أولاد حواء

للكاتب الإسباني إيبانيز

كانت قِدر الرز موضوعة فوق النار، وقد التف حولها الحصادون عند الغروب بعدما انتهوا من شغلهم، وكانوا جالسين في المطبخ والسكوت يشملهم، لا يسمع بينهم سوى صوت الشيخ كورا كولا، وأزيز القِدر.

وكان كورا كولا رجلًا مسنًّا نحيفًا يحسب الناظر إليه كأن صدره العاري حصير؛ لكثرة ما نبت فيه من الشعر الأشمط.

وكانت النَّار تسطع على وجوه الحصَّادين التي لفحتها شمس الجنوب حتى لتظهر كأنها سوداء، وكان سهك العرق يخرج من أجسامهم حاذيًا، فيتشبع منه هواء المطبخ، وكانت النجوم تظهر من باب المطبخ واحدة بعد أخرى كلما تقدم الغسق، وكانت غبشة الغسق قد غمرت الأراضي، وكان بعضها قد حصد والبعض لم يحصد بعد، وهبت على الحصَّادين رياح ساخنة من الأرض الحصيدة، وماجت أغصان الحنطة تحت هفيف نسيم الليل.

فتململ كورا كولا في مقعده يشكو من آلام في عظامه، ثم قال: «ما أشق هذا العيش، ولكن هذا هو الحظ، هذا حظنا لا مفر منه، فإنه لا بد للعالم من أغنياء وفقراء، وعلى الفقير الذي يولد للآلام أن يتعودها، نعم يا أولادي، هل سمعتم قصة حواء وغلطتها، فإنها هي السبب في هذا البلاء الذي نقاسيه الآن».

رأى من الحاضرين قبولًا لكلامه، فانساب في حديثه البلنسي يقص عليهم قصة البلية التي أورثتها حواء أم البشر للفقراء.

فإن آدم لما أطاع حواء وطرده الله من الفردوس لعصيانه، خرج إلى العالم مع زوجته، وكان قد حكم عليه الله بأنه لن ينال عيشه إلا من عرق جبينه، فجعل يقطع الأشجار والأثمار ويأتي بها لحواء، وصارت حواء تخيط الملابس لأولادها من ورق التين، ومرت السنون فكثر الأولاد حتى ضاق زرع آدم بهم، وكانت حواء تلد ولدًا في كل عام.

وكان يأتي إليهم من عند الله ملك كل عام فيعاينهم، ويكتب تقريرًا عنهم ويقدمه لمولاه. وكانت حواء كلما أتى ملك تهش وتبتسم وتتقدم إليه وتقول: «هل أنت من فوق؟ كيف حال الله؟ عندما ترجع إليه اذكر له أني ندمت على عصياني، ما أثمن الرفاهية التي كنا فيها في الجنة! قل له: إن العيش هنا صعب، وإننا في اشتياق لرؤيته حتى نتأكد أنه ليس غاضبًا علينا». وكان كل ملك يجيبها بالإيجاب، ثم يصفق بجناحيه ويطير في أسرع من لمح البصر حتى يختفي في السحب.

وتواتر مجيء الملائكة وذهابهم على حواء لغير ما فائدة، فإنه يظهر أن الله كان مشغولًا بإدارة الكون، حتى لم يعد له من الوقت متسع لينظر في شئون الأرض، ولكن حدث أنه في صبح أحد الأيام انسلَّ ملكٌ إلى كوخ حواء، وقال لها: «أصغي إليَّ يا حواء، فإنه ربما أتى الله هذا المساء لزيارتكم إذا كان الجو جميلًا، فإني سمعته أمس يحادث ميكائيل ويقول له: «كيف حال هذين الخاطئين؟».

فدهشت حواء من هذه المفاجأة وراحت تجري إلى آدم، وكان كعادته مقوس الظهر يشتغل في زرع قطعة أرض فأخبرته الخبر، وعاد الاثنان إلى الكوخ فكنسا ما أمامه ورشاه بالماء، ونظفا غرفة الجلوس، ولبسا أحسن ثيابهما، ثم جلسا ينتظرا زيارة المولى العظيم، وإذا بصوت مرعب قد نفذ إلى أذن حواء فانتبهت، وكان صوت أبنائها الذين كانوا يبلغون الآن عشرين أو ثلاثين نفسًا. ولم تكن قد افتكرت بهم للآن، فكانت عيونهم رمضة، وأنوفهم وسخة، وأجسادهم قد علتها طبقة من الأقذار، فقالت: «وكيف لي أن أريه هذا القطيع؟ إنه إذا رآهم يحكم عليهم بالإهمال، فإن الرجال عادة لا يعرفون مبلغ التعب الذي تتعبه المرأة مع أولادها».

وبعد أن ترددت طويلًا قامت وانتخبت ثلاثة منهم، وغسلتهم، ونظفتهم، ثم طردت الباقين إلى حظيرة الخنازير، وأقفلت عليهم بالرغم من صراخهم.

وما هدأت قليلًا حتى رأت سحابة بيضاء كبيرة تنزل إلى الأرض، وسمعت حفيف الفضاء من كثرة خفيق أجنحة الملائكة ورفرفتها، ونزل أولئك الزوار السماويون ومشوا في حقول الحنطة، فتراءوا لها كأنهم نجوم تسري في الأرض، ورأت الملائكة وقد استلوا سيوفهم النارية وجاء إليها بعضهم، وأقسموا لها أنها لا تزال في صباها جميلة فتية، وقام البعض الآخر يقفز من شجرة إلى أخرى، ويأكل ما يشاء من الأثمار مما جعل آدم يتسخط ويحسب أنه لن يبقى له شيء على الشجر بعد ذهابهم.

ثم جاء الله بعدهم، وكانت قصائب شعر رأسه بيضاء، كالفضة وكان لابسًا تاجًا لامعًا كالشمس، وكان محفوفًا بجميع كبار موظفي السماء، فحيا الله آدم ثم ربت لحواء على خدها، وقال: «كيف حالك؟ هل صرت أكثر عقلًا من قبل؟».

فتأثر أبوانا الأولان من مجاملة الله لهما، وقدما له كرسيًّا كبيرًا مصنوعًا من أحسن الخشب، ومحشوًّا بأجود القش، فلما جلس عليه سأل آدم عن حاله فأخبره بالمشاق التي يعانيها.

فقال الله: «هذا حسن فإنك ستعلم من ذلك ألا تطيع زوجتك في ما تشير عليك به، فاشتغل واعرق وإياك أن تقاوم الذين هم أعلى منك».

وكأن الله قد أسف على لهجته الحادة هذه فتلطف، وقال: «ما فات قد فات، وأنا لا أغير كلامي وبما أني قد دخلت بيتكما، فإني سأترك أثرًا جميلًا لزيارتي، قدمي إليَّ أولادك يا حواء».

فقدمت إليه أولادها الثلاثة الذين كانت قد هيأتهم لمقابلته.

فنظر إلى أولهم وكان صبيًّا تبين عليه دلائل الجد وقد عقد حاجبيه، ووضع أصبعه على فمه، وقال له: «إنك ستكون قاضيًا على الناس فتعمل لهم القوانين وتغيرها من وقت لآخر، ولكنك تعاقب كل من يخالفها بعقاب واحد، كالطبيب الذي يداوي جميع الأمراض بدواء واحد».

ثم نظر إلى الآخر وكان خفيفًا نشيطًا يحمل في يده عصا يضرب بها إخوته، وقال: «وأنت ستكون قائدًا على الجيوش، وستجمع الرجال أمامك وتحشدهم في جيش وتسوقهم إلى الحرب، كما تساق البهائم إلى المجزرة، وهؤلاء الرجال وإن كانوا هم فرائسك فسيهتفون لك، وعندما يراك الناس ملطخًا بالدم سيسجدون لك ويعتبرونك ملكًا، وكل من يقتل من الناس سيعتبر مجرمًا، وأما أنت إذا قتلت فستعتبر بطلًا، فاروِ الأرض بالدماء وأَعْمِل السيف والنار في المدن، واقتل واحرق وانهب فالشعراء ستتغنى بك، والمؤرخون سيذكرون مآثرك، وأما الباقون الذين يعملون هذه الأعمال وليس في يدهم رخصة العساكر فسيسجنون ويعدمون».

ثم تفكر اللهُ قليلًا ونظر إلى الثالث، وقال: «إنك ستكون ممولًا عظيمًا فتملك ثروات العالم، وستفتح البنوك وتقرض الناس الأموال بالربا، وإذا خربت البلاد من ذلك فإن إعجاب الناس بكفاءتك المالية لن ينقص».

وكان آدم يبكي من الشكر، وكانت حواء قلقة تريد أن تقول شيئًا ولكنها لا تعرف كيف تقوله، فإن قلبها كان يتقطع أسى على حال أولئك المساكين الذين حبستهم في حظيرة الخنازير، ولم يمنحهم الله حقوقًا مثل إخوتهم، فهمست في أذن آدم قائلة: «إني لا أبالي، سأخبره عنهم».

وكان آدم جبانًا فثبطها، وتقدم ميكائيل وكان قد سئم قعوده في هذا الكوخ الحقير وقال مخاطبًا الله: «لقد أمسينا يا مولاي».

فوقف الرب وقفزت الملائكة من الأشجار واستلت سيوفها كالعادة.

فهرولت حواء إلى حظيرة الخنازير وفتحت بابها وقالت لله: «ربنا، قل شيئًا لهؤلاء المساكين».

فدهش الله من هؤلاء الأولاد القذرين وكانت الحظيرة تنتغش بهم كما تنتغش بدود، فقال: «لم يعد عندي شيء أقوله، فقد منحت كل شيء لإخوتهم، ولكني سأتدبر». ولكن حواء بالرغم من منع ميكائيل لها صارت تلح على الله ليقول لهم كلمة، وكان الله يريد الذهاب سريعًا، فقال: «لا بأس، إنهم سيخدمون إخوتهم ويشتغلون في الأرض».

وقال كورا كولا عندما انتهى من القصة: «فنحن الذين نحني ظهورنا كل يوم ونعمل في الأرض ونخدم الآخرين – نحن أبناء هؤلاء الأولاد الذين حجزتهم حواء في حظيرة الخنازير».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤