صامسون

لما نزلت مع رفيقي كاظم بك إلى البر استقبلنا رجال من الشرطة وغيرهم، وكانوا على انتظارنا، فداروا حولي وأبعدوا عني رفيقي واستبْقَوني وحدي في غرفة من الخشب، فمكثت فيها مدة، ثم عاد كاظم ومعه أربعة رجال من الشرطة، فأُركبنا زورقًا سار بنا حتى قارَبَ دار المتصرفية؛ وإنما أركبوني الزورق ولم يسيروا بي في البر مجانبةً لأعين الناس. فلما دخلنا المتصرفية صعدنا إلى غرفة استرحنا فيها قليلًا، وجاء بعد ذلك رجل صحبني إلى غرفة المتصرف وكان اسمه حمدي بك، فإذا رجل حسن الوجه طلقُهُ قام يتلقاني تلقِّيَ الصاحب لصاحبهِ، ثم أجلسني إلى جانبه وأظهر لي من الأنس والإكرام ما لم يخطر على بالي، وسألني عن سبب نفيي، فأخبرته بما انتهى إليه علمي، فقال: هذه سبيلٌ سلكها كثيرون قبلك وليسلكنَّها كثيرون بعدك، فلا تخف ولا تحزن، أنت ذاهب إلى مدينة سيواس، وفيها يكون مقامك ما شاء ربك. إن طريقًا تؤدي بك إلى النفي لَتؤدي بك إلى الخلاص منه. وأنت في شبيبتك، وميدان الأمل أوسع للشبان منه للشيوخ، فكن جلدًا واجعل أملك في جانب الله ثابتًا. ولو كان في طاقتي خلاصك مما أنت فيه لأغنيتك عن الصبر. غير أني أستطيع أن أستبقيك بصامسون ثلاثة أيام إلى أن يشتد عزمك وأدعك حرًّا تسير فيها كما تريد على أن يصحبك أحد رجال الشرطة حيثما توجهت.

فشكرته بما هو أهله وقلت له: إني أحب التعجيل بالسفر. فدعا بكاظم بك وكبير الشرطة وأمرهما أن يفرِّجاني على البلدة، وأوصى بي كاظم بك خيرًا، فخرجت من عنده متحدِّثًا بمكارم أخلاقه.

فذهبنا إلى أحد الخانات وطلبنا إلى صاحبه أن يعدَّ لنا غرفة نبيت فيها، وحين خلوت إلى كاظم قلت له: أرأيت كيف ظهر كذبك؟

– أي كذب ظهر لك مني؟

– ألم تقل لي ونحن بالباخرة إني أُنفى إلى صامسون؟ وقد أخبرني المتصرف أني أُنفى إلى سيواس. ما حملك — بالله — على أن كذَبتني؟ وهل صامسون أحبُّ إليَّ من سيواس؟ كلا البلدين أنا فيه غريب.

– لو عرفت منك ذلك لأخبرتك اليقين. غير أني خشيت عليك الكمد، فاخترت الكذب ولا فائدة لي فيه.

– دع ذا. إني أريد أن أخبر أهلي بما أنا صائر إليه.

– لا سبيل إلى ذلك. أُمِرت ألَّا أدعك تخط حرفًا على قرطاس، وأنت لا تحب أن يصيبني أذًى بورقة لا تعلم أتصل إلى أهلك أم لا تصل.

– صبرٌ جميلٌ. إن لي في إسماعيل صفا لأسوة، وإن لي في قربه لسلوة.

ثم إننا جُلْنا في البلدة ليلًا، وجيء برجلين من الجندرمة ناما معنا في الغرفة، فما انزاح نقاب الليل عن وجه النهار إلا وقد أُعِدَّت لنا عربةٌ كعربة النعش يسمُّونها «يايلي»، جعلوا لنا بها ما نحتاج من فرش وغطاء، فخرجَتْ من صامسون تؤم سيواس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤