الجنرال أحمد جلال الدين

كان ينبغي عليَّ أن أذكر هذا الفصل في طالعة الكلام على رجوعي إلى الآستانة؛ فإن الجنرال أحمد جلال الدين كان الوسيط بيني وبين عبد الحميد؛ وهو الذي نزلت على داره حين قدومي الآستانة؛ وهو أول رجل قابلته في تلك السفرة. غير أنني تجاوزت عن الإطالة وطويت ذكر أشياء لا فائدة تحتها، فليس لها شأن يستلفت نظرًا أو يسترعي سمعًا.

إني رجعت إلى الآستانة ثقةً بوعد أحمد جلال الدين ألَّا يصيبني بها هوان، فقلت حسبي وعده. ولقد قال لي: إذا رأيتني لا أقدر أن أذود عنك مكروهًا تلطفت في خلاصك وإخراجك من الآستانة. وكلام أهل النجدة ينبعث من الفؤاد وعلى قدر جرأة المرء يكون صدقه، وأحمد جلال الدين جريء الجنان لا يروعه مخوف وإن جلَّ ولا يملأ عينيه خطر وإن عَظم.

رأيت هذا الرجل بموضع لا يرومه المتطاولون، منيع الحمى، مرهوب البطش، نافذ الكلمة، يقيم في بيت تزدحم على بابه الأفواج، فمن حلَّه أمِنَ غارات المطاردين وبات بموئل لا تطول إليه ولا يد عبد الحميد. هذا كلام ربما حسبه قومٌ مبالغًا فيه. كل من أقام بفروق شهرًا واحدًا عرف ذلك، وإنما ثبَّت قدمَي الرجل في موقفه احتقاره الموت وازدراؤه بما كان فيه من جاهٍ رفيع. ولقد حلَّت به نكبة عبد الحميد قبل ذلك، فشد وثاقه وصاحت السلاسل على ساعديه وقدميه، ونُفيَ إلى حلب وأقام بها ما شاء الله أن يقيم، فنصره حقُّه وخذل أعداءه باطلُهم.

هذا رجل ربَّاه السلطان المستبد، أخذه صغيرًا لا يُميِّز الخير من الشر، وأظله بظله وقيَّده بقيوده. فلو نشأ ظالمًا مثله سفَّاكًا للدماء كذوبًا حُوَّلًا قلبُه لمهَّد له العذرَ تعوُّدُه ذلك، ولكنه غلبت عليه البداوة الحرة، وللبداوة حرِّية لا تُطاولها حرِّية التمدين، فغلبت نفسه على وساوس الغرور ونزق الشباب، وعاش صحيحًا بين جرب، وللدهر من العجائب ما لا ترقى إليه العلل. غير أني آخذته على أمور وددت لو سلم منها؛ فقد رأيته مطواعًا للمخادعين، آمنًا عواقب الفتنة من قوم كان واسطة عقدهم وملتقى أهوائهم، ورأيت ذكاءه في التمييز بين الناس دون ذكائه الذي يقدم به على المخاوف. وهذه خلالٌ تؤذي الأحرار وتحرم أكثر الرجال أن يجتنوا ثمرات مساعيهم. على أن أصلها عدم المبالاة والإهوان بالحوادث.

ثم إن أحمد جلال الدين لم يتخرَّج من مدرسة ولم يتعلم من العلوم ما إذا أضيف إلى ذكائه الفطري زاده رونقًا وحباه كمالًا، كل ما عرفه عرفه تجربةً وممارسة. وقد تعوَّد الأناة وروَّض نفسه على مجانبة الطيش. فإذا جرى في مجلسه كلام على أمر لا يعرفه أمسك عن الخوض فيه، ولم يتعسف الرأي كما يتعسفه أكثر الناس، وإذا تكلم في أمر سبق إليه علمه أُعجب به سامعوه إعجابًا.

ولما امتحن عبد الحميد صدق ربيبه وجرَّب إصابة رأيه رمى به الدواهي ففرَّج له غماءها وأزاح مخاوفها، فكان يتكل عليه في شدائده ولا يحبه، وما أحب عبد الحميد أحدًا من الناس ولا أبناءه الذين من صُلبه. ولقد عُرِف لدى العثمانيين باسم «سر خفية»، ومعناه رئيس الجواسيس، وكان ذلك من حظ المظلومين، فكم أنصف منهم من حاق به الظلم، وكم أغضب عبد الحميد ليُرضي فقيرًا لا يملك قوت يومه، وما عهد الناس عليه تجسُّسًا ولا عرفوا له مثلبة تشبه التجسس، والرجل لا يملك اليوم لنفسه ضرًّا ولا لغيره نفعًا، ولو افتريت عليه كذبًا وبهتانًا لما لحقني منه سوء. غير أني أقول لا مرتقبًا جزاءً ولا طالبًا شكورًا. لعمري لنعم الرجل الهمام أحمد جلال الدين.

ولا أنسى ما سمعت منه كثيرًا بمحضر من حاشية عبد الحميد من الكلام الذي يتجاسر عليه حرٌّ من الأحرار. ولقد دعاني ذات يوم إلى منزله وقال لي: بلغني أن قد جاء الآستانة شاب ممن كانوا في جنيف، ونزل متنكِّرًا بمكان في «بيرا» لا أعلم أين هو، والأحرار لا يُخفون عنك أنفسهم، فاذهب وفتش عليه حتى تجده، فقل له إن فلانًا يُهديك سلامه ويقول لك إنه اتصل به أن جماعة من الجواسيس يفتشون عنك. فإذا وجدت سبيلًا إلى داري فلا تُبطئ في الالتجاء إليها، وإذا تعذَّر عليك ذلك قل إني استدعاني أحمد جلال الدين، وأنا لا أذهب إلا مع رجاله. فقضيت يومي أسأل عن الشاب الذي ذكره لي فلم أجد له أثرًا، وأخبرته بذلك في المساء فغمه الخبر، وقال: سأبذل كل مرتخصٍ وغالٍ في معرفة مكانه لأجعله في مأمن من شر أعدائه.

وكانت العداوة بلغت مبلغ الكمال بيني وبين أبي الهدى، فجاءني منه الوعيد بعد الوعيد، وكنت كتبت في سيئاته فصولًا نُشِرت بجريدة الرائد المصري الذي كان يُصدرها بمصر صديقي القديم نقولا أفندي شحادة، وانتحلت لنفسي إمضاء زهير؛ إذ لا يصح لموظف في الحكومة أن يُراسل الجرائد. وقد قلت قصيدة خاطبت بها عبد الحميد أذكرها ها هنا إيثارًا لواقعتها:

ألا اقتلْ، أمير المؤمنين، أبا الهدى
فقد جار في الإسلام ما جار واعتدى
سعى مُفسدًا بين الرعية جاهلًا
فلم يستطع ثم استطاع فأفسدا
تظن به خير ولا خير عنده
وما هو إلا الشر في جُبَّةٍ بدا
رفعت، أمير المؤمنين، مكانه
ليرشد للحسنى وما كان مرشدا
فأكبره قومٌ ودانوا لأمره
وأصبح يُدعَى في البرية سيدا
يقول غدًا يرجو خلافتيَ الورى
ومن ذا الذي يرجو خلافته غدًا
عفاء على العلياء إن رضيت به
وويلٌ على الأمجاد إن هو مُجِّدا
يهددني بالبطش لا دَرَّ دَرُّه
ويعلم أني لا أبالي مهددا
كأنيَ لم أنصب له أمس غارة
أقام لها الدنيا بكاءً وأقعدا
ولم أرمِ فيه من سهامي صائبًا
ولم أجر فيه من سيوفي مجرَّدًا
بلى رعت منه مهجة ذات مِرَّة
وأوقدت فيها الغيظ حتى توقَّدا
… … … … …
… … … … …

فغصته هذه الأبيات فما ساغ له ريق، وأَقْذَتْه فما اغتمض له جفن، وأذكى عليَّ العيون والأرصاد، وأتبعني بجماعة من رجاله ليوقعوا بي في غِرَّة مني. فكلمت في أمره أحمد جلال الدين. فإذا قلبه يتلظَّى عليه غيظةً وحنقًا، فقال لي: هوِّن عليك الأمر، فالخطب أصغر مما تظُن، ودعني أنازله بالبأس ونازله أنت بالقلم.

قلت: هذا رجل شديد الوطأة على خصومه، صعب الكريهة، سابغ الدروع، تصرد سهام راميه وتصيب سهامه. فنظر أحمد جلال الدين إليَّ نظرة ملؤها الأسف وقال: كنت أحسبك أعظم جرأةً مما أرى.

قلت: عندي رسالة صغيرة كتبتها، اسمها «الخافي والبادي في فضائح الصيادي»، وأريد أن أطبعها بمصر.

قال: نِعم الرأي، ولكن على ألَّا تتعرض للسلطان؛ فإني أخاف أن يبطش بك. أما أبو الهدى فلك أن تقول فيه ما تريد على ألَّا تذكر شيئًا غير الحق؛ فإني رجل لا أحب النصر بالباطل. هنالك كتبت رسالتي وبعثت بها إلى مصر مع أخي يوسف حمدي يكن، فطُبِعت، فباع الطابع رحمه الله نسخها. وقد بيعت النسخة الواحدة منها بجنيه، وبقي لي ولأخي من الكسب تعب الكتابة والطبع.

ولقد زرت الجنرال أحمد جلال الدين باشا يومًا، فرأيت عنده الميرآلاي الدكتور عزت بك، وكان عالجني في سَفرتي الأولى إلى الآستانة، فلما رآني أحمد جلال الدين قال للدكتور: أعد على وليِّ الدين ما كنت تقوله لي الساعة. فوجم الرجل، فقال له أحمد جلال الدين: ليس من الرأي أن تخاطبني في رجل وهو غائب وأن تسكت وهو حاضر، وأنت لا بأس عليك، وما على الرسول إلا البلاغ.

قال عزت بك: إن أبا الهدى أرسلني إليك لتأذن لولي الدين في الذهاب إليه؛ وهو يقول لك: لا تخَف عليه، إنه بمنزلة ولدي ولا يصيبه عندي سوء، وما أدعوه إلا لأعاتبه عتاب الآباء للأبناء.

قال أحمد جلال الدين: أعدت الآن رسالتك بمسمع من غريمك، وها أنا ذا أعيد جوابي لك بمسمع منه أيضًا. بلِّغ عني أبا الهدى أن يده لأقصر من أن تصل إلى ولي الدين بشرٍّ، وأنا لا أمنع ولي الدين عن زيارته إذا هو شاءها، ولكنني أمنعه بعد ذلك أن يدخل لي بيتًا. ثم التفت نحوي وقال: وأنت ماذا تريد؟

قلت: أرى ما تراه.

ولقد أظهر أحمد جلال الدين من النخوة ما أوثره له مع أجمل الثناء. أما عزت بك فرجع إلى أبي الهدى وأخبره الخبر، فوقع على فؤاده كالسهم إذا أصاب صميمه، وسكنت عواصف الغضب في فؤاد عدوٍّ لو ظفر بي لأحرقني بالنار.

وكان بنفسي شيء في رجوع مراد الداغستاني إلى الآستانة. وقد اختلفت الروايات فيها، فزعم جماعة أن عبد الحميد استرضاه، وقال آخرون: لا بل التمس هو من الأسباب للرجوع حين نفدت دراهمه. وإذ كان رجوع الداغستاني هو على يد جلال الدين سألته يومًا أن يخبرني بما وقع، فأخبرني أن عبد الحميد استدعاه ذات يوم وقال له: رأيت أن أؤخر إعلان الدستور إلى أجل غير محدود؛ وذلك لأن الأمة لم تكن متهيأة له، فأما وقد عرفت مزاياه وظهر من أبنائها من يهجرون أوطانهم ويستصغرون المهالك في طلبه، فقد آن لنا أن نهَبَهم طِلبتهم. ولكن هذا لا يتم وفي أوروبا مثل مراد وغيره يملئون الصحف ويواصلون الجهاد، ومثلي لا يرضى بأن يقول فيه الناس إنه خاف جماعة من رعيته خرجوا عليه فأعلن الدستور مُكرهًا لا راضيًا. فاذهب إلى هؤلاء الناس وقل لهم أن يرجعوا إلى بلدهم، وليمر على رجوعهم بعض الشهور وأنا أحلف لك بشرف المتقدمين من أجدادي أني أعلن الدستور بعد ذلك.

قال أحمد جلال الدين: فخرجت من عند عبد الحميد وأنا أكاد أطير فرحًا، وقلت في نفسي: لا يوثق بكلام هذا الرجل ولكنه آلى يمينًا لا يحنثها أبدًا. فأدركني الحاج علي باشا رئيس قرناء السلطان إذ ذاك وقال: أمرني مولاي أن أبلغك صدور الإرادة إلى البنك العثماني باعتماد كل ما تطلبه من المال على حساب السلطان، فتبسمت له ابتسامة ازدراء عرف المراد منها، وخرجت ولم أجاوبه بشيء، ولما التقيت بمراد الداغستاني ورفاقه قبِل مراد بغير شرط، إلا أن رفاقه طلبوا المال وقالوا إن علينا ديونًا ولا نستطيع أن نسافر قبل قضائها. ومنهم من رضي أن يكُفَّ عن الكتابة في طلب الدستور على أن يُنقد مالًا يعيش به في أوروبا، وألَّا يُكره على العودة إلى الآستانة. فأديت سفارتي وقلت إنني لم أكلَّف بسماع اقتراح. وقلت لهم: أنا لا أحب الدخول في أمور مالية، ولكنني سأكتب إلى السلطان مطالبكم، ولا أدري إن كان يرضاها أم يأباها، ولما جيء لي بالكتاب وقد كُتِب على ما يريدون أمسكت القلم بيدي وقلت: وددت لو انكسرت يميني ولم أكتب مثل هذا الكتاب. أما مراد الداغستاني فلم يرضَ بالمال الذي أمر به السلطان، ولكنه اقترض مني ألفَي فرنك ليشتري بها بعض الهدايا لبنتيه، وتم الأمر ورجع مراد إلى الآستانة.

وقد أنفق أحمد جلال الدين في سفرته هذه من ماله الخاص نحو العشرين ألف جنيه، ولما سُئِل عن مقدار ما أنفق قال: لم أعُدَّه إلى الآن. إن هو إلا قطرة من جودِ مولاي السلطان. ولم يستعض عن ذلك كثيرًا ولا قليلًا.

وإذ وفَّق الله أحمد جلال الدين إلى استرجاع أكثر الأحرار واستراح عبد الحميد قليلًا من سهر الليالي ومراقبة العباد، وبقي جواسيسه لا يتَّهمون إلا رجالًا ممن لا يخرجون من أسوار الآستانة؛ راع ذلك حُسَّاد جلال الدين وقالوا: لقد فاز عند السلطان أيما فوز، فلا تنفع فيه الوشاية ولا يضره الحسد، ولكن المحاسدين لا يملُّون والأعداء لا يغفلون. وقد عرف ذلك أحمد جلال الدين قبل وقوعه، فقال للأحرار الذين خاطبهم في ترك النضال: إني منذ اليوم من الهالكين؛ أسعى لأرجعكم. وهذا السعي ينفعكم ولا يضركم ويشرح صدر السلطان، غير أن لي أعداء سيجعلون نجحي وبالًا عليَّ. وقد صدق فألُه وجعلوا نجحه وبالًا عليه، وذكروا عند عبد الحميد أن أحمد جلال الدين لو لم يكن متواطئًا مع الأحرار لما استطاع إسكاتهم. وكيف خاب غيرهم في مخاطبتهم وأفلح هو؟! ولِمَ يثق الأحرار بكلامه ولا يثقون بكلام غيره؟! فصدَّق عبد الحميد هذه الأكاذيب وقلب لأحمد جلال الدين صفحته لمَّا رابه أمره، فأذكى له العيون والأرصاد وأقصاه عن حظوته، وتخذه لنفسه محاربًا ولسطوته مغالبًا.

شهدت كل هذا بعيني وأنا إذ ذاك بالآستانة أزور منزل جلال الدين وأغشى مجالسه، ولو بُلي غيره بما بُلي لنجا بنفسه من بين تلك الشدائد، ولاطَّرح عن كاهله أعباء ينوء بها كل قوي النفس صبور على المكاره.

رأيت قومًا يطرقون باب هذا الشهم ويتهافتون على موائده ويتخاطفون هباته، ثم يرمونه بسهام لا تُخطئ. وقد رأيت أحمد جلال الدين قليل التفرس؛ وأهل الجرأة لا تفرُّس لهم، وإنما يتحرَّى البواطن ويستقري السرائر كل قلق الجأش مستطار الفؤاد. فإذا استرسل جلال الدين في حديثه لم يبالِ بمن حضر مجلسه من الناس كرامًا كانوا أم لئامًا. وقد يبلغ عبد الحميد أن جلال الدين قال فيه كذا وكذا، وأنه نال منه بحضرة كثيرين، فيُسِرُّ له الحقد ويُضمر له الانتقام. ولقد انتقم منه بأن سلط عليه فهيمًا المشهور، كان رجاله يطوفون بيت جلال الدين ليلًا حذرين خائفين أن يحسَّ بهم أحد ممن في البيت فيطول همهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤