الفصل الثالث

– ماذا تفعلين يا لبيبة؟

– ألبس ردائي الجديد يا أماه.

– وعلام تلبسينه وأنت لا تغادرين الدار اليوم؟

– وهل يسوءُك ذلك؟

– كلا يابْنتي.

لم تلبس لبيبة رداءها الجديد إلا ليراه حسن، ونعيمة هانم أمها لا تجهل ذلك ولكنها تتجاهله؛ لأن الأمهات يتغاضين عن هفوات بناتهن، ويسعين سرًّا في إصلاحها؛ ولذا سكتت نعيمة هانم ولم تناقش بعد ذلك فتاتها فيما فعلت.

وظلت لبيبة تروح وتجي أمام المرآة وهي تصلح من شأنها إلى أن حان ميعاد حبيبها، فذهبت إلى الغرفة التي تطل من شباكها؛ لتقرأه السلام، وتستقبل قبلاته الحارة يحملها إليها نسيم الغروب.

•••

دخل عبد الرءوف أفندي بيته ونادى زوجته؛ لتساعده على خلع ملابسه فلبَّت نداءه، وبعد أن لبس لباس المنزل جلس على مقعد من الخيزران، وأشعل سيجارة واسترسل في تأملاته، وجلست زوجته بجواره وهي تنظر للدخان المتصاعد من فمه إلى سقف الغرفة. ثم التفت إليها بعد قليل وقال: سنغادر هذا المنزل آخر الشهر.

– ماذا تقول؟

– أقول إنَّا سنغادر هذا المنزل آخر الشهر.

– وإلى أين نذهب؟

– إلى حيث يسوقنا القدر.

– أنغادر القاهرة؟

– هذا ما لا ريب فيه.

– وأي حادث حدث؟

حدث ما لم يكن في الحسبان. لقد خاصمني رئيسي في الديوان، فسعيت مرارًا لحمله على نسيان تلك الهفوة الصغيرة فأبت نفسه الصفح، وقرر نقلي في آخر الشهر. فلعنة الله على الدساسين الذين لا تهدأ نفوسهم إلا إذا أوقعوا بين المرء وأخيه.

– ومن هم هؤلاء الدساسون؟

– قوم في الديوان عادَوني لنشاطي واستقامتي، وعز عليهم أن أكون محبوبًا من رئيسي، فتقربوا إليه بحيلهم الشيطانية وانتظروا هفوة صغيرة ارتكبتها، فلما حانت لهم الفرصة أغروه على نقلي، فصدع لإغرائهم.

– أما من رجاء في صفحه؟

– لقد فعلت المستحيل فلم أنجح فكِلِي الأمر لله.

سكتت نعيمة وقد هالها ما سمعت، ومكثت مدة وهي تفكر في أشياء كثيرة. عزَّ عليها أن تغادر هذه الدار التي تربت فيها ابنتها. عزَّ عليها أن تبتعد عن المنزل الذي يسكن فيه أهل زوجها. عزَّ عليها أن تفارق القطعة التي ألفتها، وعزَّ عليها أن ترى الدمع يجول في عيني ابنتها؛ لفراق من وهبته روحها الطاهرة. والأم وإن كانت تكره من ابنتها أن تميل لأحد الشبان، فإنها تكره أيضًا أن تراها تبكي وتنتحب لفراق من تميل إليه، وما زالت نعيمة هانم مسترسلة في أفكارها إلى أن قال لها زوجها: وما قولك في هذه المصيبة الجديدة؟

– وماذا تريد أن أقول؟

– كنت أظن أني سأنقل إلى بلدة قريبة كالجيزة حتى لا أرغم على مفارقة هذا المنزل المحبوب، ولكني سمعت اليوم، بل تأكدت، إنا سنسافر إلى أسيوط أو إلى دمياط.

– يا لله! سنحرم من لقاء أحبابنا أعوامًا عديدة.

– ربما كان الأمر كذلك. تلك بلاد لا نعرف من أهلها أحدًا، وسنعيش فيها كالغرباء حينًا من الدهر. عيشة الغرباء مؤلمة لا تحتملها النفس.

– تلك مشيئة الله يا عبد الرءوف.

•••

بينما كان عبد الرءوف أفندي يحادث زوجته كانت ابنته لبيبة واقفة أمام الشباك وقد أسندت رأسها بذراعها، واستسلمت لأحلام غرامها إلى أن سمعت صوت ابن عمتها يقول: مساء الخير يا عزيزتي.

احمر وجه لبيبة وقالت: أسعدت مساء يا حسن. كيف حالك اليوم؟

– كما يود لي كل حبيب. ما هذا الثوب الجميل؟

– أتراه جميلًا؟

– جدًّا، ولكنه أقل جمالًا من لابسته.

– أتظن ذلك؟

– بلا شك يا فاتنتي، إن ثوبك جميل ويزيده جمالًا قدك الأهيف، وشعرك الأسود، ومعصمك الجميل، وعيونك الساحرة.

– لا تطل مديحك يا حسن.

– أنت حورية من حور الجنان، وأنا عبدك الواله المطيع. ألا تعرفين يا لبيبة فيم أفكر كثيرًا؟

– في نوالك الشهادة.

– أنا لا أنكر أني أفكر في ذلك، ولكني أفكر في أمر آخر تصبو إليه نفسي كثيرًا. احذري يا لبيبة. احذري فإنه يلذ لي أن تحذري ما يجول في فكري في كل دقيقة بل في كل ثانية.

سكتت لبيبة هنيهة لتفكر ثم قالت: لا أعلم.

– إنك إذن لا تحبينني؛ لأنك لا تفكرين فيما أفكر فيه.

احمر وجه لبيبة ووضعت كفها على وجهها لتخفي احمراره؛ لأنها أدركت أن حسن لا يفكر إلا بزواجه بها وهو ما تفكر فيه أيضًا. ثم قالت له بعد قليل: بأي شيء تفكر يا حسن؟

– ألم تدركي بعد، إني أفكر في زواجنا؟ فهل تفكرين فيه أيضًا؟

فقالت وهي مطأطئة الرأس: في كل آونة.

فابتسم وقد سره سماع هذا الإقرار من ذلك الفم الجميل، ثم قال لها وقد ارتسم السرور على وجهه: إني سعيد يا لبيبة اليوم لثلاثة أمور؛ أولها: رؤيتك في هذا الثوب الجميل، وثانيها: إقرارك لي بأنك تفكرين في زواجنا كل آونة، وثالثها: أمر آخر لم يتحقق بعد.

– وما هو؟

– أنت تعرفين أني أحب الإنشاء كثيرًا.

– نعم.

– وأود أن أصبح يوما كاتبًا عظيمًا في إحدى الجرائد.

– نعم.

– لقد أقدمت على عمل عظيم اليوم.

– وما هو؟

– كتبت مقالة وأرسلتها لتنشر في إحدى الجرائد.

– ولأي جريدة أرسلتها؟

– لجريدة الحقائق …

ولم تبد لبيبة اهتمامًا كبيرًا لما أخبرها به حسن لتفكيرها بحبها وزواجها وسعادتها، فعز على حسن، بل ساءه كثيرًا أن يرى من لبيبة ذلك. فاحمر وجهه قليلًا وغص بريقه عندما حاول متابعة حديثه شأن كل حي يدفعه الحياء إلى ما يقرب من الجبن، ثم نظر إلى السماء كأنه يسأل الله خلاصه من خيبته، ثم نظر إلى الأرض هربًا من نظرات لبيبة، وكأنها شعرت بما يدور في خلده، فودت إصلاح خطئها، فحادثته بصوت حنون تبرأ عند سماعه القلوب الكليمة قائلة: أواثق أنت من نشر مقالتك؟

– لا أعلم.

وسكت خوفًا من الكلام فابتسمت لبيبة ابتسامة تعبر عن هزيمتها، وسكتت ناظرة للفضاء.

لبث حسن هنيهة يفكر، وكل فتى حي يحلو له التفكير؛ إذ فيه التعزية الكبرى لخيبته، وقد حدا به فكره إلى مغادرة حبيبته، ولكنه لم يستصوب هذا الرأي؛ مخافة أن يسيء لمن يهوى فزادت حيرته، ولكنه اهتدى دفعة واحدة لرأي ظنه صائبًا، وسرعان ما يهتدي الفتى الحي للآراء الجديدة، فقال لنفسه: سأشرح لها شئون الكتابة والكُتاب لتقف عليها. فالتفت إليها فوجدها تبتسم كأنها تسأله الصفح والرضى، فقال لها بصوت متهدج: إنك بلا شك لا تعرفين ما يعانيه الكاتب عند كتابته مقالته.

– أود أن أعرف ذلك.

وكان هذا الرضى مفتاح استرسال حسن في حديثه فقال: آهٍ يا عزيزتي، لو كنت تعرفين ذلك؟! إن الكاتب إذا جلس أمام مكتبه وأمسك بالقلم في يده استرسل للتفكير أولًا، فإذا ما اختمرت الفكرة في رأسه أراد أن يكسو معانيها ألفاظًا أنيقة تلذ القارئ، فإذا وفق لذلك خطها قلمه على الورق الأبيض بالمداد الأسود، ويكون هذا شأنه في كل ما يكتب، ولا تظنين أن الأفكار تترى في رأس الكاتب تباعًا، ولا أن الألفاظ دانية القطوف. وإذا أراد الكاتب أن يكون مبسوط العبارة، متناسب الفِقَر، بعيدًا فيما يكتب عن شوائب اللبس؛ فإنه لعمري يحاول المستحيل، والدليل أنَّا لا نجد في مصر عددًا كبيرًا من الكُتاب.

– وإذا وفق الكاتب إلى كل ذلك؟

– إذا وفق، يدخل جنة الحياة تحمله إليها ملائكة البلاغة.

– ما أحلى وقع هذا الكلام في أذني! أسَتحظى يا حسن بكل ذلك؟

– إذا أراد الله لي الخير.

– سأسأله في كل لحظة أن ينيلك هذا المقام الرفيع.

– أنت إذن تشاطرينني فرحي؟ إنك لا تعلمين كم أنا سعيد بذلك! ظننتك لا تهتمين بما تصبو إليه نفسي، بتلك الأمنية التي أصبح إذا نلتها أسعد إنسان في مصر، فإذا بك تسألين الله أن أحظى بها عاجلًا، فشكرًا لك، اللهم شكرًا لك.

ورفع حسن يدية للسماء شاكرًا، فابتسمت حبيبته وقالت له: ومتى تظهر مقالتك؟

– بعد ثلاثة أيام أو أربعة؛ لأنهم سيقدمون عليها مقالات كبار الكُتاب، وإني أعدك أنك ستكونين أول من يسمع بظهورها.

– يا لسعادة نفسي في ذلك اليوم!

ونظر المحبان للسماء فوجدا الظلام بدأ يضرب خيامه، فافترقا وهما يبتسمان. فلما أدار حسن وجهه لغرفته وجد نفسه فيها وحيدًا، ولم يطق أن يستأثر بسعادته الكبرى، فلم يدرِ ما يفعل، فابتدأ بالقفز في غرفته، فإذا به يرى كلبه «سحاب» يقفز خلفه كأنه يشاطره هناءه وسعادته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤