حفلة طرب

كنت شغوفًا بالكنسير أيام كنت في باريس، لا تفوتني من لياليه ليلة تجمع بين الأناشيد الشجية والألحان الفكاهية، والوجوه الوضاحة والقدود المائسة والعيون الضعيفة القاتلة. هناك كنت أمتع عيني بالجمال الذي صاغته يد الخالق في وجوه الحسان، وأملأ قلبي لذة يمازجها الطهر، وأذني ألحانًا جميلة ينفسح لها الصدر.

•••

أيام مضت كما يمر الحلم العذب برأس النائم، والآن أنا بمصر محروم من تلك الجباه المشرقة والوجوه اللامعة والغرر المتألقة والألحان الشجية الجميلة، وما أحوجني إلى رؤية شيء منها، إن لم يماثلها جمالًا وحسنًا فلا أقل من أن يكون باعثًا من بواعث الذكرى تهيج في قلبي نارًا كاد أن يطفئ أوارها النسيان!

جلست أمس في مجلس جمع من الإخوان من كانت تتوق النفس للقائه، ويتأجج الصدر عطشًا لرؤيته، وكان بينهم صديق لم تره عيني منذ سنين، فكنت أجاذبه أطراف الحديث وكلي آذان مصغية له، ولبثنا نتحادث إلى أن أخرج ساعة من جيبه ونظر فيها مليًّا، ثم قال: هيا بنا، لقد دنا الميعاد.

فقلت: وأي ميعاد؟

– أنا على موعد مع أحد الأصدقاء لسماع مغنية جديدة، فهل لك في مرافقتي؟

فأجبته لمطلوبه واستأذنا الجماعة ومشيت معه جنبًا لجنب.

وصلنا إلى القهوة، ووجدنا على بابها شابًّا ينتظر، قَدَّمَهُ إليَّ صديقي، فابتدرنا بقوله: لنرجع أدراجنا إلى منازلنا.

فقال صديقي: وعلام؟

– أن السيدة «…» لا تغني هذه الليلة.

وحانت مني التفاتة إلى القهوة فقلت: ولكني أرى سيدة جالسة على «التخت».

فقال الشاب: يا للعجب لقد تأخرتْ إذن عن ميعادها ربع ساعة.

فقلت لنفسي وأنا أبتسم: «يا للعجب أول القصيدة كفر.» وابتعنا تذاكرنا، ودخلنا القهوة ونحن نتسابق لسماع المغنية، وأخذنا مجالسنا بين الجمهور، وجلسنا وكأن على رءوسنا الطير.

القهوة فسيحة الأرجاء، جمعت من شتات الناس المطربش والمعمم ولابس الجلابية الزرقاء؛ جماعة مختلفي المشارب خارج القهوة متحدي الأميال فيها، تعوزهم ريشة المصور؛ لترسم للناس الصور المضحكة المبكية التي تبدو على وجوههم. ثم نظرت لجماعة المغنيين وضحكت حتى كدت أن ألفت أنظار الناس لولا اندفاعهم لرؤية وجه المغنية الفاتنة التي كانت تبتسم للجميع وتحييهم أجمل تحية.
  • المغني الأول: شاب أسود البشرة يظهر لي أنه من أم زنجية وأب مصري، أو أنه نوبي من أهل أسوان، أو عامل من عمال العنابر في مصر له أنف طويل يكاد يلتطم مع شفته اليسرى، وعينان سوداوان بهما جمال عبثت به يد السهر والخمر، وشارب قصير كريش فرشة تنظيف الأسنان، وكان مرتديًا بدلة بيضاء وبها بقع سوداء، فما أقرب شكله لشكل الفرس الأبلق!
  • والثاني: رجل مغلق الأجفان يجتهد في فتحهما كلما دعته الحالة فتعييه الحيلة، له فم إذا فغره خلته بئرًا، وأذنان كبيرتان، وذقن طويلة تهتز مع رأسه كلما أنشد كأنها تسأل الناس المعونة والأجر، فما أشبهه بحلاق من جهة سيدنا الحسين أصيب بالعمى فجاء ليرتزق في قهوة عمومية!
  • أما الثالث: فكان رجلًا مرتديًا جلابية بيضاء وحزامًا من المناديل الحمراء الكبيرة وجبَّة زرقاء وطربوشًا من غير «خوصة»، لم يحلق لحيته منذ أيام فظهرت شعورها في وجهه كما يظهر النجيل في الأرض القحلاء، وكان إذا أنشد أخذ فمه شكلًا هندسيًّا يشبه المعين، إذا نظرت إليه ظننت أنه منجد ملك عنانه حب الغناء فأتى إلى القهوة ليشنف آذانه، ودفعه ذلك الميل الغريزي لامتطاء الدكة المعدة للمغنين، فجلس عليها يساعد الجماعة على إخراج الأغاني صحيحة خالية من العيوب.
  • أما الرابع: فهو شاب نحيف الجسد أسمر اللون لا تفارق عيناه أديم الأرض، ولعله من المصابين بداء الحياء الشديد، ولهذا لم يتيسر لي أن أتفرس في ملامح وجهه لأصفها للقراء. فهو رجل كما تقول العامة في «حاله»، ولهذا ندعه في حاله.
  • أما الخامس: فهو شيخ أحنت الأيام ظهره، فأصبح كالقوس يداعب المغنية من وقت لآخر، ولا أدري لماذا. له طربوش تظهر منه شعور كتلك الشعور التي أبقتها يد التحنيط على رءوس الجثث المحنطة في دار الآثار المصرية، مرتديًا بدلة يحار فكر الناظر أمامها؛ فمن قائل إنها بدلة عادية، ومن قائل إنها ردنجوت قصيرة، ومن قائل إنها من نوع جديد سوف يحذو على منواله كل حائك في مصر، فلا تلبث أن تصبح الموضة المصرية الجديدة بعد أن انقطعت عنا في أيام الحرب موضة باريس، وهو أشبه الناس بكتاب الدوائر الكبيرة.
  • وأما حامل العود: فهو رجل بدين الجسد له وجه منتفخ تغار فيه عيناه البراقتان، تظهر عليه بعض مخايل الوجاهة، ولا أدري لماذا؛ ولعل ذلك لأنه حامل العود والعود سلطان الآلات الغنائية.
  • وأما حامل القانون: فهو شاب جميل الصورة أسمر اللون حسن الهندام، يظهر عليه أنه كان غنيًّا ثم أناخ عليه الدهر بكلكله، إذا لمست يده أوتار القانون اهتز جسده بأجمعه مع اهتزاز النغمات، وتقلصت شفتاه وتقطب وجهه، فكأنه يبكي أيامه الماضية وثروته الضائعة.
  • وأما حامل الكمنجة: فهو شاب في ريعان الشباب، أصفر الوجه له شارب طويل يرتفع طرفه الأيمن إلى أعلى وينخفض طرفه الأيسر إلى أسفل، له وجه ليس فيه شيء من التناسب بين طوله وعرضه، وجبهة خليقة بأن تكتب عليها بالثلث عناوين الأدوار، فما أشبهه بمحرري بعض الجرائد في مصر!
  • أما الأخير: فهو يافع لا أدري لماذا أتوا به، يذكرني بيافع آخر كان يمر على قهاوي العاصمة ليبيع السجاير «الفنتزية»، التي إذا أشعلتها طار منها شعاع يخيف الأطفال الصغار.
  • أما المغنية: فهي امرأة ذات جمال إغريقي في نحو الثانية والثلاثين من عمرها، قصيرة القامة نحيلة الخصر وضاحة الطلعة سافرة الوجه، مرتدية ملاءة سوداء تصل أطرافها إلى ركبتيها فتزيدها رقة وحسنًا، لها فم جميل لا تفارقه الابتسامة، فكأنما تتساقط منه زهور النرجس والورد، ولها شفتان تتعدد أشكالهما كلما غنت؛ فتارة تظهر عليهما صورة الاستعطاف، وطورًا صورة الإعراض، وآنًا صورة الحنو والامتثال، وآونة صورة التيه والإعجاب. تغني ثم تضحك، وتضحك ثم تغني، وتبتسم وتخجل، ولا أدري لماذا تخجل ولماذا تبتسم ولماذا تضحك، وإن كنت أعرف لماذا تغني!

    ويخيل لي أنها إذا خلعت إزارها الأسود وجلست لتحادثك خارج القهوة وهي جادة في قولها، يذهب عن وجهها ذلك الجمال الساحر والدلال القاتل. يشفع ابتسامها الجميل في ضعف صوتها.

انتهى الغناء، وخرجت مع صاحبي، فسمعت عند باب القهوة رجلًا يقول: هذا غناء يتخلله ضحك وابتسام.

فقلت في نفسي: لقد أخطأت يا صاح، هذا ضحك وابتسام يتخللهما غناء.

أغسطس سنة ١٩١٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤