١٩٢م/٥٨٨ﻫ فاجتمع الجنود المسلمون إلى صلاح الدين ولم يجتمع إلى ريكارد إلا فلول جيشه القديم، وقد خَبَتْ ثورة النصر الذي أحرزوه في العام المنصرم، إلا أنه كان لا يزال على عزمه في خطته الأولى: وهي أن يدخل إلى بيت المقدس بعد الاستيلاء على الساحل الجنوبي، فلما تمَّ له أخذ الساحل في العام الماضي جعل غرضه من حرب هذا العام الاستيلاء على بيت المقدس، فما زال يسير من منزلة إلى منزلة وجنود صلاح الدين بإزائه، وكان السلطان قد حصَّن بيت المقدس وقسم أسوارها على أمرائه مصممًا أنه لن يترك عدوَّه يستولي على تلك العاصمة كما استولى على عكا؛ ولهذا أخذ أمر الدفاع عنها في يده. ووصل الفرنج أخيرًا عند موضع اسمه بيت نوبه على مرحلة من بيت المقدس، وهناك بدءوا يتردَّدون ثم وقفوا. ولم يحدث في وقوفهم هناك أكثر من نهب قافلة عظيمة كانت آتية من مصر بالذخيرة، ويقال: إن عدد جمالها كان سبعة آلاف جمل، فاستولى الفرنج على ثلث منها وتشتَّت منها ثلث في البرية ووصل الثلث الأخير إلى الكرك محتميًا بها.

ولكن هذه الخسارة لم توقِع الرعب في قلب صلاح الدين بل زادته تصميمًا على الدفاع وإعدادًا لعُدَّته، فبالغ في تحصين بيت المقدس وأفسد الماء الذي في ظاهر المدينة، وكان في هذه الأثناء شديد الوجد كثير الدعاء لله بالنجدة يتخلَّل دعاءه البكاء، وما كان أشد دهشة المسلمين بعد هذا كله؛ إذ سمعوا بعودة الفرنج إلى الساحل. ولعل سبب رجوعهم ما سمعوه من استعداد صلاح الدين لهم، وكان عدد جنودهم غير كافٍ لإتمام حصار المدينة من كل جانب لا سيما والمدينة يحيط بها وادٍ منخفض من أكثر جهاتها، وهذا يدعو إلى تشتيت القوة المحاصرة.

وكان الفرنج يخشون التشتت لعلمهم بأن المسلمين إذا هبطوا على جماعة وحدها قضوا عليها ثم عادوا إلى الأخرى وهكذا.

وقد فرح المسلمون أشد فرح بعودة الفرنج عنهم، وتشدَّدت عزائمهم، وبدأت أحاديث الصلح بعد ذلك تتردَّد، وكانت شروط ملك الإنجليز هذه المرة صالحة لأن تكون أساس المفاوضة، وهي أن يترك ريكارد البلاد الساحلية لابن أخته الكند هري «الكونت هنري دي شمبانيا» على أن يكون تحت حكم صلاح الدين، وأن يأخذ الفرنج كنيسة في بيت المقدس.

فرضي صلاح الدين بإعطاء كنيسة القيامة بالقدس وإبقاء مدن الساحل في يد الفرنج إلا عسقلان وما وراءها فتكون خرابًا ليس لأحد من الجانبين، وأن تكون كل القلاع الجبلية للمسلمين، وجعلت المفاوضة تسير بين الطرفين سيرًا متردِّدًا طول مدة الصيف، ويختلف الطرفان على تفاصيل قليلة الخطر.

وتخلَّلها انقطاع وحرب، وكان ميدان ذلك الحرب عند يافا، فأخذها صلاح الدين بعد حصار قصير. وكان ريكارد في هذه الأثناء ذاهبًا إلى الشمال نحو بيروت، فلما سمع بحصارها عاد مسرعًا إليها في البحر، وهناك ظهرت شجاعته العظيمة التي كان لها أكبر أثر في نفوس المسلمين، فإنه لم يكن معه إلا عدد قليل ولكنه مع ذلك استطاع تنجية القلعة، وهرب مَن اسمه الجيش الكبير الذي كان في يافا. وقد تحدَّى ملك الإنجليز في اليوم التالي كل جيش المسلمين آخذًا رمحه حاملًا من طرف الميمنة إلى طرف الميسرة، فلم يتعرَّض أحد له حتى غضب صلاح الدين وأعرض عن القتال وانصرف عن يافا إلى الرملة مع أن ريكارد لم يكن في أكثر من ثلاثمائة مقاتل.

figure
خريطة دولة صلاح الدين.

وقد مرض ريكارد بعد ذلك مرضًا شديدًا واشتهى الكمثرى والخوخ والثلج، فكان صلاح الدين يُنفِذ إليه بما يطلب من ذلك. ولعل ذلك من أكبر ما يقوم دليلًا على تقدير البطل للبطل ولو كان عدوَّه.

وعزم الجنود الفرنسيون عند ذلك على العودة إلى بلادهم؛ ليلحقوا بملكهم الذي سبق رحيله، فاشتدت رغبة ريكارد في الصلح، وكانت عقدة الاتفاق عسقلان؛ فإن ملك الإنجليز كان مُصِرًّا على أخذها محافظةً على كرامته في الصلح، وكان صلاح الدين يأباها عليه إباءً شديدًا؛ خوفًا على مصر منها ومحافظةً على كرامته في الصلح أيضًا؛ إذ كان أخْذها عنوانًا للنصر في تلك الحرب التي لا يستطيع جانب فيها أن يدَّعي النصر غير مُدافع.

وأخيرًا تمَّ الصلح — صلح الرملة — في ٣ سبتمبر سنة ١١٩٢م/٢٢ شعبان سنة ٥٨٨ﻫ وحلف عليه من الفرنج جماعة الأمراء والملك الذي سيتخلف بالشام وهو «الكند هري»، ولم يحلف الملك «ريكارد» قائلًا: إن الملوك لا يحلفون ولكن كلمتهم تكفي. وحلف من المسلمين الملك العادل أخو صلاح الدين والملك الأفضل والملك الظاهر ابناه وجماعة من أمرائه الكبار، وكانت شروط الصلح أن يحتفظ الفرنج بالساحل من عكا إلى يافا، وأن يُسْمَحَ للحُجَّاج أن يزوروا بيت المقدس، وأن تخرب عسقلان ويكون الساحل من أولها إلى الجنوب لصلاح الدين.

ودخل في ذلك الصلح أميرَا طرابلس وأنطاكية على أن يحلفا للمسلمين؛ فإن لم يفعلا لم يدخلا في الصلح.

وهكذا تمَّ الصلح ووفدت وفود الحُجَّاج المتحمسين إلى القدس، فأكرمهم صلاح الدين إكرامًا عظيمًا، وعاد ريكارد إلى بلاده، وانصرفت الجنود الإسلامية عائدة إلى أوطانها المختلفة بعد تلك الحرب الضروس التي لم يَخْبُ لهيبها مدة قرن، فمات فيه مَنْ مات من الفرنج في سبيل غرضٍ دفعتهم إلى قصده حماسة غير موفَّقة، وساقهم إلى تلك الحماسة جماعة كان أكثرهم يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء،٧ ومات مَنْ مات من المسلمين في دفاعهم المجيد عن أوطانهم يقودهم شيوخ من كرامهم رأوا ذلك الجهاد خير ما يُقْضَى فيه عمر الأحياء، وما الحياة؟ أليست تلك الأنفاس التي تتردَّد في تلك الفترة المحتومة ما بين واجب الميلاد وواجب الموت؟ ألا إنها لفترة مملَّة مسئمة إذا لم يكن بها ما يهزُّ النفوس، ولئن كان هذا كذلك فلقد اختار مسلمو ذلك العهد ذلك الجهاد سلوة يقطعون عليها حياتهم، ولقد كانت سلوة جديرة بكرام الرجال.

وأما عمل صلاح الدين في ذلك فإنه قد جمع الدول الإسلامية بين يديه، وكانت عندما دخل الميدان لا تعدو عاصمتين من عواصم الشام والجزيرة وما بينهما من الأرض، وكان ما عدا ذلك في يد الفرنج أو الفواطم.

فلما مات كانت دولة واحدة من الدجلة إلى النوبة إلى برقة، وما زال بالفرنج حتى حصرهم على الساحل في الرقعة الضيقة بين عكا ويافا. وإذا قلنا: إن ذلك عمل صلاح الدين فما ذلك إلا لأنه لولاه لما تَمَّ ولظلت دولة الفرنج قوية بل لزادت قوة.

(٢٩) آخر حياة صلاح الدين

أقام صلاح الدين بالقدس حينًا بعد الصلح؛ لكي يُصلح من أمرها على حسب سُنَّته، وأقام بها المدارس والمستشفيات، ثم خلَّف بها صديقه القديم عز الدين جورديك، وسار يتفقَّد أحوال البلاد الشمالية ويقابل الأمراء لا يُفرق بين صاحب أنطاكية المسيحي وأصحاب نابلس وطبرية وصفد المسلمين، ثم دخل دمشق وكان دخوله إليها دخول المنصور الموفَّق، واستقبلته تلك المدينة المحبوبة استقبالًا عظيمًا جمعت فيه تقدير عظمته وحب كرمه وخلقه العظيم، وجاءت إليه وفود الناس من أهل دنيا وأهل دين، واجتمع له الشعراء والأدباء يقصدونه بالمدح، فكان وجوده بالمدينة سلسلة من الأعياد والأفراح، ووافاه هناك أخوه وأولاده، وكان يقصد أن يعود إلى مصر من هناك، ولعله كان يقصد أن يجعلها مركز دولته الجديدة، ويأخذ في تنظيمها وإعلاء شأنها، ولكن جماعة يقولون إنه إنما كان يقصد الراحة قليلًا ثم يعود إلى القتال في آسيا الصغرى وبلاد فارس. على أنه قد بقي في دمشق أطول مما كان عازمًا عليه في أول الأمر؛ فقد كانت دمشق مهد صباه الأول، وكانت أحب البلاد إليه، وقد استهواه فيها الصيد فخرج يقضي منه وطره وينعم بلذة الرجولة فيه، ويتفرَّج في أرض الظباء في سهوبها مدة الشتاء، وكان يجلس في أكثر أوقات الفراغ في وسط أولاده الصغار وأصدقائه المقربين، وقد رُفِعَت عنهم الكُلفة وسادت المباسطة، وفي أثناء تلك الراحة حدث له كسل فكان لا يُكْثِر من الخروج إلى العمل الرسمي بل يؤثِر البقاء في خَلْوَته.

figure
صورة قبر صلاح الدين.

ولكنه لما رجع الحُجَّاج خرج إلى لقائهم، وعند ذلك اجتمع الناس لرؤيته، وكان في لباس بسيط ليس عليه درع ولا وقاء، وكان يرغب في الحج ولا يجد فرصة لذلك وسط حروبه ومشاغله، فكان لذلك تأثُّره عظيمًا عندما رأى المقبلين منه، ثم عاد بعد ذلك إلى دمشق سائرًا بين البساتين ليتحاشى الجموع الكثيرة المصطفَّة لرؤيته، ولعل ذلك كان برأي الذين حوله؛ إذ خشوا عليه من شر يحدث له في وسط الجموع وليس عليه ما يقيه.

ومرض بعد عودته إلى دمشق بحمَّى صفراوية، وانتابه أرق شديد في الليل ولزم الفراش نحو أحد عشر يومًا، ومات في الثاني عشر من مرضه، وكان ذلك في السابع والعشرين من صفر لعام تسع وثمانين وخمسمائة، ويوافق ذلك ٤ مارس سنة ١١٩٣ ميلادية.

وكان حزن الناس لموته لا يوصف؛ فقد كان العامة يرون فيه السلطان العادل، والجند يعرفونه القائد المنصور، والقادة يعرفون فيه الرجل العظيم، والعلماء يعرفون فيه التقوى والوداعة والإيمان، والأدباء يذكرون ما نالهم من بِرِّه وتقديره لمواهبهم. فكان يوم موته مأتمًا عامًّا لا مراءاة فيه ولا مجاملة، بل كانت موجة الحزن تجتاح البلاد قويةً ثائرة. قال أحد كبار رجاله — وهو القاضي بهاء الدين بن شداد: «وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم، فظننت هذا على ضرْبٍ من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم، فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدى بالنفس.» وقد مات صلاح الدين عن نحو سبع وخمسين سنة بعد أن ملك مصر نحو أربع وعشرين سنة ومَلَكَ الشام نحو تسع عشرة سنة، وخلَّف سبعة عشر ولدًا ذكرًا وبنتًا واحدة تزوَّجت فيما بعدُ بابن عمها الملك الكامل صاحب مصر، وكان أكبر أولاده الذكور: الملك الأفضل نور الدين علي والذي يليه العزيز عثمان والثالث الظاهر.

(٣٠) كلمة عن الرجل

ما هي العظمة؟ وما هو الرجل العظيم؟ هذان سؤالان يصعب أن يجيب الإنسان عليهما، ولكن لا بد من أن يلتمس الإنسان ذلك السر إذا أراد أن يدرك شيئًا عن حقيقة صلاح الدين.

لقد كان في العالم عظماء كثيرون من رجال السيف ومن رجال الفكر، وقد ترك هؤلاء آثارًا في وقتهم، وظلت آثارهم إلى ما بعد موتهم.

ولكن المرء يدرك أنهم كانوا كبارًا في الرجال، فإذا ما حاول أن يعرف سر عظمتهم خانه البحث أو ضلَّله المنطق، حتى لقد قال الكثيرون: إن العظمة سرٌّ خفي في المرء يُرَى أثره ولا يُعْرَف كنهه.

ويكتفي هؤلاء بأن يفسِّروها بألفاظ غامضة إذ لا يقدرون على تبسيطها، ولكنَّا نخاطر ونحاول بالاستقراء أن نقول في هذا الشأن كلمة نصوغها بأبسط لغة عالِمِين بوعورة ما نتجشَّم.

الجسم في نفسه — وهو تلك المجموعة من اللحم والعظم وسائر المكوِّنات — ليس إلا آلةً تُطيع وأداةً تنفذ ما يريده نظامٌ أعلى وهو الروح وما يلحق به من مجموعة عصبية، ولعلنا إذا أردنا معرفة سر عظمة الفرد لا نقدر أن نجده في الغلاف الخارجي، بل لا بد أن يكون في تلك المجموعة العصبية المسيطرة.

  • (أ)

    كان كل عظماء الرجال ذوي أعصاب متينة؛ تحس فتؤدي إحساسها على أتمِّ وجه وأدقِّه، ثم تُحرِّك الجسم ما شاءت من حركات لا يتطرَّق إليها الخلل ولا يخرج عن سلطانها عضوٌ من الأعضاء.

    يتلقَّى العظماء من الصدمات أعظمها ويحسُّون بعِظم الصدمة، بل إن إحساسهم بها يكون — في الغالب — أكثر من إحساس عامة الناس، ولكنهم لا يذهلون للصدمة ولو اشتدت، ومثل هذا ما نسمعه من نابليون إذ قال عن نفسه: «كأن الأقدار كانت عالمة بما خبَّأته لي من صدمات فجعلت لي أعصابًا من حديد.»

    وقد كان لصلاح الدين قسط كبير من هذه الصفة؛ فكان لا يذهل عند صدمة بل يحس بها ويقف ويحكم ويريد وينفذ في ثبات ودقة؛ ففي حصار عكا كان يرى العدو يزيد عدده يومًا بعد يوم وهو يتخذ لكل طارئ عُدَّته أو يحاول ذلك، ولم يجزع ولم تَخُرْ عزيمته. وفي موقعة أرسوف وقف وحده في وسط جمع قليل وقد انهزم جيشه، وبقيَ على ثباته حتى بعث شيئًا مما في نفسه من قوة الجَنان إلى رجاله فثبتوا، ومنع بذلك كارثة كادت تكون قاضية. وكم حدث أن بلَغه نعي أبنائه أو أهله من أعز الناس عليه فيملك نفسه والحزن يحرق قلبه، فإذا كان في وليمة لا يفسدها بل يستمر على إحيائها إلى أن تنتهي، ثم يترك بعد ذلك العنان لنفسه الحسَّاسة فيفيض جَوَاها وحزنها بعد أن كبحها ما شاء. ولو شئنا أن نضاعف الأمثلة الدالة على ذلك لوجدنا في كل يوم من حياته المليئة مثلًا بل أمثالًا.

  • (ب)

    هذا وقد نُبيح لأنفسنا أن نستعير لغة ما وراء الطبيعة فنقول: إن القوة العصبية نوع من القوة ولها كما يقولون أشعة، ولعل تلك الأشعة تُحْدِث في الخارج أثرًا، ولعل هذا هو سر ما يشعر به الناس من هيبة ممزوجة باحترام وحب إذا هم اقتربوا من العظيم، وما ذلك الشعور — كما يقول أصحاب ما وراء الطبيعة — إلا نتيجة تأثير نفس العظيم في نفوس مَنْ حوله، وذلك شبيه بأثر المنوم في التنويم المغناطيسي. وقد كان عظماء الرجال جميعًا متَّصفين بتلك الصفة، فلا نسمع عن عظيم إلا ونعرف أن المتقرب إليه كان يشعر بشيء من الشعور القوي نحوه.

    وقد قال من اقترب من صلاح الدين مثل هذا، ومن ذلك ما حكاه عبد اللطيف البغدادي عنه إذ قال: «إن المتقرِّب منه لا يستطيع إلا أن يحسَّ بحب له ممزوج بهيبة.»٨
  • (جـ)

    هذا عن تلك القوة المبهمة التي يمتاز بها الرجل العظيم، ولكنا نقدر بعد ذلك أن نتكلَّم كلامًا أقل إبهامًا؛ فإن من أكبر مميزات العظيم نظرته في الحياة إلى نفسه وإلى الناس.

    إن الطفل ينظر إلى العالم نظرة سطحية فيرى كل ما فيها معقَّدًا منفصلًا عن غيره غير مفهوم، فإذا ما كبر أخذ يخترق السطح فيعرف طبائع الأشياء فيقل تعقُّدها في نظره، حتى إذا عرف العالم وخَبَرَهُ أمكنه أن يُسند كل شيء إلى أصوله، وأن يرى الأمور بسيطة إلى حدٍّ أكبر مما كان يراه من قبلُ. وهكذا الناس فمنهم الأبله الذي يأخذ العالم كما هو ويظن كل شيء وحدة قائمة بذاتها فيُخَيَّل إليه أن العالم مركَّب معقَّد على غير نظام، ويليه مَنْ هو أكثر منه نباهة، حتى الذكي الفهم فإنه يرى العالم أبسط بكثير مما يراه الأقل فهمًا. فإذا ما بلغ الرجل إلى مستوى العظمة أمكنه أن يخترق الحجب السطحية وأن يتغلغل إلى الحقائق المجردة من التمويه والأعراض؛ ولهذا كان عظماء الرجال دائمًا ممتازين ببساطة التفكير وبساطة الخطط وبساطة النظرة إلى الحياة، فينظرون إلى أنفسهم وإلى الناس أنهم جميعًا خلق متشابهون في كثير، ويختلف بعضهم عن بعض بحسب طباعهم لا بحسب الاصطلاح والوضع. وهكذا كان صلاح الدين بسيطًا في كل شيء: في نظرته إلى الحياة، في تفكيره في سلوكه، في معاملاته، في حياته، في نظرته إلى نفسه وإلى الناس.

    كان لا يظهر بأنه سيد الدولة الإسلامية، بل يقف أمام أمرائه الكبار وأحقر خدمه على السواء بصفته رجلًا أمام رجال؛ لا يفرق بين أحد والآخر إلا بمقدار حظه من الرجولة، ولعله كان واثقًا — أو كان واثقًا بطبعه بغير تفكير — من أنه أقوى من كل مَنْ دونه من الرجال بغير حاجة إلى أن يرتكز على مساعدة أبَّهة الملك وهيبة السلطان. وكان أمراؤه مع ما يعطيهم من الحرية وما كان لهم في عصرهم ذاك من القوة والنفوذ، كانوا يتضاءلون أمامه ولا يجسر أحد أن يعصي إذا أمره، لا خوفًا من قوته المادية ولكن طاعة لا بد منها لشخصه القوي.

    فلم يكن يحرِّك على أمير جنودًا، بل يكلِّمه الكلمة الوديعة ثم يتركه، فإذا هو خاضع ولو كان ممن لا يأسرهم الإحسان.

    وإلى جانب هذا كان لا يرى فرقًا كبيرًا بينه وبين أقل خدمه، بل يتجاوز ويحكم بطبعه بغير تكلُّف؛ فقد رمى أحد الخدم آخر بحذاء فتجاوز حتى وصل إليه هو، فأدار وجهه للناحية الأخرى حتى لا يُحْرِجَ ذلك الخادم. وكان إذا عُرضت عليه القصص يزدحم الناس عليه حتى لقد يطئُون طراحته وهو لا يتأثر.٩

    وطُلب في قضيةٍ خصمًا فجلس في مجلس القضاء ولم يتكبَّر مع أن الحق كان معه. وأراد مملوك مرة أن يُوقع منه على ورقةٍ فاعتذر له بالضجر وطلب إليه أن يؤجل ذلك، فألحَّ فقال له: إن الدواة غير حاضرة، فأشار المملوك إلى دواة كانت على مسافة منه، فنظر صلاح الدين فوجدها، فمال ببساطة نحوها مرتكزًا على يده حتى بلغها بمشقَّة، ثم وقَّع له بما شاء ولم يرَ في ذلك شيئًا.

    وكان إذا مرض أحد أتباعه أرسل يسأل عنه مرارًا ولو كان هو نفسه مريضًا. وكان كثير الوداعة في دائرة أسرته، يجالس أولاده ويباسطهم ويضاحكهم لا سيما الصغار منهم. وكان معروفًا دائمًا بالعطف على كل ضعيف لا سيما الشيوخ والنساء والأطفال،١٠ فلا غرابة لمن كان مثل ذلك إذا كانت طاعة الناس له طاعة طبيعية يغتصبها بشخصه القوي، وتُبذل له حبًّا بالطبع بغير تكلُّف.
  • (د)

    والرجل العظيم شديد الإحساس دائمًا، ولو أن إحساسه لا يُخرج أعماله عن إرادته وسيطرته، وكل ما يَرِد في سِيَر العظماء يدل على أنهم كانوا من أشدِّ الناس عاطفة، ولو أنهم كانوا يملكون ناصية تلك العواطف. وقد كان صلاح الدين شديد العاطفة؛ يزيد به الفرح إذا لقي صديقًا حتى يبكي، ويزيد به الوَجْد إذا اهتمَّ لأمرٍ حتى لا يأكل ولا ينام، بل يقضي كل وقته في عمل مستمر، ويملكه السرور أحيانًا فتهون عنده الدنيا وما بها، وتهزُّه الأريحية فيهَبُ كل ماله، وتستهويه ملاهي الرجولة فيقضي في الصيد أيامًا يشعر بلذة أيِّ لذة في أن يسرح بين المروج ويتردَّد في وديان الفلاة الفسيحة، ثم يستثيره الطرب الحلال إلى الجمال فيهتز لقول الشاعر إذ يقول أمثال:

    وزارني طيفُ مَنْ أهوى على حذرٍ
    من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
    فكدت أُوقظ مَنْ حولي به فرحًا
    وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا
    ثم انتبهت وآمالي تُخيِّل لي
    نَيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا

    فالحقُّ أن الذي لا تهزُّه العواطف الوثابة يكون أثقل مادةً من أن ينهض إلى الآفاق العالية.

  • (هـ)

    هذا من جهة الشخصية، ولكن إلى جانب هذا يمتاز العظيم دائمًا بقوة العقل والذكاء. والواقع أن قوة العقل والذكاء ما هي إلا نتيجة لازمة للقوة العصبية، وقد كان صلاح الدين على أكبر ما بلغه الإنسان من قوة العقل. إنه لم يكن عالمًا بالمعنى الأكبر ولو أنه كان على شيء كثير من الاطِّلاع في الحديث وشيء من الفقه والأدب ولا سيما أنساب العرب ووقائعهم وسِيَرهم، فنعرف مثلًا أنه قرأ فيما قرأ كتابًا في الفقه من تصنيف الرازي، وكان في الصباح يقرأ بعد الصلاة شيئًا من الحديث أو الفقه مع بعض الأشياخ مثل القاضي بهاء الدين بن شداد. ولكن ذكاءه القوي كان يسدُّ ما في علمه من نقص؛ ولهذا كان أكبر مدرسي عصره يحسبون لعلمه حسابًا إذا ما أحاطوا به في مجلسه الحافل بكبار أهل العلم في عصره. وكانت وجوه مناقشته ونقده تدل على مقدار فهمه، وإذا وصفناه بالفهم فإنَّا نقصد بالطبع أنه كان من أهل السُّنَّة المتشددين في مسألة العقيدة، وإذا كانت المغالاة في ذلك عيبًا فقد كان مغاليًا في التشدُّد، ويُعْرَف عنه أنه قتل جماعة ممن كان يشك في صدق إيمانهم. ولعل روح العصر تشفع له إذا كان هناك مَنْ يميل إلى مؤاخذته في ذلك.

    ولكن صلاح الدين كان رجل سياسة وحرب ولم يكن برجل العلم؛ ولهذا كان ذكاؤه أظهر ما يكون في أمور الدولة والحروب؛ فقد كان بعيد النظر يتوقَّع الأمر قبل حدوثه من أول بوادره، وكثيرًا ما كان رأيه في أمور الدولة خيرًا من رأي أجمع عليه أمراؤه كلهم. وكان في إصلاح أمور بلاده يضع يده دائمًا على مواضع الخلل والضعف، وكانت له قدرة عظيمة على القيام بتفاصيل الأمور؛ فكان في وقت واحد يدبِّر الحرب ويرسم الخطط ويرسل إلى الأقاليم المختلفة التي في دولته يرسم خطط الإصلاح الداخلي ويُمْلِي إرادته في الإدارة المحلية، ويقوم في أثناء هذا وذاك على مراقبة كل ما يجري في القضاء في بلاده على يد القضاة، وما يجري من الأمور في جيشه الكبير، حتى لقد كان كل جندي يظن أن عين صلاح الدين واقعة عليه، وكانت حماسة جنوده ناشئة من اعتقادهم أنه يعرف ما يعملون ويجازي الإحسان ويعاقب الإساءة على طريقته في الجزاء والعقاب.

  • (و)

    على أن صلاح الدين يمتاز فوق كل هذا بميزةٍ قلَّ أن توجد في غيره من العظماء؛ فقد ذكر التاريخ كثيرين ممن جمعوا قوة الشخصية وقوة العقل، وأحدثوا في العالم بهذه الميزات آثارًا كبرى، ولكن قلَّ أن نجد من هؤلاء العظماء مَنْ كان في نفس الوقت عظيمًا وقدِّيسًا. بل إن كثيرًا منهم كانت لهم سقطات في خُلقه: إما من قسوة، وإما من عدم تردُّد أمام الوسائل لبلوغ غاياتهم، وإما من تجاوزٍ لحدود الأخلاق الفاضلة. بل إن كثيرين من العظماء يرون الفضائل دون قدرهم، ويظنون أنها قيود وُضِعَت للدهماء الذين هم في مستوًى دون مستواهم، ولكن صلاح الدين كان من القلائل الذين جمعوا الخلق الكريم والعقل القوي والشخصية المسيطرة.

    فكان متدينًا منذ أول حياته، ولكنه كان مخطئًا بعض الخطأ في صباه، حتى إذا ما دخل ميدان العمل في أول رجولته ترك اللهو وتاب عما حرمه الله. ولكن عقيدته لم يتدخَّل إليها خلل في وقت من أوقات حياته، وكان حريصًا على أن تكون عقيدة أبنائه قائمة على صخرة، فكان يعلِّمهم بنفسه أول قواعد الدين.

    وأما فروض الدين من الصلاة فكان مواظبًا عليها ويصلِّي نوافل فوقها كثيرة، ولم يترك الصلاة إلا عندما اشتدَّ عليه مرض الموت وتغيَّب ذهنه في الأيام الثلاثة الأخيرة. وكان يؤدي الزكاة عن ماله القليل ولو أنه لم يكن في وقت من حياته كثير المال؛ لكرمه وكثرة نفقته في وجوه الخير؛ وليس أدل على ذلك من أنه لم يترك عند وفاته في خزائنه أكثر من سبعة وأربعين درهمًا وجرمًا واحدًا ذهبًا، ولم يخلِّف ملكًا ولا عقارًا ولا بستانًا ولا قرية ولا مزرعة.

    وأما الصوم فقد كان يشتد عليه؛ ولا سيما في ميدان الحرب وأيام المرض، وكان ضعيف الجسم؛ فلهذا كان يتأخَّر عليه فوائت، وحاول أن يقضيها بعد أن انتهى من حروبه ولكنه مات وعليه بعضها.

    ولم يستطع الحج مع عزمه عليه وشدة شوقه إليه؛ إذ لم يُمهله الأجل بعد أن فرغ من الجهاد ليتمَّ تلك الفريضة. ومن العجيب أن نعرف أنه في العام الوحيد الذي خلا من الجهاد في آخر حياته لم يستطع الحج «لخلوِّ اليد عما يليق بأمثاله».

    وكان رقيق النفس يهتز اهتزازًا شديدًا لسماع القرآن والحديث، وكان كثير الثقة بالله إلى درجة قد يعدُّها البعض خرافة، ولكن الحقيقة أن ثبات نفسه كان يدفعه إلى الاطمئنان إلى ما يجري به القضاء واثقًا بأنه قد بذل ما في وسعه، وأن الحيلة بعد ذلك في تصريف القضاء ليست في يده.

    ولكن التدين وحده ليس كل ما اتصف به ذلك الرجل الفذ؛ فقد كان خلقه مما يزين أبعد الناس عن الدين فيقربه إلى نفوس المتدينين. فكان لا يرى الغاية تُبرِّر الوسيلة؛ ولهذا لم ينزل في جهاده — مع حماسته وشدة إيمانه — لقصده إلى سلوك سبيل تأباها المكارم؛ فلم يغدر مرة ولم يقل كلمة إلا وفَّى بها ولم يَعِدْ حتى يكون قصده الوفاء، وكان في هذا يسوِّي بين صديقه وعدوِّه، فكان يأبى مع أعدائه إلا أن يكون مُنازلًا شريفًا، فلم تُحْفَظ عليه هنة، ولم يُعْرَف عنه نقض لعهد ولا سعي دنيء في الخفاء، وقد انتصر في حِطِّين وفتح القدس نصرًا عظيمًا، فلم يُبطره ذلك ولم يُدِرْ رأسه فيدفع به إلى انتقام أو قسوة، بل تجلَّت شفقته على الضعيف وبرُّه بالوعد ورحمته بالإنسان ولو كان من غير جنسه ودينه، بل لو كان من أشد أعدائه.

    ولم يكن في نفسه حقد ولا حب انتقام، ويتجلَّى ذلك من وصيته لابنه إذ قال: «وأحذِّرك من الدماء والدخول فيها؛ فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم … ولا تحقد على أحد؛ فإن الموت لا يُبْقِي على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس فإنه لا يُغْفَر إلا برضاهم. وأما ما بينك وبين الله فإنه يغفره بالتوبة إليه فإنه كريم.» وكان غضبه إذا غضب للمكارم والشرف، فقتلُه لأرناط الغادر صاحب الكرك لا يذمه أحد وإيقاعه بشاور الوزير المصري لا يجد مؤرخ غبارًا عليه؛ إذ كان في كل ذلك غاضبًا للشرف والرجولة والعهد. وكان عادلًا عدالة لا قيد عليها ولو كان على أهله ونفسه، فكان يأخذ من أبناء إخوته وأبنائه ومن نفسه إذا قام دليل على أن القانون يحكم عليهم أو عليه. على أن كل ما يُذْكَر من مواقفه أمام القضاء يدل على أنه كان على الحق. فكان إذا تبرَّأ أمام القانون مما طلبه خصمه تكرَّم على ذلك الخصم فوهبه ما يسمح به كرمه علمًا منه أن ذلك الخصم ما اندفع إلى ما اندفع إليه إلا لحاجة قامت به.

    وكان كريمًا ينفق ما في يده وأكثر مما في يده في سبيل الخير والإحسان، ولم يترك ميراثًا من ذهب أو فضة أو ملك لهذا السبب، ذلك وهو صاحب الدولة العظيمة التي ألبست فرعون وكسرى ذهبًا، وجعلت لهما أهرامًا وإيوانًا، فكان أحيانًا يذكر المال قائلًا: «يمكن أن يكون في الناس مَنْ ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب.» ولعله كان يريد بذلك نفسه.

    وكان بعد ذلك حَسن العِشرة لطيف المعاملة طيب الفكاهة. وكان مجلسه طاهرًا من الرجس لا يُذْكَر بين يديه إلا خير؛ إذ كان لا يحب أن يسمع إلا خيرًا. ولم يشتم أحدًا ولم يعلُ صوته في تأنيب أحد من خدمه إلا مراجعة لطيفة ولو اشتدَّ موجب التأنيب؛ ومثلٌ من ذلك ما حدث أيام مرضه: وذلك أنه أُدْخِلَ الحمام فوجد الماء حارًّا فطلب ماءً باردًا فأحضره الذي يخدمه، فسقط من الماء شيء على الأرض فناله منه شيء فتألَّم له لضعفه، ثم طلب الماء البارد أيضًا فأُحْضِرَ، فلما قارَبه سقطت الطاسة على الأرض فوقع الماء جميعه عليه فكاد يهلك، فلم يزد على أن قال للغلام: «إن كنت تريد قتلي فعرِّفني.» ثم سكت عنه.

    وكان في حياته الداخلية هادئًا محبوبًا، يودِّع أبناءه بأن يقبِّلهم ويمسح على رءوسهم، وكان يصحب أولاده وإخوته في الصيد، وكان يداعب أبناءه الصغار ويعيش في داخل بيته غير متكلِّف، وكان يطلب أحيانًا أكلًا بسيطًا كأرز بلبن وأمثاله، فيأكل مع مَنْ حضر من رجاله الأخصَّاء وأولاده كما يفعل أي عامل من أوساط الناس.

    على مثل هذا كان صلاح الدين في حياته، وقد خلا العالم بوفاته من نورٍ أشرق عليه حينًا إلا ذكرًا نردِّده عنه لعل فيه أسوةً ومنار هدًى.

١  جاء في كتاب صلاح الدين، تأليف استاتلي لين بول:

اختير هيو — حاكم قيصرية — وجوفري — فارس المعبد — رسلًا من الملك «أمري»، وقد سار بهم الوزير بنفسه وجعل يقتحم بهم كل رسوم الأوضاع السرِّية، فسار بهم في ممرات خفية وأبواب عليها حراس من أقوياء السودان، وكانوا يحيُّونهم بسيوفهم المجرَّدة، حتى بلغوا صحنًا فسيحًا لا سقف له إلا السماء وحوله أقبية قائمة على عُمُد من الرخام، وكان السقف المزخرف مرصعًا بالذهب مزينًا ببديع الألوان. وأما الأرض فكانت من الفسيفساء البديعة، وقد أخذت تلك المناظر بعيون الفارسَين الذين لم يعتد نظرهما أن يقع على مثل هذا الجمال، فكانا يريان هنا فوَّارة من الرخام تحيط بها الطيور الزاهية التي ليس مثلها في بلاد الغرب، ثم يريان هناك أنواعًا من الحيوان لا مثيل لها إلا أن يصور ألوانها مصور بارع أو يخترع صورتها شاعر ماهر أو يحلم بها حالم في عالم الخيال. وهكذا كانا يريان أشياء لا يريان مثلها في بلادهما؛ إذ هي مما لا يوجد إلا في بلاد الشرق والجنوب.

وبعد سير طويل في تعاريج وتلافيف وصلا إلى مكان العرش، فأعلن قدومهما عدد عظيم من الحشم يلبسون حُللًا بهية، ثم تقدَّم الوزير خالعًا سيفه وقبَّل الأرض ثلاث مرات كأنما يسجد لله، ثم أعقب ذلك أن انكشفت الستائر الثقيلة فجأة وهي تلمع بما عليها من ذهب ولؤلؤ، ولاح من خلفها الخليفة وعليه حلل وزينة تُزري بما يتحلَّى به الملوك.

فقدَّم إليه الوزير بخشوعٍ الرسولَين الفارسَين وبيَّن بصوت منخفض ما كانت فيه البلاد من الخطر وما كان من شأن صداقة ملك بيت المقدس له، وكان الخليفة شابًّا أسمر اللون قد خطا الخطوات الأولى خارجًا من عهد الصبا، فقال: إنه يرغب أن يوافق على معاهدة صديقه العزيز ملك بيت المقدس، ولكنه تردَّد في أن يمدَّ يده عندما طلب الرسول منه أن يمدَّ يده دليلًا على صدق عهده، وقد غضبت حاشيته من ذلك الطلب، غير أن الخليفة مدَّ يده بعد قليل إلى السير هيو، ولكن هذا وجد عليها قفازًا فقال: «مولاي، إن الحق لا غطاء له، وإن كل شيء مكشوف في عهود الأمراء.» فتبسَّم الخليفة برغمه وخلع قفازه كارهًا، ثم مدَّ يده إلى هيو وحلف اليمين على إنفاذ المعاهدة بصدق وإخلاص.

٢  ظل صلاح الدين يذكر مولاه نور الدين بكل حسنة إلى آخر حياته، وتدل جميع أقواله — بعد أن صار السلطان الأعظم في العالم الإسلامي — على أنه ما زال يحنُّ إلى ذكرى سيده ويقدِّس فيه البطل الزاهد العادل.
٣  بعد إنشاء الإمارات الصليبية الأربع لم تنقطع البعوث الصليبية عن المجيء إلى الشام؛ لإمداد الجيش المحارب ضد المسلمين، ولكن بعد نحو قرن من إنشاء تلك الإمارات ذهب الجيل الأول من أبطال الحرب الأولى وشعر المسيحيون بالنقص الذي طرأ على صفوفهم، وكان في أوروبا — منذ القرن العاشر — حركة إصلاح في الدين كانت ترمي إلى إعادة الفضيلة المسيحية بإنشاء الأديرة والطوائف الدينية (النساك والرهبان) على مبادئ الزهد والفضيلة، فلما انصرفت الهمة إلى الحروب الصليبية كان من الطبيعي لأوروبا أن يفكر قادتها من المتحمسين وأكثرهم من رجال الدين في إنشاء فرق من رهبان محاربين يجمعون بين فضائل الزهد والنسك وبين فضائل الانتصار للدين، وكانت نتيجة تلك الحركة طوائف أكبرها طائفة التمبلار أو فرسان المعبد ويسميهم العرب (الداوية)، ويُنْسَبون إلى التمبل أو المعبد وهو معبد سيدنا سليمان حيث أقامت طائفتهم ثم طائفة الهسبتاليين أو فرقة القديس يوحنا، ويسميهم العرب (الاسبتارية)، ويُنْسَبون إلى مستشفى بناه تجار إيطاليون ونسبوه إلى القديس يوحنا تبركًا، وكانت الفرقة — في أول أمرها — تقيم في بنائه فأطلق عليها اسمه.
وكان رهبان هاتين الطائفتين من أكبر العاملين على الدفاع عن المسيحيين بالشام مدة قرن تقريبًا؛ إذ كانوا هم العمود الفقري لجيش الصليبيين ويُعْرَفون بالفضل والاستقامة والزهد والشجاعة، وقد أقرَّ المسلمون أنفسهم بذلك رغم العداوة التي كانت بين الجانبين.
٤  بعد إنشاء الإمارات الصليبية الأربع لم تنقطع البعوث الصليبية عن المجيء إلى الشام؛ لإمداد الجيش المحارب ضد المسلمين، ولكن بعد نحو قرن من إنشاء تلك الإمارات ذهب الجيل الأول من أبطال الحرب الأولى وشعر المسيحيون بالنقص الذي طرأ على صفوفهم، وكان في أوروبا — منذ القرن العاشر — حركة إصلاح في الدين كانت ترمي إلى إعادة الفضيلة المسيحية بإنشاء الأديرة والطوائف الدينية (النساك والرهبان) على مبادئ الزهد والفضيلة، فلما انصرفت الهمة إلى الحروب الصليبية كان من الطبيعي لأوروبا أن يفكر قادتها من المتحمسين وأكثرهم من رجال الدين في إنشاء فرق من رهبان محاربين يجمعون بين فضائل الزهد والنسك وبين فضائل الانتصار للدين، وكانت نتيجة تلك الحركة طوائف أكبرها طائفة التمبلار أو فرسان المعبد ويسميهم العرب (الداوية)، ويُنْسَبون إلى التمبل أو المعبد وهو معبد سيدنا سليمان حيث أقامت طائفتهم ثم طائفة الهسبتاليين أو فرقة القديس يوحنا ويسميهم العرب (الاسبتارية)، ويُنْسَبون إلى مستشفى بناه تجار إيطاليون ونسبوه إلى القديس يوحنا تبركًا، وكانت الفرقة — في أول أمرها — تقيم في بنائه فأطلق عليها اسمه.
وكان رهبان هاتين الطائفتين من أكبر العاملين على الدفاع عن المسيحيين بالشام مدة قرن تقريبًا؛ إذ كانوا هم العمود الفقري لجيش الصليبيين ويُعْرَفون بالفضل والاستقامة والزهد والشجاعة، وقد أقرَّ المسلمون أنفسهم بذلك رغم العداوة التي كانت بين الجانبين.
٥  مما يجدر بالملاحظة أن الشعب المصري في أيام سلاطين المماليك كان بعيدًا عن الاهتمام بأمر الحكم في البلاد، وكان كل الأمر في أيدي الجند أمرائهم وهم من المماليك الذين يُجْلَبون من فيافي التركستان أو جبال القوقاز. وكان الشعب المصري آمنًا في صناعاته وزراعته وتجارته لا يعبأ بشيء ما دام رزقه يأتي إليه، وكانت الأرزاق — على وجه العموم — في تلك الدولة تأتي إليه في رخاء وسعة، اللهم إلا في أوقات المحن وانخفاض النيل، وكانت طبقة الحكام تتنازع فيما بينها، وكانت في تنازعها تنزل إلى قسوة لا يعرف التاريخ مثلها إلا في مثل تلك العصور المضطربة على أثر الحروب العظيمة، ولكن تلك القسوة لم تتعدَّ صفوف الجند، وكان الشعب في بُعْدِهِ عن الحكم آمنًا وادعًا، إلا أن حاجة الحكام إلى الأموال كانت تؤدي — في كثير من الأحوال — إلى مظالم مالية، فكان الشعب يُظْهِر ألمه وشكواه إلى جماعة العلماء الذين أصبحوا — على مرِّ الزمن — رؤساءه الوطنيين، وكان نفوذهم يزداد عند الشعب والحكام على حد سواء بازدياد البُعْدِ بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، وكان السلاطين إذا سمعوا شكوى الشعب يردِّدها العلماء لا يسعهم إلا الإجابة وإزالة أسباب الشكوى في أكثر الأحوال. ومما كان يزيد في قوة تلك المطالب أنها كانت تتجه على لسان العلماء وهم رجال الدين، فكانت الشكوى ترتفع كذلك باسم الدين، والحق أن الدين الإسلامي والشرع أو (القانون) شيء واحد، فإذا قلنا: إن رجال الدين كانوا حُماة الشعب كان معنى هذا أن حفظة القانون كانوا حُماة الشعب، وإذا قلنا: إن الدين كان محترمًا فمعنى هذا أن القانون كان محترمًا؛ فدراسة القانون (الشريعة) كان لها أكبر أثر في حفظ مصر من الانحطاط الاجتماعي الذي كانت أوروبا تئنُّ منه في عصرها المظلم في تلك القرون.
٦  يذكر ابن إياس قصصًا عدَّةً عن قيام العلماء إلى السلاطين وبث شكوى الناس من الضرائب ونحوها في لغة شديدة وعن نزول الحاكم على ما يحبه العلماء في أكثر الأوقات.
٧  مَثَلٌ يُضْرَب لمن يُظْهِر أمرًا ويُخْفِي غيره.
٨  كان أمراؤه الكبار ومماليكه الصغار إذا رأوا عينه واقعة عليهم وعرفوا أنه ينظر إلى أعمالهم استماتوا في القيام بالواجب وبالغوا في إظهار ما في نفوسهم من شجاعة أو كرم. وما كان جزاؤهم الذي يتوقعونه من وراء كل ذلك إلا أن ينالوا من صلاح الدين ابتسامة الرضا أولًا، وأن تُلحقهم هذه الأعمال بمرتبته في البطولة، وليس من المبالغة أن نقول: إن لصلاح الدين فضلًا كبيرًا في تلك الشهامة التي ظهرت في المسلمين في ذلك العصر؛ فإن للقائد أثرًا عظيمًا في نفوس رجاله؛ فالناس هم الناس على وجه التقريب في كل وقت، فإذا تولَّى أمرهم عظيم تساموا جميعًا إلى مستوى عظمته فأتوا بالعجيب، وإذا تولَّى أمرهم حقير النفس ضاع أمرهم وفشلوا وبرزت إلى الأمام أدنى صفات الإنسان وأحقرها.
فلنذكر ذلك الشاب الصانع الدمشقي الذي توصَّل إلى اختراع وسيلة لإحراق آلات العدو بعد أن أعْيَت المسلمين الحيل في الدفاع عن أنفسهم أمامها، حتى إذا ما حضر إلى صلاح الدين وأظهر له هذا رضاه وعرض عليه الجزاء؛ أبى الشاب إباءً صادقًا وقال: إنه ما فعل ذلك إلا أداءً لواجبه وتقربًا إلى الله تعالى … ولنذكر مملوكه الذي رآه ناظرًا إليه والجموع المسيحية الهائلة دونه، فاندفع إلى الموت وصدع صفوف الأعداء صدعًا كبيرًا بنفسه وحده، وعَلَتْ بذلك المثل الصالح نفوس المحاربين فاندفعوا إلى تقليده والانتقام له.
ولنذكر أمراءه الكبار وليس في الدولة ما يضمن خضوعهم لصلاح الدين من قوة؛ إذ كانوا جميعًا شبه مستقلين، وكان صلاح الدين في شغل من حروبه، فلم نسمع بعد سنة ١١٧٦م أن واحدًا منهم خرج عليه، لا بل لم نسمع أن واحدًا منهم قصر عن أن يكون مثالًا عاليًا في التضحية والإيثار والإقدام بنفسه في مقدمة جنوده، لنذكر كل ذلك ثم لنحكم على عظمة الرجل الذي كان قطب تلك الحوادث وجماع أمرها.
٩  ولقد ذُكِرَ أنه بعد انصرافه عن عكا وأخْذ الفرنج لها ذهب إلى الساحل لكي يدمِّر حصونه، وكان هو فيمن يدمِّر تلك الحصون بنفسه، يعمل كواحد من العمال فيحمل الأخشاب فوق كتفه، وكذلك كان عند بناء حصون القدس يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأمكنة البعيدة «فيقتدي به العسكر، فكان يجمع عنده من العاملين في اليوم الواحد مَنْ يعملون قدر عدة أيام.»
١٠  ولم يكن هناك فرق في رحمته بين المسلم وغيره؛ ومن الأمثلة الكثيرة على هذا قصة الرضيع التي وقعت في أثناء حصار عكا في الأيام الأخيرة التي ضاق فيها الحصار على المدينة وضاق صدر صلاح الدين فيها مما يجده المحصورون من البلاء، ولكن نفسه ما كانت لتقسو ولو اشتدَّ كربها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤