الفصل الثالث عشر

عشر دقائق أخرى استمرَّتها بحيث لم يعد هواة الإحصاء يحسبون أو يعجبون، وبحيث كان الجمهور نفسه هو الذي أصابه التعب والإجهاد حتى كاد يلهث وهو يتفرَّج، بحيث شبع الناس من آيات البطولة ومآزق الخطر كجائع مضى يلتهم الطعام حتى أُصيب بالتخمة وبدأت نفسه تعاف الطعام، ولم يَعُد يهمُّه إلا أن تنتهي هذه المرحلة ويحين الوقت كي يغرس المصارع سيفه بين ضلوع الثور ويخلِّص عليه ويخلِّصهم منه.

عشر دقائق طويلة كالأبد والثور العنيد أمام المصارع العنيد وكلاهما لا يرحم الآخر، وكلاهما لا يمل أو يكل وكأنما يُخجله أن يضعف في حضرة خصمه. والساحة قطعاها من المحيط إلى المحيط ولم يعد فيها مكان إلا وشهد مأزقًا أو خطرًا أو حركةً بالغة البراعة والبطولة، ومنهما معًا.

لم يعد يربط الناس في الحقيقة إلى مقاعدهم وإلى المعركة اللانهائية الدائرة أمامهم إلا تلك الخيوط الخفية، آلافها المؤلَّفة التي تربط كلًّا منهم وكأنما بطريقة شخصية محضة بصاحبنا المصارع، والتي بمضي الثواني والدقائق كانت تقوى وتشتد حتى لقد ملُّوا المصارعة ولكنهم لم يملُّوا المصارع ولم تتخَلَّ عنهم لومضة متابعتهم له، أو غادرهم لثانية قلقُهم الهائل عليه وعلى مصيره، حتى لقد انعكس ذلك الارتباط والاهتمام على نظرتهم للثور. قد يكرهونه أو يحقدون عليه فقد كان يحارب ببطولة هو الآخر وحذق، ولكنهم أيضًا لم يحبُّوه أو يُشفقوا عليه. الحقيقة كانت عواطفهم تجاهه تَنبت فجأةً وتتغيَّر فجأةً وتختفي فجأة! فاذا حاصر المصارع وبدا أنه سينقض، ارتفع لديهم حِقدٌ مفاجئ عليه يبلغ الذروة، وينخفض حالًا إلى الصفر حين ينجح صاحبنا المصارع في التغلُّب على المأزق. وحين كانوا يرون الثور يبذل جهده المضني القاتل ويلهث لهثة المؤرَّق وهو يكافح ليستدير وليعود يهاجم، كانت تنبت له في أنفسهم شفقة ولكنها إلى حين. وأخيرًا وكمَيل شمس يوم صيام طويل حارٍّ تشرَّخت له من الظمأ حلوق الصائمين، كميل شمس يوم كهذا للمغيب، بدا في النهاية أن التعب قد نال من الثور تمامًا حتى أصبح يتوقَّف عن الحركة مرغمًا.

وكاد الناس يتنفَّسون الصعداء لولا أنهم أدركوا أن المصارع هو الآخر كان قد هدَّه التعب هدًّا. بدا هذا واضحًا من الجهد العظيم الذي كان يبذله لكي يولِّي الثور ظهره مبتعدًا عنه، حين يكف عن الهجوم ليتلقَّى تحية الجمهور.

وكأنما بمعاهدة غير مكتوبة كثرت النوبات التي يتوقَّف فيها الثور بلا حراك، والتي يتركه فيها المصارع ويستدير محيِّيًا الجمهور في بطء.

وكذلك مضى الثور يستغرق مُددًا أطول لكي يستعد ويعاود الهجوم فترات ونوبات أتاحت للغريمَين العنيدَين أن يختلسا بضع لحظات يلتقطان فيها أنفاسهما استعدادًا للمرحلة الحاسمة المقبلة.

وهكذا دون أن يدوِّي نفير، أو يدل شيء على الحدث الخطير التالي، ترك المصارع الثور واقفًا وسط الدائرة الرملية لا يتحرَّك، واقترب من السور حيث استبدل بالقطعة المعدِنية سيفًا من الصلب اللامع، وكذلك غيَّر «الكابا» الحمراء بأخرى في لون الدم القاني.

ودارت محاورات أخرى، الخلاف الوحيد بينها وبين ما سبقها أن المصارع كان يستعمل السيف في سند العباءة وفردها بدل القطعة المعدِنية. المحاورات التي يأمل المصارع منها أن يصل الإنهاك بالثور حد التوقُّف عن الحركة، وأن يضمن توقُّفه هكذا لبعض الوقت بحيث حين يبتعد عنه ويُنشِّن بالسيف على المكان المناسب للطعنة، ثم يندفع تجاهه، لا يتحرَّك الثور إلا قليلًا، وبهذا يأخذ الطعنة إلى النهاية، إلى مقبض السيف.

وانتهت المحاورات بتوقُّف الثور وقد هدَّ جسده واستُنفدت قواه إلى آخر قطرة.

وحفَّ بالزمن على قصره سكون مهيب تام.

وشملت «الأرينا» رهبة، رهبة الموقف، ورهبة الموت المقبل.

إن الموت دائمًا وفي كل زمان ومكان وبالنسبة لأي كائن حي لحظته أبدًا لا تمر عادية.

إن الحياة كل أنواع الحياة تكاد تسكن تجاهها حدادًا وخشوعًا.

وهذه ليست ميتةً عادية، إنها ميتة بطل! وبطولة الكائنات تقرِّبها كثيرًا من جنس البشر، دليل آخر على غرور الإنسان كأنما البطولة من صفاته وحده، وحتى لو كان البطل ثورًا فقد بزَّ بني جنسه جميعًا وقام بما لم يقُم به ثور.

وليست رهبة الموت فقط ولا رهبة الموت البطل.

ولكنها أيضًا وأهم رهبة الموت المدبر، رهبة القتل، حتى لو كان القتل تتويجًا لصراع فهو لا يزال، أمامنا قتلًا. ها هو المصارع يستعد له ويترصَّد، ويتراجع إلى الخلف ويسبق عمله بالإصرار، وينشِّن.

رهبة الاغتيال.

حين تؤخذ الضحية على غرة، فصحيح أن الثور يرى المصارع ويرى ما يقوم به من استعدادات، ولكن إنهاكه يشله ويحول بينه وبين مهاجمته، غير أنه لو قُدِّر له أن يعي أن هذه التحرُّكات نفسها ليست سوى مقدِّمات قتله ومصرعه لاندفع يهاجم خصمه ولو مات إنهاكًا، ولَمَا وقف أبدًا مستسلمًا لتعبه أو كالمستسلم.

لحظة رهبة حقيقية، لا بطولة فيها ولا يتحمَّس فيها الجمهور لطرف أو لعمل؛ إذ هو لحظتها يكون مشغولًا بما هو أهم وأشمل وأخطر، بغريمه اللدود وبغريم كل كائن حي، بالموت الذي يُتاح له أن يراه وأن يعرف أنه سيقع حالًا، وأن هذا الكائن الحي المنتصب أمامه سيرقد بعد ثوانٍ ميتًا.

يُشغل الجمهور بالموت، بل تتعدَّى مشغوليته الكبرى إلى ما هو أخطر من الموت، معرفة الموت قبل وقوعه، والوقت الذي سيحدث فيه والكائن الذي سيموت. إنها تجرِبة لا يحياها أيٌّ من الآلاف الثلاثين كل يوم. تجرِبة تمسه شخصيًّا هذه المرة وتستدعي إلى واعيته ألوانًا وآلافًا من الخواطر.

وذلك هو الصمت الذي كان مستتبًّا وشاملًا، كان صمتًا من الخارج.

فهو من الداخل آلاف وملايين من الخواطر والهواتف والهواجس تتشابك وتتلوَّى وتصرخ كملايين الحيات الزاحفة ذات الأجراس داخل آلاف الجماجم والرءوس.

وتحدث الحركة بأسرع ممَّا يبرق البرق أو يلمع النصل ويغيب.

إذ هكذا ما كدنا نلمح المصارع وقد انتهى من تدبُّر موقفه وحركته القادمة واتجاهه، حتى رأيناه كإشارة ملوِّحة يندفع والثور يتحرَّك في نفس الوقت ولا يُرى للتماس أو الاحتكاك أثر، وفقط حين ابتعد المصارع واندفع الثور يستدير لمحنا السيف وكأنما غرسته يدٌ أخف من يد حاوٍ، ولكن الطعنة لم تكن قد وصلت بالسيف إلا لمنتصفه.

وليس هذا هو المهم؛ فممكن أن تكون هناك طعنة ثانية وثالثة.

المهم أن الثور ما كاد يتلقَّى الطعنة ويُحس بالنصل المعدِني البارد قد اخترق صدره واقترب من صميم الحياة فيه، حتى حدث ما لم يكن في حسبان أحد، كأنما ضغط السيف بطرفه على زر التفجير، كأنما الطعنة فتحت أبواب مخازن طاقة كامنة هائلة لا تُفتح إلا على كلمة السر تلك، كأنما الغدر الذي تمَّت به استدعى للوجود وحشية الوحش وأجداده وسلالاته أجمعين، كأنما حدث بهذه الحركة التي بالكاد لحظها أحدٌ شيء طاغٍ عاتٍ؛ إذ جاء رد الفعل طاغيًا عاتيًا وحشيًّا أثار القشعريرة في البدن؛ فهذا الثور الذي كان الإعياء قد شلَّه وأتى على كل قواه، انتفض منه كائن آخر كأنما لا يمت إليه بصلة، كائن قُل فيه ما شئت من صفات، مجنون غاضب سفَّاح مجرم! قل كل ما شئت فلن تستطيع وصفه أبدًا ولن أستطيع؛ إذ المفاجأة التي تمَّ بها التغيير، والسرعة التي تعاقبت بعدها الأحداث لم تدَع لأحد وقتًا يتأمَّله ويدقِّق في صفاته، ومن يدقِّق في صفات البحر حين تندلع العاصفة؟ ومن يتأمَّل النار ساعة شبوب الحريق؟

انطلق الثور في غضب أعمى يهاجم المصارع في قسوة وبهدف واضح صريح كأنما كتب على جبينه أن يقتله.

وكان رد الفعل أنْ بدأ المصارع يجمع في ثانية شتات قواه التي بعثرها صراع عنيد طويل، ودفعته الرغبة في الحياة وصرخة الدفاع عن النفس التي انطلقت على نية الثور الواضحة وكأنها نية كائن بشري تُظهر ملامحه ما ينتويه، ومضى يُدافع عن نفسه دفاعًا كان في الحقيقة مرحلةً أكثر يأسًا من الدفاع عن النفس؛ كان فقط تأجيلًا للحظة الموت.

ومن خمود الشبعى المتخمين انتفضت آلاف الجماهير مستردَّةً وعيها وانتباهها حاشدةً قواها، تكاد تقف على أطراف أصابعها قلقًا وذهولًا وخوفًا.

وفي هجمته المنتفضة الثالثة أو الرابعة اندفع السيف من تلقاء نفسه طائرًا في الهواء، وكأنما قذفه خارج الصدر بركان تفجَّر داخله.

وأصبح الثور أكثر انطلاقًا.

واندفع في اتجاه المصارع.

ولم يكن في العملية كلها سواء من جانب الثور أو جانب المصارع تكتيك أو أصول أو حساب وقواعد. كان الثور يهاجم وحين يتفاداه الشاب يغيِّر من اتجاهه ويستمر يهاجم، ولم يكن يهاجم العباءة الحمراء وحدها، أصبح يهاجم العباءة إن وجدها وجسد المصارع نفسه إذا كان أمامه. ومزَّقت قرناه العباءة أكثر من مرة، وبالكاد كان يجد المصارع وقتًا أو مكانًا لاستبدالها.

وكان لا بد أن يحدث ما حدث.

ففي هجمته اشتبكت قرون الثور بثياب المصارع. ودفع الثور رأسه إلى أعلى، ولكن هذه الحركة البسيطة أطارت الشاب النحيف في الهواء وأسقطته على بعد أمتار. ولحسن الحظ جاءت سقطته قريبًا من السور، واندفع نافذًا بجلده ليحتمي بالعارضة القريبة من الثور المقبل عليه، والكلمة المكتوبة على جبينه تتوهَّج وكأنما تحوَّلت حروفها إلى نار. وحين خرج ستة مصارعين لتعطيله حتى يتمكَّن زميلهم من الوصول إلى العارضة، اندفع الثور يكتسحهم، وبانقضاضة منه يدور عليهم مشتَّتًا شملهم بحيث يُطلق كلٌّ منهم ساقَيه للريح يبحث عن عارضة تحميه.

وفعَل هذا كله دون أن ينسى غريمه؛ فقد أقبل على العارضة التي يختفي خلفها، ولم يهمَّه أنها من الخشب؛ فقد نطحها بقرنه أكثر من مرة، وحين لم يجد فائدةً وقف أمامها لا يتحرَّك متربصًا لغريمه تربُّص قاتل صمَّم على الإجهاز.

أكَّدَت الحادثة أن النية التي تحملها ملامحه وتتوهَّج ناريةً من عينَيه نية حقيقية لن يتراجع إلا بتحقيقها، وأكَّدت هذا أول ما أكَّدته للمصارع نفسه، وبهذه الانقضاضة التي لولا ضربة حظ عشواء لأتت عليه. وفي الحال انقلب خط الدفاع عن النفس الذي كان قد اتخذه إلى غضب أحمق مجنون هو الآخر، وانقلبت عنده نية قتل الثور من نية قتل طلبًا للبطولة، إلى نية قتل غريم وعدو لدود، ألد الأعداء، قاتلك.

وهكذا لم ينتظر أن يغادر الثور مكانه ليدع له فرصة الخروج، أشار إلى زملائه آمرًا بنفس لهجة الغضب أن يلوِّحوا للثور بعباءاتهم ليُبعدوه عن مكان الخروج. ولم يأبه الثور للتلويحات الأولى وكأنما هو قد حدَّد غريمه وطاعنه ولا يريد أن ينشغل للحظة واحدة عنه.

ولكن إصرار الزملاء وملاحقتهم دفعاه إلى التخلِّي عن موقفه والجري وراء العباءة.

وغادر صاحبنا مخبأه الإجباري والغضب الهائل لا يزال يجتاحه ويمتقع له وجهه كما لم يمتقع بالخوف أو رهبة الدفاع عن النفس.

وكان الجمهور أيضًا قد بدأ يغضب لغضبته، ويقف معه وإن كان بالقلب وحده ضد غريمه المجرم الذي عقد العزم على الفتك به.

وبدأ جوٌّ ثانٍ غريب يسيطر على الساحة، وخيَّم على الناس صمتٌ كان له صوت لا أثر مادي له، ولكنه أعلى من كل صوت.

ولا أدري لماذا شعرنا جميعًا ونحن في مقاعدنا بتحفُّز مفاجئ؟ لم تكن المحاورات والمناورات بين الثور والمصارع قد تغيَّرت، إنها هي نفسها التي كانت دائرةً قبل عملية الطعن الفاشل، ولكن وقعها كان مختلفًا، وكان الثور يؤدِّي دوره بشراسة أكثر، وبدا في ردِّ المصارع نوع من فقدان الأعصاب، ذلك الذي ينتج حين تُشد الأعصاب وتتوتَّر إلى آخرها حتى يبدأ بعضها يتمزَّق وتبدأ طاقات الصبر تنفد واحدةً وراء الأخرى.

وكذلك بدأ وجهه يصبح أكثر شحوبًا وتصميمًا.

ومن الصعب المستحيل أن أصف اللحظات القليلة التي سبقت ما حدث؛ فنحن لا يمكننا وصف ما يسبق الحادث إلا إذا كنا على معرفةٍ سابقة بحدوثه أو على الأقل نتوقَّع حدوثه. كل ما أستطيع قوله إن المحاورة ظلَّت دائرة، وكلما طال استمرارها ظهر التخبُّط الأعمى في حركات الثور، والاضطراب الذي لا مبرِّر له في تحرُّكات الميتادور. قال البعض إنه التعب، لقد استنفدا كل قواهما وإلى آخر قطرة. قال آخرون إن الثور بسبب النزيف المستمر قد أُصيب بالعمى، وإنه لم يعد يرى فقد أصبح يهاجم بلا سبب ويتوقَّف بلا سبب، وتطيش هجمته مرةً ويرتد مرةً أخرى فجأة، وبلا توقُّع فيكاد يأتي على الميتادور، ولكنه كان يفعل هذا كله بدافعٍ بدا مختلفًا تمامًا وكأنه الحقد، الحقد الدفين المبيَّت، الحقد الذي يُشعل في الكائنات العليا نار الحرب ويجعل الأخ يذبح أخاه.

وفجأة، أجل فجأة! هكذا تُحل الأحداث دائمًا فجأة، فجأة! ولغير ما سبب معلوم أو مرئي انزلقت قدمه وسقط، لم يعرف أحدٌ لماذا انزلقت قدمه أو السبب الحقيقي لسقوطه؛ فقد وجدناه فجأةً ممدَّدًا على الأرض.

كان الثور قريبًا منه ورأسه في اتجاهه أيضًا، ورغم أن سقطته المفاجئة أعقبتها في الحال وقفة مفاجئة منا، من الثلاثين ألف متفرِّج، وقفة خوف إلا أنه خوف يشوبه اطمئنان كثير؛ فقد خدعتنا نجاته السابقة، واعتقدنا جميعًا وبلا استثناء واحد أنه لا بد سيحدث كما حدث في المرة الأولى، وسيهب حالًا من وقفته ويستأنف الصراع. ولكن الثور في تلك اللحظات كان مقبلًا عليه إقبالًا أسرع من الزمن — هكذا بدا لنا — أسرع من خواطرنا، أسرع من حساباتنا، أسرع من أي شيء في الوجود؛ إذ كان له سرعة النكبة والكارثة والقضاء حين يحم.

ولكن سرعته تلك لا تنفي أبدًا أنه لم يكن هناك وقت، ليس وقتًا كثيرًا، ولكنه ذلك الحد الأدنى من الوقت، ذلك الذي تستطيع بالكاد أن تلمحه وتُحس وجوده أو مروره، وقت كان يكفي على الأقل ليعتدل الشاب، ولو أوتي نفس قدرته الأولى لكان قد استطاع أن يقف ويتفادى من الثور القادم.

ولكنه لم يقف ولم يعتدل ولا حتى رفع ذراعًا أو حرَّك ساقًا. رقدة ولو أنها لم تأخذ وقتًا إلا أنها أثارت استنكارًا؛ فقد أحسَّ الجميع أنها رقدة استسلام غريبة للثور القادم المنقض، أو بالأصح لِمَا وراء هذا الثور القادم المنقض، وكأنما بفعل صاعقة وجدانية شاملة مكتسحة. في ذلك الجزيء من الوقت أحسست لفرط تآزري معه في معركته، لفرط تبنٍّ لموقفه، لقوة الخيط الذي يصل بيني وبينه والذي كاد يسحب مني الروح لتحل بجسده، أحسست وكأنما الشلل الذي انتابه قد شلَّني أنا الآخر وأصابني، شلل لا تفسير له ولا تبرير، شلل ساعة حدوثه لا تستطيع أبدًا تبيُّنه أو إدراكه، لا تُحس به إلا هناك حينما تجلس مثلي على مكتب تستعيد ما حدث وأمامك الوقت متسعًا للتأمُّل والتحليل والتبرير. لطالما سمعت عن تلك اللحظة وقالها الناس أمامي وسخرت من قولهم، تلك التي يقولون عنها إن «سهم الله» قد نفذ فيهم فأوقف التفكير وشلَّ الجسد وأعمى الروح. تلك التي تحدث لنا حين نواجه بغتةً خطرًا لا قِبَل لنا به، أو قوةً غاشمةً عاتيةً لا يمكننا أبدًا مقاومتها. إنها آخر مراحل وقوفنا أمام تلك القوة. إننا أساسًا كبشر لا نعترف بوجود قوة غاشمة لشيء في الكون لا قِبَل له به. وحين نرى تلك القوة أو نلمحها وبيننا وبينها مسافة، مسافة مترية أو زمنية أو نسبية، مسافة «أمن» نسبي؛ فأول شيء نفكِّر فيه أن نقاوم تلك القوة ونعاديها ونحاربها، هكذا تلقائيًّا وغريزيًّا وبصفتنا كائنات حية، حتى لو اضطُررنا للهرب منها ففي الهرب معاداة وكُره، تمامًا مثل ما في المواجهة من معاداة وكره. ونظل في حرب معها، في إحساس شامل بمقاومتها والرغبة في تحطيمها وتشتيتها حتى تنجح تلك القوة في الاقتراب منا وتهديدنا، وتخرق بهذا خط أمننا النسبي. حين يحدث هذا ونروَّع نحن باندحار هذا الخط وبأن هذه القوة الغاشمة قد اقتربت منا ومن تهديدنا إلى درجة أصبحنا معها تحت رحمتها، وبأن لم يعد هناك مفر ولا مهرب، وحينئذٍ يبدو وكأنما قانون كقوانين الجاذبية يطبَّق؛ فكما يجذب الجسم الكبير الأجسام الأصغر منه يحدث أن تتحكَّم القوة الغاشمة الأكبر في قوتنا الإنسانية المحدودة وتفرض عليها نفسها فلا تعود أجسامنا تتلقَّى أوامرها من عقولنا ووعينا، ولكنها تخضع خضوعًا أوتوماتيكيًّا مباشرًا لهذه القوة الغاشمة الكبرى، وبدلًا من أن تحدث المقاومة بفعل العقل والوعي وغريزة الدفاع عن النفس يحدث الشلل، الشلل الكامل الشامل بفعل هذه القوة الأكيد مباشرةً وبأمرها، تلك اللحظة التي نسمِّيها مرةً أن سهم الله قد نفذ فيها، أو أن القضاء قد حُمَّ والأجل قد انتهى، أو التي لنا أن نسمِّيها لحظة انهيار خط الأمن النسبي وتحكُّم القوة الغاشمة فينا.

والحدث كما وقع أمامنا تمَّ ببساطة وكأنه دورة أخرى من دورات «الميوليتا». سقطة، وارتفعت على أثرها وقفة وشهقة جماعية مرعبة، شهقة كالصرخة، كالطلقة، وكأنها العون السريع تقدِّمه يد الضعفاء الكثيرين غير المنظورة التي تمتَد لتمنع عن الضعيف الواحد الذي انهار خطُّ أمنه الأذى الغاشم الذي لا قِبَل له به. ثلاثون ألف يدٍ غير منظورة امتدَّت لتساعده، ولكن كيف تستطيع أيدٍ غير منظورة حتى لو كانت تُعَد بالملايين وملايين الملايين أن تمنع القدر الغاشم أن يقوم بعمله؛ فعلى أثر الشهقة تمامًا؛ إذ الحدث لم يأخذ سوى الوقت الذي استغرقته الشهقة، كان الثور قد وصل إليه، وبغل أسود مجنون، وباندفاعه الأهوج الأعظم، نفذت قرونه من خلال صدر الشاب المزركش إلى رمال الأرض. وكانت الطعنة الأولى التي تبيَّناها؛ إذ على أثرها تداخلت الأحداث والأشياء والأزمان، تأوَّه أناس وكأنما هم الذين أُصيبوا بالطعنة، وأشاحت سيدات بوجوههن وشاركن الرجال، وسقطت قلوب ودقَّت أرجل وأُغمي على كبار. والخوف الأكبر، الخوف الذي كان يرهبه الجميع منذ أول لحظة، ذلك العُقاب القابع في مكانٍ خفيٍّ من «الأرينا»، ثمة إحساس جامح شامل أنه أخيرًا وقع، أخيرًا انقضَّ وبمخالبه العزرائيلية يضرب ويطعن ويقتل أعز مخلوق. ألف ألف انفعال يجمعها كلها شعورٌ عارمٌ جارف واحد أنه ضاع وانتهى، كأنما القوة الغاشمة قد اخترقت خطوط أمنهم هم الآخرين أجمعين، ولم يعودوا يملكون سوى شلل الحسرة وانفعالات الجامدين. وكيف كان باستطاعة أي منهم — باستطاعتي أنا — أن يُشيح بوجهه أو يهرب من مواجهة المصير؟ ومن أين كانت تواتيني الشجاعة أن أغمض عينَي عمَّا يحدث؟ إنها المأساة، مأساتي في صاحبي، صاحب اللحظة الذي بدا لي فجأةً وكأنه صاحب العمر. من أول دقيقة والهاتف اللعين في خاطري يؤكِّد لي أنه في هذه المرة لن يفلت، وأُناضله بجنون في انتظار معجزة المعجزات، ولكني بدلًا منها أرى الطعنات، أرى رأس الثور يرتفع كمقبض الخنجر، ثم يهوي ليُغيِّب نصلا القرنَين فيما كنت أعتقد أنه الأرض أحيانًا، وفي ملابسه أحيانًا أخرى، ليُثبت لي بعد هذا بكثير أنها كلها كانت في جسده، في صدره وبطنه وجذر عنقه وتحت إبطه.

وماذا أقول؟ أأقول إن كل هذا لم يستغرق زمنًا ما وكأنه عاصفة هولٍ هبَّت فجأةً ودارت دورةً سريعةً ثم اختفت، دورة أسرع من أن يلحقها الميتادورات السبعة بعباءاتهم والقدر بمعجزة من معجزاته، بل أسرع حتى من أن أتبيَّن، مع أني كنت قد تحوَّلت بكلي إلى عينَين جاحظتَين، على وجه التقريب كنه ما حدث؟ كان في رأسي من أول ومضة للأزمة طبل حزين كبير مجلَّل بالسواد مضى يدق في سرعة تشجب قدسية الحزن. إنه الثور هذه المرة، القوة الغاشمة الجاهلة الحمقاء هي التي تفتك، والضحية هي الكائن الإنسان الراقي الشاعر المرهف الراقد تحت رحمة الوحش الذي لا يرحم. كم بدا لي البطل ضعيفًا في تلك اللحظة، طفلًا، ضنًى عزيزًا! كم غلت في عروقي دماء أعمق وأقوى القرابات، قرابة الإنسان البشري للإنسان البشري تلك التي تدفعنا بلا وعي أو إرادة لنجدة المأزوم إذا استغاث وحتى إذا لم يستغث! لم يكن ما كنت أُحسه من هلع ليختلف كثيرًا لو أن المطعون كان ابني أو أخي أو أبي؛ فقد كنت في أقصى درجات الهلع وأقصى درجات الغضب وبآخر ما أستطيعه من حزن كنت أضيق، وبأقوى ما أستطيعه من هلع كنت أحقد على عدو الميتادور وعدوي وعدو كل مَن في الساحة وعدو البشر، القوة القاهرة العمياء الغاشمة — أية قوة عمياء غاشمة — وليس عليها هي بالذات، ولكن عليها حين نراها أقوى بكثير منا وأقدر، حين نراها في انتصار عارم ملموس ونحن في هزيمة ساحقة باردة واقعة.

وأبعدوا الثور عنه، إلى أين؟ لم يرَ أحد. كانت العيون كلها هناك منصبَّةً فوق رقدته التي لم تطُل، فما لبث أن أقبل زميلان له ودون أن يرفعاه وقف ومعه وقفت أرواحنا وأنفاسنا ودقات القلوب. أيكون ما رأيناه خداع بصر؟ ها هو ذا أمامنا وبعد كل تلك الطعنات يقف دون مساعدة من أحد. لا بد أنها لم تُصبه، لا بد أنها جاءت عشواء وحادت عن الهدف، ولكنها آمال أيضًا لم تطل؛ فقد حدث شيء؛ إذ وكأنما كان قد استنفد كل ما لديه من حلاوة الروح، انثنى فجأةً برقبته وهو واقف على صدره، ووضع يده على ثديه الأيمن، وقبل أن يتهاوى كان زميلاه قد رفعاه فيما بينهما وبسرعة مضيا يعبران به الساحة تحت خيمة سكون مذهل مرعب.

وحين اقترب الموكب منا لمحت بقعة الدم في نفس المكان الذي وضع فيه يده على صدره، وجفَّ ريقي وأحسست أن قلبي قد انتقل إلى رأسي ومضى ينبض في حيِّزها المحدود بقوة تسحق العقل.

وأدخلوه من باب يفتح على الساحة ومكتوب عليها «المستشفى»، ولم يمنعني ما كنت فيه من أن أُدرك أني لم ألحظ وجود هذا الباب ووجود المستشفى نفسه قبلًا.

ورغم ما كنت فيه أيضًا وجدتني ألتفت فجأةً إلى يساري حيث الفتاة الكوبية، وأكثر ما أدهشني أني وجدتها لا تزال في مكانها. كنت أتوقَّع أن أجدها قد قفزت الحاجز وسبقته إلى باب المستشفى، ولكنها كانت هناك لا تزال منكفئةً على حديد «الدرابزين» مُخفيةً وجههًا ممسكةً الحديد بقوة أذهبت الدماء من يديها حتى بدتا شاحبتَين كأيدي الموتى.

ولم يدم السكون طويلًا؛ فما لبثت الهمسات المُلِحَّة أن بدأت تسري وتتساءل عن مصيره وعن مدى ونوع جروحه بلا إجابات تشفي غليلًا؛ إذ باب المستشفى كان قد أُغلق عليه وحده ومعه الممرِّض والطبيب، ولم يسمح لأحد بالدخول أو حتى مجرَّد الاستفسار.

ومرت بضع لحظات لا زلت لا أدري ماذا كان يدور بخاطري فيها، كل ما أستطيع أن أؤكِّده أني كنت تائهًا مذهولًا، ذلك النوع العميق المستمر من الذهول، مفجوعًا، وكأني المفجوع الوحيد، أو كان فجيعتي أكبر من فجيعة الآلاف الثلاثين مجتمعة.

لماذا؟ لم أكن أعرف أو أدري! كان إشفاقي على نفسي من ثقل ما أحمله من همٍّ يدفعني لمحاولة التخفيف عنها بقولي إنه لم يُصَب إلا بجروح ومن المحتمل جدًّا أن يُشفى، ثم حتى لو كان قد مات فماذا يحملك على هذه الجنازة الحالكة السواد التي أقمتها داخلك والتي تهدِّد بقبض روحك؟

ولم تكن أقوال كهذه تُدفع إلا لمزيد من الفجيعة والحزن.

غير أنه على سطح كل هذا كان يطفو إحساس آخر بالانبهار. الحقيقة أني رغم كل ما قلت وأعدت كانت جدية المصارعة وما فيها من بطولة لا تزال عندي موضع شك، وإن كان بمُضي الوقت كان يضعف، إلا أنه أبدًا لم ينعدم. لم ينعدم إلا في تلك اللحظة التي أدخلوه فيها المستشفى مُشبعًا بالطعنات ودوائر الدم الناضحة من ملابسه الأنيقة تتسع وتتسع، ذلك الفتى الشهم الرقيق الذي كان يلف ويدور في «الأرينا» ممتلئًا بالحياة والقوة والصحة. لحظتها أدركت أن رسمه، ورسمهم جميعًا لعلامة الصليب قبل دخولهم الساحة أبدًا ليس من قبيل التديُّن أو الفأل الحسن. لحظتها أدركت سر الصُّفرة المتعاظمة التي كانت تكسو وجهه ووجوههم جميعًا طول الوقت. إنهم كانوا أدرى الناس بما يختفي وراء كل تلك «الأوليهات» والتهليلات والحشود من السياح والإسبان والملابس المزركشة والتقاليد العتيدة؛ إذ هناك يختفي الموت وعلى أبشع صورة … الموت بالإرادة، الموت بالحظ، الموت لأقل هفوة، الموت حتى ولو لم ترتكب هفوة.

وانبهاري كان سببه أني أدركت متأخِّرًا ومفجوعًا مخنوق الأنفاس بالحزن أنهم أبطال، وأن صديقي هذا الذي اخترته من أول لحظة بطل. ليست البطولة التي تستدعي التصفيق والتهليل، ولكنها البطولة التي تدفع للبكاء والدموع واحتقار النفس لِما يمكن أن يكون مترسِّبًا فيها من خوف الموت. ها هم كما رأيناهم، ها هو كما رأيناه، كان يدري بالخطر الأكبر الكامن ليس في هذا اليوم بالذات، ولكن في كل يوم، في كل مرة يطأ رمل الدائرة بقدمه، في كل حياته، ومع هذا لا يتراجع، ويُقدم، ويلف ويدور ويواجهه حتى يسقط، سقطة حقيقية، سقطة في بحرٍ من دمه.

كانت المصارعة والغربة واليوم والدنيا كلها قد انتهت تمامًا بالنسبة إليَّ. كل حماسي ورغبتي وقدرتي، حتى أن أفتح العين وأنظر وأعقل قد انتهت. كنت أحيا بجماع نفسي هناك على باب المستشفى داخل تلك الحجرة ذات الباب المنخفض التي نقلوه إليها. هل لا زال يتنفَّس؟ هل بدأ النزيف الداخلي؟ هل مات؟

وكذلك كان الجميع إنصافًا للحق، كنا جميعًا هكذا وكأن الخيوط التي كانت تربطنا به قد قويت فجأةً وتماسكت حتى جذبت منا كل الوعي والانتباه، والصمت أيضًا كان لا يزال هناك، والهمسات تخرج خافتةً وتحدث خافتة.

ولكني لم أتوقَّع ما حدث.

وازداد ذهولي عمقًا وأنا ألمح الأنظار قد بدأت تتجه شيئًا فشيئًا إلى الثور الذي كان هناك لا يزال واقفًا، عليه ينصَبُّ حقد ستين ألف عين.

والسؤال المسيطر هو ماذا يمكن أن يحدث؟

وما حدث هو نفس ما يحدث في كل مرة؛ فليست تلك أول مرة يسقط فيها ميتادور، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة.

كان لا بد أن تستمرَّ المصارعة.

واعتقدت تمامًا أنها ستستمر بلا جمهور؛ فالجمهور كان منصرفًا عن الساحة واهتمامه كله قد تركَّز على الباب المنخفض المغلق، وبقلبه إذ هو لا يستطيع ببصره كان يتابع لاهث الأنفاس ذلك الصراع الآخر الذي لا بد يدور في تلك الدقائق داخل الحجرة، لا بين المصارع والثور، ولكن بينه وبين ما هو أقوى وأبشع وأكثر وحشيةً من كل ثيران الدنيا مجتمعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤