وقْع ما كتبه الأحرار على دوائر الظلم بالآستانة

لم يهمل عبد الحميد شاردةً ولا واردةً مما كتبه الأحرار في صحفهم وأسفارهم إلا أحاط به خبرًا وأحصاه عدًّا، ونظر فيه وتأمَّل قريبه وبعيده، وفكَّر في جليِّه وخفيِّه. فما رآه حجة عليه تلطَّف في إزالته غير مُظهر أنه أزاله خشية من هجاء الأحرار، وما لم يكن كذلك تركه على أصله غير مبدل من حاله شيئًا. ولكن أمرين كانا شديدين على نفسه شهوة ولزومًا: إعلان الدستور والتخلي عن الاستبداد. هذان أمران ما حدَّثته نفسه أن يُرضي فيهما الله ولا عباده، وكان كلما ذكر له خصومه مثلبة من مثالبه غلت مراجله وهاج غضبه في خوف تبدو على وجهه آثاره وإن بالغ في تكتُّمه.

ولقد قال الأحرار في صحفهم إنه منع الجرائد العثمانية عن ذكر اسم «محمد» عند الكلام على النبي وكان الأمر كذلك، ولكنه لما رآهم يُكثرون من تعييره بهذا الأمر انتهى عنه، وذكرت الجرائد بعد ذا اسم النبي صريحًا؛ وإنما أراد بفعلته هذه تكذيبهم ليُحدِث الشك في قلوب من يقرءون أقوال الأحرار.

وقالوا عنه إنه يخاف أبا الهدى؛ لأن عنده صورة فتوى بخلعه مختومة بخاتم شيخ الإسلام المرحوم الشهير «عرياني زاده»، وأن أكثر الداخلين في الطريق الرفاعي ينتصرون لأبي الهدى. فلما بلغه قولهم هذا أضمر الشر لشيخه المحبوب. وفي ذات يوم أمر به فجاءه وبين يديه بعض الوزراء والمقربين، فقال له عبد الحميد: بلغني عنك أنك تفهِّم الناس أني أخافك على نفسي، وأنك تقدر على مناوأتي. هذا وأنت غرس نعمتي وإن قدرك لأحط عن أن يسمو إلى تراب قدميَّ، ثم بصق على وجهه وأخرجه من حضرته، وبقي بعد ذلك أبو الهدى شهورًا لا يُطرق له باب ولا يُوطأ له بساط.

ومن هذا القبيل ما أورده هنا على سبيل الفكاهة وتتمة للفائدة؛ وهو أن عبد الحميد كان اتخذ «منيرًا» سفير الدولة العليَّة في فرنسا سابقًا، سيفًا يضرب به الأحرار، فكان سفيره وكان جاسوسه أيضًا، وكانت ظهرت في «جنيف» منذ عشر سنين قبل الآن جريدة هزلية تصويرية باللغة التركية تُدعَى «به به روحي»، وصدر عدد من أعداد هذه الجريدة وفي الصحيفة الأولى منها صورة عبد الحميد. وقد جلس على كرسيه وأمامه رجل من بطانته في يديه صندوق كبير عليه عدد كثير من طوابع البريد، وتحت الصورة هذه المحادثة:

حامل الصندوق : أرفع إلى أعتاب مولاي الأعظم هذا الصندوق الذي أرسله عبده المخلص «منير بك» سفير الدولة بباريس؛ فقد أودعه كل ما استطاع جمعه من «الوريقات المضرة» التي ينشرها «الزون ترك» أعداء الدين والدولة لتصدر إرادته الشاهانية بإحراقها.
عبد الحميد : لا تزال التجارب تزيدني كل يوم إعجابًا بمنير وثقةً بولائه، وليت لي كثيرين مثله يغالبون أعدائي ويتقدمون إليَّ بصدق الحب والولاء، فأُجزل لهم المكافأة وأحبوهم المزيد. هلمَّ إلى هذا الصندوق وافتحه لأنظر ما فيه من عجائب هؤلاء الأغرار.

وفي الصحيفة الثانية من ذلك العدد، عبد الحميد وقد استلقى على ظهره فوق كرسيه وفتح ذراعيه وقطب حاجبيه وامتقع لونه وبرزت مُقلتاه وانقلب وجهه فكأنه إسفنجة مبتلة، والصندوق مفتوح وقد خرج منه صاحب «به به روحي» وفي يمينه مسدس يصوِّبه إلى صدر عبد الحميد، ورجل بطانته باهت عاضٌّ بسبابته، وتحت الصورة علامة الاستغراب تتلوها أصفار كثيرة، هكذا: !٠٠٠٠٠٠٠٠.

ولما وقعت هذه النسخة بيد عبد الحميد كتب إلى «منير» يأمره ألَّا يرسل إليه صندوقًا كما تقدم ذكره إلا بعد أن يتحقق بنفسه مما فيه، وأن يُحكم قفله ويختم بخاتمه!

وكان لما يكتبه الأحرار وقعٌ آخر في نفس عبد الحميد، أدركه كل فطن عارف بأحواله ومختبر حقائقه. وذلك أن الأحرار كثيرًا ما كانوا يُشِيعون في جرائدهم أنه مريض، وأنه يودُّ أن يعتزل الملك، فكان يُبادر إلى تكذيبهم في جرائده لأنه لم يكن يرضى أن يُشاع عنه أنه مريض ولا أنه على نية الاعتزال.

وكان الأحرار يختلقون أنباء لا أصل لها، فيكتبون في صحفهم أن فئة منهم على أحسن أهبة وسلاح سيظهرون قريبًا بالآستانة، فتذهب جماعة منهم لاستخلاص السلطان مراد، وكان معتقلًا بقصر «جراغان»، وتذهب جماعة إلى خلع عبد الحميد وسجنه مكان مراد. فتصل هذه الصحف الآستانة، فتقوم لها القيامة ويشتد الهول، ويطفق رجال الشرطة يتراكضون يَمْنَةً ويَسْرَة صُعُدًا وصببًا، يطلبون تلك الفئة التي أخبرت عن ظهورها الجرائد الحرة، فما رأوا نفرًا متجمعين إلا انقضُّوا عليهم وأمسكوا بتلابيبهم وجرُّوهم إلى رؤساء الشرطة يستنطقونهم. فكان هذا وما ماثله من الفصول المضحكة في مرسح الإدارة الحميدية.

وكان عبد الحميد وأعوانه يتسلَّون عن إدراك أمانيهم في جلب الأحرار والانتقام منهم بأن ينتقموا من إخوانهم الذين هم في قبضة أيديهم، فما اتُّهِم أحد من أولئك المساكين بمراسلة الأحرار أو أخْذ صحفهم أو الكلام عنهم تلميحًا أو تصريحًا إلا أخذوه إلى دار التعذيب، فأثقلوا قيوده وشدُّوا وثاقه وأروه من صنوف الأذى ما يقضي به نحبه بين أيديهم. وإنما كان يجرؤ عبد الحميد على تلامذة المدارس ممن لا يتوسم فيهم القدرة على الكتابة ولا على الهرب، وكذلك من لا شهرة لهم من صغار المأمورين. أما الذين يبلغه عنهم أنهم من رجال القلم ومشاهير الكُتَّاب فيكفيه منهم أن يتوعدهم ويبثَّ لهم من يراقبهم ويأتيه أخبارهم، وربما ضاقت الحال ببعض الأدباء ولم يجد سبيلًا لاستزادة راتبه، فيكتب إلى عبد الحميد يقول له: إن اشتداد الأزمة عليه ومراقبة الجواسيس له وتكاثر الأعداء يضطره إلى ترك وطنه واختيار الغربة، وأن مثله لا يعاني كبير كدٍّ في الاسترزاق بعلمه وفضله إذا يمَّم أرضًا يعيش في أكنافها أمثاله. فإذا اتصل هذا الوعيد المستظرَف بالملك الأحمر بادر لوقته فاستدعى المُتوعد إلى قصره وأجزل عطاءه ورفع درجته ووعده خيرًا.

كان فخري بك المصري متَّهمًا عند السلطان بأنه من حزب تركيا الفتاة. ولقد سأل السلطان مرارًا واستعطفه كثيرًا ليأذن له بالسفر إلى مصر ليصلح شئونه ويتعهد أراضيه وأملاكه، فظنَّ السلطان أن فخري بك يريد السفر ليتَّحد مع الأحرار في محاربته. وإذ كان فخري من أهل الثراء والفضل أيقن عبد الحميد بصحة ظنه، فلما زار الآستانة سمو الخديوي في سنة من السنين توسَّط في الاستئذان لفخري بك، فنال الإذن وأحضره معه على يخت المحروسة. فانتبه لذلك أحد الأدباء الفقراء، ورأى فرصة لا تسنح كثيرًا، فاستكتب أحد المصريين الذين كانوا هربوا من مصر إلى الآستانة تقريرًا يقول فيه للسلطان: إن الكاتب المعروف فلانًا كتب كتابًا إلى فخري بك المصري يعده فيه بالسفر ليلحق به، وأن قد جعل فخري راتب ذلك الكاتب عشرين جنيهًا شهريًّا، وأن الكاتب على أهبة السفر. وقال: إذا كان أمير المؤمنين يشكُّ في صدق عبده هذا فما عليه إلا أن يصدر أمره إلى إدارة البريد العثماني في «غلَطة» ولا يلبث أن يُؤتى له بذاك الكتاب، فأخذ المصري المتجسس تقريره ورفعه إلى عبد الغني (آغا دار السعادة) إذ ذاك، فصدرت الإرادة إلى إدارة البريد، وجيء بالكتاب وظهر صدق الجاسوس، فجاءه شكر من السلطان على إخلاصه ولم يُحسِن عليه بعطية أبدًا، وجيء أيضًا بالأديب المتهم وسُئل عن الأمر، فاعترف معتذرًا بشدة الحاجة وما يُعانيه من ضيق ذات يده، فأمر له السلطان بعطية سَنِيَّة قدرها خمسون جنيهًا وأدخله في إدارة الأملاك السنية براتب لا يقل عن العشرين جنيهًا، فلما بلغ الجاسوس ما جرى أسرع إلى صاحبه فهنَّأه وطلب له المزيد، ثم قال له: كنت وعدتني بأن تعطيني نصف ما تأخذه من السلطان. وقد أخذت خمسين جنيهًا، فهات لي النصف.

الكاتب: لم يجر بيننا كلام مثل هذا، وإني لأنهاك أن تعود إلى مطالبتي بما ليس من حقِّك.

ففارقه الجاسوس ساخطًا ناقمًا، وذهب من ساعته إلى قصر عبد الحميد وأخبر عبد الغني أن ما أتاه به أول مرة كان تواطؤًا بينه وبين الكاتب، وأن لا مخابرة بينه وبين فخري بك، فلم يُجدِه اعترافه هذا نفعًا ولم يُلحق بالكاتب ضررًا، وخرج من القصر مطرودًا، وما بقي له إلا إثم التجسس.

ولما استمر مراد الطاغستاني على إصدار «ميزان» بمصر ثم «جنيف»، ونشر في جريدته أحاديث جرت في «يلديز» بين خاصة عبد الحميد، وأخذ يسمو إلى أن نشر أحاديث جرت بين عبد الحميد نفسه وبين مقربيه، غير مضيِّع منها حرفًا، كبُر الأمر على المستبد وعلى رجاله، فداخله الريب حتى في أمنائه، وشك المقربون بعضهم في بعض، وزادت الوشايات عن ذي قبل؛ فلا الصديق يثق بصديقه ولا الوالد يأمن على سرِّه ولدَه، وعظُم الوجل واشتد الحرص في القلوب. فلمَّا كثرت الظنون وتنوَّعت أخذ البعض يذهب إلى أن لمراد رجالًا حتى في قصر السلطان يوافونه بأخباره، وزعم بعضهم أن بالآستانة بل بقصر الملك جمعية خفية تتآمر على اغتيال عبد الحميد؛ فمن قائل إن ولي العهد هو رئيس تلك الجمعية، لا بل رئيسها هو المشير فلان أو الوزير فلان، وكثرت تقارير الجواسيس على عبد الحميد إلى أن عجز عن استيفاء قراءتها كلها.

figure
صاحب القانون الأساسي العثماني وشهيد الحرية مدحت باشا.

وقد طمحت نفس الاستبداد إلى أكثر مما تقدم؛ وذلك أن عبد الحميد كان اشترى بعض الصحف الأوروبية والعثمانية، وخصَّص لأصحابها رواتب لتدافع عنه وتحارب له الأحرار. وهذه الجرائد المشتراة بدماء العثمانيين لتكذب على العثمانيين وتمتهن العثمانيين موجودة إلى اليوم، لم تحتجب منها إلا قليلات كانت تبدو بمصر، وكان أصحاب هذه الجرائد يذهبون إلى الآستانة كل عام، فيقضون بها أيَّامًا وشهورًا يحتالون على عبد الحميد، فيسرقون دراهمه، ويحتال هو عليهم فيسرق قلوبهم، وكلٌّ يظنُّ أنه يغش صاحبه، وكلٌّ صادق وكلٌّ كاذب نفسه. إلا أن عبد الحميد انتصر على الأحرار بهذه الجرائد؛ فلقد احتقرها أكثر الناس استخفافًا بأربابها ورموها تحت أقدامهم، ولكن الذين فعلوا ذلك هم العارفون بمن يصدرونها، الواقفون على أحوالهم وسيرهم. أما القاطنون في البلاد البعيدة ممن كانت تُرسل إليهم ولم يعرفوا عن أصحابها إلا ما يرونه على رأس الجريدة كقولهم «صاحب الامتياز هو سعادة فلان» أو «يقوم بتحرير هذه الجريدة هيئة من مشاهير الكُتَّاب ورجال السياسة … إلخ إلخ.» فلا عجب إذا انخدعوا بهذه الألقاب والجمل الساحرة. والعثمانيون القاطنون صميم الأناضولي أقرب خلق الله إلى الانخداع.

اضطر عبدَ الحميد وأعوانه إلى ركوب هذا الشطط تخوُّفه من جرائد الأحرار، ثم تألُّمه مما كان يُكتب فيها عنه.

وقد شاهد المنقطعون إلى تحقيق الأمور أن أكثر المأمورين العثمانيين كانوا يستحون مما يكتبه فيهم الأحرار، وما يصفونهم به من الخمول والجهل والتذلف إلى الرؤساء وعدم المعرفة بما عهد؛ فكان منهم عمال أَلَا إليهم من يجهد نفسه لكيلا يصدُق فيه ما يقوله الأحرار، وكان منهم من يقول: هؤلاء أعداء الخليفة والمسلمين، هم أنصار الفرنجة يريدون أن نصبح كلنا مجرَّدين من الدين، فيجب أن لا نلتفت إلى أقوالهم ولا إلى مفترياتهم.

ولما بدت على وجوه المأمورين وكبار رجال الدولة آثار الخوف والوجل مما يكتبه مراد في «ميزانه»، ويكتبه غيره من الأحرار في جرائدهم؛ انتبه لذلك بعض الشبَّان ممن زاد نصيبهم من التعلم وأوتوا الذكاء، ففرَّ كثيرٌ منهم إلى الأقطار الأجنبية وإلى مصر التي كانت مهبط ملائكة الحرية، وشاركوا إخوانهم المجاهدين في جهادهم، وبقي غيرهم بالآستانة ليوافوهم بما يتجدد فيها من النبأ اليقين، فكان هؤلاء المجاهدون مقيمين في وسط النار تحرق ما حولهم، ولا يصيبهم منها سوى حُرَق تبقى أيامًا ثم تزول. وقد يذهب منهم وقودًا لها من يذهب. وبهؤلاء مُلِئت السجون ومواطن النفي، ولقَّبهم العاتون المتعصبون ألقابًا وسمَّوهم أسماءً ونعتوهم نعوتًا، فقالوا: المتفرنجون والكافرون وأعداء الدولة والدين، وأضحى شقاؤهم في الولايات أشد، فكان الولاة وأكثرهم رجال الحكومة يضربونهم ويحبسونهم، وقد يهدرون دماءهم ويبيحون للناس نهبهم ويذلُّونهم إذلالًا؛ وفي ظلم أنيس باشا أحد ولاة «قسطموني» سابقًا واعتدائه على المنفيين عبرة للسائلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤