الفصل الثامن عشر

الصهيونية بين الحربين العالميتين وبعدهما

بدأت الصهيونية بذلك الخطاب الذي نشره يهودي مجهول في سنة ١٧٩٨م — أي قبل سنة من نزول نابليون بونابرت بأرض مصر — ووجَّهه إلى يهود فرنسا مقترحًا إنشاء مجلس يهودي يبحث مع الحكومة الفرنسية في إعادة فلسطين إلى «شعبها التقليدي».١ جاء في هذا الخطاب أن «البلد الذي نقترح تملكه يشتمل على مصر السفلى مضافة إلى منطقة من الأرض يحدها خط يمتد من عكا إلى البحر الميت، ومن الضفة الجنوبية لهذا البحر إلى البحر الأحمر، على أن يكون هذا متفقًا مع وجهة نظر فرنسا.»

ثم ختم الكاتب خطابه بشرح المزايا الاقتصادية لهذا المشروع، ولئن لم يجد هذا النداء صدًى ظاهرًا سواءٌ في الصحف الفرنسية أو في الدوائر الحكومية. غير أنه في ٢٢ مايو ١٧٩٩م نشرت جريدة «المونيتور» لسان حال الحكومة الفرنسية يومئذ رسالة من الآستانة جاء فيها: «أن بونابرت أصدر منشورًا ينادي فيه يهود آسيا وأفريقيا بالانضواء تحت أعلامه لإعادة بناء بيت المقدس القديمة. ولقد سلَّح بالفعل عددًا كبيرًا منهم، وتهدد الآن كتائبهم مدينة حلب.»

على أن هذا ليس دليلًا على أنه كانت لنابليون يد فعلية في أي مشروع يقضي بإحلال اليهود في فلسطين، وخاصة أن الجريدة نفسها عادت بعد أسابيع من نشر الرسالة الأولى تقول: «لم يفتح بونابرت سوريا لإعادة بيت المقدس إلى اليهود فحسب. بل إن مطامعه أوسع من ذلك بكثير، فهو يأمل في الزحف من هناك إلى الآستانة وإلقاء الرعب في قلوب أهالي فينا وسان بطرسبورج «موسكو»، كذلك ليس في سجلات الحملة الفرنسية في مصر أي أثر لمثل المنشور الذي جاء ذكره في رسالة «المونيتور» الأولى أو أي أثر يؤيد أو ينفي صدور هذا المنشور. كما أن الكتائب اليهودية لم تهدد حلب، ونابليون نفسه لم يفعل ذلك، ولم يقترب من المدينة السورية.

هذا، ويقول مستر لينارد شتاين: «قد يعيش اليهود قرونًا طويلة في بولونيا أو روسيا، وفي إيطاليا أو إسبانيا أو أرض الريف، ولكن فلسطين ستظل بالنسبة لهم أرض إسرائيل. وفي الأيام الطيبة أو الأيام العصيبة على السواء تظل فلسطين الرغبة التي تتوق إليها قلوبهم، يضمنونها أغانيهم، ويصلون من أجلها، ويبكون ملكها المندثر، وينتظرون في صبرٍ ساعةَ العودة إليها.» ويمضي مستر شتاين فيقول: «وفلسطين التي يحلمون بها لم تعد بالنسبة لمعظمهم في عالم الحقيقة الملموسة، فهم لا يعلمون إلا قليلًا عن موقعها الجغرافي أو طبيعة شكلها، ولا تربطهم بها روابط من العاطفة الشخصية أو تطوف بخيالهم ذكريات عن مناظرها وخيالاتها. على أنها ليست حلمًا بعيد الاحتمال، فإن عودة المنفيين ستكون ولا شك عودة بمعنى الكلمة، ولكنها لن تتحقق نتيجة لأي مجهود بشري، بل ستأتي في اللحظة الطيبة التي يختارها الله عند ظهور المسيح المخَلِّص (بفتح الخاء وتشديد اللام وكسرها).

فالصهيونية الدينية هي الاعتقاد الأولي بأن الله هو الذي سيعمل عندما يحين الحين على عودة آل إسرائيل إلى أرضهم وملكهم كما كانوا قبل نفيهم. على أن ما نشر في الجرائد الفرنسية في سنتي ١٧٩٨ و١٧٩٩م ليست له أهمية في الواقع؛ لأنه لم يؤدِّ إلى حركة جدية من جانب اليهود أو غيرهم.

بعدئذ وقف مستر فيليب جيد الله في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو سنة ١٩٢٥م ليلقي محاضرة على أعضاء الجمعية اليهودية التاريخية من طلبة «اليونيفرسيتي كوليدج» في لندن ليقص عليهم هذه الحادثة، ويخرج منها بأن نابليون بونابرت كان «صهيونيًّا وقتيًّا»؛ أي إنه أَيَّدَ حركتها لفترة من الزمن. وكان بين المستمعين للمحاضر المرحوم مستر لويد جورج الذي كان واقفًا واقترح شكر المحاضر، ثم ألقى كلمة قصيرة شرح بها السبب الذي من أجله اتبعت حكومته سياسة الاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين على حساب العرب.

ثم إنه في سنة ١٨٢٧م زار سير موسى مونيتيفور — أول يهودي يعين عمدة لمدينة لندن — فلسطين، وشعر كما يقول بضرورة إسكان «ألوف من إخواننا في أرض إسرائيل»، مسارعًا إلى تأليف شركة تعمل على تنفيذ الفكرة، ولكنه أخفق في تحقيقها. وتبع هذه المحاولة محاولات أخرى عديدة من كتَّاب بعضهم من اليهود والبعض الآخر من غير اليهود، ولكنها لم تُؤدِّ إلى نتيجة عملية حتى سنة ١٨٨١م حين اغتيل القيصر إسكندر الثاني، وطغت على روسيا موجة من الإرهاب والبطش تعرض فيها اليهود لكثير من ضروب الاضطهاد، حتى اضطر عدد كبير منهم إلى الفرار من البلاد، وتوجه معظمهم إلى الولايات المتحدة، وجعلوا من نيويورك أكبر مركز لليهود في العالم. أما الباقون فاتجهوا إلى فلسطين.

ويقول لينارد شتاين في كتاب «الصهيونية»: إن «ثلاثة آلاف يهودي هبطوا يافا» خلال اثني عشر شهرًا من البدء في تطبيق قوانين «شهر مايو سنة ١٨٨١م» الروسية بعد هذه الحادثة، وحدث في ١٨٩١م أن أرسلت جريدة «نوي فراي برس»، التي تصدر في فيينا عاصمة النمسا صحفيًّا يهوديًّا شابًّا يدعى تيودور هرزل ليراسلها من باريس، فلم تمض ثلاث سنوات حتى كان اليهودي الشاب يشهد محاكمة الكابتن دريفوس اليهودي ونفيه إلى غيانا الفرنسية. وشهد كذلك بعينيه وسمع بأذنيه كل ما جرى أمامه من شعور المقت والكراهية لليهود أيًّا كانت جنسيتهم؛ فأدرك منذ يومئذ أنه ليس رعية نمساوية مجرية ولكنه يهودي أولًا وآخرًا. وكما هاجر إخوانه من روسيا بأشخاصهم هاجر هو بعقله وتفكيره من النمسا. وقد خلص من تفكيره بأن الحل الوحيد لمشكلة اليهود هو أن تكون لهم «دولة» خاصة بهم، ولكنه لم يقصد بذلك دولة يهاجر إليها كل اليهود في العالم، بل قصد أن تنشأ دولة يهودية تؤوي كل من يصبح مقامهم في دولة أخرى غير محتمل كهؤلاء الذين هاجروا من الروسيا فتفرق معظمهم إلى أمريكا وأقلهم إلى فلسطين.

وفي ١٨٩٦م أخرج نظريته هذه في كتاب دعاه «الدولة اليهودية»، وتُرجم من الألمانية إلى لغات عديدة.

ولم يكن هرزل من القائلين بوجوب إنشاء هذه الدولة اليهودية في فلسطين، ولكنه طالب بدولة أينما تكون ما دامت تؤوي من لا يجدون لهم مأوى من بني إسرائيل. والواقع أنه أوشك أن يقبل عرض الحكومة البريطانية في سنة ١٩٠٣م بإقامة دولة اليهود في رقعة من الأرض تبلغ مساحتها ستة آلاف ميل مربع في شرق أفريقيا لولا أن الكثيرين من شخصيات اليهود البارزة المنضمة إلى الحركة الصهيونية رفضوا العرض البريطاني «بكل أدب وامتنان»، مفضلين عليه «فلسطين»، وكان أن وافقهم هرزل رغم إدراكه الصعوبات التي تكتنف مثل هذا الطلب.

ولقد مات هرزل، قبل أن تتقدم به السن، في سنة ١٩٠٤م، ولكن كتاباته ونداءاته وحدت صفوف اليهود؛ فاجتمع مندوبون عنهم في بال سويسرا سنة ١٨٩٧م، وعقدوا أول مؤتمر يهودي عام خطب فيه هرزل خطبة الافتتاح قائلًا:

إن هدف الصهيونية أن ينشأ في فلسطين وطن قومي يُعتَرَف به لليهود تحت ضمانات قانونية.

وكان في قوله هذا يعتمد على مفاوضات كانت تدور بين الصهيونيين والسلطان عبد الحميد في صدد إعطاء اليهود امتيازات خارجية في فلسطين تمكنهم من إنشاء «شركة قانونية احتكارية» مثل شركة الهند الشرقية تستعمر فلسطين وتمكن اليهود من أرضها.

على أن هذا المشروع لم ينجح فيما بعد، ويقال: إن السلطان طلب في مقابل موافقته عليه عشرة ملايين جنيه نقدًا، وهو مبلغ استحال على الهيئة الصهيونية أن تدفعه له، كما أن السلطان ما لبث أن أدرك، حين نشر نبأ المشروع في أنحاء الإمبراطورية التركية أن الشعور الإسلامي ضده كان أقوى مما قدره من قبل، وهكذا ضعفت رغبته في الاستجابة لليهود. بل زاد على ذلك أن وَعَدَ أهل فلسطين بأن يحدَّ من هجرة اليهود إليها ولو أنه لم يفعل في هذا الشأن إلا قليلًا. ولما سقط عبد الحميد عن عرشه وضع الصهيونيون آمالهم في جماعة «تركيا الفتاة»، ولكنهم ما لبثوا أن تخلوا عن هذا الأمل عندما أفهمهم الأتراك المنضمون تحت لواء «تركيا الفتاة» أن حركتهم تتعارض والحركة الصهيونية ككل نقيضين مختلفين.

وفي خطبة افتتاح مؤتمر ١٨٩٧م الذي كان فاتحة أحد عشر مؤتمرًا من نوعه عقد في خلال ست عشرة سنة قبل الحرب العالمية الأولى ختمت بالمؤتمر الصهيوني الحادي عشر في السنة السابقة على بدء هذه الحرب. قال هرزل: «إن هدف الصهيونية هو أن ينشأ في فلسطين وطن قومي معترف به لليهود تحت ضمانات قانونية.» وهناك صهيوني آخر سبق هرزل هو الدكتور بتستر كتب في ١٨٨١م يقول: «يجب أن يدمج اليهود كأمة بين الأمم، وذلك بحصولهم على وطن خاص بهم.» وهذه الألفاظ تدل على أن لفظتي «الوطن القومي» اللتين تضمنهما تصريح بلفور فيما بعد كانتا من وضع زعماء الصهيونية قبل وضع التصريح بحول أربعين عامًا كما أوضحنا قبلًا.

•••

ولقد تتابعت الأحداث وتعاقبت الحوادث منذ يومئذ على النحو الذي شرحناه في الفصول السابقة إلى أن عقد في شهري يولية وأغسطس سنة ١٩٤٥م، المؤتمر الصهيوني العالمي في العاصمة البريطانية، مصدرًا قراراته التالية:

(١) مطالب المؤتمر الصهيوني العالمي

في ١٣ أغسطس سنة ١٩٤٥م صدر بيان سياسي عن المؤتمر الصهيوني العالمي اشتمل على رفض الكتاب الأبيض البريطاني الذي وضع عن فلسطين في ١٩٣٩م، وطلب إجابة مطلب الوكالة اليهودية المقدم إلى الحكومة البريطانية في شهر مايو من هذا العام. وهو ينص على تخويل الوكالة سلطة إحضار العدد اللازم من اليهود للاستقرار في فلسطين والنهوض بالبلاد. وقد صدر هذا البيان بعد موافقة الأعضاء الموفدين إلى هذا المؤتمر. وهو يقول: «إن الكتاب الأبيض «يتضمن النكوث بالعهد الذي قطعته الدول حيال الشعب اليهودي، كما أنه اغتصب الحق الطبيعي التاريخي لليهود الذي اعترف به في قرار الانتداب على فلسطين؛ إذ نص على عودة اليهود إلى وطنهم الأصلي. وقد حد الكتاب الأبيض من حرية الهجرة إلى فلسطين بأن جعل الهجرة في حدود رقعة صغيرة من البلاد. وقضى الكتاب على اليهود بأن يكونوا دائمًا أقلية، وأنكر عليهم الحق الذي تتمتع به كل أمة، وهو أن تكون حرة مستقلة في بلادها.» ثم نعت البيان الكتاب الأبيض بأنه «امتياز أُعطي للإرهابيين العرب»، ولكنه أخفق في الوصول إلى الغرض الذي قصد منه. وقال البيان: إنه لولا وجود هذا الكتاب لأمكن إنقاذ المئات والألوف من اليهود الذين هلكوا في أوروبا بالسماح لهم بدخول فلسطين.

المطالبة بجعل فلسطين دولة يهودية

وأيد البيان مطالب الوكالة اليهودية بشأن اتخاذ قرار عاجل لجعل فلسطين دولة يهودية وإعطائها قرضًا دوليًّا ومساعدات أخرى لنقل المليون الأول من اليهود، وللنهوض بالبلاد من الناحية الاقتصادية، وتقرير تعويضات عينية تدفعها ألمانيا إلى اليهود لإنفاقها في إعادة إنشاء فلسطين.

الأحزاب العربية الفلسطينية

في فلسطين اليوم حول ستة أحزاب سياسية عربية أقلها ذو شأن وأكثرها ضئيل النفوذ والمقام. وقد بدأت الحزبية العربية في فلسطين جزءًا من الحركة العربية الاستقلالية الشاملة البلاد العربية في الشرق الأوسط حين كانت جزءًا من السلطنة العثمانية. فكان رجال فلسطين ضمن المجاهدين العرب قبل أن تقسم السياسة الاستعمارية الإنجليزية الفرنسية بلادهم أقسامًا أو دولًا وإمارات وواقعات تحت الانتداب. ولعل الجمعية الإسلامية المسيحية لمقاومة الصهيونية كانت الهيئة السياسية الأولى التي تصدت لمناهضة هذه الحركة اليهودية الخطرة. ثم تألَّفت مؤتمرات متتابعة لا يقل عددها عن سبعة. وكان لكل مؤتمر «لجنة تنفيذية»، ثم إن فلسطينيي حزب الاستقلال «العربي الشامل» نهضوا للتنديد بموقف الإنجليز «إذ إنهم هم الذين أيدوا قضية الصهيونية» إلى جانب مكافحة وباء الصهيونية. وكان المجاهدون الأحرار في مصر وسائر البلاد العربية يؤازرون المجاهدين الفلسطينيين، خاصة حين مضى غلاة الصهيونية يروِّجون لمشروع واسع خطير وبرنامج طويل كبير، وهو أن الدولة التي يدعون لتأليفها ينبغي أن تشمل جميع البلاد التي بين الفرات شمالًا إلى دلتا النيل جنوبًا، استنادًا إلى أن اليهود قد أقاموا في بابل وفلسطين وسينا ومصر؛ أي إن الصهيونيين يحلمون ببناء إمبراطورية يهودية حين يفوزون بإقامة دولة صغيرة في فلسطين الصغيرة.

ولما كان ثمة اختلاف عائلي قديم بين أسرة النشاشيبي خاصة حين كان فخري النشاشيبي بك حيًّا وبين أسرة الحسيني التي يتزعمها سماحة السيد أمين الحسيني وجمال الحسيني بك، فقد استقل حزب الدفاع الوطني الذي يرأسه راغب النشاشيبي بك رئيس بلدية القدس عن حزب الاستقلال الذي كان بين أعضائه من يذهب إلى وجوب استقالة السيد أمين الحسيني من منصب مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى فيها. غير أن آخرين آثروا بقاءه في منصبه؛ ليبقى له الإشراف على الأوقاف والمساجد والأندية وريع حول ٨٠ ألف جنيه. أما سكرتير حزب الاستقلال فكان عوني عبد الهادي بك أحد المجاهدين والمحامين العرب وسكرتير الملك فيصل الأول سابقًا، وكان مندوب مملكة الحجاز في عهد الملك حسين في توقيع معاهدة فرساي. وكان الحزب العربي يرأسه جمال الحسيني بك رئيس وفود فلسطين إلى لندن في ١٩٣٩م. ولما اعتقل ونفي أركان هذا الحزب آثر الفلسطينيون انتداب «موسى العَلَمي» — بفتح العين واللام — لتمثيل فلسطين العربية كلها شعبًا وأحزابًا. وقد حضر في ١٩٤٤م إلى مصر مشتركًا في مباحثات اللجنة التحضيرية لمجلس جامعة الدول العربية. ولما كان المجلس يمثل الحكومات وليس لفلسطين حكومة مستقلة، بل هي لا تزال تحت الانتداب البريطاني بحاكم عام إنجليزي، فقد تعهد ممثلو الدول العربية أن تتولى جامعة الدول العربية تعيين مندوب فلسطين، وكان من أثر كلمتها في مؤتمري مشروع محكمة العدل الدولية وسان فرانسيسكو في ١٩٤٥م أن أخفق الصهيونيون في أن يشتركوا في مؤتمر سان فرانسيسكو، وفي أن يحملوا حكومة العمال الجديدة — التي طالما أبدى حزبها العطف والتأييد حيال الصهيونية — على اتخاذ تدبير ضد مطالب الفلسطينيين العرب، كما أخفق المؤتمر الصهيوني في لندن في يوليو وأغسطس ١٩٤٥م.

(٢) حركة العمال العرب

في ١٩٢٥م أسس العمال العرب من جميع المهن في فلسطين «جمعية العمال العربية» ومركزها حيفا، ولها ١٤ فرعًا في غيرها، وعدد أعضائها حول ١٢ ألفًا يؤدي كل منهم عشرة قروش شهريًّا، وسكرتيرها سامي طه، والجمعية بمثابة اتحاد عام للعمال؛ إذ ينطوي فيها نقابات مستقلة تؤدي لها جزءًا من إيرادها. وتُعاوِن الجمعية العمال على الاستخدام وتحسين أجورهم، ولها حول ١٠ جمعيات تعاونية ومستشارها حنا عصفور. أما أقوى النقابات فهي نقابة عمال سكك حديد فلسطين التي يشترك فيها حول ١٣٠٠ يدفع كل منهم لها خمسة قروش شهريًّا، وفي حيفا اتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب، وهي تضم: نقابات عمال الزيوت ونقابة عمال الورش البحرية. ولها صحيفة اسمها «الاتحاد» يرأس تحريرها الأديب «أميل توما» وسكرتيرها «يونس قدح»، ومن الجمعيات العمالية المستقلة عن الاتحادات جمعية العمال العرب في نابلس، وعددها حول ١٢٠٠ مشترك، وسكرتيرها «أنور عرفات»، وثمة نقابة في شمال فلسطين للعاملات العربيات في المعسكر الحربي، وليس للعمال العرب في فلسطين حزب سياسي.

كذلك في فلسطين صحف عربية وإنجليزية ويهودية.

(٣) الاتحاد العربي

منذ بضع سنين اتجه تفكير «فؤاد أباظه باشا» — المدير العام للجمعية الزراعية الملكية، وعميد البعثة المصرية إلى السودان، والمؤسس للكثير من الأندية والجمعيات والمشرف عليها — إلى تأليف «الاتحاد العربي» في القاهرة، على أن تكون مهمته تقوية الروابط المتنوعة بين البلاد الناطقة باللغة العربية. وكان في مقدمة المؤسسين للاتحاد والمشتركين مع سعادته في النهوض به حضرات: السيد أحمد مراد البكري، وعبد المجيد إبراهيم صالح باشا، وحقي العظم بك، وأحمد نجيب براده بك السكرتير العام للاتحاد، ومحمد توفيق خليل بك، وخليل ثابت بك، وعبد الستار الباسل بك، والدكتور محمد أسعد سلهب، والسيد إدريس السنوسي، والمحامي موريس أرقش، والصحفي حبيب جاماتي، والرافعي، والمحامي عبد الله حسين، وغيرهم.

وللاتحاد قانون ومجلس إدارة، وفروع في الكثير من البلاد العربية واجتماعات دورية وسنوية. وقد أقام العشرات من المآدب والحفلات تكريمًا لأصحاب السمو أمراء الدول العربية ورؤساء حكوماتها وزعمائها ووفودها. كما أرسل التقارير والبرقيات العديدة تأييدًا للقضايا العربية لفلسطين وسوريا ولبنان والجزائر ومراكش وتونس، وناهض الاستعمار.

كذلك زار مندوبو الاتحاد بعض بلاد الشرق الأوسط تعميمًا لفروع الاتحاد وتقوية للروابط العديدة. وكان أهم قراراته دعوته لعقد مؤتمر عربي شامل في القاهرة تأييدًا لقضية فلسطين، وتفنيد المزاعم الصهيونية.

(٤) جمعية الوحدة العربية

تألفت في ١٩٤٤م من بعض المجاهدين العرب أمثال سكرتيرها العام، أسعد داغر بك، وعبد الرحمن عزام بك، وعبد الستار الباسل بك. أما مبادئها فهي تقوم على: (١) أن البلاد العربية تشمل البلاد التي بين المحيطين الأطلسي والهندي، ويتكلم سكانها بالعربية، ويتأدبون بالآداب العربية، ويعتزون بعزتها. و(٢) أن البلاد العربية وطن واحد، وكل تقسيم طرأ عليها بالقوة لا تقره الجمعية. و(٣) أن الأمة العربية ترفض الاستعمار في جميع صوره وأشكاله وجهاته وأسبابه، وتناصر الحرية. و(٤) أن الوحدة العربية حاجة طبيعية.

(٥) أمنية نرجو تحقيقها

ولقد كنا نود أن يتحقق، مع نصر الحلفاء، حل مسألة فلسطين، وأن نختتم كتابنا بهذه البشرى، غير أن الأحداث تجري الآن في طريق إثارة عواطف الإرهاب والشقاق،٢ وكما أن المؤتمر الصهيوني العالمي قد جهر بالمطالب التي أشرنا إليها، اتجه مجلس جامعة الدول العربية إلى تأييد وجهة نظر العرب. وعلى هذا تتأزم هذه القضية مرة أخرى. ومهما يكن من شيء فإننا نقول: «اشتدي أزمة تنفرجي.»

(٦) اليهود ليسوا شعبًا

في ص١٨ من كتاب «نماذج بشرية» تأليف ر. و. فيرث، بعد أن فرق بين «الأمة» و«الشعب» الذي هو أصل جنسٍ ما لم يختلط بالأجناس الأخرى ويؤلف منها أمة، قال المؤلف: وأي شيء يكون اليهود؟ عند كثيرين أنهم جماعة شعب، وأن الإنسان يستطيع أن يتبين اليهودي من النظر إلى هيئته الطبيعية. غير أن البحث قد أثبت أن هذا ليس صحيحًا على إطلاقه، فقد ثبت أن يهود بلد ما يختلفون اختلافًا كبيرًا عن يهود البلاد الأخرى.

وبعد أن دلل المؤلف على ما يتميز به بعض اليهود عن بعضهم الآخر تبعًا لاختلاف الأماكن من حيث لون البشرة والقوام والسحنة والعيون، تساءل إذا لم يكن اليهود شعبًا، فأي شيء هم إذن؟ وأجاب على هذا بأنهم جماعة، اتحدت آداب أفرادها وتقاليدهم وديانتهم، مشتركون إلى حد ما في الأماني وأسلوب الحياة، ثم إن ظروف حياتهم الاقتصادية إلى هذا قد أرغمتهم على أن يحتفظوا بوحدتهم، وذلك بإقامتهم في أحياء خاصة، وبإيثارهم الزواج من نسائهم، وبتحديد المهن التي يمارسونها، خاصة التجارة.

(٧) تصريح الرئيس ترومان بتأييد الصهيونية

في ١٧ أغسطس سنة ١٩٤٥م أذاع المستر ترومان — رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية — تصريحًا، جاء فيه: إن بلاده تريد دخول أكبر عدد من اليهود إلى فلسطين، وإقامة دولة يهودية … إلخ. وقد قابل اليهود هذا التصريح في اغتباط وابتهاج وثناء، وفي ١٨ أغسطس أذاعت وكالة الأنباء اليهودية بيانًا قالت فيه: «إننا نقدر اعتراف الحكومة الأمريكية بالرغبة العادلة في جلب أكبر عدد من اليهود إلى فلسطين، وفي إنشاء دولة وطنية لهم فيها، ثم تشير الوكالة اليهودية إلى أن مسألة فلسطين تعني أولًا وقبل كل شيء الشعب اليهودي، وعرب فلسطين والدول الكبرى، وليس للبلاد المجاورة لفلسطين علاقة بفلسطين أكثر مما لغيرها من بلاد الدول المتحدة؛ وذلك لأن مشكلة فلسطين واحدة من مشكلات دولية كثيرة يجب أن تراعى في حلها العدالة والمساواة، وأن ينفذ هذا الحل بكل حزم. وترى وكالة الأنباء اليهودية أنه ليس لما يقال عن ضرورة وجود قوات عسكرية كبيرة، في فلسطين خاصة، أية علاقة بحقيقة الحالة فيها، فإذا صح ما يقال الآن من أن الدول الكبرى تنظر في مسألة مستقبل فلسطين فإن الوكالة اليهودية التي تمثل الشعب اليهودي في جميع الشئون الفلسطينية تطالب بأن تكون طرفًا في جميع المباحثات والمفاوضات على قدم المساواة مع أية حكومة وطنية.»

وفي يوم الأحد ١٩ أغسطس سنة ١٩٤٥م أفضى عبد الرحمن عزام بك الأمين العام لجامعة الدول العربية للصحف بما يأتي:
أبلغني الآن وزير أمريكا المفوض بمصر نصًّا لتصريح الرئيس ترومان، وهو كما يأتي:

إن هذه البلاد تريد أن يدخل إلى فلسطين أكبر عدد ممكن من اليهود، وذلك يكون بترتيب وتفاهم سياسي مع البريطانيين والعرب ليكفل لهم النجاح، ولا بد من أن تكون المساعي المبذولة لذلك على أسس سليمة؛ لأنه لا يقبل إرسال نصف مليون من الجنود الأمريكان للمحافظة على السلام في فلسطين.

ثم قال عزام بك: ولم يذكر سعادة الوزير المفوض في هذا النص شيئًا يختص بإقامة الدولة اليهودية، قائلًا: «إن هذا النص هو كل ما عندي الآن.» ثم قال:

ولا شك أن هذا النص أخف وطأة على العرب من النصوص التي أذاعتها بعض الصحف لبيان الرئيس ترومان، وأثارت قلقهم وانزعاجهم، وإنه لمما يؤسف له أن تأتي مثل هذه التصريحات في الوقت الذي تتطلع فيه البشرية بعد سني الحرب القاسية، إلى سلم واستقرار وطمأنينة إلى النفوس.

ولقد كنا نظن أن سقوط الدكتاتوريات في أوروبا وآسيا يسمح للدول الديموقراطية الكبرى بمعالجة المشكلة الناشئة عن اضطهاد اليهود علاجًا عادلًا. بعد أن تيسرت لها الوسائل ودانت لها الدنيا.

لذلك لا أدري ما هي الأسباب الملحة التي دعت رئيس الولايات المتحدة إلى بذل مسعاه في بوتسدام ولندن أو إلى تصريحه الذي نقل إلينا، فإن كان من بين هذه الأسباب وعد الحزب الديموقراطي في شأن اليهود، فإن من الحق علينا أن نسارع بتذكيره بآخر عهد قطع للعرب في ذلك من الرئيس الكبير المرحوم روزفلت، فإنه قبل وفاته بأسابيع قليلة، وضع يده في يد جلالة الملك عبد العزيز بن السعود، وعاهده على ألا ينصر قضية اليهود على قضية العرب في فلسطين. وقد أكد الرئيس ترومان نفسه بعد ذلك سياسة الولايات المتحدة التقليدية في السنين الأخيرة، حين وعد الدول العربية باستشارتها في كل ما يمس حقوق العرب في فلسطين.

(٨) رأي الدوائر البريطانية

في ١٨ أغسطس ١٩٤٥م، تلقَّت جريدة «الديار» برقية من صاحبها الذي كان يزور لندن يقول فيها: إن المستر بيفن — وزير الخارجية البريطانية — استقبل الأستاذ كميل شمعون، وأبلغه أن سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط لن تتغير، فإن سياسة المستر تشرشل كانت مؤيَّدة من أعضاء حزب العمال الذين اشتركوا في الوزارة الائتلافية.

وقال أيضًا: إن بريطانيا تعتمد على مساعدة سوريا ولبنان في حل مسألتهما.

فرد عليه الأستاذ شمعون قائلًا: إن استقلال البلدين ضروري ليتمكنا من القيام بدورهما مع البلدان العربية في تأمين السلام وفقًا لخطط الحلفاء.

وبسط الأستاذ شمعون وجهة نظر العرب فيما يتصل بقضية فلسطين فقال المستر بيفن: إنه يدرس هذه القضية باهتمام كبير.

(٩) مقالة مجلة إيكونومست

في ١٨ أغسطس ١٩٤٥م، نشرت مجلة «الإيكونومست» اللندنية، وهي مجلة سياسة واقتصادية أسبوعية مقالًا افتتاحيًّا أَلَحَّت فيه على الحكومة العمالية الجديدة في ألا تندفع في اتخاذ قرارات غير ناضجة فيما يتعلق بمسألة فلسطين. وقد ناقشت الجريدة المسألة الصهيونية وأعربت عن أن لحظة من التأمل لا بد أن تُظهر أن هذه الرغبة اليهودية المتطرفة لجعل فلسطين دولة يهودية، ليست رغبة عادلة ولا عملية.

وفي مناقشات مجلس العموم في أغسطس سنة ١٩٤٥م رفض رئيس الوزراء أن يتحدث عن فلسطين إلا بعد بحث مسألتها، واقترح «موسى العلمي» اكتتاب العرب بخمسة ملايين جنيه لشراء أراضي فلسطين.

واستقال وزراء في شرقي الأردن لتسجيل الحكومة شركة يهودية استعمارية هناك، وفي ٥ أغسطس سنة ١٩٤٥م أيَّدت «التيمس» العرب.

هذا؛ ويبدو أن نشاط الصهيونيين العنيف الآن، مرجعه أن الكثير من اليهود المهاجرين إلى فلسطين بسبب الاضطهاد، قد اعتزموا العودة إلى وسط أوروبا فيخفق بذلك مشروع الصهيونيين المحترفين الذين يستغلون عواطف الساسة المحبين للتوراة وفلسطين، وأغنياء اليهود في أوروبا وأمريكا، والذين يُعنون باستمرار المصانع والشركات التي أنشئوها في خلال الحرب منتفعين بغلاء الأسعار وبقانون الإعارة والتأجير الأمريكي، الذي وقف العمل به في أواخر أغسطس سنة ١٩٤٥م.

١  تاريخ الصهيونية السياسية: عبد القادر عبد القادر حمزة. الصهيونية: ل. اشتاين.
٢  تعددت حوادث الإرهابيين اليهود في سنة ١٩٤٥-١٩٤٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤