جرائد العثمانيين الأحرار بمصر وغيرها

عشق الحرية أضنى أفئدة العثمانيين، وفي الغرب ناس كادوا يسأمون وصالها، والعشق يصقل الفكر ويبري اللسان ويسيِّر الأقلام، وعلى قدر امتناع الشيء تكون الصبوة إليه «أعز شيءٍ على الإنسان ما مُنِعا.» ولا غرْو أن ابن ورقاء على فننه، والريح في هزيزها، والماء في خريره، والشجر في حفيفه، نعم والرعد في زجله، والليث في زئيره، كلٌّ ينشد الحرية، فكيف ابن حواء وفيه من كل مخلوق خُلق مودع في باطنه بادٍ في ظاهره.

عرفنا «هوميروس» في «إلياذته»، وسمعنا «دانتي» يندب «بياتري»، وفهمنا «شكسبير» من «روميو وجوليت»، وقرأنا «غوطا» في «فوست»، وسمعنا «هوغو» وهو يجهر ﺑ «الأصوات الباطنية»، وتلونا ما جاء به «نامق كمال» في «سلستره»، وأنشدنا مع «شوقي» قوله:

صوني جمالك عنَّا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني

فإذا كلٌّ يغني الحرية وكل يناديها، وهل في العشق ما يستدر عبرة أو يُصعد زفرة لولا امتناع الحرية؟!

ما زالت الحرية — منذ كانت — تطرق باب كل فؤاد فيفتح لها، حتى طرقت باب فؤاد عبد الحميد أكثر من ستين عامًا فلم تقدر على فتحه.

الحرية طافت بلاد الله، فكلما دخلت أرضًا أعتقت المعتقلين فيها، فلما طرقت تركيا اعتُقِلت في سجنها ﺑ «يلديز».

الاستبداد استنجد «فالاريس» و«نيرون» و«الحجاج» و«جنكيز» و«هلاكو» و«تيمورلنك» على الحرية، فهزمتهم معه وقهرته معهم. ولكنه حين استنجد عبد الحميد دام نصره عليها ثلاثًا وثلاثين سنة.

لو لم يكن على وجه الأرض أمم أخذوا الحرية من ملوكهم قسرًا، وإن هذه الأمم تشارك عبد الحميد في استنشاق الهواء لكان غير فانٍ، فأما وقد نالت رعيته الحرية وأنفه راغم فلن تطول أيامه.

كريهان يؤذيهما طيبان: الجُعَل يؤذيه ريح الورد، وعبد الحميد يؤذيه نسيم الحرية.

ولقد حكم عبد الحميد الأجساد ولم يحكم القلوب، اشترى طاعة بعضها برهبة بطشه والرغبة في دنانيره وأبى عليه بعض القلوب؛ وبذا هان عليها سلطانه وحقر فيها ذهبه، فخرج قوم عليه بأقلامهم حين دخلوا حصونًا لا تنالهم فيها أسيافه، فقالوا فيه ما يخلد مع اسمه خلود الدهر، وفتحوا عيون الغافلين إلى عيوبه، وما سكنت العاصفة التي عصفت بأنفاس «كمال» ورجال عهده إلا هاجت غيرها. ولا حاجة بنا إلى ذكر كل صادح وباغم فيتسع لنا الميدان، وحسب القارئ الكريم أن يلم بالأهم فيكفيه طلب المهم.

figure
الشاعر الحر الشهير المرحوم ناربي لوسينيان.

كاتبان من كُتَّاب العهد الجديد من عهدَي الحرية عليهما السلام، أحدهما جاور ربه، وا أسفاه! وهو خليل غانم، وثانيهما لا يزال حيًّا، والحمد لله، وهو محمد قدري.

فأمَّا غانم فهو أبو المقالات الرنانة في جريدة مشورت الفرنساوية وغيرها، جاهد جهاد لا وانٍ ولا متخاذلٍ، واشتدت وطأته على الظالمين فطلبوه بكل حيلة وحاربوه بكل شر، فما فتنوا له لبًّا ولا زعزعوا له جأشًا.

وأمَّا محمد قدري فقد كان يكتب في «المقطم» جريدة العثمانيين، ويذيِّل مقالاته بإمضاء «محمد قدري العثماني»، ثم كتب في جريدة «قانون أساسي» التركية، وجريدة «القانون الأساسي» العربية؛ وهو صاحب الكتاب التركي المشهور الذي سمَّاه «استنصاف». حاول عبد الحميد إرجاعه إلى الآستانة أو إسكاته فأعياه ذلك. وقد قال بطل الحرية «نيازي» في «خواطره» التي نقلها إلى العربية مؤلف هذا الكتاب. إن كتاب «استنصاف» وغيره من كتب الأحرار فتحت قلبه وشددت عزيمته لخلاص وطنه.

ولقد ظهرت جرائد كثيرة في أوروبا ومصر وأمريكا، واتَّحدت كلها في الحملة على حكومة الاستبداد والمطالبة بما للأمة من حقٍّ مهضوم. وأسس هذه الجرائد واشتغل بتحبيرها وإفاضة الحكم فيها جماعة من نجباء العثمانيين وأُولي الرأي والمنزلة الرفيعة بين فضلائهم؛ فمنها التي دامت على ولائها للحق وواصلت جهادها في سبيل الحرية، غير مستضعفة في كفاح ولا محجمة في مزدحم، ومنها التي انقطعت عنها وسائل البقاء فسكتت وتركت صيحاتها ترنُّ في آذان الدهور.

وإني لذاكر في هذا الفصل كل جريدة لم أنسَ مبلغ جهادها، وتارك ما لا أذكر وقائعها، وأرجو ألَّا يُحسب ذلك مني سوى زلة زللتها غير مختار. وهذه الجرائد هي:
  • مشورت (التركية والفرنساوية): صدرتا في باريس ثم صدرتا في جنيف، أنشأهما أحمد رضا رئيس مجلس المبعوثان الآن.
  • المشير (العربية): أنشأها بالقاهرة واختصَّ بتحريرها صاحبها صديقي القديم سليم سركيس.
  • عثمانلي: أنشأها في «جنيف» صديقي الدكتور عبد الله جودت، واشترك في تحريرها مع المرحوم إسحاق سكوتي ونوري أحمد وطونه لي حلمي.
  • لسان العرب: كان يحررها المرحوم الشيخ نجيب الحداد.
  • بنتي وجريدة قوقوماو: وهما لجماعة من الأحرار لم يذكروا أسماءهم، وكان عبد الحميد لا يُغضبه شيء مثل كلمة «بنتي»، ومعناها: الأبله الذليل.
  • النبراس: كان يحررها الفاضل الجاويش.
  • بصير الشرق: أنشأها رشيد بك، وكان يحررها مع الدكتور إسماعيل إبراهيم، وكانت تصدر باللغتين التركية والعربية.
  • ييلديرم: ومعناه الصاعقة، كان صاحبها إبراهيم أدهم.
  • جورجونه: كان يحررها الشاعر التركي الشهير أشرف.
  • سنجق: كان أصدرها أحمد صائب، ثم استبدل اسمها فصيَّره «شوراي امت».
  • ميزان: كان يصدرها مراد الطاغستاني بالتركية بمصر، ثم أصدرها في «جنيف».
  • أمل: كان يكتبها المرحوم حسن فهمي.
  • اجتهاد: أصدرها صديقي الدكتور عبد الله جودت بعد أن ترك جريدته الأولى «عثمانلي» وجاء مصر، وكان تقبل أن يكتب فيها بكل لغة، وهي منتشرة إلى الآن.
  • ترك: كان يكتب فيها الدكتوران نجم الدين عارف المناسترلي وشرف الدين مغمومي.
  • قانون أساسي (التركية)، والقانون الأساسي (العربية): كان يكتب فيهما الخواجة محمد قدري العثماني ومؤلف هذا الكتاب.
  • الإنذار: كان يحررها يوسف حمدي يكن شقيق المؤلف أيضًا.

وقد ظهرت بأوروبا وأمريكا جرائد جليلة القدر عظيمة الخطر، مثل: «كشف النقاب» التي كان ينشرها بباريس الأمير أمين أرسلان، و«كوكب أمريكا» و«الأيام» وكلتاهما صدرت بأمريكا.

كل هذه الجرائد طالبت حكومة الاستبداد بحرِّية الأمة وشدت في ذمِّ ظلم عبد الحميد ودعته إلى الإنصاف، وخاطبت العثمانيين في الانتباه إلى ما هم صائرون إليه؛ فطاردها الظالم مطاردة من لا يعرف السأم، وأكثرَ من اتخاذ الجواسيس، وجعل المراقبة الشديدة على البريد، وبالغ في منع هذه الجرائد من الدخول في البلاد العثمانية لكيلا يقرأها أفراد الأمة فيتنبهوا إلى أعماله، ويكونوا مع الأحرار يدًا واحدةً عليه، ثم حاول أن يستغوي من يكتبون الصحف وأن يستجلبهم بالمال، وتمكَّن من نيل مأربه مع البعض منهم ولم ينجح مع الآخرين.

أما «مشورت» فكانت من حزب الإصلاح الديني، ومثلها «ميزان»؛ فإن صاحبَيهما ما استعانا على عبد الحميد إلا من الوجهة الدينية، و«القانون الأساسي» كذلك، وسبب اتخاذها هذه الخطة أنه لم يمكن مخاطبة العثمانيين إلا باسم الدين، وا أسفاه.

أما «عثمانلي» و«اجتهاد» و«المشير»، فكانت جرائد من الطبقة الأولى. وقد سبقت لي مناظرات مع صاحب «المشير» قبل دخولي في فريق المطالبين بالحرية، أظهر فيها من قوة الحجة وحسن البيان وشدة النفس ما خيَّل لكثير من الناس أننا أعداء، وما كانوا يعرفون أننا نقضي أكثر أوقاتنا معًا على أحسن ما يكون من الإخاء. وسليم سركيس رجل يندر مثله في رجال الصحافة، وكانت جريدته محبوبة عند أولي الذوق السليم مطلوبة من ذوي الأدب والظرف؛ لأن صاحب «المشير» كان يتخير الفصول ويجيد الكلام، فما ظهر عددٌ من جريدته إلا رأيت فيه كل ما يطيب للنفس ويخف على السمع. وإنه لشهمٌ جريءٌ، إذا جاءه وعيد زاد إقدامًا، وإن سيم في ذمته أعرض عن النفائس إعراض الكريم؛ فهو من أنصار الحرية الذين يفتخر بهم الوطن. هو صحافي منذ أكثر من عشرين سنة، يشهد له «لسان الحال» و«المشير» و«المؤيد» و«مجلة سركيس». ولقد عانى من مطاردة الحكومة المستبدة ما لا يصبر عليه سواه، بعثت وراءه من يغتاله قتلًا فسلَّمه الله من شره، وطلبته من الحكومة المصرية فكانت قلامة ظفره أمنع من عقاب الجو. وقد سُجِن مرتين فلم يزده السجن إلا رفعةً في عيون الفضلاء.

والسجن إن لم تَغْشَه لدنيئةٍ
سوآءَ نِعْم المنزل المتودد

وأمَّا «ميزان»؛ فإن صاحبها مرادًا رجل له علم بالتاريخ؛ وهو معدود من الطبقة الثانية من الكُتَّاب. جاء مصر وللناس فيه ثقة وللحكومة العثمانية منه وجل، فكانت «ميزان» كالصاعقة المنقضَّة على رأس عبد الحميد، منعته الكرى وكادت تفلح فيما تسعى إليه. دعا عبد الحميد ناظم باشا ناظر الضبطية إذ ذاك إلى قصر «يلديز» وقال له: ما أكبر ذنبك وما أصغر همتك! أمرتك أن تطارد كل من يقرأ «ميزان»، والتقارير تأتيني بأنها تجيء إلى فلان وإلى فلان، أَكَذا طاعتك لسلطانك؟! قال ناظم: يشهد الله والناس بما أجدُّ في مطاردة «المفسدين»، ولكني لا أدري ما أصنع، وكلما أمرت رجال الشرطة بالانتباه وإدمان النظر في ذلك؛ وجدت نسخ «ميزان» في جيوبهم. وخرج ناظم وهو كاسف البال ضائع الرُّشد.

غير أن مرادًا كان معجبًا بنفسه متكبِّرًا دائم الازدهاء، لا يدين للحق فلم يُحسن البداية ولا النهاية.

وممن الجرائد التي عوضت ما خسرته الأمة بفشل «مشورت» التركية وخيبة صاحبتها «ميزان»؛ جريدة «عثمانلي» سابقة الذكر. وقد كان تأسيسها في سنة ١٨٩٧، ثم تلتها اجتهاد ولغتها تركية، وكانت تقبل كل مقالة تأتيها بأية لغة كانت. وصديقي الدكتور عبد الله جودت هو مؤسس «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية» وسكرتيرها، وإنه لمن الفضلاء الذي يزيِّنون عقد الحرية، ما شئت من أدب رائع وخلق مطبوع ونفس صريحة وعقل راجح وضمير لم يتطرقه الرياء ولم تهتدِ إليه الأهواء، حرٌّ متناهٍ في حريته، يقول الحق ويعلم أنه ضائره، فلا يبالي عاقبة ولا يخشى حسابًا.

و«القانون الأساسي» كان له شأنٌ يذكر، ففيه سيَّرت هذا القلم مجاهدًا، وقلت لعبد الحميد: «فلأهزنَّ به أركان قصرك هزًّا»، فلم تدعني الأيام أصدق وعدي وأقوم بوعيدي، وهزَّت «يلديز» وأمالت عماده قنابل الأحرار. فإذا كان دويُّ رعودها رجْع ما صرَّت به الأقلام، فالحمد لله ولا فخر، وإن كانت منبعثة من أفئدة أمة أجملت الصبر حتى تنفست عن البارود، فالفخر أعظم.

وجريدة «الإنذار» التي كان يكتبها شقيقي يوسف حمدي يكن كان لها دور وله شأن؛ فكم بالقصور من أعداده، جُمِعت من «العتبة الخضراء» ورُفِعت إلى العتبة العلياء. وأذكر هنا منها هذه الأبيات التي قالها صاحب الإنذار في العدد الرابع الصادر في سنة ١٣١٧، وفيها إشارة لا تخفى على اللبيب، قال:

إذا صحا النائم من نومه
وهمَّ ذو الهمَّة في يومه
عادت لنا أيامنا مثل ما
نرجو وعاش المرء في غُنمه
يا قوم هبُّوا هذه رقدة
طالت وذو الإثم على إثمه
حكم رشاد الدين مقصودنا
وإنما الإقبال في حكمه
فليحتكم هذا وظلَّامنا
أراحنا الرحمن من ظلمه

كانت هذه الصحف حجة على الغرب تدحض ما يُتَّهم به الشرق من خمول واستسلام للظلم. كان الشعب العثماني يئنُّ فتُكذِّبه ملوك أوروبا وساستها الذين اشترى قلوبهم عبد الحميد بمال الرعية، فيخطبون على منابر التمدين بما يعظِّمون به الظالم في عيون من لا يعرفون ظلمه، وهذه الجرائد تقول لأولئك العظماء: أنتم غير صادقين، وتبين لهم وجوه ظلاماتهم، مستندةً في دعواها على الظاهر من الأعمال دون الخفي، ثم كان لأصحاب الصحف العثمانية الحرة أحبة وأعوان يحتالون في إدخال تلك الصحف في الأقطار العثمانية بوسائل دقَّت عن أفهام المراقبين والجواسيس، وكانوا يُطلعون عليها كل من يأمنون جانبه ولا يخشون منه وشاية من خلطائهم، فتُحدث أقوالها الحقة في نفوسهم ما لا يُحدث الغرام، وتلعب بألبابهم كما تلعب بها بنت الكرم؛ وبذا بات الأكثرون من عقلاء العثمانيين متحدين قلوبًا وآمالًا، متواطئين بلسان الحال على احتقار العصر الحميدي.

ويشهد الله وكلُّ محبٍّ للحق أن إخواننا العرب؛ لا سيَّما مسيحيي السوريين منهم، كانوا أشد الناس ضجرًا وأعظمهم أنفةً من احتمال الذل؛ فهم الذين تاقت نفوسهم إلى الفضيلة العصرية من وراء حجب الاستبداد، فأقبلوا على مصر وعلَّموا إخوانهم المصريين إنشاء الصحف واتخاذ المطابع واحتراف الأدب العصري واصطفاء الحرية. هذا مع أنهم محرومون في بلادهم من التمتع بمثل هذا النعيم. غير أن حب المعالي في أكثر النفوس طَبعٌ لا تطبُّع؛ وإلا فمن علَّم الطير ترجيعه، ومن وهب البلبل حب الورد؟ ولمَّا طال عليهم احتمال الضيم هجروا أوطانهم وضربوا في أقطار الأرض يجوبون قاصيها ودانيها، يحلُّون من منازلها آهِلها وخاليها، أعوانهم عزائمهم وبضاعتهم عقولهم، فحيث عثرت جدودنا انتهضت جدودهم. فكان «المشير» وهو جريدة أسبوعية صاحبها غني علمًا فقير كيسًا، منتشرًا كجريدة يومية، فتذهب نسخه البرازيل وفيلادلفيا وسائر أقطار أمريكا وأوروبا وآسيا، والبلاد العثمانية كان يدخلها في غفوة من أعين الرقباء، وكان يراسله بعض الأعالي من رجال القلم ورجال الرأي ممن لا أصرِّح بأسمائهم إذ لم أستأذنهم في ذلك، وما لبث المشير أن أعاش صاحبه وعاش بفضل صاحبه.

وجرائدنا التركية لم تدم كثيرًا، إذ لم يكن في مصر والبلاد الخارجية أناس كثيرون يقرءون اللغة التركية، والذين يقرءونها أو يفهمونها من الأتراك الذين استوطنوا مصر من الأزمان السالفة لا يهمُّهم من السلطان إلا كونه سلطانًا، وهم يعتقدون أن لا حق للأمة في مشاركة الملوك في أعمالهم، وأن الرعية عبيد للملوك، أُمروا بالطاعة لهم وإن ظلموا، والشكر وإن أساءوا. يتحدثون بذلك في مجامعهم، وبأيديهم السِّبح، وأمامهم النارجيلات (الشيشات)، يمتصُّونها حتى تستطلع حبابها. يُؤتى لهم بالشاي منقوعًا وبين يديهم جماعات من المشايخ منهم المدَّعون لعلوم الكيمياء القديمة، ومنهم أولياء الله الناطقون بالغيب «بالسرياني»، ومنهم المتصوفون من أتباع الرفاعي والكيلاني ومحيي الدين العربي والبكطاشي والمولوي، ومنهم أئمة الشرع ورواة الأحاديث والمفسِّرون. كل هؤلاء يكفِّرون الأحرار ويدعون لعبد الحميد، ويمدُّون أنامل أكلت أطرافها حبات السبح، يجرُّون بها دراهم أعوانهم عدًّا بطلًا وجشعًا ولؤمًا، كانوا يؤثرون حب عبد الحميد على حب العادل الحميد.

فمَنْ من هؤلاء القدماء الصلحاء الأتقياء يشكُّ في صدق الحاج السيد الشيخ زيد مثلًا وهو لابس عمامة كأنها كيوان، وفي يده عصًا كأنها عمود الصبح، وعليه جبة خضراء كأنها ملاءة الربيع، وفي رجله خفَّان أصفران كأنهما سفينتان من النحاس الأصفر، وفي عنقه سبحة هي أطول من ألفية ابن مالك، ثم يصدق ما جاء به سليم سركيس وهو رجل مسيحي ما قرأ على شيخ، أو يؤمن بما يقول به غيره من أحرار الترك والعرب، وهم متعلمون في أوروبا أو البلاد العثمانية على معلِّمين أتوا بهم من أوروبا. والمسلمون من إخواننا المصريين كانوا ولا يزال أكثرهم متمسكين بتلك الآراء القديمة. فأحرِ بأولئك العثمانيين المقيمين وراء جبال الأناضولي ألَّا يعرفوا من الدنيا إلا مقدار ما يرون في بلادهم. كل هذه المصائب كانت عوائق دون نجح المجاهدين من الأحرار.

قلت إن صُحف المجاهدين كانت تنتهي إلى من يقرءونها من أنصارهم في غفلة من عيون الرقباء، ولم يكن ذلك دائمًا؛ فكثيرًا ما وقعت بأيدي قومٍ من الكاشحين تسابقوا بها إلى قصر الملك وأسلموها إلى حمَلة العرش، وأسلموا من جاءت من أجله إلى الزبانية الموكلين بتعذيب العباد، فأُلقيَ منهم في البحر من أُلقيَ وسُجِن من سُجِن ونُفيَ من نُفي، بل ربما تذرَّع قومٌ إلى نيل أمانيهم باتهام آخرين زورًا وبطلًا وادِّعائهم بأنهم يراسلون أصحاب «الأوراق المضرَّة» أي الصحف الحرة، فباءوا بالهبات والوسامات والرتب. وقد فتح هذا الترغيب باب التنافس في مصر بين من يحبون الرتب والألقاب من سراتها وأغنيائها، فتزاحموا بالمناكب عن ابتياع ما ينشره الأحرار من الجرائد والكتب، يجعلونها في صناديق عليها أقفال من الحديد، يرسلونها إلى القصر الحميدي أو يستصحبونها معهم ليتقدموا بها إلى معبودهم الفاني. ورأى ذلك بعض السفل فتشبَّهوا بالأحرار في إنشاء الصحف وتأليف الكتب. ولقد كان أكثرهم لا يعرف الكتابة، فيستكتب غيره بأجر يسميه له، وعشاق الرتب يجزلون لهم العطاء ويكتبون إلى القصر السلطاني أنهم ساعون في إسكات المفسدين أعداء «أمير المؤمنين»، وأنهم استرضوا فلانًا وسيرتضون فلانًا.

ومما ينبغي أن يُدمج في كتابي هذا ليتلوه أخلافنا على ممر الدهور أن دار الإمارة المصرية كان لها في هذا المعترك راية القائد؛ فقد سال منها النِّضار حتى فاض عن الأكف وعلق بالأقدام. وكم من بريدٍ بين مصر وفروق يروح واحد ويغتدي واحد، وكم من رسائل وسفراء أحسنوا البلاغ وانقلبوا فائزين. يا رُبَّ صندوق ترى ظاهره فتخال به ذخائر وتحفًا وهدايا مما يُهدى به الملوك، وما حشوه إلا أوراق مشتراة غُلِب عليها كاتبوها أو أُخِذت ممن لا يحرص عليها لولا الخير المفاض.

ومن أجل هذا قامت الحرب عَوانًا بين الإمارة والأحرار كما سيجيء خبره في الفصول الآتية واشتد النزاع.

وبينما تدور هذه الأدوار إذا بأنور ونيازي بطلَي الحرية وغيرهما من حُماة حقيقتها وخُلَصائها يتدبرون ويفكرون. وإذا كانوا تورَّثوا من نامق كمال وفضلاء زمانه قليل كتب وأخبار، بعثت نجدتهم وحثحثت نخوتهم، جاءتهم هذه الصحف الحرة كالأدوية للمرضى، ولكنها شفتهم من داء الخمول وابتلتهم بداء العشق، عشق الوطن وهو أقتل للأجساد وأحفظ للنفوس.

قد استشفيت من داءٍ بداء
وأَقتَلُ ما أعلَّك ما شفاكا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤