إبراهيم في مصر

مع التوراة، نتابع الرحلة الإبراهيمية، بعد أن استقرَّ «إبرام» هونًا في «حاران»، فتقول إن الرب «إيل» قد التقى بخليله وقال له:

اذهب من أرضِك وعشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك، وأعظم اسمك. فذهب إبرام كما قال له الرب، وذهب معه لوط وكان إبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرَجَ من حاران، فأخذ إبرام ساراي امرأته، ولوطًا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليَذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى أرض كنعان، وظهر الرب لإبرام، وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحًا للربِّ الذي ظهر له، ونقل هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل، ثم ارتحل إبرام ارتحالًا متواليًا نحو الجنوب، وحدث جوع في الأرض، فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب هناك؛ لأن الجوع في الأرض كان شديدًا، وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة «حسنة المنظر»، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته، فيقتلونني ويستبقونك. قولي: إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك، فحدث لما دخل إبرام بها إلى مصر، أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدًّا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون «فصنع لإبرام خيرًا بسببها، وصار له غنمٌ وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال»، فضرب الله فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة إبرام، فدعا فرعون إبرام وقال له: ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لتكون زوجتي؟

تكوين ١٢: ١–١٩
ويعقب «محمد حسني عبد الحميد» في كتابه الذي قدمه الشيخ مخلوف مفتي مصر الأسبق، على قول إبراهيم لسارة: قولي إنك أختي، بقوله: ««كانا أخوين فعلًا، وكان ذلك قبل تشريع تحريم الأخت على أخيها»، وذهب البعض وراء هذا المذهب وزاد عليه قوله: لا حاجة إلى تأويل كلام إبراهيم، بأن المقصود أنها أخته في الدين؛ لأن هذا الاعتقاد لم يدع إليه إلا اعتقاد المُؤَوِّلين، إن هذه الشريعة التي كان عليها إبراهيم، كانت كشريعة موسى عليه السلام (دينًا)، كالأخت والعمة، وقيل في تأييد ذلك: «إن موسى بن عمران كان متزوِّجًا من عمَّته»، كما ورد في إصحاح ٢٦ من سفر العدد.»١

وفي سفر التكوين معنى صريح يشير إلى ذلك، في قول إبراهيم: إن سارة هي أخته غير الشقيقة، «وبالحقيقة هي أيضًا أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي فصارت لي زوجة» (تكوين ٢٠: ١٢).

وما يمكن أن تؤدي إليه هذه الرواية من فهم دفع الباحث الإسلامي «د. صابر طعيمة» إلى التعقيب مستنكرًا أن التوراة تعني بذلك ودون مُوارَبة، أن «الفرعون المصري قد أخذ المرأة وتزوجها، أو عاشرها واستَمْتَع بها»، كما تعني أن النبي إبراهيم «تنزَّهَ نبي عن ذلك، جبان: يقتلونني ويستبقونك، بل إن في النص بعد ذلك معنى يجرد إبراهيم من رجولته فضلًا عن إبائه وعظمته كنبيٍّ رسول، هذا المعنى هو أنه كان ديوثًا على أهله يعيش على ريعهم، وينعم بثمن امرأته «فصنع إلى إبرام خيرًا بسببها».٢

ولأن التوراة مقدس لدى المؤمن به على حاله المتاح، فإن «ماير» يسلم بالرواية، ويستخلص منها العبر والعظات، ورغم أنه في سلسلة كتبه كثيرًا ما تحامل على المصريين بحكم اللعنات التوراتية التي دأبت عليها التوراة، وصبَّتْها على بني حام، ورغم أنه كثيرًا ما أشار لمصر كرمز للدنيا وزينتها مقابل طهارة الإيمان ونقائه، فإنه يحاول في كتابه عن النبي إبراهيم تبرير نزول القبيلة الإبراهيمية مصر، وبخاصة الأنبياء منهم فيقول: «مرت ظروف في تاريخ «شعب الله»، رأينا الله نفسه يأمر عبيده بالالتجاء إلى مصر «مؤقتًا»، فعندما كان يعقوبُ متردِّدًا في الذهاب إلى مصر، وعامل الخوف من تكرار أخطاء الماضي، قال له الرب: أنا إله أبيك، لا تخفْ من النزول إلى مصر؛ لأني أجعلك أمة عظيمة هناك، أنا أنزل معك إلى مصر» (تكوين ٤٦: ٣، ٤).

وفي العهد الجديد «الأناجيل» نجد ملاك الرب يظهر ليوسُف «رجل مريم أم المسيح» في حلم ويقول له: «قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر» (متى ٢: ١٣).

واضح هنا أن مصر كانت ملجأ لطالب الحمى، لكن النبي يعقوب حفيد النبي إبراهيم كان يخشى نزولها، خوفًا من تكرار أخطاء الماضي فماذا يقصد «ماير» بأخطاء الماضي تحديدا؟ … تتضح الإجابة في استطراده: «على أن إبراهيم لم يتلقَّ رسالةً صريحة من الله بنزول مصر، بل تصرف بمجرد تفكيره الشخصي، يا لها من غلطة شنيعة، ألم يكُنْ خيرًا لإبراهيمَ أن يُلقي بكل المسئولية على الله؟ … عندما فقد إبراهيم إيمانه ونزلَ مصر، فقد أيضًا شجاعته وأقنع زوجته أن تقول عن نفسها إنها أخته، فإنه كان قد سمع عن «فساد أخلاق المصريين»، وخشي أن يقتلوه ليتمكَّنُوا من أخذ سارة التي كانت على شيءٍ عظيم من الجمال رغم تقدمها في السن، «وقد ضلَّل هذا الكلام المصريين فعلًا»، لأن سارة أُخذَتْ إلى بيت فرعون. كان هذا الموقف الذي وقفه إبراهيم دليلًا على ضعفه «وجبنه»، ولم يستطع أن يجد له مبررًا يدافعُ به عن نفسه، وكانت غلطة شنيعة من شخص عاش بالإيمان كل تلك المدة الماضية، وكادت «هذه الغلطة تعرض النسل الموعود للخطَر».»

وهكذا سلم «ماير» عن إيمان بالرواية دون مناقشة، وأخذ منها العظةَ بحسبان ما حدَثَ للنبي كان أمرًا مقصودًا ليكون درسًا للمؤمنين وعبرة، فيستمرُّ يقول: «وعندما أخذ فرعون سارة، صنع إلى إبرام خيرًا جزيلًا بسَببِها، وهذا ما قد يفعله لعالم أحيانا لمن يستسلمون له» (يقصد بالعالم مصر) … وعندما يترك الابن الضال بيت أبيه، يخسر كل ما يعطي الحياة قيمة حقيقية، «وينحط إلى مستوى الخنازير»، ولو شعر في بداءة الأمر بنشوة السرور الوقتي، للحصول على الشهوة المشتهاة. إن سقطة إبراهيم في مصر تعطينا صورة عن طبيعته الأصيلة، التي لم تكن نبيلة بأي حال من الأحوال، فإبراهيم بطبيعته الأصيلة «لم يكن يسمو كثيرًا عن سائر بني المشرق» الذين لا يترددون عن الكذبِ لكسب خير أو دفع ضر … إن إلهنا لا يشترط توافر الاخلاق النبيلة حتى يتمَّ أجل أعماله، فهو قادر على أن يخلق من الحجارة أولادًا لإبراهيم. نحن بالطبيعة لا شيء، بل نحن نجسون فاسدون، الله لا يسمح أن ينبذنا لمجردِ خطيئة واحدة، فبالرغم من سقوطِ النفس المتكرر وتقصيراتها المتعدِّدَة يتابع نعمتَه فيها، حتى يحرِّرَها مما عَلِق بها من شرور، حذر الرب فرعون بصوته الإلهي، وأمسكه أن يسيءَ إلى عبدِه، ففرعون كان لابدَّ أن ينتقمَ لنفسه من ذلك الشخص الغريب الذي «كذَب عليه وخدعه»، حتى إنَّ فرعونَ لم يستطع أن يمدَّ يدَه إليه، بل لم يجسر أن يستردَّ الهدايا التي خلعها عليه كصَداقٍ لسارة. «كانت هذه الزيارة لمصر أساسًا للثروة الطائلة التي تمتعت بها ذريته فيما بعد»، ولكن الواقع أن الله سمح به لكي يزيد عبده الأمين التصاقًا به، ولكي يفصله عن مصدر الشر الذي لصق به طويلًا، كم نحن مدينون بالشكر للكتاب المقدَّس، الذي لم يتردَّدْ عن ذكر «خطايا أقدس القديسين، ولا شكَّ أن هذا دليل على صحة الكتاب».»

حقيقة إن كلام «ماير» هنا يحتاج وقفة تأملية قصيرة عسانا نستعبر من عِبَره، فمصرُ رمز الحياة الدنيا، ومع ذلك كانت حِمى الأنبياء وملجأَهم، وبأوامر صريحة من الربِّ بذلك، أما خطأ إبراهيم عند «ماير» أنه نزلها دون تفويض بذلك بل بهواه الشخصي. أما همه وشغله الشاغل فهو أن النبي إبراهيم كاد بذلك يعرض النسل العبري للخطر بدخول بذرة غير عبرية في سلساله، وحتى يكيل للمصريين مزيدًا من الشتائم، لم يتورع عن شتم النبي ذاته، ولا بأس لديه من استخلاص صفات النبي من التوراة، ويصل إلى أنه «لم يكن يسمو كثيرًا عن سائر بني المشرق»، وتعبير سائر بني المشرق درج في التوراة للدلالة على العرب من أهل البادية، إضافة لما يحمله من معنى لدي «ماير» بحسبانه من أهل الغرب، أمَّا أن يذكر الكتاب المقدس هذه الرواية دون تحرُّج، فهو دليل قاطع على صدقه؛ لذلك «كم نحن مدينون بالشكر للكتاب المقدس!»

ورغم أن الوقوف مع «ماير» هنا قد يبعدنا قليلًا عن صُلب موضوعِنا، إلا أنه لا يصحُّ أيضًا المرور على مثل هذا الحديثِ دونما وضعِ الأمور في نصابها الصحيح، ولسنا هنا في موقفِ الدفاع عن إبراهيم عليه السلام فهو نبيٌّ رغمَ كل شيءٍ، وأن الذين كتبوا التوراةَ هم حفدته الذين أصرُّوا على الزعم الدائم بنقاوة الدمِ العبري. ومع ذلك فإن أولَ الكتابات أهميةً في التوراة تتعرض منذ البداية لأول خطرٍ تعرَّض له نقاء هذا الدم مع أولِ رجل ذي شأنٍ في تاريخهم، ولا شك أن العقل لا يستسيغُ إطلاقًا وجود نوع من الطهارة المطلقة لشعبٍ كامل خلال قرون طويلة، بحيث تظل بذرته نقية تمامًا «خاصة مع هذه البداية التي لا تبشر بخير».

ولأن عددًا من الباحثين سبق وناقشوا هذا الأمر عن النبي إبراهيم باستفاضة، فسنقتصر على ما لم يناقشوه، ولم يخطر ببالهم أن يردوه، وهو ما يتعلق في القصة بالمصريين ويبدو أنها لم تشغَل الباحثين في كثير أو قليلٍ بحسبانهم المصريين القُدماء خاصة مع ذكر فرعون، كفارًا ملاعين، رغم أن الواضح في التوراة أن الفساد لم يكُنْ في المصريين، ونحن هنا لا نرد أو نواجه طعنًا، لكنا فقط نحاول رؤيةَ الحقائق التي لم يرها الأغلبية رغم شدة وضوحها، فالتوراة تقول: إن النبي أوعز لزوجته أن تنكر زوجيته لها وتدعي أنه أخوها. لماذا؟ تجيب التوراة بالحديث منسوبًا للنبيِّ: «ليكون لي خير بسببك، وتحيا نفسي من أجلك!» ورغم أن سارة قد تجاوزت من عمرها السبعين، فإن الكاتب التوراتي يصر على أنها كانت «حسنة جدًّا»! ومن هنا أخذَها فرعون ليضمَّها إلى حريمه. لكن بعد أن أمهرها لدى أخيها بصداق جزيل. يقول المستر «ماير»: إنه كان أساس الثروة الطائلة التي تمتع بها العِبريون بعد ذلك واشتهروا بها، فأي كرم هذا؟ وأي صداق ذاك؟

الفرعون إذن لم يختطف المرأة أو يغتصِبْها، إنما تزوَّجَها من أخيها، وعندما علمَ بجليَّةِ الأمر ورغم خديعته لم يحاول إيذاءَ الزوج وهو الملك المطلق. إنما النصُّ قال له: ما هذا الذي صنعت بي؟ ولا يمكن أن نفهمَ من العبارة سِوى معنى واحد هو: «أيُّ عار ألحقته بي يا رجل عندما زوجتني زوجتك؟!» «أكرر» النص يقول بوضوح: «ما هذا الذي صنعت بي، لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختك، أخذتها لتكون زوجتي؟»

وكان رد الفرعون حسب الرواية التوراتية أنْ ردَّ سارة إلى زوجها معزَّزَة مكرمة، ولم يُبقها عنده لحظةً بعد علمه بجليِّ الأمر، وزيادة في الكرم والسماحة تركَ صداقَها لأخيها ولم يستعِدْه. ومع ذلك فإن هذا عند «ماير» من فساد أخلاق المصريين! ووصف النبيَّ بأنه انحط إلى مستواهم (خنازير)، ولم يرتفع النبي عنده عن مستوى «بني المشرق»، لكن كل ذلك عند «المستر ماير» كان درسًا مقصودًا من الله للمؤمنين، حتى لا يكونوا كالمصريين، ثم ينصح الشبيبة المؤمنة بالابتعاد عمن «سيعملون على إضعاف مستوى الحياة الروحية، ويجرون غيرهم إلى طريق العالم، ويقترحون خططًا لم تخطر لنا على بال، «ويجروننا إلى مصر».»٣ متناسيًا أن المسيحَ ذاته، وهو فيما يعتقد «ماير» ربه وإلهه، لم يجد في كونه بأكمله وبأفلاكه وعوالمه ملاذًا وحماية سوى مصر!
أما الغريب حقًّا في شأن الكاتب التوراتي، فهو تكراره لذاتِ المعاني في حديثِه عن زيارة النبي «إبراهيم» لملكة «جرار» التي كان يحكمُها الملك «أبيمالك»، فيقول النص التوراتي:

وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة، فأخذ أبيمالك غنمًا وبقرًا وعبيدًا وإماء وأعطاها لإبراهيم.

تكوين ٢٠: ٢، ١٤
ثم أقطعه الملك أرضًا في بلاده:

هو ذا أرضي قدامك، اسكن في ما حسن في عينيك.

تكوين ٢٠: ١٥
ثم إن أبيمالك ملك جرار الفلسطينية، والمفترض أنها على حدود شبه جزيرة سيناء الشرقية، قال لسارة:

إني أعطيت أخاك ألفًا من الفضة.

تكوين ٢٠: ١٦

وهنا يطرح السؤال نفسه: «كيف حصل اليهود على أرض فلسطين القديمة؟»

ونعود للمستر «ماير» صاحب الشهرة الواسعة لنرى رأيه، فنجده يقول: «إن ما توحيه إلينا الكلمات الواردة في «سفر التكوين ٢٠: ١٣» تدل على «معاهدة شريرة» عقدَها إبراهيم مع سارة، فإنه إذ كان يتحدث إلى ملك الفلسطينيين، انسابت من بين شفتيه كلمات تكشف لنا سر «سقوطه في تلك الخطيئة»، عندما دخل أرض الموعد في بداية الأمر، وعندما نزل إلى مصر تحت ضغط المجاعة، وعندما تكرر سقوطه هذه المرة، في هذه الآية نراه يقول: وحدث لما أتاهني الله من بيت أبي أني قلتُ لها: هو ذا معروفك الذي تصنعين إليَّ في كل مكان نأتي إليه، قولي عني: هو أخي! «لقد دلَّ تصرفه على منتهي الجبن، فقد ارتضى أن يعرض طهارةَ النسل الموعود للخطر» (لاحظ المشكلة عند ماير ليس فيما يقرأ، إنما ما يشغل بالَه، ويؤرق نفسَه هو طهارة الدم العبري ونقاؤه)، كان الأمر مخلًا بالشرف جدًّا، أن يسمح لنفسِه بأن تجُوزَ سارة محنة كهذه، وسط هذه القبائل الهمجية (لاحظ أنه يرى الفلسطينيين هم الهمج!) … ومع مزيد الأسف «كان مستوى إبراهيم الأخلاقي في هذا الموقف أحط من مستواهم»، حتى إن أبيمالك نفسه «عندما اكتشف أن سارة زوجة إبراهيم» استطاع أن يوبِّخَه قائلًا: «جلبت عليَّ وعلى مملكتي خطية عظيمة» (تكوين ٢٠: ٩). ولا شكَّ أن الصورة التي ارتسمَتْ في عقل أبيمالك من جهة إبراهيم وإلهه كانت كافية لفشل أية محاولة من جانب إبراهيم، ليكسب بها أبيمالك للإيمان اليهودي، وإنني أتخيله يقول: إني أفضِّلُ أن أبقى كما أنا بعدما رأيتُه في زعيم اليهود، إنه لأمر يمزق الأحشاء حسرة وألمًا وحزنًا، أن نرى أحد الوثنيين يعيِّرُ رجُلًا من أكبر أولاد الله بالكذب، «ومن تصرف أبيمالك نحكم بأنه أكثر نبلًا من إبراهيم».»

وكعادته فإن «ماير» يأخذ في استنتاج العِظَاتِ من تلك الصراحة التي تدلِّلُ عنده على صِدْق الكتاب المقدس، فيقول: «إن معاملة الله لإبراهيم بإزاء هذه الخطية تملأ قلوبنا ثقةً وشجاعة، إنه لم يتخلَّ عنه ولم يَنبِذْه، وعندما أشرف هو وامرأتُه على حافَة الخطر نتيجة خطيته، أقبلَ إليهما صديقهما القدير؛ لينجِّيهما من الخطَر المحدِق بهما، ثم إنه وبَّخ من أجله ملوكًا (سفر الأيام الأول ١٦: ٢١)، وأخبر أبيمالك أنه كان محكومًا عليه بالموت، وأمره أن يلتمس الصلاة، من نفس الشخص الذي خدَعَه، والذي «رغم كل سقطاته كان لا يزال نبيًّا، له قوة من الله».»٤

وبذلك نكون قد وصلنا إلى إجابةٍ عن السؤال المطروح آنفًا، ونكون قد عرفنا ابتداءً الأسلوب الذي اتَّبعَه اليهود للحصول على الثروة من مصر والأرض من فلسطين، في قصة التوراة الميمونة.

والغريب أنهم بعد تمكُّنِهم من الأرض ومن القوَّة نقرأ استطراد التوراة، فتقول إنه بعد استقرار النبي في «جرار»، أتاه أبيمالك مع قائد جيشِه لغرضٍ يوضِّحه «ماير»، بقوله: «وطلب منه معاهدةً لا يلتزمان بها وحدَهما، بل ويلتزم بها أيضًا كلُّ ذريَّتِهما، قائلًا: احلف بالله ها هنا أنك لا تغدرُ بي ولا بنَسْلي وذريَّتي، وقبل المصادقة النهائية على هذه المعاهدة «بسط إبراهيم أمرًا، مازال إلى الآن مصدر نزاع شديد في الشرق»، فإن رعاة أبيمالك كانوا قد اغتصبوا البئر التي حفرها عبيد إبراهيم (لاحظ أن ماير يعتبر استخدام الفلسطينيين لبئر في أرضهم اغتصابًا!)، أما الملك أبيمالك فقد أنكر علمَه بكل ما حصَل، وفي هذه المعاهدة، وضعت عبارة تتعلق بهذه البئر، لكي تكونَ هذه العبارة معلومة للأجيال القادمة! … لم تكن موادُّ الكتابة معروفةً بعد، ولذا فقد كانت السبع نعاج التي أعطاها إبراهيم لأبيمالك هي العلامة الظاهرة الدائمة «على أن البئر ملك لإبراهيم»، وهكذا إذا قطع العهد بجوار البئر اقترن اسمها باسم المعاهدة إلى الأبد، فقد دعيت بئر سبع أي بئر القسم، أو بئر سبع إشارة إلى السبع نعاج الهدايا، التي اقترنتْ بهذه المعاهدة، ولزيادة تثبيت المعاهدة غرسَ إبراهيم شجرة أثلٍ كي تكون بخضرتها الدائمة تذكارًا للمعاهدة.»٥

ماذا يريد «ماير» أن يقول هنا؟ وماذا فهم من التوراة كمؤمن مُبَشِّر؟ وماذا ينشر في كتبه العديدة بين المؤمنين؟

إن أهل فلسطين أصبحوا يخشون ضيوفهم، أو بتعبير «ماير» يخشون غدرهم، لماذا؟ «ماير» لا يوضح، والتوراة لا توضح وتمادى الخوف من الضيوف حتى وصلَ الأمرُ بالملك الفلسطيني وقائدِ جيشه أن يذهبا للنبيِّ برجاءِ أن يقبلَ معاهدة سلام أصبحتْ «إلى الآن مصدرَ نزاعٍ شديد في الشرق»، يقصد بالطبع النزاع العربي-الإسرائيلي. وسبب المعاهدة أن الرعاة الفلسطينيين استقوا من بئر حفرها العبرانيون، فخاف الملك ووزير دفاعه حتى أنكر علمه بالأمر، وهو أمر يوضح محاولة التنصل من تبعاتٍ أنكى وأشد غير واضحة في الرواية، ومن هنا أراد إبراهيم «أو أراد الكاتب التوراتي على الأصح» وضع معاهدة أبديةٍ لكل الأجيال القادمة، ولأن الكتابة — في زعم ماير — لم تكن قد اكتُشفَتْ بعد، فكان لابدَّ من علاماتٍ بدلًا من الوثيقة المكتوبة، فأعطى إبراهيم سبع نعاج لأبيمالك، وكلمة «سبع» تعني أيضًا القسم أو اليمين، وذلك لتمليكه البئر وما حولها، لذلك سميت البئر الشاهدة على المعاهدة «بئر سبع»، ثم إشهارًا للمعاهدة وتوثيقًا، غرسَ إبراهيمُ شجرة أثل دائمة الخضرة حتى يعلم الأخلاف بما اتفق عليه الأسلاف، ويبدو أن المستر «ماير» وهو يصر على أبدية العهد ووثنية شعب فلسطين وسوء أخلاق بني المشرق، نسي أنه كتب بيده وفي ذات الكتاب، وهو يتحدث في البداية عن هبوط النبي أرض كنعان أولَ مرة قادمًا من «أور» القول: «كان الكنعانيون حينئذٍ في الأرض، كان هنالك القواد العظماء، مثل ممرا وأشكول، والمدن الحصينة مثل سدوم وساليم وحبرون، وكل عناصر المدنية المزدهرة؛ فضلًا عن ذلك فإن الكنعانيين لم يكونوا قبائل مرتحلة، بل كانوا قد تأصَّلوا وتأسَّسُوا في الأرض، بنوا المدن وحرثوا الأرض وسكوا العملة، وعرفوا القراءة والكتابة وأجروا الحق والعدل في القضاء، وفي كل يوم كانت تزداد قوَّتُهم وعظمتهم، لذلك لم يكن معقولًا أن يستأصِلَهم من الأرض نسل راع بسيط، ليس له أولاد حتى ذلك الوقت.»٦ لكن «ماير» رغم ذلك عرف الحكمة التي انتصر بها الراعي البسيط، وطرد بموجبها الكنعانيين من الأرض، ألا وهي الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية، فقد قال الله لإبراهيم: «قم وامش في الأرض طولها وعرضها (تكوين ١٣: ١٧)؛ لذلك يستنتج «ماير» الموعظة الحسنة: الله يأمرنا أن نقبل منه عطاياه، لا شك أن هذا معناه أن الله أراد أن يشعر إبراهيم بأن الأرض قد أصبحت ملكًا له.»٧
وبات واضحًا أن العبرانيين قد تمكَّنُوا في الأرض وليس في بئر فقط، وهو ما يوضِّحه قول التوراة في الأسفار التالية: «ألست أنتَ إلهنا الذي طرَدْتَ سكان هذه الأرض، وأعطيتها لنسل إبراهيم خليلك إلى الأبد؟» (سفر أيام ثاني ٢٠: ٧)، أما المستر «ماير» فكان لم يزَلْ مستمرًا في أدائه التبشيري للمؤمنين وهو يقول: «كانت جرار قاعدة لمملكة أبيمالك، استأصل شعبها سكان الأرض، وهم الذين أطلق عليهم العبرانيون فيما بعد «اسم الفلسطينيين المرعب».»٨
١  محمد حسني عبد الحميد، أبو الأنبياء، ص١٥٤.
٢  د. صابر طعيمة: التاريخ اليهودي العام، ج١، ص١٣، ١٤.
٣  ماير، حياة إبراهيم، متفرقات من ص٤١ إلى ص٤٦.
٤  الكتاب نفسه: ص١٢٣–١٣٤.
٥  الكتاب نفسه: ص١٤٣.
٦  الكتاب نفسه: ص٣٦.
٧  الكتاب نفسه: ص٥٦.
٨  الكتاب نفسه: ص١٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤