الخدعة الجهنمية!

قالت «إلهام» بصوت هامس: علينا أن نفلت من قبضة الشرطة بأي ثمن وإلَّا ضاع كل شيء، فمن الواضح أن أعداءنا بوسائلهم الخاصة، تمكنوا من إبلاغ الشرطة ضدنا منذ بضعة أيام، باعتبارنا إرهابيات؛ ولذلك ينتظرنا تحقيق طويل على أيديهم سيفسد كل شيء.

ريما: وما العمل الآن … كيف سنهرب من هذا الحصار؟

إلهام: سنتظاهر بالاستسلام، وبعدها …

تحركت للأمام رافعة يديها، فتبعتها زميلاتها في صمت، وحملت الابتسامة وجه قائد الشرطة وهو يقول: لقد أحسنتن بالاستسلام … فلا أمل لكُنَّ في الهرب.

وتقدم مع عدد من الرجال شاهرين أسلحتهم … ولكن وفي حركة مباغتة، لاحظت «إلهام» وجود عدد من المدافع الرشاشة داخل سيارة بها مفتاحها، ولا يوجد بها أحد، قفزت «إلهام» بسرعة إلى داخل هذه السيارة وتبعتها الفتيات، واستولت كل واحدة على سلاح، وصاحت «إلهام»: اؤمر رجالك بإلقاء أسلحتهم على الأرض والتراجع للخلف.

وصاح في رجاله: ألقوا أسلحتكم وتراجعوا للخلف … وفي الحال نفَّذ الرجال أوامره.

وبسرعةٍ قادت «ريما» السيارة منطلقةً بها بكل سرعتها.

وقالت «زبيدة» غاضبة: سوف تنطلق الآن خلفنا نصف شرطة البلاد، فإن تهديد رجال الشرطة، واختطاف سياراتهم وأسلحتهم، ليست تُهمًا سهلة بأي حال.

ولكن «إلهام» لم ترد بشيء، وقالت «ريما» في ألم: كيف سنهتدي إلى مكان السيد «كامل» الآن، لنعرف منه في أي فندق ﺑ «مارسيليا» ستتم عملية تسليم الوثائق؟

ولكن من الخلف علا نفير سيارة أمريكية عريضة … وهتفت «زبيدة» وهي تنظر تجاه قائدها: إنه السيد «كامل» … لقد تصرَّف بطريقةٍ رائعةٍ.

وأوقف «كامل» سيارته على مقربة، فغادرت الفتيات الأربع سيارة الشرطة، وبعد لحظات كانت السيارة الأمريكية تنطلق بهن بكل سرعتها، وقال «كامل» في دهشة: إنني لا أدري كيف اكتشفت الشرطة مكانكن بهذه السرعة؟! فما كدت أدخل مكتب تأجير السيارات، حتى شاهدت رجال الشرطة يحاصرون مكانكن، ولكنكن تصرفتن بطريقة رائعة لحسن الحظ وأمكنني اللحاق بكن.

قالت «ريما» في لهفة: فلتسرع بنا إلى «مارسيليا»، فلم يعد متبقيًا وقتٌ كبيرٌ على حلول المساء.

ولكن ابتسامة عريضة علت وجه «إلهام» وهي تقول: لا أظن أننا نتعجل الوصول إلى «مارسيليا» بأي حال … وأرى أنه لا يزال أمامنا متسع من الوقت في «باريس» قبل مغادرتها.

هتفت «هدى» في دهشة: ماذا تقولين يا «إلهام» … ماذا سنفعل في «باريس» في هذا الوقت والصفقة توشك أن تتم في «مارسيليا»؟!

والتفت «كامل» إلى «إلهام» قائلًا: إنني لا أدري ما تعنيه بقولك هذا؟!

صوبت «إلهام» مسدسها نحو «كامل» وهي تجيبه: قد يفسر لك ذلك ما أعنيه!

علت الدهشة وجوه بقية الشَّياطين، وحدق «كامل» في المسدس المصوب إلى رأسه وقد انعقد لسانه من الذهول … وقالت «إلهام» في لهجةٍ بطيئةٍ عميقة: هل تستدير بسيارتك للعودة إلى «باريس» يا سيدي «ديفيد يعقوب»، أم أن نعود بها بأنفسنا؟!

اتسعت عيون الشَّياطين بذهول لا حدَّ له، وغمغمت «ريما» في ذهول: «ديفيد يعقوب» … أين سمعت هذا الاسم من قبل؟

إلهام: إن هذا المخادع هو المسئول الأول عن عمل مخابرات بلاده في «باريس»، وهو المسئول أيضًا عن إتمام عملية استلام الوثائق والميكروفيلم من «ناتاليا».

قالت «زبيدة» في ذهول: إنه ليس إذن عميل رقم «صفر» في «باريس»؟!

إلهام: لقد انطلت الخدعة عليَّ بعض الوقت … ولكن ليس كل الوقت.

بان الحقد في عيني «ديفيد» وهو يرمق «إلهام» بنظرات نارية واستدار ببطء ليعود بسيارته إلى قلب «باريس» مرة أخرى … وفي بطء رمق «إلهام» بنظرة كريهة في مرآة سيارته الداخلية وهو يقول لها: كيف اكتشفت الحقيقة؟

– في البداية لم أشكَّ في شيء، وإن كان قد أدهشني عملك كمسئول عن مكتب الشَّياطين في «باريس»، فلا بد أنك معروف ﻟ «ناتاليا» ومَن يعملون معها، ومن الغباء أن تخاطر بظهورك معنا علنًا، فهذا وحده كفيل بلفت الأنظار إلينا … ولكني أخفيت دهشتي خاصة عندما تعرضنا لحادث إطلاق الرصاص علينا في قلب «باريس»، وبدا لي أن مخابرات الأعداء تريد تصفيتنا وأنت معنا … وهذا بالطبع كان يؤكد صدق روايتك وينفي عنك أي شكٍّ، خاصة أنك الوحيد الذي أُصبت بيننا … وإن كانت إصابتك سطحية، لأن مَن أطلق الرصاص من رجالك كان ماهرًا حقًّا.

جزَّ «ديفيد يعقوب» على أسنانه ولم يرد … وواصلت «إلهام»: وبعدها قُدتنا إلى منزلك الريفي بدعوى الاختباء عن عيون الشرطة، ولكن الحقيقة أنك أردت التخلص منا في ذلك المكان المنعزل، دون أن يشعر بنا أحد، فقام أحد رجالك، وهو من أطلق علينا الرصاص وسط الأشجار، بتلغيم السيارة بحيث تنفجر فينا عندما نفتح بابها، وأقنعتنا باستخدامها لكي نصل إلى الطريق العام، لتتمكن من التخلص منا. وفي ذلك الوقت فإنك لم تتقدم معنا لركوبها، وبقيت على مسافة بعيدة لكيلا يصيبك الانفجار، ولكني لحسن الحظ لمحت آثار أقدام مَنْ قام بتلغيم السيارة، قريبًا منها، ولأنني قوية الملاحظة عادة، فقد تذكرت أن هذه الآثار لم تكن موجودة من قبل، فتأكدت أن شخصًا ما عبث بالسيارة وربما قام بتلغيمها؛ ولهذا سارعت بإلقاء «ريما» على الأرض حتى لا تنفجر فينا السيارة.

وصمتت لحظة وهي تراقب التعبيرات التي ارتسمت على وجه «ديفيد» قبل أن تضيف: لقد بدأ الشك يراودني في حقيقتك منذ هذه اللحظة … ولكن بعد أن ذهبت لاستئجار سيارة لنا وحدك، وظهور الشرطة في لحظة مباغتة غير متوقعة، تأكدت أنك أنت الذي اتصلت بهم لكي يأتوا للقبض علينا، ورحت تراقب الموقف من بعيد … وبعد أن فشلْت في التخلص منا … لأننا تمكنا من الهرب، فأسرعت خلفنا محاولًا إبعادنا بأكبر مسافة ممكنة عن «باريس» … وإيهامنا أن الصفقة ستتم في «مارسيليا» … وليس في «باريس».

غمغم «ديفيد» في حقد: أيتها الشيطانة … أي عقل تملكين؟

إلهام: إنه ليس مثل عقلك بالتأكيد يا وغد؛ فقد تمكنت من خداعنا فوق سفينة «ليننجراد» لكي نطارد سرابًا، وحتى تتمكن «ناتاليا» من مغادرة «روسيا» دون مضايقة منا، وكانت خدعتك مدهشة حقًّا … وحاولت أن تضيف إليها خدعة أخرى، ولشدة غرورك وثقتك بنفسك، فإنك لم تعهد إلى أحد رجالك بتنفيذها … بل قمت بها بنفسك لتتباهى أمام رؤسائك، أو ربما طمعًا في الحصول على ترقية أو مكافأة … ولكن أظن أنك ستحصل على شيءٍ آخر.

وتحرَّكت أصابعها وهي تجذب إبرة الأمان عن المسدس قائلة: من المؤسف أننا لا نستطيع الاهتداء إلى مكان رجل رقم «صفر» الحقيقي «كامل كريم» … فمن المؤكد الآن أنه يرقد جثة هامدة في مكان ما، بعد أن تخلصت منه لتحل محله، وأنت تعلم يا عزيزي أن الموتى لا ينطقون، وعلى ذلك فهو لا يمكنه أن يخبرنا أين ستسلم «ناتاليا» رجالك الوثائق … ولكنك تستطيع أن تخبرنا بذلك بدون شك.

أطبق «ديفيد» شفتَيه وقال من بين أسنانه في حقد: إنكِ واهمة لو ظننتِ أنني سأفعل ذلك.

إلهام: أنتَ ستكون واهمًا إذا ظننت أنني سأتركك تفعل ما يحلو لك.

وضربت رأس «ديفيد»، وهو فوق مقعد القيادة، فترنحت السيارة بشدة واختل توازنها من قبضة «ديفيد»، واندفعت نحو سور كورنيش نهر «السين» واقتحمته في عنف … وصرخت «زبيدة»: اقفزن من السيارة وإلَّا غرقنا.

وفي لحظة واحدة انفتحت أبواب السيارة، وقفزت «إلهام» و«ريما» و«زبيدة» و«هدى» منها فوق سور الكورنيش، وتشبثن بإفريز النهر، على حين اندفعت السيارة الضخمة بكل ثقلها وارتطمت بالمياه، وأخذت تغوص فيها بسرعة، حتى اختفت عن الأنظار فوق سطح المياه المظلم.

قطب وجه «زبيدة» وهمست في ذهول: لقد غرق «ديفيد» … وغرق السر معه، وسيستحيل علينا الآن معرفة المكان الذي سيحصل منه الأعداء على الوثائق.

أطرقت «إلهام» برأسها للأرض في صمتٍ … وعيون زميلاتها تراقبها في لوم.

لقد اكتشفت «إلهام» حقيقة الخدعة التي نسجها لهم عدو ماكر … ولكنها تصرفت في نفس الوقت بطيشٍ فأضاعت كل شيء … وغرق السر مع «ديفيد يعقوب» في قلب نهر «السين».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤