بيت الكرم

أسرة مجدي مشهورة في مصر بالثروة والجاه، يؤمها المستغيث ويقصدها كل ذي حاجة. توفي ربها المرحوم عبد الله بك مجدي عن ستين عامًا قضاها — كما قالت الجرائد — في عمل الخير والبر والإحسان، تاركًا ولدين يبلغ أكبرهما الثلاثين والآخر لا يتجاوز العاشرة، وثلاث بنات أبكار لم تسعد أكبرهن بعد بالزواج.

ورث المرحوم عن أبيه ثروة طائلة تزيد عن ألفي فدان، أضاع معظمها حبًّا في الخمر وسعيًا وراء النساء، فلم يترك لأولاده بعد موته إلا ثلاثمائة من الأفدنة وعشرة من الرفاق، كان ينفق عليهم من حر ماله، وكانوا يقضون معه الليل والنهار ليأتنس بحديثهم ويقتل الوقت معهم، وأصبح الولد الأكبر — محمد بك مجدي — بعد وفاة أبيه رئيس أسرة مجدي، وناهيك عن قيمة هذا اللقب في أعين الرفاق العشرة بعد أن وجدوا في الولد خير خلف لأبيه، فلقبوه بابن العز والإمارة ورب البيت الذي لم يغلق بابه في وجه سائل. ولم يكن محمد بك تلقى من العلم والتربية ما يلهمه أن يضرب بأقوالهم عرض الحائط، وأوحى إليه الجو الذي نشأ فيه أن لا يحيد عن الخطة التي اختطها أبوه لنفسه من قبل؛ فرحب بالرفاق وجلس بينهم كما كان يجلس أبوه في صدر المكان وهم حواليه يكاد يدفعهم الخشوع والامتثال إلى الركوع والسجود.

•••

نزل محمد بك من الحريم إلى السلملك وهو مرتد جلابية بيضاء وعباءة من الحرير الأبيض، وكان عاري الرأس منتفخ العينين، وقد نسج السهر لكل واحدة منهما إطارًا أحمرَ، لو رآه طفل صغير في رابعة النهار لولى الأدبار خائفًا أن ينقض عليه ذلك البعبع فيهشم عظامه أو يُسيل دماءه.

مشى محمد بك مشية الزهو والتيه، يميل به الإعجاب بنفسه ويرنح عطفه احتقاره للناس، ومَن مثل محمد بك على وجه البسيطة وهو الغني العظيم ابن الكرم والسيادة، وبيته مأوى البؤساء وملجأ الفقراء؟! وكان في ذلك اليوم مقطب الوجه عابسًا ساهمًا، وذلك لزيارة وسيط وافاه في الصباح يطلب يد أخته الكبرى لابن أحد البيكاوات، وهل يسمح محمد بك بذلك ولأخته حصة فيما تبقى من تراث أبيه يصرف ريعها على الحفلات اليومية التي يقيمها كل ليلة في بيته هو ورفاقه الكرام، أستغفر الله، بل عبيده المخلصون؟! وصل محمد بك للسلملك وكان الوقت مساء؛ لأن البك لا يفيق من نومه إلا في الساعة السادسة، وكان من عادته النوم بعد الغذاء، ولما دخل غرفة الاستقبال وجد الجماعة في انتظاره وقد تهيئوا للقائه، فجلس بينهم وهو تائه النظر، وقد تعمد ذلك حتى لا يقال إنه يتنازل لرؤية أحدهم، ثم نادى الخادم وأمره أن يجيء بزجاجات الوسكي، وقام الخادم بما أمر به حق قيام، وتناول كل واحد قدحه وشربوا نخب البك.

وقام أحدهم واقفًا، وهو شيخ سكير يناهز الستين، كان كاتبًا بوزارة «اﻟ …» وأحيل على المعاش، ولم يساعده معاشه على اقتناء الخمر والقيام بأود أسرته، فالتجأ لمحمد بك، وليس شيء أحب لنفس محمد بك من أن يلتجئ إليه من يظهر التفاني في محبته والخضوع لآرائه والحاجة العظمى لماله وطعامه. وكان ذلك الشيخ من أصحاب النكات الظريفة المستملحة، يترقب الفرص حتى إذا حانت أرسل النكتة من فيه فتقع في قلب مناظره كما يقع السهم الصائب في ثنايا الصدر. ولم يكن في تلك الحاشية التي جمعتها يد المنكر والفساد رجل يحب الآخر؛ فكلهم متنافرو المشارب مختلفو الأميال، ولم يتحدوا إلا على كسب أموال البك، حلالًا كان ذلك الكسب أم حرامًا. قام ذلك الشيخ وقال للبك: سيدي وولي نعمتي، هل ليدك الشريفة أن تتناول الكمنجة …؟

ولم يمهله البك أن يتم قوله فنهره قائلًا: كفى مجونًا وهزرًا.

اندهش الرفاق لما فاه به البك لاعتقادهم أن البك يحب من يتغنى بشهرته الواسعة في الكمنجة. اندهش الجميع وسكتوا، ولكن شيخنا السكير لم يندهش ولم يسكت، بل ابتسم ابتسام الفائز، وقال وفي صوته رنة الرجاء والاستعطاف: الناس لا تشك في هزري ومجوني، وهم أيضًا لا يشكون في نبوغك وعبقريتك، فهل لسيدي أن يتنازل ويشنف آذان عبيده؟

ونظر البك للسماء مادًّا يده لوجهة الشيخ.

ففطن صاحبنا لما يدور في خلد البك، فمشى على أطراف أصابعه إلى أن وصل لتلك اليد الشريفة، وتناولها في يده، وقبَّلها مرارًا وهو يرجو ويستعطف.

فقبِل البك رجاءه وشنف آذان رفاقه، ولم يكن — حفظه الله — حانقًا على عبده، ولكنه كان ممن إذا رجاهم أحد ودوا لو كرر الرجاء مرات عديدة. وبينما كان البك يشنف آذان رفاقه دخل عليهم رفيق آخر هللوا لقدومه وصفقوا، ولكن البك عبس في وجهه وصافحه مصافحة جفاء وغضب؛ فانقلب تهليل الجماعة إلى نفور وازدراء، واستمر البك يضرب الكمنجة ورءوس الرفاق تميل طربًا إلى أن انتهى فألقى بها على الخوان، ونظر للقادم نظرة تجسم فيها البغض وقال: ما هذا الجفاء يا سعادة الباشا.

فابتسم الحضور لتقريع البك، وسكت الرجل، فقال البك: علام السكوت؟ أين كنت؟ وعلام تأخرت؟

– كانت امرأتي تلد.

– لقد وضعت بإذن الشيطان كلبًا.

فقهقه الحضور وتمايلوا بأجسامهم، وكانوا يضحكون إرضاء للبك، وليس شيءٌ أقبحَ من وجه من يتضاحك، ولكن البك كان يتغافل عن كل ذلك تغفيلًا لنفسه، وأقسم الرجل ثلاثًا على صحة دعواه، فقال البك: إنك تكذب. أنت تنكر النعمة التي أسبغناها عليك.

– حاشا لله أن أكون ذلك الرجل.

– صه. إياك والكلام. إني أعرف أين كنت أمس.

وسكت الرجل وهو بريء لم يرتكب إثمًا، وهل في ذهابه لبيت ابن عم البك مرة في الشهر إثم كبير؟ ولكن البك كان من الأغنياء الذين تشبه أخلاقهم أخلاق النساء؛ فتراهم يغيرون إذا ما التجأ أحد حاشيتهم مرة في حياته إلى أحد سواهم.

وقام الرجل المسكين وقبل أقدام سيده ومولاه، فصفح عنه بعد أن فرض عليه جزية تقبلها الرجل شاكرًا؛ وهي أن يقوم هذا البائس ويقبل أيادي الرفاق أجمعين ثلاثًا بعد أن يصفعه كل واحد منهم مرة، وكيف لا يقبل ذلك الرجل الفقير ذلك وقد وضعت امرأته بالأمس طفلها السادس؟!

ودارت الكئوس مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، ثم قاموا جميعًا وتناولوا العشاء، وعادوا للراحة في غرفة الاستقبال، ولبثوا سكوتًا ومنهم من أسند رأسه على كتف صاحبه مستسلمًا للكرى، ومنهم من انتهز الفرصة وتناول كأسًا من الوسكي دون أن يراه أحد، ومنهم من جلس يفكر في حيلة يضحك بها البك لينال رضاءه، أما البك — حفظه الله — فكان كالميت لا يعي شيئًا، وهذا حال كل رجل بَدين الجسد إذا أكل ولم يحاذر في أكله.

ثم أفاق البك ونادى أحد الرفاق، وكان فتى في مقتبل العمر، جميل الصورة أهيف القد، إذا مشى تثنى كما يتثنى الغصن وقد لعب به النسيم، وكان البك يميل لمحادثته على انفراد؛ لعذوبة ألفاظه، ورقة حديثه فكان لا يصبر على فراقه دقيقة واحدة، ولهذا أسكنه البك في غرفة من السلملك، حتى إذا احتاج لرؤيته لا يلبث أن يراه.

ناداه البك قائلًا: أين عودك يا صديقي؟ أمسك به وشنف آذاننا جميعًا.

فتناول الفتى العود، وابتدأ في الضرب، وغنى لحنًا تناول البك عند سماعه الكمنجة واشترك في الضرب والغناء معه، وقام الرفاق يرقصون حتى إذا أعياهم الرقص جلسوا وهم يصفقون ويميلون طربًا كأنهم يسمعون عبده أو عثمان. وعند انتهاء الغناء دخل على الجماعة رجل يبلغ الخامسة والأربعين، يلبس منظارًا أسودَ يحجب عن الناس ما في عينيه من شر وحسد وحقد، وسلم على الجميع بعد أن قبَّل يد البك، وقام البك واقفًا لرؤيته وعانقه والرفاق في دهشة! وكيف لا يدهشون والقادم صعلوك ممن حكم عليهم قديمًا بالحبس للتزوير والاختلاس؟! وجلس الرجل بجوار البك، وأسر إليه كلمات ابتسم لها البك، وتهللت أسارير وجهه، ولما رآه الرفاق يسر للبك شيئًا ابتعدوا قليلًا فقال الرجل لسيده: قد انتهى كل شيء.

– كم في المائة؟

– ثلاثون.

– بورك فيك.

وعاد البك للغناء والضرب على الكمنجة، والرفاق للرقص والتصفيق.

•••

لم يكن هذا الزائر الجديد إلا رسول البك للمرابين لرهن مائة فدان هي البقية الباقية من تراث آبائه، وهل يتسنى لمن كان يمتلك ثلاثمائة فدان أن يعتاد هذا البذخ وهذا الإسراف على جماعة يستأجرهم لتقبيل يده والتغني بكرمه وَجوده دون أن يرهن ما عنده ليفقده صفقة خاسرة؟!

وهب بعد قليل نسيم عليل ارتاحت له نفس البك، فقال وهو يبتسم: لو منَّ الله عليَّ بألفي جنيه لكنت أشتري بها منزلًا في رمل الإسكندرية لأقضي فيه فصل الصيف من كل عام.

وتنهد البك آسفًا على ذلك المنزل الجميل، فقال أحد الرفاق: لا تيأس يا سعادة البك من رحمة الله، سوف يمنُّ الله عليك بما تريد.

ولم تقع هذه الجملة موقعًا حسنا عند البك، فغلى الدم في عروقه وقطب وجهه استياءً ثم صاح: يا لك من غر أحمق! يمنُّ الله عليَّ؟ أتظن أني فقير أيها المجنون؟!

وحق للبك أن يغضب هذا الغضب الكبير وهو الذي يغيث الفقراء ويحمي الضعفاء، فقام إليه الزائر الجديد ذو المنظار الأسود وحاول أن يزيل غضبه، ولكن البك لم يقتنع بشيء، وكاد أن يهم بضرب من اتهمه بالفقر والاحتياج لمعونة الله، وعزز الرفاق سيدهم وسقط الرجل في يده وخرج من الغرفة وهو يتعثر في أثواب خيبته، وجلس البك وهو يرغي ويزبد، ثم تناقص غضبه شيئًا فشيئًا إلى أن زال، وعاد الجمع للعزف والغناء والرقص، ودارت الكئوس ولعبت الخمر بالرءوس، فكنت تسمع في الغرفة النكات تتلو النكات والشتائم تتبع الشتائم، إلى أن تملك التعب على القوم نفوسهم فاستسلموا إليه، وسقط بعضهم على الأرض لا حراك به، واستأذن من تبقى له شيء من قوته تحمله إلى بيته إلى أن خلا المكان إلا من النائمين، وكان البك ملقى على مقعد وبجواره الزائر ذو المنظار الأسود يفتش في جيوبه، ولما انتهى من عمله نادى إدريس البربري؛ ليحمل سيده إلى الحريم …

فرغ صديقي من قصته فالتفت إليَّ وهو يقول: ماذا تقول في هذه القصة؟

فتنهدت وقلت: صدق من قال إن شبان مصر الأغنياء لا يعرفون للضجر معنى، فأكرم بهم وأنعم!

– هذا طريق واحد من عدة طرق يسلكها هؤلاء الأغنياء لقتل وقتهم وضياع ثروتهم.

– وهل هناك طرق أخرى؟

– هيا بنا نخرج لاستنشاق الهواء في الجزيرة، وهناك أقص عليك قصة أخرى.

فخرجت معه وكلي آذان مصغية لحديثه.

٢ أغسطس سنة ١٩١٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤