الفصل السابع

ارتفع المواء يلعن الفارس الذي كان لا يزال يدفع حربته أكثر وأكثر داخل ظهر الثور ويطالب بإنهاء عملية الطعن حتى لا تقل قوة الثور عمَّا هي عليه كثيرًا، وحتى يظل كامل السرعة والهياج؛ فكلما ظلَّ هكذا أصبحت مهمَّة الميتادور شاقة، وتطلَّب الأمر منه أن يعتصر نفسه ليستخرج آخر قطرات فنه وقدراته.

وإحساس غريب ذلك الذي يتملَّك الجمهور في تلك اللحظات القصار التي تبدو طويلةً كالساعات، اللحظات التي يستغرق فيها الثور في نطح الحصان، والتي في أثنائها يغرس الفارس وبكل قواه الحربة في ظهره. لحظات لا يسكت فيها الجمهور أبدًا وكذلك لا يُصدر ضجة، ولكن من بينه، ومن أفواه مجهولة وكأنما ليست أفواهه تظل تَصدر طوال تلك اللحظات أصوات مكتومة فيها قلق وفيها ألم وفيها معاناة، فيها إحساس بالرفض وصرخات استغاثة لا تنبعث. بينما الأجساد جميعها وبلا استثناء تتململ وتتحرَّك في أمكنتها ضيقًا ونفاد صبر. وبينا سيدات كثيرات يشحن بوجوههن بعيدًا عن المشهد، تشترك عيون بقية السيدات مع الرجال في صبِّ نظرات حنق وضيق واحتقار فوق الفارس الطاعن، ولا تنتهي هذه النظرات أو معانيها حتى بعد أن يكف الرجل عن فعلته، بل تظل الأصوات بلغتها المبهمة المكتومة تزجره وتطلب منه بكل ما تملك من اشمئزاز أن يغادر الدائرة الرملية إلى خارج الحلقة، مُشيَّعًا بكل ما تملك النظرات من استهجان. والرجل لا ذنب له، إنه كممثِّل دور الشرير في الرواية الذي يتحمَّل بلا جريرة وزر دوره، ودوره في المباراة لا يحسد عليه! ففي مهرجان البطولة هذا، بطولة الثيران وشجاعتها من ناحية، وبطولة الميتادورات وهي تقاتل الثيران وتحاربها وتحاورها وتصرعها من ناحية أخرى، يقتصر دوره هو على الاختباء داخل دروعه والتحصُّن فوق حصانه، وطعن الثور والإصرار على طعنه حتى تنهدَّ قواه.

ومع هذا فهو يظل بعد خروجه يقطع الممرَّ الفاصل بين الساحة والجمهور والحربةُ في يمناه، وقُبعته الخطيرة فوق رأسه، بينما هو جالس في عظمة فوق سرج الحصان المنطوح العجوز (حثالة الأحصنة التي تُختار لهذه المهمة؛ حتى إذا ما نفقت لا تكون الخسارة فيها جسيمة). يقطع الممر في عظمة دونها عظمة نابليون، ونظراته التي يواجه بها نظرات الجمهور في تحَدٍّ وشموخ تدلُّ على أن رأيه في دوره يختلف تمامًا عن رأي الناس فيه، معتقدًا لا بد أنه المتباري الأساسي، وهو أول من يأخذ «حموة الموسى»، ويلتقي بالثور وهو في عنفوان قواه، معرِّضًا نفسه رغم كل دروعه لأخطار جمة. كم يبدو شبهه في نظراته وتصوُّراته تلك قريبًا — وبالذات ونحن في إسبانيا — من الخالد الذِّكر الدون كيشوت أو كيخوت كما ينطقونها هناك!

هذا الإحساس الغريب الذي يتملَّك الجمهور ساعة الطعن ليس تافه المضمون أبدًا؛ إذ كيف يتململ الجمهور ويحتج لطعن ثور هائج كان يلقي الرعب في قلبه، وكان يتمنَّى منذ اللحظات لو تتفتَّح الأرض عن قوة تستطيع مواجهته وكبح جماحه؟ إن معناه هنا أن الغاية في نظر الجمهور لا تبرِّر الوسيلة، وأن يحتمي فارسٌ بالدروع ليطعن الثور المتوحِّش القاتل في ظهره وسيلة ليست شريفةً من وسائل الحرب، والوسيلة في الحرب — في أي حرب — لا تقل أهميتها ومعناها عن الهدف من الحرب نفسها. إنه احتجاج ضد الخداع والجبن! إن للجمهور دورًا آخر في المباراة، دورًا مهمًّا؛ أن يحافظ على «القيم» ويحرسها. ليس مهمًّا في نظره لمن يكون النصر، المهم دائمًا وأولًا كيف يأتي الانتصار.

والدليل هو ما حدث لهذا الثور نفسه حين مضت أدوار المصارعة التي وضح من خلالها أن الميتادور ليس بذي باعٍ طويل في اللعبة. وحين جاءت اللحظة التي عليه أن يصرع الثور فيها، وصوَّب إليه الطعنة الأولى، لم يُغمد السيف إلى آخره؛ ومعنى هذا أنه لم يحسن تقدير المسافة، أو صوَّب الطعنة وهو أبعد ممَّا يجب خوفًا على نفسه. وقابل الجمهور فشله الأول بالصمت مؤثرًا أن يعطيه فرصةً أخرى، وكان عليه أن يستخرج السيف من مكانه بواسطة سيف آخر له خطاف في نهايته ويُعيد الكرة. وهذه المرة أيضًا لم ينفذ إلى الصدر سوى نصف السيف، وبقي نصفه الآخر مع المقبض خارجًا. وماء الجمهور ولكنه آثر أيضًا أن يُطيل في صبره. وطعن الميتادور الطعنة الثالثة، وغاص السيف هذه المرة إلى المقبض، وخرج الميتادورات يُحيطون بالثور على هيئة حلقة في انتظار سقوطه وموته، ولكنه لم يسقط إذ يبدو أن الطعنة وإن كانت قد اخترقت الصدر إلا أنها لم تُصِب القلب أو أحد الأوعية الكبرى. وبدلًا من هذا انطلق الثور فجأةً مهاجمًا مندفعًا في كل اتجاه، باحثًا عمَّا يصوِّب إليه قرنَيه ويطعنه.

واهتزَّت «الأرينا» بتصفيق حاد، وعمَّتها موجةٌ من الحماس الشديد للثور الذي رفض بإصرار أن يموت. وحاول الميتادور أن يستخرج السيف الغائب إلى المقبض ليعود يطعنه، ولكن محاولته قوبلت بمواء مستنكر عريض، وصيحات غضب، وصفير، جعلته يعدل عنها؛ إذ الجمهور حارس القِيَم وحاميها، لم يَعُد يهمُّه أن يصرع الميتادور الثورَ بطريقة فنية، أصبح المهم لديه أن الثور لا بد سيتألَّم ألمًا شديدًا نتيجةً للطعنات الثلاث الفاشلة، وليس من العدل أن يظل بطل كهذا يتألَّم، ولا بد من إراحته فورًا وتخليصه من ألمه. بمعنًى آخر كان على الميتادور أن يقتل الثور في الحال باستعمال طريقة «الديسكابيلو»، وذلك بطعنه في رقبته بسيف خاص، أو ببساطة أشد بذبحه، ولكنه ذبح بلا تكتيف أو اشتراك أحد، ذبحه وهو حي واقف شديد الخطر. وتتم العملية بأن يَفرد الميتادور عباءته الحمراء فوق الأرض كي ينجذب إليها بصر الثور وانتباهه، ويستغل المصارع انشغال الثور بمهاجمتها ليصوِّب إلى رقبته طعناته بواسطة السيف الخاص، وهي عملية بشعة ما في ذلك شك، أكثر بشاعةً من عملية الطعن التي يقوم بها الميتادور، والتي تُثير تَقزُّز الجمهور. فهنا لا يعود الأمر مباراةً بين طرفَين لكلٍّ منهما مؤهِّلات قوًى مختلفة، هنا الأمر عملية قتل واضحة، الثور فيها منهكٌ خائر القوى مطعون في صدره وظهره ينزف ويلهث، ولكن مع هذا لم يتنازل عن جُرأته وإصراره على الحرب والمهاجمة والاستجابة لكل ما يُثيره حتى وهو في أتعس حالاته؛ ولهذا فهو ينقَض على العباءة مركِّزًا فيها همَّه، بينما من وراء ظهره وبالخديعة يُذبح ذبحًا لا فنَّ فيه ولا مهارة إلا مهارة الجزر والجزارين.

عملية قتل تجعل الجماهير تُفيق وتختفي من أمامها العناوين البرَّاقة والحجب وكل ما يجعل من مصارعة الثيران رياضةً تجذب وتُثير الانفعال، ويبدو الأمر في النهاية على حقيقته العارية البشعة. إنه ليس سوى عملية قتل، الإنسان فيها هو الذي يتولَّى ذبح الثور، ويفعل هذا على مشهد من ثلاثين ألف متفرِّج. عملية ترعاها الدولة وتنظِّمها وتدعو لها في كل أنحاء العالم ليأتي السياح آلافًا وأفواجًا وينفقوا الإسترليني والدولار، وتمتلئ خزائن البنوك الخاوية، وفي إسبانيا بنوك كثيرة أكثر من البنوك في أي مكان آخر من العالم، ومع هذا فهي على حسب إحصاءات هيئة الأمم المتحدة أفقر بلاد أوروبا. آلاف السياح وملايين الإسترليني والدولارات التي تَضِل لأمر ما طريقها إلى جيوب الفقراء، وتتكدَّس في خزائن البنوك ولدى أصحاب البنوك وزبائنها ورُوادها، ويحدث هذا كله بثمن أن يقوم إنسان يرتدي ملابس مزركشةً وسط ضجة ومهرجان واحتفال وموسيقى بذبح ثور وإسالة دمائه، ذبحًا مؤلمًا أشد الألم يتأوَّه له الرجال ويكاد يُغمى على النساء! الشاب الذي كان يجلس أمامي أخفى رأسه كالطفل المذعور بين ركبتَيه، والإسباني جاري انهمك في مسح عرقه الذي مضى ينزف بغزارة، وجارتي الحسناء أخرجها المشهد من كل تصلُّبها الخجل وجمودها، ومن الحمرة القانية شحب وجهها حتى أصبح في صفرة العَلَم الإسباني. وبدأت أسنانها تصطك، بينا سيدة سمينة أمامي بصفَّين مضت تحملق في المشهد وهي في حالة استسلام كامل. بدا هذا واضحًا من طريقة مضغها للبانة حيث لم تتوقَّف عن المضغ، وكلما وُجِّهت الطعنة إلى الثور ونخَّ بنصفه الأمامي ألمًا، وتفجَّر الدم يبلِّل الرمال ويصنع منها طين الدم البني، ويلوِّث بعضه ملابس الميتادور الأنيقة، أطالت الفترة بين مضغة اللبانة والمضغة التالية، وبينما سيد مهذَّب جدًّا في نفس صفِّها يبتسم وعيناه لا تتحوَّلان عن المشهد، وبالأصح كانت ملامحه قد توقَّفت على هيئة وجه مبتسم استغرقته المشاهدة وشغلته إلى درجة لم يجد لديه وقتًا أو بالًا لمجرَّد تغيير ملامحه.

مشهد لا يحرِّك إلا الألم البشع! يحرِّكه استنكارًا وضيقًا واحتجاجًا عند أناس، وعند أناس آخرين يحرِّك المتعة بالألم. أدنأ الأحاسيس وأكثرها خسةً وشذوذًا. ذلك الاستعذاب للألم والرغبة في إطالته والاستزادة منه، وكل هذا بنقود كثيرة وبدعاية واحتفالات وتهليل، والشهيد في النهاية ثور، ذلك الثور مثلًا، ذلك الذي لم يلبث تحت وقع الطعنات الكثيرة أن ارتمى على الأرض مجهدًا وحسبوا أنه مات، ولكنه ما لبث أن وقف مرةً أخرى وكأنه بسبعة أرواح، وحاصروه وبدأ الميتادور يلوِّح بعباءته استعدادًا لجولة طعن أخرى. وبدأ الجمهور يتأوَّه مقدمًا وبصوت عالٍ مسموع، ولكن الثور لم يلبث أن تهاوى على جانبه لآخر مرة، وبقي في مكانه صريعًا لا يتحرَّك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤