صفارة العيد

العطفة التي نتكلم عنها طويلة ضيقة خالية من الأرصفة، تبتدئ بحائط سميك وتنتهي عند الشارع الكبير؛ حيث ترى على يمينها قصرًا فخمًا يخاله الناظر سجنًا أعد للمجرمين، وعلى شمالها قبرًا لشيخ وهمي تقف أمامه الرجال والنساء يقرءون الفاتحة وهم ينظرون للسماء نظرة رجاء وابتهال، ثم يمسحون وجوههم بأيديهم ليتم الله نعمته عليهم. وإذا سرت فيها فبلغت منتصفها وجدت «أم مليم»، بائعة الطعمية والسلطة والكرات، جالسة القرفصاء أمام حانوتها المكون من قفص تعرض عليه ما تبيعه لسائق عربة الكارو ولابن السبيل والفاعل. وإذا اقتربت من بدايتها؛ أي من الحائط السميك الذي يقف في وجه المارة ليمنعهم من المسير، وجدت شجرة كبيرة يتفيَّأ ظلالها كل من تعب وتملكه الإنضاء. أما إذا أسرعت في سيرك خشيت أن تعثر في هاوية صغيرة أو تل لا يزيد ارتفاعه عن عشرة سنتيمترات، أو في القاذورات التي تلقي بها أيدي المارة بلا خوف ولا حذر. أما القصر فهو لأحد البشوات الذين أبوا أن يهجروا الحي الذي نشأ فيه أجدادهم، وهو قصر — كما قلنا — عظيم، يجلس على بابه الخصي واضعًا رجلًا على رجل وممسكًا بمسبحة يستعين بها على قتل الوقت؛ حتى لا يشعر بسأم ولا ملل، وهو شيخ في الخامسة والخمسين من عمره، له شفاه تشبه قطع «البفتيك» التي تقدم لك في مطاعم العاصمة، وعينان يزداد احمرارهما كلما «أخذته الجلالة» فنطق باسم الله العظيم، وأنف أفطس كأنه ضفدعة وجدت في وجه الخصي منبتًا حسنًا، وكان طويل القامة ضخم الجثة، إذا مشى اهتز كما يهتز الفيل.

•••

نحن في اليوم الأول من أيام العيد، والناس في هرج ومرج، والأطفال يلعبون في الشارع وقد أمسكوا بألاعيبهم وارتدوا ملابسهم الجديدة وتسامروا وهم يضحكون ويقفزون، والآباء انشرحت صدورهم ومشوا في الشارع وهم يقولون بعضهم لبعض: «كل عام وأنتم بخير.» وكان بين الأطفال طفل نحيل الجسم أصفر الوجه، ينظر لرفقائه نظرة تعبر عن غبطة لهم وعن رثائه لنفسه لحرمانه من سرورهم وسعادتهم، وكان خجولًا من لباسه القذر وأقدامه الحافية. يقف بجوارهم ثم يضع يديه خلف ظهره ويبتسم، كأنه يسألهم السماح له بمشاركته إياهم سرور العيد، وليس في ذلك بأس عليهم وهو طفل مثلهم، يبكي إذا ألم به ضر ويضحك إن نال ما تصبو إليه نفسه، وأنَّى له أن ينال بغيته وهو يتيم توفيت أمه بعد ولادته بخمس سنوات، ومات أبوه بعد وفاتها بعامين! فعاله عمه، وأين حنو زوجة العم من حنو الأم! مشى الأطفال الهوينا ثم غادروا العطفة، وتواعدوا على العدْو في الشارع الكبير، وجروا فيه أشواطًا عديدة، فسقط أحدهم على الأرض فأسرع إليه رفقاؤه وهم يضحكون كما تغرد العصافير وعاونوه على النهوض من سقطته، فقام وهو كالح الوجه كاسف البال، وقد جال الدمع في عينيه، ولكنه لم ينس أن اليوم عيد وأن البكاء محرم فيه وأن السرور فرض، فما لبث أن نسي سقطته وتناسى آلامه وجرى خلفهم إلى حيث كانوا يقصدون. أما اليتيم فلم ينسَ آلام نفسه؛ تلك الآلام القاتلة التي كانت تدب في جسمه فتطفئ نوره وتذهب بجماله وروائه.

ثم غادر الأطفال الشارع الكبير، ومشوا في العطفة وهم يضحكون وينشدون الأناشيد الصبيانية، إلى أن وصلوا للشجرة الكبيرة، وهناك صاح أحدهم: لقد ابتعدنا عن الشارع الكبير، وهناك تمر الباعة، فهيا بنا نعود من حيث أتينا.

وتسابقوا وقد علا صياحهم في الفضاء.

•••

ومرت في الشارع الكبير في تلك الساعة عربة كارو وقد ركب عليها سائقها، وهو شاب يشبه جسمه المكعب، له رأس له أربعة أركان يشبه مسطحها المربع. ألهب السائق جواده وهو يغني أنشودة بلدية جميلة: «أسمر سمرمر صغير السن لوعني»، ولما اقترب من الخصي قرأه السلام بصوت جهوري، فردَّ عليه الخصي السلام من أطراف شفتيه وهز رأسه كأنه يأسف على تدهور أخلاق السوقة. وعادت الأطفال في تلك الساعة من الشارع الكبير إلى العطفة، وهي ملجؤهم الوحيد، وفي يد كل واحد منهم صفارة اشتراها من بائع يجول في الطرق، وابتدءوا ينفخون في صفافيرهم ويغنون، وتلك لعمري موسيقى تبعث السرور في القلوب، وإن كانت غير شجية لتنافر نغماتها. وقف اليتيم معهم وقد أشجته تلك الموسيقى، واقترب من رفقائه وهم يرقصون ثم رقص معهم؛ إذ لم يكن في وسعه أن يفعل غير ذلك. فنظر إليه أكبرهم سنًّا وقال له بملء فيه: أين رداؤك الجديد يا علي؟

فلم يجب اليتيم وضحك الآخرون.

وقال ثانٍ: أين صفارتك أيها الصديق؟

وقال ثالث: كفاكم رقصًا ولنصفر جميعنا. ليرقص من ليست معه صفارة.

ولكن اليتيم لم يكف عن الرقص، وقد عزَّ عليه أن لا يترنح معهم، وضرب صفحًا عما سمعه كأن لم يعرض به أحد.

وفي تلك الساعة مر أستاذ قصير القامة طويل اللحية، يسير الهوينا في طريقه وهو يداعب لحيته بيده اليسرى ومسبحته بيده اليمنى. فهرعت الأبناء للقائه وهمَّ الخصي واقفًا ثم مشى وقبل يده، بينما كان الآخرون يقبلون أطراف جبته. أما الشيخ فهو رئيس الطريقة النقشبندية؛ وهي طريقة تحتم على أشياعها أن يذكر كل واحد منهم لفظ الجلالة مرة في كل عشرة دقائق، توفي شيخها القديم منذ خمسمائة سنة بعد أن نقشت التقوى على صدره اسم الجلالة، ولهذا سميت طريقته باسم النقشبندية.

ثم مر بائع الحلوى فهرعت إليه الأطفال، وجرى معهم اليتيم ولكنه كان في مؤخرتهم، فمد إليه أحدهم قطعة من الحلوى قائلًا: خذ.

فأشار علي برأسه رافضًا، واستكبر الآخر منه ذلك فألقى بقطعة الحلوى على الأرض، فالتقطها اليتيم وأعطاها لكلب جائع كان يبصبص له بذنبه، وغادر اليتيم رفيقه وقد ارتسمت على وجهه صورة البؤس ممزوجة بصورة عزة النفس، ولحق برفقائه وهو وحيد القلب وإن كان كثير الرفقاء، أما رفيقه الذي أعطاه الحلوى فقد مشى وهو يهز كتفيه ويصعر خده أنفة واستكبارًا.

ثم حانت التفاتة من الأطفال إلى الشارع الكبير فوجدوا محمودًا «الفتوة» قادمًا عليهم، فصاحوا جميعًا: «محمود السبع حضر. محمود السبع حضر.» وصفقوا بأيديهم، فابتسم لهم محمود وكان «فتوة» عطفتهم، وسار في طريقه على مهل ساحبًا أذيال الخيلاء وملوِّحًا بعصاه في الهواء كما يلوح الفارس بسيفه، وكان ضخم الجثة قوي العضلات له في المشاجرات القسط الأوفر والفوز الأكبر، مشهور بين فتوات العطفات الأخرى؛ ولذا لقب ﺑ «محمود السبع».

نظر إليه الخصي نظرة امتهان وامتعاض، فقهقه محمود ضاحكًا حتى استلفت أنظار المارة، وبصق الخصي على الأرض وكان هذا أكبر مجهود يقدر على فعله لإهانة محمود، ثم صاح أحد الأطفال: المصارعة المصارعة خير مما نفعل، ومن يتفوق على نظيره يأخذ صفارته مكافأة له على قوته وشجاعته.

فقال آخر: وليكن محمود السبع حكمًا بيننا.

فقال محمود: بلا شك.

وقال رابع: ولكن عليًّا «اليتيم» لا يملك صفارة.

فصاح الطفل الذي رمى لعلي بقطعة الحلوى: سأصارعه، فإن تفوق عليَّ أعطيته صفارتي، وإن تفوقت عليه صفعته على وجهه أمام الجميع.

فصفق الأطفال استحسانًا وقطب عليٌّ وجهه وشمر عن ساعده، فكنت ترى عند التحام جسمه بجسم رفيقه صورة غريبة على وجه كل واحد منهما؛ الأول: يدافع عن صفارته، والثاني: يدافع عن شرفه. والفرق بين الصفارة والشرف كبير، وتغلب عليٌّ على رفيقه وألقى به على الأرض وهو ممسك بتلابيبه، وفرَّق بينهما الرفاق فقام علي وهو رافع الرأس وقال: أين الصفارة؟

فقال محمود السبع للمغلوب: أعطه الصفارة.

ثم أدار وجهه عن الأطفال وذهب للقاء صاحب له. فأخرج المغلوب صفارته من جيبه بعد تردد ومد يده بها إلى عدوه، فأخذها عليٌّ ووضعها في فمه كما يضع الظمآن حافة الكأس المثلجة بين شفتيه وكأنه امتلك العالم بأجمعه، وما لبث قليلًا حتى ضحك الحاضرون ضحكة استهزاء وسخرية، وكيف لا يهزءون به ولا يسخرون منه وهو ينفخ في صفارة لم يشترها بماله، فألقى عليٌّ بالصفارة في وجهوهم وسار على مهل وهم يصفقون خلفه. وابتعد عنهم فلم يشاءوا أن يتتبعوه خشية أن يفارقوا نهاية العطفة؛ حيث يكثر الباعة، فسار اليتيم الهوينا إلى أن وصل للشجرة الكبيرة، وهناك وقف هنيهة كأنه يفكر ثم جلس في ظل الشجرة وقد أسند ظهره إلى ساقها ونظر جهة اليمين وجهة الشمال، فوجد العطفة قفرة كقلبه، فوضع رأسه بين يديه وبكى وهو يقول: «أماه. أماه. أبتاه.» بينما كانت الأطفال تغني في الشارع الكبير.

•••

ثم أفاق بعد هنيهة فوجد الكلب الذي ألقى بقطعة الحلوى إليه جالسًا عند رأسه يلحس دموعه بلسانه الظامئ.

أغسطس سنة ١٩١٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤