السجن

ما ذكر امرؤٌ عهده بنكبة حلَّت ساحته وخطرٍ شهد هوله إلَّا تجددت فيه جزعاته وفزعاته، وعادتْه آلامٌ كان استشعر بها في إبَّانات نزول الخطب واشتداد الويل. الآن يُخيل لي أني بسجن الاستبداد، وأني أُعاني ما خِلتُني فرغت من معاناته، ولولا أني قليل الاعتداد بما تأتي به الأوهام وما ينجاب عنه دخان الشك لطال همي وساء عيشي. وما ذاك الذي أذكره رجفان في الروع ولا خور في النفس، ولكنه أثر تستبقيه شدائد الأيام، لكل كارثة منه جانب ولكل فادحة منه سهم. على أني سأزجر فؤادي عن ذكر ما مضى وأنقطع من تلك العظائم إبقاءً لرونق أمل أتلقى به هذا العيش الجديد الذي لبسنا لبوسه؛ فإن تجْرِ الأقدار طوع ما أردنا من الخير فذلك نعم العوض، وإن تحُلْ حوائل الأيام دون استتمام رغباتنا واستقرار أماننا فإن في لذة الادِّكار معوانًا على التأسي. سبحان من جعلني راويًا بعد أن جعلني شاهدًا، وسبحان من أخلى تلك المعاقل بعد أن ظننا حقبة من الدهر أن لن يستفتح الزمان مغاليقها وأن لن يذل جبابرتها.

لكل ذي حياة يوم هو أشهر أيامه. وما في أيامي مثل اليوم السادس من شهر يناير، ولا في أعوامي عام مثل العام الثاني من التسعمائة والألف. طلعت عليَّ طلائع الويل من يومه الثاني وما تلاه يوم إلَّا استجد لي فيه شر، خِلْتُني مجدودًا حتى إذا حيَّاني سنحه تمنيت جذمه. فليذهب، وقد ذهب، لا أعاد الله مثل شؤمه.

أهاب بي سُحْرةً داعٍ من الوجد فاسمع. قلت: ما هذا الذي استفزني من كراي وأنهضني من رقدتي؟ وتقدمت إلى إحدى الكوى وجعلت أنظر منها إلى الحديقة، فإذا الوقت صحو والروض ندي والشجر موقف المتن لا تلويه نسائم، والغصون مجردة من غلائل الأوراق لا تتأوَّد ولا تتعذر، وإذا عصافير تتطاير من أماليد إلى أماليد، برحت وُكُناتها وودَّعت فراخها فهي تتحاوم لتلتقط حبات سقطت من يد الإنسان في غفوةٍ من حرصه، والماء كالماويَّة جلَتها كفُّ الصناع، تتجعد صفحته كلما عبت فيه العصافير بمناقيرها ثم يخف تجعدها ثم يعاودها استواؤها، وعلى متون الغصون قطرات من الظل هي ولا شك بقايا دموع الطبيعة حين بكت بنيها؛ فهاج المشهد بلابلي وأثار أشجاني وكدت أصيح طربًا، وقلت: ندَع مثل هذا ونأوي إلى الأجداث! ولكنني أشفقت على نفسي أن يطغيها حر خافيها، فالتفت ورائي وإذا بُنيتي وأخوها نائمان يرتفع صدراهما وينحطَّان، فصبحت كلًّا بلثمة على جبينه وثب لها فؤادي، وبدرت من عيني بوادر شئونهما، فقلت: دموع بدموع أيتها الطبيعة والبادئ أظلم، ثم أقمت أترقَّب أن يتقادم العهد بالنهار علِّي أجد سبيلًا كانت اشتبهت مسالكها أو أُحدِث رأيًا أدَّرِع به في لقاء الخطر المنتظَر. غير أنني لم أبرح البيت يومي ذلك حتى المساء، فلما أصبت عشائي خرجت أنشد الطبيبة لتصف لامرأتي دواءً وكانت اشتدت عليها أوجاعها.

فركبت التراموي متوجِّها إلى بيرا «بك أوغلي»، ولما هممت بالنزول تبعني رجل لم ألقِ له بالًا. وفي بيرا مطعم يُقال له مطعم طوقاتليان، يعرفه كل من زار فروق في عمره مرة، فما بلغت مكانه إلا اعترضني رجل من الشرطة قائلًا: إلى أين تريد؟

قلت: وما يُعنيك أنت من ذلك؟

– إني أسألك لأني من رجال الشرطة وعليك أن تجيبني.

– أنا ذاهب لأدعو الطبيبة إلى عند امرأتي؛ إنها نُفساء وقد أصابها نزيف من الدم لا يمكن لنا أن نتغلب عليه.

– ما أظنُّك صادقًا، ولا بدَّ من مُضيك معي إلى متصرف بيرا.

– لماذا؟

– كذا أردت وكذا ينبغي أن يكون.

– وإن أنا أبَيتُ المضيَّ معك وقلت لك: ما أنا بالقاتل ولا بالسارق ولا بالمعربد، وليس لي عند المتصرف شغل يدعوني إليه، فما أراك تفعل؟

– آخذ بطوقك وأجرُّك على وجهك حتى أنتهي بك إلى المتصرف.

– أنت لا تعرف من تخاطب ولا تعقل ما تخاطب به الناس. خذ هذه البطاقة واطلبني في داري أو في مكان خدمتي.

– لا حاجة بي إلى بطاقتك، وما اعترضتك جهلًا بك، ولا بدَّ من المضي معي. وما أتم الرجل كلامه إلا رمى بنفسه عليَّ وحاول أن يأخذني من خناقي، فأهويت على يده بعصًا كانت معي فشُلَّت، وعاجلته بضربات كندف القطن، وأخذت منه سيفه فألقيته على الأرض ثم جعلت أدفع الرجل بقدميَّ واستطرده أمامي صائحًا به: سِر، الآن أنا أذهب بك إلى متصرفك، فلما انتهينا إلى باب المتصرفية أخذ جماعة من الأوروبيين يتصايحون: ما هذا؟ ما هذا؟ أكذا يتصيدون الناس في الطرقات ليذهبوا بهم إلى بحر مرمرة!

– ماذا فعل هذا المسكين؟

– لعله سكران، لقد ضرب البوليس ضربًا مبرحًا.

وقد بلغت الشهامة من بعض الأوروبيين مبلغها، فدنا مني وأمسك بذراعي وهو يقول: لا تذهب، وليأخذوك قسرًا إن كانوا رجالًا.

فكثر اللغط بين الوقوف وعلت الجلبة وتكاثف الزحام، فأحاط بي جماعة من الجاندرمة وحيل بيني وبين الناس، فتقدمت إلى باب المتصرفية آخذًا بطوق الشرطي الذي اعترضني، وإذا جماعة من إخوانه يتقدمهم قوميسير اسمه شاكر أفندي هو من أهل «بوسنة سراي»، فلما بَصُر بي دنا مني ومدَّ يده إلى حزامي ليرى مسدسي فيأخذه ويخفيه، وكنت أعزل لا سلاح معي. وقد جفت يمناي ويسراي على أذنَي الشرطي، وإني لأجذبه إليَّ ثم أدفعه ضاربًا برأسه الحائط، فأمسك شاكر أفندي بذراعيَّ وجعل يعالجني حتى خلَّص مني الرجل. وأقبل عليَّ بعد ذلك ملاطفًا ليُسكن ما هاج بي من غضب. وقد جاء أناس من الشرطة فكان منهم من يعنفني وكان منهم من يلاطفني. أما المعنف فآب مزودًا بما قُسم له، وأمَّا الملاطف فكان جوابه الإعراض. وأقبل قوميسير المركز يقول لي: أرى أن تصعد إلى مكان المتصرف وتخاطبه فيما أغضبك؛ فهو أولى بجوابك وأدرى بمواقع الصواب والخطأ مما أتيت في ليلتك هذه. أما نحن فعبيد الأمر نفعل ما نؤمر به. قلت: وأين مكان المتصرف؟ قال: أنا أدلك عليه وأسعى بك إليه، ولكنه لم يرجع من القصر. قلت: سر، فسار وسرت على إثره، وما مضت على انتظاري ساعة إلا وقد أُدخل بي على المتصرف.

أعوذ بالله! وجه كاللَّبِنة وعينان كالبصقتين ولحية كالطحلب وأنف كالسواك، كل هذا يحمله عنق كخصر الهيفاء وجسد كزجاجة ملؤها صبغة اليود. لو صدق ما يُقال عن العفريت وتنقَّب ذلك العفريت بحائط أحد الأطلال لكان دون الرجل قُبحًا.

تجاوزت باب الغرفة، فتلقَّاني المتصرف قائمًا باسِم الثغر بادي الأُنس كأنه صديق لي مقيم على ودي منذ الأعوام. وحين دانيته تبادلنا سلامَين كمن يحثو التراب على رأسه، فأشار إلى كرسي أمام مكتبته وأمرني بالجلوس عليه، ثم ناولني سيكارة وطلب لي قهوة، حتى إذا فرغنا من استنفاد عبارات النفاق قال لي: ما يغضب سيدي؟

– ما ثَم ما يغضبني، اعترضني رجل من الشرطة زاعمًا أنك أنفذته في طلبي، فحاولت مجادلته بالحسنى فلم أفلح، وكان ساعداي أفصح مني كلامًا وأبلغ حجة.

– أترى أنك أصبت فيما صنعت؟

– كلا، إني وقعت فيما نهيت عنه الناس ولُمت على مثله أترابي. غير أني أُكرهت على ما كان مني إكراهًا؛ استفزني ما يستفز غيري، وكما قيل في المثل: سبق السيف العَذَل. وقد كان في سابق خدمتي وإخلاصي لهذا الوطن شفيع لي إذا اشتدت بي الكُرب. غير أن الأمة لا تعرف من يحبُّونها ولو عرفتهم لالتفَّت حولهم ووقفت في وجوه ظالميهم.

– كلما أتونا بمعتدٍ أخذ يجادلنا باسم الأمة، كأن هذه الأمة تختار لنفسها أنصارًا لينادوا باسمها.

– ما أنا ممن اختارتهم الأمة لنجدتها، ولكني متطوع في هذه السبيل، ولا أنا من أنصار الأمة، ولكني أحد أبنائها وجزءٌ من أجزائها.

– ألا ترهب بطش أمير المؤمنين؟

ما نطق المتصرف بهذا الكلام إلا وأثار كل ساكن في جوانحي، فقلت: أهذا مبلغ عرفانك؟ إنك لأحمق. خوِّف بأمير المؤمنين إحدى الدول أو ملكًا من ملوكها، أما أنا فلا جند لي ولا أنا بصاحب تاج. إن أنا إلا واحد من رعيته. ومتى جاز للناس أن يُخوفوا الناس بملوكهم؟! قد كنت أرجو أن تخاطبني بغير هذا الكلام، ولكنك قليل النصيب من الإدراك. تبًّا لك ولأمير المؤمنين الذي اختارك لتجلس على هذا الكرسي. لو أجلس عليه قَرعة لكانت أحمدَ منك لقاءً وأحسن منظرًا.

فنزل هذا الجواب على قلب المتصرف كالمُهل، فضرب بيده على مكتبته وصاح بي أن جاوزت في قلة الأدب حد المغفرة. فما أتم كلامه إلا وقد أكفأته على مكتبته وأهويت بين كتفيه بلكمات (ضرْب الوليدة بالمسحاة في الثأد)، فبدت من الباب وجوه الشرطة ورأيت أني لا محالة واقع في أيديهم، فصحت بهم: إذا تقدم أحدكم نحوي خطوة واحدة تركت لكم هذا الرجل لا حراك به وألقيت بنفسي من الكوَّة على الطريق، ويبقى لكم مني جثة لا روح فيها. فجاء معاون المتصرف وهو أقرب الناس شبهًا «إلى أبي زعيزع» الذي يصنعه الصغار في مصر من الجزر ويصيحون به في لعبهم: «يابو زعيزع قوم صلي، انت صغير ومحنِّي». فأخذ المعاون يلاطف المتصرف بكلام لا أعرفه، والتفت نحوي فقال: لا يليق بمثلك أن يغلبه الحنق. إن البك بمنزلة والدك. فقلت: حاشا؛ إن والدي عاش حرًّا ومات حرًّا. وهذا الذي أمامك لا يكون والد أحد، وأقسم لك إن أبناءه أو بناته ليبرءون منه إلى الله.

فجلس المتصرف وأخذت شفتاه تتحركان بكلام لم أسمعه، ثم رفع رأسه إليَّ وقال: سامحك الله.

– بل أثابني الله.

ثم دعا أحد الكُتَّاب وأسرَّ في أذنه كلامًا لم أسمعه، فغاب الكاتب وعاد وفي يده ورقة أخذها المتصرف ووقَّع تحتها بخاتمه وقال: أرسل هذا في مثل لمح البصر. فلما ولَّى الرجل نهضت واقفًا وأردت الخروج، فقال لي المتصرف: إلى أين تريد؟

– إلى بيتي.

– لا سبيل إلى ذلك الآن.

– وما يمنعني عن الذهاب ولست مسجونًا ولا محكومًا عليَّ بحكم؟

– إذا حاولت الخروج قسرًا منعتك الجنود، ولا بدَّ لك من الانتظار.

– وماذا تريد أن أنتظر.

– إرادة مولانا السلطان الأعظم.

فأيقنت بعد ذا أني وقعت في الشراك، فجلست، وطاف علينا الخدم بالقهوة والسيكارات، واستولى علينا الصمت؛ مجلس تعالاه السكون وأظلَّته دهشة الظلم ووحشة الويل، كالقبر لولا مصابيح تسطع منها الأنوار وأنفاس تتردد بين الجوانح والصدور، ما يعلق الطرف بشيءٍ إلا ورأى فيه صورة الخطب. فلما دقت الساعة دقتها التاسعة بالحساب الشرقي بدا في الباب شخص مشى نحوه المتصرف، ثم غاب كلاهما وبقيت أنا وحدي في تلك الغرفة، فما راعني إلا قوميسير المركز وهو رجل اسمه حسين أفندي يتبعه نحو الستة من أشدَّاء الرجال، فتقدَّم الرجل نحوي وقال: أرجو أن تتبعني.

– إلى أين؟

– إلى مكان ضيافتك، أنت في هذه الليلة ضيفنا الكريم.

– أنا لا أريد هذه الضيافة، وأحب أن أرجع إلى بيتي.

– ترجع إلى البيت غدًا صباحًا.

– ولِمَ لا أرجع الآن؟

– لأن الساعة قبيل الصبح، ولا يجوز ذهابك في مثل هذا الوقت؛ إذ لا نأمن عليك من اعتداء معتدٍ.

– وأين المتصرف؟

– قد ذهب إلى داره.

– وددت لو ذهب أحد منكم ليخبر أهلي بمكاني.

– لك ما تريد.

وبعد هذه المحادثة نهضت واقفًا وقلت للقوميسير أني رهين الإشارة، فمشى أمامي وتبعنا أعوانه. وما زال يطوف بي حتى أنزلني إلى غرفة «المعاينة الطبية»، فأُدخِلت فيها إذ لم يكن هناك موضع هو أشكل بي منها، فلما استقر بي الجلوس جاءني شرطي فقال: إن المتصرف رآك تلعب بقلم من الرصاص كان في يدك فأرسلني لآخذه منك.

– قلتم إن المتصرف ذهب إلى داره، فكيف يطلب الآن قلمي؟

فلم يرد الرجل جوابًا، وأخرجت له القلم فدفعته إليه وذهب عني بسلام. وإذ كان الموسم موسم الشتاء وكان البرد شديدًا ولم يكن بالغرفة التي أُدخلتها كانون ولا نار لتكسر سبرات القر، جعلت المعطف (البلطو) غطائي واعتمدت على ساعدي فنمت.

فلما كان الغد انتبهت من نومي فرأيت في الغرفة رجلين، أحدهما قوميسير وثانيهما شرطي، فلما رأيا انتباهي أقبل عليَّ الأول منهما وسألني أصائم أنا أم مفطر؟ قلت: أفي السجن تريدون أن يصوم الناس؟! أنا مفطر ثم مفطر ثم مفطر. فقال: هل لك في قهوة وسيكارة؟ قلت: قهوات وسيكارات. فأشار القوميسير إلى الشرطي فبادر ثم عاد ومعه القهوة والسيكارات، ولما تعالى الضحى دخل الغرفة جماعة من الشرطة، فتقدَّم نحوي رجلٌ منهم مسلِّمًا وأخذ يعاتبني على ما كان مني في الليل، قال: لقد عذبت نفسك الليلة وعذبتنا معك.

– وكيف ذلك؟

– ما أسرع نسيانك، ألم تجعل المتصرفية كلها مشتغلة بك، وضربت المتصرف وقلت في مولانا السلطان كلامًا لا يليق بمثلك أن يقوله، وما صدقنا أن رأيناك نزلت إلى هذه الغرفة ونمت.

فرد أحد الحاضرين على معاتبي منكرًا وقال: متى تكلَّم البك في مولانا السلطان كلامًا كما زعمت؟! إني كنت حاضرًا فلم أسمع شيئًا مما ذكرت. فأجابه ثالث بأن قد سمعني أشتم السلطان. فلما رأيت تمادي الجدال بين هؤلاء الأنذال التفتُّ إلى معاتبي وقلت: كان ما كان وأنا قلت كل ما خطر ببالي وصنعت كل ما قدرت أن أصنع، وها أنا ذا اليوم رهين السجن، فماذا تريدون مني؟ فلما سمعوا مني هذا الكلام خرجوا من عندي وبقيت مع صاحبيَّ القوميسير والشرطي، وكان القوميسير من أهل «بوسنة سراي»، ذا همة وجد، يأنس المرء إلى محادثته ويعجب بأدبه وحسن أخلاقه، فقلت في نفسي: يا سبحان الله! كيف رمت الأقدار بمثل هذا الرجل الشهم في سلك البوليس؟ ثم علمت أن الحاجة اضطرته، وإنها لتضطر إلى ركوب كل مركب خشن. ولقد قال لي: إن نوبتنا في الجلوس عندك ست ساعات، وسيأتيك بعدنا قوميسير وشرطي فيلبثان كذلك، ثم يأتي آخران إلى أن يمنَّ الله عليك بالخروج قريبًا. على أنني أرى بك ضجرًا ويأسًا ولا أحب أن تستسلم إليهما، الرجال يُعرَفون عند اشتداد اللزبات، وسأطلب الإذن في إحضار أوراق اللعب لنلعب معك ونعينك على ترويح نفسك من أكدارك، فشكرت للرجل ظرفه ولم أخالفه في نصحه كثيرًا.

ولا يسألنَّ القارئ الكريم عن حال من بات ينتظر إيابي في البيت، فذلك يطول شرحه ولا يُستطاع وصفه، وكنت سألت القوميسير أن يُنفِذ أحد أعوانه ليُعلم أهلي بمكاني، وكان وعدني بذلك ولكنه لم يفِ بوعده. ولما أصبحت والدتي وامرأتي ولم أعُد إليهما أوجستا خيفةً وأيقنتا أن أمرًا أصابني، فتوجَّهتا إلى بيت الجنرال أحمد جلال الدين وسألتاه أن يستعلم لهما من القصر، ثم أخذتا تقصدان منازل الكبراء فلم تقفا على خبري، فذهبتا إلى «غلطة سراي»، وجعلتا تسألان عني كلَّ من لقيتاه من رجال الشرطة حتى دلَّهما أحدهم على مكاني وأخبرهم خبري، وقد كان ممن شهدوا واقعتي مع المتصرف، فجاءتا إلى المتصرفية وطلبتا أن ترياني فلم يؤذن لهما بذلك، وبقيت في السجن أيَّامًا لا أرى أحدًا من أهل بيتي ولا أسمع عنهم خبرًا، أقضي أنهاري ماشيًا في الغرفة أو مضطجعًا على المقعد أدخِّن السيكارات وأشرب القهوة ولا أذوق طعامًا، وفي يوم العيد؛ عيد الفطر — وقد وقع في ثالث أيامي بالسجن — جاءني رئيس القوميسيرية من قِبل المتصرف مهنِّئًا لي بالعيد، فغاظني ذلك غيظًا شديدًا، فقلت له، لا هنَّأه الله: أيرى الغبي أني في قصر «طولمة بغجة» مقيم بين أُبَّهة الملك وعزِّ القدرة؟! إن سرَّه اليوم أني مسجون فربما تأتي الأيام بما يطيل إساءته، وما ذلك على الله بعزيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤