الفصل التاسع

ونُفخ في الأبواق ودخل الثور الثالث.

كانت «الأرينا» لا تزال تُعاني من حالة الركود المخيِّمة، وظلَّت كذلك لا حيَّت الثور ولا حيَّت الميتادور، ومرَّت أدوار المصارعة الأولى كما يمضي الشيء الروتيني. انتباه حقيقةٍ وتحديق ومتابعة ولكن دون حماس شديد، أحيانًا تتصاعد آهة إعجابٍ بحركة من حركات «الميوليتا»، ولكنها أبدًا لا تشمل الساحة كلها وتبقى دائمًا داخل حيِّز محدود.

إلى أن حدث شيء لم يكن يتوقَّعه أحد.

كان الثور مُقبلًا مهاجمًا، وفي آخر لحظة أزاح الميتادورُ العباءةَ الحمراء كالعادة من جانبه إلى أمامه لينتهي الهجوم إلى لا نتيجة، وكالمعتاد أيضًا بدأ يدور حول نفسه ليواجه الثور الذي كان قد توقَّف عن اندفاعه واستدار ليعود، في تلك اللحظة انزلقت قدم المصارع فوق الأرض الرملية التي تكفَّلت المصارَعات السابقة بإثارة تربتها، وسقط الشاب على الأرض.

وفي أجزاء قليلة جدًّا من الثانية حدثَت أشياء كثيرة مهولة؛ فعلى أثر سقطته تصاعدت من الثلاثين ألف حنجرة شهقة هلع تُثير وحدها الهلع في القلوب. وكان الثور يستدير، وما إن لمح خصمه ملقًى على الأرض على بعد أمتار قليلة منه حتى أقبل نحوه ككتلة شر عاتية مُوجَّهة، بينما من خلف العوارض الخشبية أسرع أكثر من ميتادور يلوِّح للثور الهائج المقبل كي تتكاثر أمامه الألوان الحمراء وتصرف انتباهه عن الزميل المطروح أرضًا، ولكنها محاولات فشلت في صرف انتباه الثور. وفقط حين أصبح بينه وبين الشاب أقل من مترَين كان الأخير بالكاد قد نجح في الوقوف وتعريض العباءة له، وهكذا أُنقذ في آخر لحظة، بينما الجمهور لا يزال واقفًا على أطراف انتباهه وشعوره هلعًا، وقبل أن يصفِّق أحدٌ لنجاة المصارع أو حتى يعود إلى جلسته كان قد حدث شيء آخر!

فبعد مرة أو مرتَين والثور يهاجم والميتادور يتنحَّى، حدث أن فقد الشاب توازنه مرةً ثانيةً فتهاوى، وقبل أن يسقط على الأرض كانت رأس الثور هناك إذ لم يكن قد ابتعد، واعتقد الجميع أنها النهاية هذه المرة، وقبل أن تُشيح أي سيدة بوجهها ويزدرد أي رجل ريقه، كان الثور قد دفع الشاب برأسه ليرفعه إلى أعلى وليسقط أمامه ويفترسه بعد هذا، ولكن بدلًا من أن يسقط الشاب إلى الأمام، بدفعة حظ واهية سقط إلى الخلف فوق ظهر الثور، وما لبث أن انزلق إلى الأرض إلى حيث استدار الثور، وتجمَّع الزملاء في غمضة عين يحيطون بالمصارع ويدرءون عنه الخطر، ولكن الشاب حين سقط ما كاد يلامس الأرض حتى كان قد اعتدل وكأنما ﺑ «زمبرك»، وحتى كان ممسكًا بالعباءة في يده يحاور الثور مرةً أخرى، ويداوره وكأن شيئًا لم يحدث.

وارتجَّت «الأرينا» بتصفيقٍ عالٍ راعد وكأنما يتنفَّس الناس الصعداء تصفيقًا، وما لبث الحماس أن انتقل إلى المصارع، ونجاته من ميتتَين متتاليتَين أذهبت عنه غشاوةَ الخوف من الموت، فمضى بكلِّ إقدام يعرض نفسه إلى مسافة شُعيرات من القرون المخيفة، وينجو كل مرة في تفاديها والخروج من المأزق، وهكذا بعد السكوت الطويل مضت الساحة تُجلجل ﺑ «أوليه» إثر «أوليه» نشوةً واستحسانًا.

وبدأتُ أُدرك شيئًا وأكاد أضحك من نفسي.

فبالرغم من كل ما ذكرته عن الخطر والخطورة والحياة والموت، بالرغم من إدراكي أن مصارعة الثيران ليست لعبةً أو رياضة، بالرغم من كل ما قلته وفكَّرت فيه؛ ففي أعمق أعماقي كنت لا أزال غير مؤمن بجدية خطورتها. كنت أعتقد أن كل ما يدور أمامي ليس سوى استعراض للخطورة، أمَّا الخطورة نفسها فهي شيء لم أكن قد أحسسته بعدُ أو لمسته أو رأيته رأي العين.

ما الذي يمنع أن تكون هناك احتياطات دقيقة وراء كل ذلك المظهر الخطر، بحيث يمكن في آخر وقت إنقاذ المصارع ودفع الأذى الحقيقي عنه؟ وحتى حين كنت أرد على نفسي بما رأيته في المتحف وبقائمة الشهداء الموضوعة في مكان بارز، كنت أقول: لا بد أن الأمر كان كذلك أيام زمان، أيام البطولة الحقة، أيام الفتوحات الإسبانية والأرمادا، أو حتى أيام المجد أيام لوركا والحرب الأهلية، أمَّا الآن فلقد اخترقتُ البلاد طولًا وعرضًا دون أن ألمح بادرة بطولة غير عادية، فما الذي يجعلها تنحصر هنا فقط؟ لا بد أن التطوُّر الذي حدث لرعاة البقر في أمريكا حيث تكفَّلت الأيام والحياة الحديثة بنقل بطولاتهم ومسدَّساتهم ومغامراتهم من الحياة والواقع إلى الشاشة والقصص، لا بد أن شيئًا مماثلًا قد حدث لمصارعة الثيران هي الأخرى، وأصبح الخطر الحقيقي خطرًا مفترضًا، والشهداء والأبطال مكانهم في المتحف وليس في الحلبة، وما يدور أمامنا الآن إن هو إلا «تمثيل» متقن للعبة بحيث تحياه وكأنه حقيقة تُقنع نفسك وتُقنعك الدعاية والقصص والأخبار أنها موجودة، في حين أنك لو دقَّقت وأعملت عقلك لن تجد لها أثرًا.

الحادثان اللذان وقعا من لحظات كانا قد تكفَّلا بقلب كِيان أفكاري تمامًا؛ فلقد أكَّدا لي ولكل مَن راوده الشك إنْ كان الشك قد راود أحدًا، أن المسألة لا هزل فيها ولا خدعة، وأنها مصارعة جادة حقيقية، الخطر فيها ليس موجودًا فقط، أو له لحظات يتبدَّى فيها، ولكنه قائم في كل لحظة منها، ولدى كل حركة أو الْتفاتة، وتكفي حصاة صغيرة تنزلق فوقها القدم لتنتهي حياة المصارع في ومضة، وقبل أن يُفيق هو أو يُفيق أحدٌ لِمَا حدث.

ويا لغرابة الإنسان! فمجرَّد انتقالِ إيماني بجدية ما يدور من طبقة في اقتناعي إلى طبقة أعمق، قلَب الصورة في نظري كلية، وتغيَّر معنى كل شيء، وأصبحت لأشياءٍ موجودة معانٍ لم تكن موجودةً ولا تصوَّرت وجودها.

مسألة أربكتني وجعلت حُمَّى قلقٍ وانتباهٍ تجتاحني؛ إذ الآن قد أصبح كل شيء أمامي خطرًا ومصدر خطر.

حتى راكب الفرس الذي يطعن الثور وهو محتمٍ خلف دروعه يكفي أن ينطح الثورُ الفرسَ بطريقة يَسقط معها الفارس إلى الداخل بدلًا من الخارج لكي يقتله الثور في الحال. يكفي الْتواءُ قدمِ المصارع أو تكفي عثرة، يكفي ألَّا تواتيه سرعة البديهة في الوقت المناسب كما حدث لذلك المصارع الذي يُصدر التلويحة الأولى للثور حين لم يفطن إلى شدة سرعته، فكانت النتيجة أن الثور وصل إليه قبل أن يتمكَّن من الوصول إلى العارضة الخشبية التي يحتمي بها المصارعون. لم يكن هناك حلٌّ للموقف إلا أن يختفي المصارع من أمام الثور بطاقية إخفاء، أو تنشق الأرض وتبتلعه، ولو فكَّر لجزءٍ من ألف من الثانية في الطريقة التي يختفي بها للقي مصرعه قبل أن يكمل التفكير، ولولا أنه بلا تفكير، وبقوة ورشاقة منقطعة النظير قفز قفزةً أوصلته إلى حافة السور، و«ببلانس» آخر كان قد أصبح خارج الحلقة، لولا هذا لمزَّقته القرون تمزيقًا؛ فقد وصلَت إلى السور ونطحته تقريبًا في نفس اللحظة التي كان جسده يغادر خشب السور. حتى عملية غرس الأعلام، سنتيمتر واحد من الانحراف كفيل بضياع الفارس، وهذه الحركات التي يأتيها المصارع في مرحلة الميوليتا ليُثبت بها قدرته وفنه، مثل الركوع على ركبة واحدة وهجوم الثور عليه وهو على هذا الوضع، والأخطر منها النزول بركبتَيه، أو ما هو أخطر وأخطر الثبات في مكانه ودورانه حول نفسه فقط ليتفادى من هجوم الثور كلما غيَّر الثور من اتجاهه. أية أعصاب مدرَّبة علَّمتها الإرادة الحديدية والتمرين على الخوف ألَّا تَفزع أو تأتي بحركة طائشة غير محسوبة، والثور يهجم عليك وقد تكفَّلت أنت بتحديد مكانك له، وآليت على نفسك ألَّا تبارحه، وفقط تتفادى من جسده المهاجم بالدوران ربع دائرة لكي يمر الثور من المسافة الكائنة في الفرق بين مواجهتك للثور بعرضك وبصدرك، ومواجهتك له بجانبك، فرق لا يزيد على الخمسة عشر سنتيمترًا، بحيث لا بد أن تمسك قرون الثور وأكتافه، وتلوِّث الدماءُ الناتجة عن جرح الطعنة والأعلام المغروسة في ظهره، والدماء السائلة على كتفه ثيابَك، وتفعل هذا بافتراض أن الثور سيندفع في خطٍّ مستقيم وسيُبقي رأسه في أثناء المرور في خطٍّ مستقيم. ماذا لو كان الرأس مُعوجًّا قليلًا اعوجاجًا يحرِّك القرن عن موضعه ثلاثة سنتيمترات مثلًا؟ ليس هناك سوى احتمال واحد لا احتمال غيره حينذاك؛ أن ينفذ القرن في جسدك بدل أن ينفذ في الفراغ.

تغيَّرت الصورة أمامي تمامًا، وتغيَّرت نظرتي إلى المصارعين والثيران، أمَّا العُقاب الرابض فوق «الأرينا» ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن عن وجوده وينقض، لم أعد أُحسُّ به كافتراض من خلق الخيال. أصبحت وكأني أراه لم يعُد بيني وبين رؤيته مُنقضًّا سوى المفاجأة التي تخفيها اللحظة التالية، سوى حصاة تتحرَّك، أو بقعة أرض تلين، أو قرن يشتبك في قطعة دانتلا تزيِّن ثوبًا.

أمَّا الميتادورات الذين كانوا يتحرَّكون وآخذ حركاتهم قضايا مسلمًا بها، لم أعد آخذها كذلك. أصبحت كل حركة من أيهم لها معنًى وفيها صعوبة ومشقة، وليس سهلًا على أيِّ إنسانٍ أن يقوم بها حتى لو بدَت عاديةً لا مجهود فيها ولا بطولة أو فن؛ فهي حركات ليست في الهواء الطلق، إنها حركات في قلب الخطر، في فم الأسد، وتحت رقابة عشرات الآلاف من العيون التي لا ترحم، وتحت رحمة كتلة الحياة البدائية المدمِّرة التي لا تَغتفر لحظة ضعف، والتردُّد أمامها معناه الموت.

حتى الجمهور في نظري تغيَّر، لم يعد في رأيي خارج ساحة الصراع، أصبح داخلها وجزءًا لا ينفصل عنها، ودوره فيها ليس دور متفرِّجين آدميين. أصبح وكأنه جماعة شياطين، آلاف الشياطين! دورها في الصراع هو نفس دور إبليس والشيطان! عملها أن تزيد النار اشتعالًا فتظل تحتج على طعن الثور وإضعافه حتى تُبقي له كلَّ قوته وضراوته، وتظل تموء وتهتف وتهيب بالمصارع وتوسوس له وتحرِّضه حتى يضع نفسه في أشد المواقف خطورة، محاصَرًا من كل اتجاه بمأزق الموت والحياة، مأزق الموت الأكيد والحياة شبه المستحيلة، فإذا حدث هذا تركته حينئذٍ يواجه مصيره وحده؛ فدورها — دور الأبالسة والشياطين — يكون قد أدَّى مهمَّته وانتهى؛ ليبدأ دورها كجماهير متفرِّجة همُّها الأوحد أن تنهل كلَّ ذرة متعة وكل بادرة نشوة من الموقف الذي خلقته شياطينها وحرَّضت عليه.

تغيَّرت نظرتي تمامًا، وعرفت لماذا اجتاحت «الأرينا» موجةُ الحماس للمصارعة، وللمصارع الثالث الذي لم يدفعه إلى هذا الموقف الذي واجه فيه الموت مرتَين إلا السلبية المطلقة التي استقبله الجمهور بها والتي ظلَّت هي المسيطرة طول الوقت. سلبية ليست في الواقع إلا تحريضًا صامتًا يضع شرطًا للإيجابية والتشجيع والمشاركة أن يريهم المصارع بسالته، ويقف ولو مرةً واحدةً يواجه الموت، وجعلته حصاةً صغيرةً يفعل هذا، والحماس الذي تدفَّق جعل اقترابه الشديد من الثور يعرِّضه لموتٍ ثانٍ نجا منه أيضا ونال المكافأة. تلك الأوليهات التي ظلَّت تجتاح «الأرينا» في نوبات متعاقبة. لَكم هي تافهة تلك المكافأة! وكم هو غريب ذلك التكوين الذي ينشأ عليه الميتادور والذي يستعد معه عن طيب خاطر أن يعرِّض نفسه للموت الأكيد من أجل «أوليهة» إعجاب قد تكون آخر ما يسمعه، بل قد ينتهي قبل سماعها.

ولكنه الإحساس بالأهمية ذلك الذي يدفع الإنسان ليُقدِم على أكبر حماقة في العالم كي يظفر به. إنها ليست رغبةً في البطولة للبطولة ذاتها أو للشخص ذاته، ولكن لإظهارها للآخرين وأمام الآخرين. إنها كالتمثيل وفيها منه الشيء الكثير! الفرق أن الممثِّل هناك «يمثِّل» الدور وبمقدار إتقانه ﻟ «التمثيل» وتقمُّصه لشخصية البطل ينال إعجاب الناس، وهنا الممثِّل «يقوم» بالدور فعلًا، ويقوم به في مسرحية لا يتخيَّلها أحد، إنما في واقع كأنه مسرح، في حقيقة كأنها خيال، وبمقدار إتقانه للقيام بالدور وجعله الحقيقة تقترب من الخيال يحظى بالإعجاب. أجل! الفرق بين المسرح وحلبة الصراع أنهم في المسرح يحاولون أن يُحيلوا الخيال إلى حقيقة يصدِّقها العقل، بينما في الحلبة يحاولون أن يحيلوا الحقيقة والواقع إلى أعمال خيالية لا يكاد يصدِّقها العقل! في المسرح يخلقون من الخيال حياة بطلة تُدفع إلى كُره الحياة الواقعة وتغييرها، وفي الحلبة يخلقون من الحياة العادية الخاملة نفسها حياة بطولة حقيقية تدفع إلى نفس الغرض، ولكنها تدفع إليه بقوة أعظم ومفعول أشد. إن الإنسان في بحثه الدائب عن بطولة الحياة وحياة الأبطال مستعد أن يستخدم أية وسيلة، حتى تلك الملوَّثة بالدماء المقطَّرة بالجريمة. إنه بحث أيضًا ولكنه يتم بطريقةٍ نيتشوية عارمة القسوة لا يغفر لها إلا أنها عارمة المفعول في نفس الوقت.

ولو أن هذا الميتادور الثالث نفسه حين جاءت ساعة القتل لم يتمكَّن من صرع الثور بالطعنة الأولى، ولا حتى الثانية، إلا أنه كان قد قدَّم دليل البطولة وقربانها واضحًا لا شكَّ فيه، وكان الجمهور رغم نهمه إلى كل ما يُثيره، وضيقه بكل ما لا يؤدِّي إلى غرضه ويصيب، على استعدادٍ لأن يَصفح عنه من أجل هذا الفشل ويغتفره، ولا يموء والمصارع يستخرج السيف أكثر من مرة ليعود يطعن به، ويظل يفعل هذا إلى أن يخرَّ الثور صريعًا لا من الإصابات المباشرة، ولكن بحكم النزيف الذي لا بد حدث داخله.

وهكذا انتهى الشوط الأول من المصارعة وبقي جزؤها الثاني الذي كان على المصارعين الثلاثة أنفسهم، وبنفس الترتيب، أن يصرعوا فيه ثلاثة ثيران أخرى.

وفي أثناء الاستراحة التي سُوِّيت فيها أرض الساحة ودخلت عربة رشٍّ سريعة خاصة انتهت من بخِّ الأرض بِذَرَّات الماء لكي تبلِّل فقط رمالها التي جفَّت، في تلك الأثناء وخلال عشرات ومئات وآلاف المناقشات السريعة التي دارت بين جيران وأصدقاء وأُناس لا يعرفون بعضهم بعضًا، أجمعت التعليقات على أن الثيران ليست بالقوة المفروضة، وكأن هناك مؤامرةً من وراء الستار لاختيارهم صغارًا ضعافًا هكذا ليكونوا للمصارعين غنيمةً سهلة.

وأجمعت التعليقات أيضًا أنه باستثناء المصارع الأول، صديقي الذي سرَّني سرورًا خفيًّا هذا الإجماع على استثنائه وتفضيله؛ فالجميع دون المستوى المفروض. وبدأت حناجر إسبانية عجوز معروقة تترحَّم على كبار المصارعين في الزمن الغابر، وتذكِّر بالخير بعض الشُّبَّان المعاصرين أمثال باکوکا مینو ودييجو بورتا وجواكين برنادو وجيم أوستوس وغيرهم، ولكن الأمر لم يُعدَم أصواتًا أكثر تفاؤلًا بدأت ترتفع وتدافع عن المصارعَين اللذَين كان أحدهما برتغاليًّا من لشبونة، وكان الآخر من إسبانيا الشمال من برشلونة، وتقول إن ما حدث سببه الوحيد رهبة المواجهة الأولى، رهبةٌ لا بد أنها زالت الآن تمامًا، وأنهم لا بد بسبيلهم إلى مشاهدة عرض رائع في الجزء الثاني. وما لبثت آراء بقية المعلِّقين أن انساقت وراء هذه التفسيرات المتفائلة مستسلمةً للرأي أو مُفضِّلةً في الحقيقة أن تتفاءل وتستسلم، على أن تظلَّ على عنادها متشائمة.

وكان مكان جارتي الفتاة خاويًا، وقبل أن تذهب بي الظنون إلى أبعد من الساحة وجدتها قد عادت متأبِّطةً باقة أزهار لا أعرف كيف وجدَتها وبمثل تلك السرعة، ولكنها كانت تلهث وفي عينَيها ذلك البريق الذي يفضح تصميمها على أمرٍ ما، وكانت منفعلةً تبدو كمن فقدت لتوِّها، وربما لأول مرة في حياتها السيطرة على نفسها، حتى إنها فعلت ما لم أكن أتصوَّر مُطلقًا أن تفعله، بدأَتني بالكلام لا أذكر كيف ولا في أي موضوع، ولكنا في دقائق قليلة قُلنا أشياء كثيرةً يأخذ الناس في العادة ساعات طويلةً ليتمكَّنوا من قولها، وأغرب شيء أننا تحاشَينا تمامًا ذِكر الحادثة التي سبَّبت كلَّ هذا وحيَّرتني؛ فقد كان شكلها إسبانيًّا ولكنها كانت تتكلَّم الإنجليزية بطلاقة وكأنها لغتها الأولى، وتتكلَّمها بخناقة أمريكية واضحة.

وخمَّنت أنها ليست أمريكيةً ولكنها تحيا في أمريكا؛ فغير الأمريكان يبدون أكثر تمسُّكًا ونطقًا باللهجة الأمريكية من الأمريكان أنفسهم. والمفاجأة كانت حين أخبرتني أنها من كوبا، ولكيلا تترك ظلًّا من الشك أردفت أنها ضد كاسترو وأنها لا تتمنَّى شيئًا في الدنيا قدر أن تراه مهزومًا، كذلك المصارع الثاني مدحورًا.

ورغم أني أحسست أن حاجزًا سميكًا قد سقط بيننا فجأة، إلا أن الحديث لم ينقطع، وعرفتُ أنها ابنة أحد كِبار مزارعي الدخان الذين طردهم كاسترو، ورغم هذا فهي لم تكن تحيا في كوبا؛ كانت تعيش وتتعلَّم منذ طفولتها في ميامي حيث كان لأبيها فيلا يأتي إليها مع العائلة بطائرته الخاصة من عاصمة كوبا «هافانا؛ ليقضي معها هو والعائلة نهاية الأسبوع. وقد جاء الأب ليحيا معها بعد أن «ذهب كل شيء»، أمَّا لماذا هي في إسبانيا فالسبب قصةٌ طويلة حول ميراثٍ وقضيةٍ وأبٍ أصابته الصدمة بانهيار، وأصبح العبء كله على عاتقها، وليست هذه أول مرة تأتي فيها لمدريد، ولا المرة الأولى التي تُشاهد فيها المصارعة، ولم تكن أبدًا في حياتها تتوقَّع أن يحدث لها شيء مثلما حدث.

كانت تتكلَّم بلهجة التي تعرف ما تريد، ولا يمكن أن يثنيها شيء عن تحقيقه. كلام ولهجة وشخصية ما أكثر ما تقابلها في الجيل الأمريكي الجديد! الجيل الذي لم يزجره أب ولا نصحته أم، المدلَّل الذي عوَّدوه منذ الصغر أن تكون رغباته ونزواته قوانين تتطوَّع الأسرة بتقديمها وهو طفل، ويفرضها بالقوة وهو كبير. وكانت جميلةً جمالًا لاتينيًّا متفجِّرًا وإن كانت الحياة في ميامي قد شذَّبته وأمركته وصبغت أنوثتها — كمعظم الفتيات الأمريكيات — بعناد الذكور وحقوقهم، وأحيانًا بصفاقتهم وخشونتهم. حقيقة تدفعك للعجب أن تكون هي نفسها الفتاة التي تجمَّدت محمَرَّةً خجلًا منذ وقت قليل؛ فقد كان باديًا عليها أنها من صنف وجيل لم يعرف الخجل ولا جرَّبه، ولا يستحي حتى من رغباته الخاصة جدًّا؛ إذ هو يعتبر أن كلَّ ما يريده ويُحس به قانوني وحلال. ثم لماذا الإحساس بالخجل أمام الناس، ولا أحد يقيم لهؤلاء الناس وزنًا أو يعطيهم الحق في الحد من حريته وحرية تعبيره عن رغباته؟ ربما كانت هذه المرة الأولى التي يدهمها فيها إحساس كهذا وعلى تلك الصورة، وربما أيضًا، ولأنه الوحيد الذي استطاع أن يُجبرها على هذا الموقف الأنثوي الخالص. لن تنسى أبدًا لهذا الميتادور فعلته، بل الواضح أنها بدأت، وقد خرجت وعادت تحمل الزهور — تصرُّف أنثوي آخر — بدأت تنسى كل شيء. مزارع التبغ وميامي والقضية وأباها وحتى كاسترو، ويصبح همُّها الوحيد في دنياها — هنا — معلِّقًا بهذا المثلَّث الشاحب الرشيق، بوجه صديقي الذي اخترته أنا الآخر، ولأسباب أُخرى كي أُغدق عليه اهتمامي وأرعاه رعاية الأب لابنٍ ضال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤