الصفقةُ!

قال «زائيفي»: بالطبع أنتم تعرفون مُنظَّمة «سوبتك»، أو عصابة «سوبتك» كما تُسمُّونها … إنَّها أكثر جماعات الجريمة المُنظَّمة تقدُّمًا وتطوُّرًا وإنفاقًا على العلم والبحث العلميِّ، وقد نشأت بيني وبينهم علاقات عمل وصفقات متبادلة، وكنتم أغلى صفقة عُرضت عليَّ؛ فثمن التخلُّص منكم والقضاء عليكم تمامًا هو مائة مليون دولار، ويمكنني الاستفادة من كلِّ إمكانيَّات الجماعة في إتمام ذلك؛ فأنتم قد سبَّبتم لها قلقًا شديدًا، وكبَّدتموها خسائر فادحة في الأموال والأفراد. واستفزَّ «أحمد» سؤالٌ أراد أن يعرف إجابته، فقال له: وما الصفقة التي تريد عقدها معنا؟!

تنفَّس «زائيفي» بعمقٍ قبل أن يقول له: سأبيعهم لكم.

وأراد الضابط «حسام» أن يردَّ، غير أنَّ «أحمد» رفع ذراعه رافضًا، ثمَّ قال: تبيعهم كيف؟ وبِكَم؟

وبلهجة مباشرة قال «زائيفي»: سأتوقَّف عن مهاجمتكم، ونُسرِّب لهم أخبارًا كاذبة عن فظائع حدثت لكم، وأكون أنا صانعها.

قال هذا وصمت، ممَّا أثار الضابط «حسام»، فقال يستحِثُّه على الكلام: وما الثمن؟!

«زائيفي»: تدفعون لي مائة وخمسين مليون دولار، بتحويلٍ بنكيٍّ، وسأخبركم باسم البنك … وسأترك لكم مهلة عشر ساعاتٍ، وبعدها سأحكي لكم طُرفة أخرى … ومع مرور الساعات ستكثر الطرائف حتى أنتهي منكم.

وكما حضر فجأةً … اختفى فجأة من على كلِّ شاشات المقرِّ، وأيضًا من على تليفون الضابط «حسام»، وترك خلفه قرارًا لا رجعة فيه بالسفر إلى «سويسرا» لدى كلٍّ من جماعة الشياطين.

فكما قال «أحمد» … هذا الرجل يعرف أكثر ممَّا ينبغي، وتجرَّأ أكثر ممَّا ينبغي.

كانت الساعة قد اقتربت من السادسة صباحًا، وميعاد طائرتهم إلى «سويسرا» هو السابعة، والطريق من المقرِّ إلى المطار سيستغرق أكثر من ثلثي الساعة في حالة ما إذا كان الدائريُّ مفتوحًا وغير مزدحم.

تحيات حارَّة وأمنيات عاجلة بالتوفيق تبادلها المسافرون مع زملائهم … توجَّهوا بعدها إلى جراج المقرِّ، وكانت «اللاندكروزر» فيه دائرة، وخلف عجلة قيادتها يجلس «مصباح» الذي اقترح عليهم أن يرافقهم إلى المطار … ورأوا أنَّه اقتراح رائع.

ولحسن حظِّهم، كانت الحركة على الطريق الدائريِّ انسيابيَّة إلى حدٍّ كبير؛ فلم يشعروا بأيِّ توتُّر … وانصرفت أذهانهم إلى قرية «أنماس» وما أتاهم منها؛ فذلك اﻟ «زائيفي» تجرَّأ أكثر ممَّا يُحتمل، وخطى إلى داخل الحرم الأمنيِّ للمنظَّمة، بل وأطلق أشعَّته المُدمِّرة على ما حلا له في المقرِّ … وهذا وحده يوجب العقاب، وسيكون عقابًا قاسيًا كما قال «أحمد».

وقبل الثلثي ساعة، كان المطار على مرمى أبصارهم … وقبل الثلثي ساعة أيضًا، كانوا قد وصلوا وودَّعوا «مصباح»، الذي آثَر ألا يتركهم إلا بعد أن أنهَوا كلَّ إجراءات السفر، ورأى بنفسه أحد رجال الأمن يصطحبهم في سيَّارة خاصَّة إلى سُلَّم الطائرة.

غادر «مصباح» المطار في الوقت الذي غادرته فيه الطائرة، وكان يعرف أنَّها الطائرة التي يسافر عليها زملاؤه، فابتسم لهذه المصادفة، وتمنَّى لهم مُهمَّة ناجحة … أمَّا في الطائرة، فقد تمنَّى رقم «صفر» لهم النجاح في القصاص من هذا اللواء المغرور … وكيف حدث ذلك؟!

عندما سلَّمتهم المضيفة سمَّاعات الأذن الخاصَّة بهم، كان مع كلٍّ منها كارت منه … من رقم «صفر»!

نظر الشياطين إلى المضيفة وابتسموا … أمَّا «ريما» فقد همست ﻟ «إلهام» قائلة: أيُّهما أكثر ارتفاعًا؛ طائرتنا التي نركبها أم القمر الصناعي؟!

ولم تنتظر الإجابة، بل أجابت قائلة: القمر الصناعي طبعًا!

وعندما نظرت لها «إلهام» مُستفسرة، أكملت كلامها قائلة: أي إنَّ محطَّة إطلاق الليزر المداريَّة الآن فوقنا، ويمكن للمدعو «زائيفي» هذا أن ينتهي منَّا بسهولة.

ابتسمت «إلهام» وهي تسمعها، وقالت: وكيف سينتهي منَّا «زائيفي»؟!

كانت «ريما» غير مُصدِّقةٍ أنَّ «إلهام» لم تفهم مقصدها … ومع ذلك أجابتها قائلة: ألا يستطيع إطلاق شعاع ليزر على الطائرة؟!

لم يكُن «عثمان» بعيدًا عن الحوار؛ فقد كان يجلس بجوارها، غير أنَّه لم يتدخَّل إلا عندما أثاره ما تقوله «ريما»، فقال يُداعبها: كيف سيُدمِّر طائرة أنتِ فيها؟!

ابتسمت «ريما» لمداعبته، وشعرت أنَّها أفرطت في التخيُّل.

إلا أنَّ «أحمد» — الذي لم يكن يجلس بعيدًا عنهم — رأى جانبًا كبيرًا من الحقيقة فيما تقوله «ريما»، وقد راود ذهنه كل ذلك قبل ركوب الطائرة … ولولا قلَّة ساعات النوم التي حصلوا عليها، ما زار النوم عيونهم بعد هذه الأفكار المزعجة … وقد بدأ الأمر ﺑ «إلهام» التي لم تشغل نفسها بكلِّ ذلك؛ فما دامت هناك فرصة لتعويض ساعات النوم التي فاتتها، فهي لا تُضيِّعها؛ رغبةً منها في استعادة كامل لياقتها الذهنيَّة والبدنيَّة … ولأنَّ «أحمد» يعرف أنَّها على حقٍّ في ذلك؛ فإنَّه لم يقاوم النوم، بل انزلق إلى بحيرته الدافئة الناعمة … تلاه في ذلك «ريما»، ثمَّ «عثمان».

ولم يمضِ وقت طويل، حين انبعث من الإذاعة الداخليَّة للطائرة صوت القائد يقول: أرجو من السادة الرُّكَّاب إغلاق التليفونات المحمولة أو أيِّ أجهزة إلكترونيَّة لديهم؛ فهناك شوشرة على أجهزة الملاحة الإلكترونيَّة، وهذا سيُعرِّضنا للخطر.

وكعادتهم حينما لا يكونون في أسِرَّتهم، فإنَّهم إذا ما استغرقوا في النوم تظلُّ آذانهم مستيقظة. وما إن سمعوا نداء الكابتن، وضع كلٌّ منهم يده في جيب سترته، وأخرج تليفونه ليطمئنَّ أنَّه مغلق. وباتفاق صامت فيما بينهم، غادر «أحمد» مقعده متوجِّهًا إلى كابينة القائد، غير أنَّ حارس الأمن الجالس بجوار الباب رفض فتحه له … وعندما أخرج له بطاقته الأمنيَّة، أخذها معه وغاب داخل الكابينة لدقائق، ثمَّ خرج وسمح له بالدخول.

دخل «أحمد» إلى غرفة القيادة في هدوء … وما إن رآه قائد الطائرة، ابتسم وحيَّاه في ود بالغ … فسأله «أحمد» عن سبب النداء السابق وطلبه إغلاق الأجهزة الإلكترونيَّة، فقال الكابتن وهو يضغط بعض الأزرار: إنَّ أجهزة الملاحة الإلكترونيَّة الخاصَّة بالطائرة، بها مُستقبلات غاية في الحساسيَّة، والمفروض أنَّها الأجهزة المسئولة عن توجيه الطائرة … فإذا ما أصدر أيُّ جهاز على الطائرة موجات كهرومغناطيسيَّة كالتي تُطلقها أجهزة التليفونات المحمولة أو أيَّة أجهزة إرسال واستقبال، فإنَّها تؤثِّر تأثيرًا سلبيًّا على هذه الأجهزة.

فعلَّق أحمد قائلًا: وهذا ما حدث؟

الكابتن: نعم.

مرَّة أخرى اضطربت الأرقام والخطوط البيانيَّة على شاشات التوجيه، وفي انزعاج واضح كرَّر الكابتن نداءه — بل تنبيهه — على الرُّكَّاب بأنَّ ما يقومون به سيُعرِّض حياتهم كلهم للخطر … ورغم ذلك ظلَّت حالة الاضطراب تعمُّ الأجهزة، ولم يتوقَّف الأمر عند ذلك؛ بل امتدَّ إلى استقرار تعليق الطائرة في الهواء؛ فقد اضطرب هو الآخَر، واهتزَّت الطائرة اهتزازًا مُؤثِّرًا … ونهض الملَّاح — مساعد الكابتن — من على مقعده المجاور للقائد، وقبل أن يُغادر الكابينة، أمسكه «أحمد» من منتصف ذراعه، وقال له: لن يفعل أحد الرُّكَّاب ما يضرُّ الطائرة؛ لأنَّه سيخاف على حياته قبل حياتنا … إنَّ مَن فعلها هو شخصٌ متمرِّس يعرف ماذا يفعل دون خوف، وهو يقصد بذلك الوصول إلى نتيجة في صالحه هو فقط، قد تصل إلى اختطاف الطائرة … فأرجو ألا تتصرَّف بانفعال، ودع الأمر لرجال الأمن والمضيفات.

نظر الملَّاح إلى الكابتن، فأطرق له برأسه، فعاد إلى كرسيِّه … غير أنَّ الأمور أصبحت غير مريحة، بل خطيرة؛ فقد انحرفت الطائرة انحرافًا حادًّا أدَّى لسقوط ركاب صفوف الجانب الأيمن، وانزلقت أغراضهم من على الرفِّ الذي يعلوها.

فانتفض الكابتن واقفًا، وغادر مقعده والكابينة كلَّها وخلفه «أحمد»، وتوجَّه إلى المقصورة، فوجد الرُّكَّاب في حالة فزع، وما إن رأوه حتَّى علا صراخهم بالاعتراض والاستفسار، فرفع ذراعيه يُطمئنهم … وفي مصادفة غريبة، عادت الطائرة إلى استقرارها مرَّة أخرى بمجرَّد أن أنزل ذراعيه.

وعندما عاد مرَّة أخرى إلى الكابينة، كان وراءه ليس «أحمد» فقط؛ بل «إلهام» و«ريما» و«عثمان».

وحين استقرَّ على مقعده، لفت نظره وجودهم، فنظر إليهم متسائلًا … فعرَّفه «أحمد» عليهم، فالتفت مرَّة أخرى إلى شاشة التوجيه والعرق يتصبَّب منه رغم برودة الجوِّ في الكابينة، وقال يُحادث نفسه: لم أرَ أمورًا أكثر غرابة ممَّا يحدث الآن!

فاندفعت «ريما» تقول له: إنَّ سبب ما حدث ليس من داخل الطائرة.

التفت الكابتن والملَّاح إليها في تساؤل، فأكملت قائلة: هناك مؤثِّر خارجي هو الذي أثَّر على أجهزة الملاحة في الطائرة، وأدَّى إلى هذا الاضطراب الذي كاد يُسقط الطائرة.

اقترن التساؤل في عيني الكابتن بالدهشة؛ فكيف لهذه الشابَّة الصغيرة أن تصل إلى ما لم يصلوا هم إليه … فقال يسألها: تقصدين أنَّها موجات كهرومغناطيسيَّة خارجيَّة؟

ريما: نعم.

الكابتن: من أين؟ من الفضاء الخارجي مثلًا؟!

وفي جِدِّيَّة شديدة قالت «ريما»: نعم.

كان من الممكن أن تُثير إجابة «ريما» سخرية الكابتن، إلا أنَّه سألها باهتمام زائد قائلًا: طبعًا أنتِ لا تقصدين الرياح الشمسيَّة، أو تأثير شُهُب أو نيازك!

ازداد حماس «ريما»، وأكملت وسط إعجاب زملائها: رغم أنَّ هذا ممكنٌ، فإنَّ مصدر هذه الموجات هو قمر صناعي مُوجَّه.

الكابتن: وبالطبع هو يُؤدِّي مهامَّه الاعتياديَّة ولا يقصدنا.

وفي إصرار شديدٍ قالت «ريما»: لا؛ بل هو يقصدنا!

التفت الملَّاح مرَّة أخرى رَغمًا عنه ينظر إليها في دهشة … واندفع الكابتن يسألها: لولا أنَّكِ عضوة في مُنظَّمة مُهمَّة، لقلت إنَّكِ من هُواة أفلام الخيال العلميِّ.

ابتسمت «ريما» في وقار … وأمسك الكابتن منديلًا يُجفِّف عرق جبهته وهو يقول لها: يقصدنا نحن، مَن؟ أنتم كمنظَّمة، أم نحن كشركة، أم أحدًا من الرُّكَّاب؟

ريما: بل نحن، أقصد بها طائرتنا، والسبب هو وجودنا فيها!

التفت الكابتن إلى «أحمد»، فرآه يُصدِّق على كلِّ ما قالته «ريما» … فقال له: ولماذا توقَّفوا الآن؟

فقال «أحمد»: ومَن قال لك إنَّهم توقَّفوا؟ ألا يكون هذا التوقُّف مناورة، أو أنَّنا خرجنا مؤقَّتًا من نطاق سيطرتهم؟!

ثمَّ وفي سؤالٍ مفاجئٍ قال له: أليس لديك أنظمة ملاحة آليَّة؟

الكابتن: تقصد غير إلكترونيَّة؟!

أحمد: نعم؛ حتى لا يمكنهم السيطرة علينا وتوجيهنا!

وفي دهشة وحيرة سأله الكابتن باندفاع قائلًا: وهل هذا ممكن؟

أحمد: لماذا غير ممكن؛ ما دامت الأقمار الصناعيَّة فوقنا؟!

الكابتن: دعك من قيادة الطائرة، ولكن معرفة طريقنا، وحالة الأجواء حولنا؛ هذا هو دور هذه الأجهزة.

أحمد: سنحاول نحن ذلك.

الكابتن: كيف؟ بقراءة النَّجم؟!

شعر «أحمد» أنَّ أعصاب الكابتن توتَّرَت، فلم ينفعل لما قاله، وأجابه في هدوءٍ: إنَّ لدينا أجهزة ملاحة خاصَّة بنا.

وفي انفعال قال الكابتن: قد تكون هذه الأجهزة هي المُتسبِّبة في هذا الاضطراب!

وهنا قاطعه الملَّاح وهو يقول له: ما يقوله السِّيِّد «أحمد» حقيقيٌّ يا كابتن.

الكابتن: وكيف عرفت؟!

الملَّاح: الطائرة لا تسير في مسارها الصحيح!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤