خطبة في نادي حزب الأمة

وبحضور مئات من السيدات

أيتها السيدات

أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرن، يؤلمها ما يؤلم مجموعكن، وتجذل بما به تجذلن، وأحيي فيكن كرم النفس لتفضلكن بتلبية الدعوة لسماع خطبتي، إن أطلب بها إلا الإصلاح ما استطعت، فإن أصبت كان ما أرجو، وإن أخطأت فما أنا إلا واحدة منكن والإنسان يخطئ ويصيب، فمن رأت في خطبتي رأيًا مخالفًا لما تعتقد أو أحبت المناقشة في نقطة فلتتفضل بإبداء ما يعن لها بعد انتهاء كلامي.

أيتها السيدات، ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف، أو لعرض مختلف الأزياء ومستحسن الزينات، وإنما هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأي لنتبعه، ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها، فقد عمت الشكوى منا وكثرت كذلك شكوانا من الرجال، فأي الفريقين محق في دعواه؟! وهل نكتفي من الإصلاح بمجرد التذمر والشكوى؟! لا أظن مريضًا طاوع أنينه فشفاه، ويقول المثل العربي: لا دخان بلا نار، ويقول الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر: إن الآراء التي يظهر لنا أنها خطأ لا يمكن أن تكون خطأ محضًا، بل لا بد أن يكون فيها نصيب من الصحة والصواب، إذن نحن والرجال متساوون في صحة الدعاوى وبطلانها، كلنا متظلمون وكلنا على حق مما نقول، بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة، وما سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم، فهم يعزون هذه الحالة إلى نقص في تربيتنا وعوج في طريقة تعليمنا، ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم، وهذا الاختلاف في إلقاء المسئولية زادنا اختلافًا في العيش، وأوسع هوة الجفاء بين الرجال والنساء في مصر، وهو أمر لا ننظر فيه بعين الارتياح، وإنما نأسف له ونتوجس منه، لم يخلق الله الرجل والمرأة ليباغضا ويتنافرا، وإنما خلقهما الله ليسكن أحدهما إلى الآخر فيعمر الكون إذ في ائتلافهما بقاؤه، ولو انفرد الرجل في بقعة من الأرض وانعزلت النساء إلى أخرى لانقرض الحزبان وحقت عليهما كلمة الفناء.

تدركن معنى قولي هذا من صعوبة الرد على هذا السؤال: أي الجنسين أصلح للبقاء في الدنيا: النساء أم الرجال؟ فإذا أجابت إحداكن: الرجال؛ لأنهم يقومون بشاق الأعمال من بناء واختراع وزرع وغيره، عارضتها بقولي: ولأجل من نتجشم تلك الصعاب ولا نساء يتسلسل منهن النسل لعمار هذا الكون؟! وإذا قلنا: النساء؛ لأنهن مدبرات البيوت وأمهات النشء، لقلت: ومن أين يأتي النشء ولا أب له؟ هذا قياس على نظام الطبيعة الحالي، ولن نتوسع في الافتراضات والمتوهمات، فقد كان الله قادرًا على خلق نظام آخر للتوالد، وهو قادر على خلق مثله، ولكنا للآن لم نسمع إلا بمثال واحد لهذا الشذوذ هو مثال سيدنا عيسى عليه السلام، فالمرأة والرجل للكون كالخبز والماء للجسم أو الشمس والماء للزرع، ولو استعاضت إحدانا باللبن عن الماء فإن اللبن بالتحليل يحتوي الماء، فالكتب السماوية كلها مجمعة على أن أصل البشر من آدم وحواء، والقائلون برأي دارون لم ينكروا ضرورة لزوم الذكر والأنثى للتوالد من الحيوانات الأولى التي زعموا أنها ارتقت بالتدرج إلى مصاف الإنسان، كذلك الحال في كل جسم حي نامٍ، فإن النباتات كلها فيها الذكورة والأنوثة، والزهرة — على لطافتها وصغر حجمها — تحتوي شكلين مختلفين من العروق أحدهما لقاح للآخر، كذلك جعلهما الله لينتج منهما الحب الذي فيه بقاء النوع وسلط عليه الريح تسفيه إلى الأرض، فإذا ما جاده الغيث أو لقي ريًّا نبت ونما وصار شجرًا، فنظام التوالد مطرد في كل الأجسام الحية من حيوانات ونباتات لا شك فيه البتة، وإذا راجعنا إحصائيات العالم كله وجدنا أن عدد الذكور والإناث فيه يكاد يكون واحدًا أو يفرق قليلًا جدًّا، وهذا دليل على أن الله خلق رجلًا لكل امرأة، هذا بقطع النظر عن الحروب وغيرها، مما قد يخل بهذا التوازن الطبيعي الدقيق. إذن، فمحاولة الاعتزال بين الرجال والنساء مستحيلة، وعليه فلا فائدة من هذه الغارات القلمية الشعواء بيننا وبينهم، والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، ونزيل سوء التفاهم والتحزب، لنحل بدلهما الثقة والإنصاف، ولنبحث أولًا في نقط الخلاف.

يقولون: إننا بتعلمنا نزاحمهم في أشغالهم، ونترك أعمالنا التي خلقنا الله لها، فليت شعري! ألم يكونوا هم البادئين بمزاحمتنا؟! كانت المرأة في العهد السابق تغزل الخيط وتنسج ثيابًا لها ولأولادها، فاخترعوا آلة الغزل فأبطلوا عملها من هذا القبيل، وكانت المرأة المتقدمة تغربل القمح وتهرسه وتطحنه على الرحا بيديها، ثم تنخله وتعجنه فتهيئ منه خبزًا، فاستنبطوا ما سمونه (الطابونة)، واستخدموا فيها الرجال فأراحونا من ذلك العمل الكثير ولكنهم عطلوا لنا عملًا، وكانت كل امرأة من السالفات تخيط لنفسها ولأفراد بيتها، فابتكروا لنا آلة للخياطة، يشتغل في استخراج حديدها وصناعتها الرجال، ثم جعلوا منهم خياطين يخيطون لرجالنا وأولادنا، وكنا نكنس حجرنا أو تكنسها الخادمات بمكانس من القش، فاستنبطوا آلة الكنس التي يكفي أن يلاحظها خادم صغير فتنظف الرياش والأثاث، وكانت الفقيرات والخادمات يجلبن الماء لبيوتهن، أو لبيوت سادتهن فاخترع الرجال القصب (المواسير) والحنفيات تجلب الماء بلا تعب، فهل ترى عاقلة الماء يجري عند جارتها في أعلى طبقات منزلها وأسفله، وتذهب لتملأ من النهر وقد يكون بعيدًا؟! أو هل يعقل أن متمدينة ترى خبز (الطابونة) نظيفًا طريًّا لا تتكلف له سوى ثمنه، تتركه لتغربل وتعجن، وقد تكون ضعيفة البنية لا تتحمل تعب تجهيز القمح وعجنه أو فقيرة لا تستطيع تأجير خدم له أو وحيدة لا مساعدة لها عليه، أظن الرجال لو كانوا محلنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهن التمدين، بل إنهن يستعضن عن الرحا بوابور الطحين، وبعضهن عن الملء من البحر (بطلومبات) يضعنها داخل دورهن.

ولست أريد من قولي هذا أن أذم الاختراعات المفيدة التي اخترعها الرجال كثيرًا من أعمالنا، أو أقول: إنها زائدة عن حاجتنا، وإنما كان هذا الشرح ضروريًّا لبيان أن الرجال هم البادئون بالمزاحمة، فإذا ما زاحمناهم اليوم في بعض أشغالهم فإن الجزاء الحق من جنس العمل.

على أن مسألة المزاحمة هذه ترجع للحرية الشخصية، فزيد راقه أن يكون طبيبًا، وعمرو رأى أن يكون تاجرًا، فهل يصح أن نذهب للطبيب ونقول له: لا تحترف هذه الصناعة بل كن تاجرًا؟! وهل يمكننا أن نجبر التاجر على أن يصير طبيبًا؟! كلا؛ فكل له حريته يفعل ما يشاء ولا ضرر ولا ضرار، وهل يجوز أن يمنع مهندس قديم من يحترفون هذه المهنة؛ لأنه كان يكتسب ربح بلد بأكمله، فجاءه هؤلاء المهندسون الجدد يقتسمون أرباحه؟! على أن ذلك لو جاز قوة لما صح أن يجوز شرعًا وحرية، ولما قامت من أجله الشحناء بين الرئيس روزفلت وشركات الاحتكار، فإذا كان المخترعون والصناع أبطلوا جزءًا كبيرًا من أعمالنا، فهل نقتل الوقت في الكسل أم نبحث عن عمل يشغلنا؟! لا غرو وأننا نفعل الثاني.

ولما كانت أشغال منزلنا قليلة، لا تشغل أكثر من نصف النهار، فقد تحتم أن نشغل النصف الآخر بما تميل له نفوسنا من طلب العلم، وهو ما يريد أن يمنعنا عنه الرجال بحجة أننا نشاركهم في أعمالهم، لا أريد بقولي هذا أن أحث السيدات على ترك الاشتغال بتدبير المنازل وتربية الأولاد إلى الانصراف لتعلم المحاماة والقضاء وإدارة القاطرات! كلا؛ ولكن إذا وجدت منا من تريد الاشتغال بإحدى هذه المهن فإن الحرية الشخصية تقضي بأن لا يعارضها المعارضون، قد يقولون: إن الحمل والولادة مما يجبرنا على ترك الشغل، وقد يجعلون ذلك حجة علينا، ولكن من النساء من لم تتزوج قط، ومنهن العقيمات اللاتي لا ينتابهن حمل ولا ولادة، ومنهن من مات زوجها أو طلقها ولم تجد عائلًا يقوم بأولادها، ومنهن من يحتاج زوجها لمعونتها، وقد لا يليق بهؤلاء أن يحترفن الحرف الدنيئة، بل ربما يملن إلى أن يكن معلمات أو طبيبات حائزات لما يحوزه الرجال من الشهادات، فهل من العدل أن يمنع مثل هؤلاء من القيام بما يرينه صالحًا لأنفسهن قائمًا بمعاشهن؟! على أن الحمل والولادة إذا كانا معطلين لنا عن العمل الخارجي فهما معطلان لنا عن الأعمال البيتية أيضًا، وأي رجل قوي لم يمرض ولم ينقطع عن عمله وقتًا ما؟

يقول الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعري! أي فرمان صدر بذلك من عند الله؟! ومن أين لهم معرفة ذلك والجزم به ولم يصدر به كتاب؟! نعم؛ إن الاقتصاد السياسي ليأمر بتوزيع الأعمال، ولكن اشتغال بعضنا بالعلوم لا يخل بذلك التوزيع، وما أظن أصل تقسيم العمل بين الرجال والنساء إلا اختياريًّا، بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل، وحواء السعي وراء القوت لكان ذلك نظامًا متبعًا الآن، ولما أمكن أن يحاجنا الرجال بأنا خلقنا لأعمال البيت فقط، وها نحن أولاء لا نزال نرى بعض الأقوام، كالبرابرة مثلًا، يخيط رجالهم الثياب لأنفسهم ولأفراد بيتهم ويتجشم نساؤهم مشقة الزرع والقلع حتى إنهن ليتسلقن النخل لجني ثمارها، وها نحن نرى نساء الفلاحين والصعايدة يساعدن الرجال في حرث الأرض وزرعها وبعضهن يقمن بأكثر أشغال الفلاحة كالتسميد والدراس وحمل المحاصيل ودق السنابل والبراعم (الكيزان) وسوق المواشي ورفع المياه بما يسمونه بالقطوة، وغير ذلك من الأعمال التي ربما شاهدها منكن من ذهبت إلى الضياع (العزب)، ورأت أنهن يقدرن عليه تمام القدرة كأشد الرجال، ونرى مع ذلك أولادهن أشداء أصحاء.

فمسألة اختصاص كل فريق بشغل مسألة اصطلاحية لا إجبار فيها، وما ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال، وإلا فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأسًا، أليست المرأة القروية كأختها المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحة والقوة؟! هل ترتبن في أن المرأة من المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟ فإذا قال لنا الرجال أننا خلقنا ضعيفات، قلنا: لا، وإنما أنتم أضعفتمونا بالمنهج الذي اخترتم أن نسير فيه.

حدثتني سيدة عالمة أنها في سياحتها بأمريكا رأت بعينها هنودها الحمر تتحرك آذانهم من تلقاء نفسها تجاه الصوت الذي يترقبونه كآذان الخيل والحمير؛ ذلك نتيجة استعمالهم لها وقد توارثوه أيضًا وهم في حاجة إليه لتسمع زئير السباع وعواء الوحوش التي ربما تهاجمهم في فلواتهم، كذلك نجد حواس الوحشيين أقوى من حواسنا بكثير، فهم يشمون رائحة الوحوش من بعيد أما نحن فلا، ولم يكذب من قال إن الوظيفة تكون العضو، هؤلاء العميان يعتمدون كثيرًا على حاسة السمع، فتقوى فيهم بالتدريج تلك الحاسة إلى أن تبلغ غاية قد تعد من الخوارق عندنا، فهل بعد أن استعبدنا الرجال قرونًا طوالًا حتى خيم على عقولنا الصدأ وعلى أجسامنا الضعف يصح أن يتهمونا بأنا خلقنا أضعف منهم أجسامًا وعقولًا؟ إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا لما عيرونا بأننا قليلات النبوغ وأنه لم يسمع بإحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلًا، وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه من تلك القواعد، أوليست قواعد الحساب هي بعينها من زمن اليونان الأول إلى الآن؟! ونظريات الهندسة لم تزل تلك التي كان يعرفها قدماء المصريين والرومان؟

نحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كولمب لما تعذر علي أنا أيضًا أن أكتشف أمريكا، وحقيقة أن النساء لم يخترعن اختراعات عظيمة، ولكن كان منهن النابغات في العلوم والسياسة والفنون الجميلة، أي: فيما سمح لهن بممارسته، وبعضهن فقن الرجال في الفروسية والشجاعة، كخولة بنت الأزور الكندي، فقد عجب منها عمر بن الخطاب وأعجب باستقتالها في فتوح الشام حينما أرادت تخليص أخيها من أسر الروم، وجان دارك التي قادت جيش الفرنسيس، بعد هزيمته أمام الإنكليز، فشجعتهم على استمرار القتال وأصلت محاربي وطنها حربًا عوانًا، ولن أضرب مثلًا بالنساء اللاتي تولين الملك فأحسن سياسته، ككاترينا ملكة روسيا، وإيزابيلا ملكة إسبانيا، وإليزابيث ملكة إنكلترا، وكليوباتره، وشجرة الدر امرأة الملك الصالح، وأم طوران شاه التي حكمت مصر، فقد يقول معارضونا إنه دبره لهن الوزراء وهم رجال! على أنه لو صح هذا القول في عهد الدستوريين، كالملكة فيكتوريا مثلًا أو وولهمينا ملكة هولانده الحالية، فلا يصح تطبيقه على أيام الحكم المطلق.

إننا الآن في ابتداء القيام بتعليم البنات، فقول بعضهم بالاقتصار على هذا وذاك مثبط للهمة ورجوع للوراء في حين أنه لا خوف من مزاحمتنا لهم الآن؛ لأننا لا نزال في الدور الأول من التعليم، ولا تزال عاداتنا الشرقية تثنينا عن الاستمرار على الدرس الكثير فليهنأوا بوظائفهم، وما داموا يرون مقاعد مدرسة الحقوق والمهندسخانة والطب والجامعة خالية منا فليقروا عيونًا ولينعموا بالأمان، فما يتخوفون منه بعيد، وإذا فرض أن اشتاقت إحدانا لتكملة معلوماتها في إحدى تلك المدارس، فأنا واثقة أنها لن تقلد وظيفة أو تشتغل خارجًا، وإنما تفعله لإطفاء شوق النفس للعلم أو الشهرة ولما تفعله، فإذا كنا لم نشتغل بالمحاماة ولا بتقلد الوظائف الحكومية أفلا تشغلنا عن تربية النشء إلا قراءة كتاب أو خط جواب؟! أظن ذلك مستحيلًا، على أن الأم مهما تعلمت وبأي حرفة اشتغلت فلن ينسيها ذلك أطفالها، أو يفقدها عاطفة الشفقة والأمومة، بل بالعكس إنها كلما تنورت أدركت مسؤوليتها، ألم ترين الفلاحات والجاهلات يظل يبكي طفل الواحدة منهن ساعات وهي تسمعه ولا تتحرك؟! فهل يا ترى كان شغل هؤلاء أيضًا تحضير القضايا أو الاشتغال بالتحرير والقراءة؟!

ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا، إننا لسنا محلًّا لإشفاقهم، وإنما نحن أهل لاحترامهم، فليستبدلوا هذا بذاك، والإشفاق لا يتأتى إلا من سليم لعليل أو من جليل لحقير، فأي الصنفين يعتبروننا؟! تالله إنا لنأنف أن نكون أحد هذين.

قال قائلهم: لا تعلموا البنات من الحساب إلا القواعد الأربع؛ لأنهن لن يحتجن إلى أكثر منها، فمن أين له أننا نودع نقودنا في مصرف، أو نبيع وثيقة (كمبيالة)، أو يغالطنا وكيل في قياس قطعة أرض؟! إنه إذا ادعى بذلك تفضيل الرجال على النساء في علم التكهن والرجم بالغيب أيضًا قلنا: لم تصح هذه الفراسة فقد أظهر الواقع غير ذلك، أما ما يذهب إليه من تفضيل لغة على لغة في التعلم، فذلك ما لا أفهمه لأني أعتبر اللغات كلها نافعة، ولو وجدت من يعلمني البربرية أو الصينية لتعلمتها، إذا كان لآداب اللغة فإن الفارسية والألمانية والإنكليزية وغيرها ملأى بذلك، أما تعليم تدبير المنزل وتربية الأطفال فيجب أن نشكر للدكتور عبد العزيز نظمي بك اهتمامه بهما وحثه عليهما.

أيتها السيدات، العلم منور للعقل على أي حال سواء عمل به أو لم يعمل، فماذا يضرنا أننا لا نشتغل بمسح الكرة الأرضية ولا بالسباحة ولكن نعلم مواقع البلاد وأبعادها؟! إن الطبيب يتعلم الجبر في تلمذته ولكنه لا يشتغل به في صناعته، كلنا نسمع بأخبار السياسة والرجال يشتغلون بها، ولكنهم لا يحدثون أنفسهم بأن يولوا مكان ذلك الملك المقتول أو السلطان المعزول، فهل نقول لهم: إذا كنتم لن تتملكوا في تلك الأمم فلا يجوز لكم أن تعرفوا سياستها وأخبارها؟! نسمع في هذه الأيام أن جيش الدستور في تركيا زحف من سلانيك إلى الآستانة، وأن حصن اسكودار تأخر في التسليم، ألا يحسن بنا أن نعرف من (الجغرافيا) ما يهيئنا لفهم تلك الأخبار بعدما لاكتها أفواه الكبار والصغار، لو لم يكن للعلم لذة في ذاته لما اشتغل بتحصيله الملوك، وهم واثقون أنهم لن يكونوا مهندسين ولا بحارة ولا سائقي قاطرات، وهل تفضل السيدة التي تعرف أن تطبخ البطاطس وتنسق الزهور فقط، أم التي تعرفهما أيضًا ولكنها تعلم متى يؤكل البطاطس، وهل يوافق زوجها المريض بالسكر، أو جسمها السمين الذي تريد تضميره؟ وهل وجود أصص (قصارى) الزرع في حجرتها ليلًا صالح لرئتيها الضعيفتين أم مضر بهما؟ فهذه تعرف تدبير المنزل وتلك تعرفه، ولكن تعلم واحدة علم النبات تحفظ لها صحتها وصحة عيالها من التلف، فضلًا عما تشعر به من السرور الناشئ عن العلم، نحن نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية إخواننا الشبان لا شك نتيجة جهل أمهاتنا، فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟!» إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها، فإن المنزل له تأثير خاص في الأطفال، وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة أو لها نصيب من علم، فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم لتكون الصلة شديدة بينه وبينها؛ فتعلمنا الحالي ناقص يجب أن يزاد عليه لا أن ينقص منه.

أما ما أشكل على الرجال من علة فسادنا فهو ما ينسبونه خطأ للتعلم وحقهم أن ينسبوه للتربية، يرى كثيرون أن العلم يهذب ولكني لا أعتقد ذلك، بل أصرح أن العلم والتربية منفصلان تمام الانفصال إلا في علوم الدين فقط، ودليلي على ذلك أن كثيرين من المبرزين والمبرزات في العلوم لا خلاق لهم، وأن الكتاب الواحد قد يدرسه معلمان مختلفان في فرقتين كل على حدة فتتعلم الفرقتان الكتاب، ولكن نجد أثر الهمة وعلو النفس في واحدة ولا نراه في الثانية، فهذا ناشئ من تأثير روح المعلم في تلاميذه لا من العلم، وإلا فلو كان من العلم لتساوت الفرقتان؛ لأن الكتاب واحد والعلم لا يختلف، يظن بعض الناس أن حسن التربية معناه تقبيل أيدي الزائرات وتكتيف اليدين خضوعًا، ولكن ما أبعد هذا عن الحقيقة! التربية الحسنة هي التي تؤهل الشخص لأن يدرك نفسه من سواه، وما أحزم من قال: ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه! التربية الحسنة هي التي تعود الإنسان من صغره احترام الغير إذا استحق الاحترام، حتى ولو كان عدوًّا، فالتعليم لم يفسد أخلاق الفتيات، إنما هي التربية الناقصة، تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة، ولما كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا لإصلاح شأن أنفسنا ثم إصلاح النشء، ولا يتم ذلك في لحظة كما قد يتوهم، ومن الظلم أن نلقي مسئولية الفساد كلها على المدارس، فإن المدارس لها تأثير في التربية، ولكن ليس عليها كل الذنب، بل العيب في الأسر.

من عيوبنا نحن النساء أننا لا نكترث كثيرًا بالنصح، فإذا قامت سيدة تريد تقرير مبدأ أو إظهار حقيقة قال أكثرنا: ما لها ولهذا؟! أو إن كانت تغار فلتعمل مثلنا، ومن غير ذلك من الألفاظ!

ومن عيوبنا السخرية والتهكم، فكثير منا تنتقد من تصادفه وتعيب عليه، لا عيبًا حقيقيًّا يستدعي الانتقاد، ولكن لولوع بالانتقاد في ذاته، فربما انتقدت في ساعة واحدة اثنين على خصلتين متضادتين، ولا يمكن أن يكون الشيء ونقيضه منتقدًا، فإذا رأت امرأة سمينة قالت: إنها (كالبرميل) وكيف تستطيع الحركة؟ وإن أبصرت بأخرى رفيعة قالت: إنها كعود الحديد تكسر يدها على ساقيها! وإذا وجدت سيدة قليلة الكلام قالت: إنها متكبرة، وإن سمعت أخرى تتكلم كثيرًا عابت عليها وقالت: إنها تتصنع الخفة!

ومن عيوبنا الصلف والاغترار، كنت وأنا طفلة أحفظ قصيدة سمعتها، ولكني كنت أخلط فيها وألحن كثيرًا غير عالمة بالطبع ما كنت واقعة فيه من الخطأ، وكانت زميلاتي الصغيرات لا يعرفن القصائد ولم يسمعن بها، فكنت إذا قلتها أمامهن عددنها غريبة عليهن ووسمنني بالذكاء! فما لبثت أن اغتررت بقصيدتي وصرت أفخر بها، حتى إذا ألقيتها ذات يوم أمام والدي أراني خطئي، وبين لي أنها كانت مجموعة نتف من هنا ومن هناك، لا ارتباط لأجزائها ولا قافية لها وأعطاني كتابًا فيه شعر؛ فأدهشني أكثر لأنني كنت أحسب أن لا شعر في الدنيا إلا تلك النتف التي كنت استظهرتها، فلو كان تركني ولم يبين لي خطئي فربما كنت استرسلت في الغرور، والإنسان مهما بلغ من العلم لا يزال يقبل الزيادة فيه، ومهما كبر فيما يعرف فإنه لا يزال طفلًا إزاء ما يجهل كالبحر تستعظم منه ما رأيت وما لم تره أعظم، وكيف أصلح خطئي إذا كنت لا أشعر به ولا أقبل نصيحة من يراه؟

يشكو الرجال من تبرجنا في الطرقات؛ وحق لهم لأننا خرجنا فيه عن المألوف والجائز، نحن نزعم أننا نحتجب ولكنا ما بلغنا حجابًا ولا بلغنا سفورًا، لا أريد أن نرجع لحجاب جداتنا، ذلك الذي يصح أن يسمى وأدًا لا حجابًا، فقد كانت السيدة تقضي عمرها بين حوائط منزلها لا تسير في الطريق إلا وهي محمولة على الأعناق، ولا أريد سفور الأوروبيات واختلاطهن بالرجال فإنه مضر بنا، إن نصف إزارنا السفلي اليوم مرط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب ولا مع معناها ولا مع الحكمة منه، أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدم قصر، كان الحجاب الأول قطعة واحدة تلتف بها المرأة فلا يظهر من هيئتها شيء، ثم طرأ عليه تكمش بسيط ولكنه كان واسعًا يكفي لستر الجسم، ثم تفننا فيه فصرنا نضيق وسطه ونقصر رأسه، وأخيرًا فصل له كمان وصار يلتصق بالظهور ولا يلبس إلا مع المشد، ويربط من أطرافه إلى الوراء، حتى تظهر منه الآذان ونصف الرأس أو أكثره فتبين الورود والرياحين والأشرطة المزين بها الرأس، أما البرقع فأشف من قلب الطفل، ما الغرض من الإزار؟ الغرض منه ستر الجسم والملابس، والزينة اجتناب الزينة التي نهى الله عنها، فهل يتفق هذا المئزر الحالي وقد أصبح (فستانًا) يظهر النهدين والخصر والأعجاز، فضلًا عن أن بعض السيدات ابتدأن يلبسنه أزرق وبنيًّا وأحمر؟ الأولى أن لا نسميه مئزرًا بل (فستانًا بطرطور) فإنه في الحقيقة كذلك، وعندي أن الخروج بدونه أدل على الحشمة؛ لأنه على الأقل لا يسترعي النظر، على أن مسألة الحجاب قد اختلف فيها الأئمة فإذا كان تفنن بعضنا هذا يراد به الاحتيال على الخروج بلا إزار فليس عليهن فيه من حرج إذا كشفن وجوههن بشرط ستر الشعر والجسم، وأرى أن أوفق لباس للخارج هو تغطية الرأس بخمار وسدل رداء أشبه (بالبالطو)، المسمى cache poussiere عند الفرنجة على الجسم إلى الكعب، ويكون طويل الكمين إلى المعصمين، وهذا اللباس مستعمل في الآستانة، كما وردت لي إحدى السيدات للخروج إلى المحلات القريبة، ولكن من يضمن لنا أننا لا نقصره ونضيقه حتى نمسخه (فستانًا) آخر؟ وحينئذ تضيق بنا حيل الإصلاح.

لو أننا متربيات من صغرنا على السفور، ولو أن رجالنا مستعدون له، لأقررت بالسفور لمن تهواه، ولكن مجموع الأمة غير مستعد له للآن، وإن كان بعض نسائنا العاقلات لا يخشى من اختلاطهن بالرجال، إلا أننا يجب أن نتحفظ على غير العاقلات أيضًا؛ لأننا سرعان ما نقلد وقل أن نبحث عن حقيقتنا فيه، ألا ترين أن تيجان الماس أصلها للملكات والأميرات فأصبحت الآن يلبسها المغنيات والراقصات؟! ولعل الشعراء يعدلون عن كنايتهم الملكات بياربة التاج فقد أصبحت تلك الكناية شاملة لسواهن!

على أن تفنننا في هذا المئزر الحالي هو في ذاته تقليد للأوروبيات، ولكنا فقناهن في التبرج؛ فإن المرأة منهن تلبس أبسط ما عندها عندما تكون في الطريق، وتلبس ما شاءت في البيت أو في السهرات، ولكنهن بخلاف ذلك يظللن أمام أزواجهن بجلباب بسيط جدًّا، ثم إذا خرجت إحداهن عمدت إلى أحسن ثيابها فلبسته، وأثقلت نفسها بالمصوغات وأفرغت عليها زجاجات العطر والطيب، ويا ليتها تقتصر على ذلك بل تجعل من وجهها حائطًا تنقشه بالدهان وتصبغه بمختلف الألوان وتتكسر في مشيتها كأنها الخيزران فتفتن المارة، أو على الأقل يتظاهرون لها بأنها تفتنهم، إني واثقة أن أغلب هؤلاء المتبرجات يفعلن ما يفعلن وهن خاليات الذهن من سوء القصد، ولكن من أين للرائي أن يتبين حسن نيتهن ومظهرهن لا يدل عليه؟!

حجابنا يجب أن لا يحرمنا من استنشاق الهواء النقي، ولا من شراء ما يلزمنا إذا لم يقدر آخر على شرائه لنا … ويجب أن لا يمنعنا عن تلقي العلم، ولا أن يكون مساعدًا على فساد صحتنا أو سببًا في تلفها، فإذا لم أجد في بيتي حديقة واسعة أو رحبة طلقة الهواء وكنت فرغت من العمل وأحسست من نفسي بملل أو كسل فلم لا آخذ نصيبي من هواء الضواحي المنعش الذي خلقه الله للكل ولم يحبسه في صناديق مكتوب عليها «خصوصي للرجال»؟! وإنما يجب أن نختار الاعتدال وأن لا نخرج للنزهة وحدنا اجتنابًا للقيل والقال وألا نمشي الهوينى، وألا نلتفت يمنة ويسرة، وإذا لم يكن أبي أو زوجي يحسن اختيار ما أشتهيه من الملابس، غير الموجود لها عينة ولا يمكنه جلبها للمنزل، فلم لا يأخذني معه لاختيار ما يلزمني أو يدعني أشتري ما أريد؟! وإذا لم أجد من يحسن تعليمي إلا رجلًا فهل أختار الجهل أم السفور أمام ذلك الرجل مع أخواتي من المتعلمات؟! على أنه ليس هناك ما يجبرني على السفور، بل إنه يمكنني التقنع والاستفادة منه وهل نحن في إسلامنا أعرق أصلًا من السيدة نفيسة والسيدة سكينة — رضي الله عنهما — وقد كانتا تجتمعان بالعلماء والشعراء؟! وإذا اضطرني المرض لاستشارة طبيب، لا يمكن لإحدى النساء القيام بعمله، فهل أترك نفسي والمرض وقد يكون خفيفًا فيعضل بالإهمال، أم أستشفيه فيشفيني؟

إن حبس المصرية السالفة تفريط وحرية الغربيين الآن إفراط، ولا أجد أصلح ما نقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسط بين الطرفين، ولم تخرج عما يجيزه الإسلام، وهي مع ذلك مثال الجد والاحتشام.

بلغني أن بعض كبرائنا (أريد كبراء الوظائف) يعلمون بناتهم الرقص الإفرنجي والتمثيل، وهما أمران أحلاهما مر، وأعدهما تطرفًا ممقوتًا واستماتة في تقليد الغربيين؛ لأن العادة يجب أن لا تُغيَّر إلا إذا كانت مضرة، والأنماط الغربية لا يقيمها قوم بينهم إلا إذا رأوا ضرورتها وصلاحيتها، فأي صلاح لنا من مخاصرة الرجال والنساء ورقصهم معًا؟! أو ظهور بناتنا أمام الرائين (المتفرجين) بصدور عارية يمثلن أدوار الحب والخلاعة على (المرسح)، إن ذلك مناف للدين الإسلامي هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات اللاتي إذا شجعناهن بسكوتنا فإنهن لا يلبثن أن يعدين الغير منه.

وعلى ذكر العادات والحجاب أذكركن بمسألة تئن منها السعادة وتكاد تندثر في بيوتنا، تلك هي مسألة الخطبة والزواج، يرى أكثر عقلاء الأمة أن لا بد للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي والصحابة يفعلون غيره، وهو متبع عند جميع الأمم بأسرها والأمة المصرية أيضًا إلا في طبقة واحدة هي طبقة أهل المدن، إذا ائتلف العروسان عندنا فهو من محاسن الاتفاق (الصدف)، وكيف يمكن الجمع بين شخصين لم ير أحدهما الآخر ولم يختبره على أن يقضيا العمر معًا؟ إن إحدانا إذا اتفق أن رأت عرضًا في إحدى زياراتها سيدة استثقلت ريحها فإنها لا تصبر على مجالستها فضلًا عن النظر إليها، وتسرع بالتملص منها، فكيف تصبر على مضض الحياة إذا استثقلت أيضًا بعلها، وهي لم يمكنها التصبر على ثقل الغريبة لحظة واحدة في غير بيتها؟! يشير قوم باتباع خطة الغربيين من وجوب معاشرة الخطيبين زمنًا ليتمكن كلاهما من استطلاع طبع صاحبه، ولكني أصرح باستهجان هذه العادة وأعتقد أنها مبنية على وهم لا على أساس متين؛ إذ من نتائج معاشرة المتشابهين الألفة ومن الألفة الحب، وإذا أحب الإنسان شخصًا لم ير عيوبه، ولم يمكنه فحص أخلاقه، فيتزوج العروسان حينذاك على حب باطل وعلى غير هدى، فلا يلبثان أن يتنازعا وتذهب ريحهما، إنما الطريقة التي أود عرضها على مسامعكن هي أن يتراءى العروسان ويتكلما بعد خطبة النساء المتبعة وقبل العقد، ويجب أن لا تظهر العروس إلا مع أحد محارمها وتكون في أبسط لباسها، قد يعترض على هذا الاقتراح بأن اجتماعًا واحدًا أو اثنين أو أكثر لا يكفي لأن يقف الواحد على أخلاق الآخر، ولكنها على أي حال كافية لأن يشعر الواحد باجتذاب دم الآخر له أو لا، على أن من صدقت فراسته يمكنه تبين الأخلاق من العينين، ومن الحركات والسكنات، فيبين إن كان صاحبه متصنعًا أو طائشًا وغير ذلك، أما معرفة ماضي العروسين وبقية أحوالهما فيجب أن يسأل عنها المعارف والجيران والخدم وغيرهم، وخوفًا من أن يتخذ الشبان فاسدو الأخلاق تلك الطريقة ذريعة لرؤية بنات الناس من غير قصد الزواج يجب على الولي أن يتحرى سلوك الخاطب، ويتبين الجد من كلامه قبل السماح له برؤية ابنته أو موكلته، ربما تستصعبن قبول هذه الفكرة والعمل بها، ولكن كل شيء يخيل لنا صعبًا عند الابتداء فيه وإذا مارسناه سهل وهان، على أننا إذا كنا نعتقد فساد طريقتنا القديمة، ونتألم منها ونحجم عن الإقدام على ما نراه مفيدًا لنا مقللًا لحوادث الشقاء في زواجنا، فما أشبه يومنا بالأمس وما أشد إثمنا وما أبعدنا عن قول الشاعر:

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
حياة لنفسي مثل أن أتقدما

وما الفائدة من تعلمنا إذا كنا لا نستطيع تغيير عادة مضرة لا هي من الدين، ولا من الحكمة؟! وقد رأينا رأي العين سعادتنا العائلية مزعزعة تكاد تقتلعها صرصر تلك العادة العائلية، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل رجل غرق أو أشرف على التلف فلما بصر بقطعة خشب يمكنه النجاة بالتعلق بها أبى لئلا يكون بها مسمار فيجرح إصبعه فابتلعته اللجة، وقد كان يمكنه النجاة لو لم يقدر الخوف من المسمار، وما أدراه أن ظنه وتخوفه في محلهما؟! ولماذا نأبى أن يرانا خاطب بحجة أننا ربما لا نعجبه؟! أوليست مضرة رغبتنا عنه أو رغبته عنا أخف بكثير من تعاقدنا على الزواج قبل الرؤية، والإنسان لا يفعله في شراء دابة فكيف يفعله في اختيار قرين؟!

إن امتناعنا عن أن يرانا الخاطبون صرف كثير منهم إلى الأوروبيات، فيتحمل أحدهم أن يتزوج من خادمة أو عاملة يعتقد أنه سيهنأ معها على أن يقترن ببنت الباشا أو البك المخبأة في (علبة البخت)، ولتعذرني صديقاتي الغربيات على هذا القول، فإني لا أريد به إهانة لهن، فإنهن يعرفن قبلنا أن امرأة ذات حسب مرغوبة في شبان قومها لا تتركهم إلى فتى من غير دينها وجنسها، فضلًا عن أن كل بلاد لها مدنيتها الخاصة بها وتقرير أحوال مدنيتنا لا يقتضي أننا نعيب مدنية الآخرين، قسمًا بالله لو جاء البارون رتشيلد أو المستر كارينجي إلى ابنة كاتب عندنا مرتبه أربعة جنيهات شهريًّا لما رد بغير الخيبة، فإذا لم نعمل على تدارك هذا الخلل في مجتمعنا لا نلبث أن يحتلنا نساء الغرب أيضًا، فنقع في احتلالين؛ احتلال الرجال واحتلال النساء، وثانيهما شر من أولهما؛ لأن الأول إذا كان حصل على غير رضانا فإن الثاني جلبناه بأيدينا والنساء شديدات التعلق بالأقارب، فلا يبعد أن تلم كل زوجة منهن أخاها وأباها وابن خالتها وصاحبها حولها فيسدون ما بقي لرجالنا من موارد الرزق، فنخرج وإياهم من بلدنا بخفي حنين، وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد.

بعض رجالنا يفضلون عنا الأوروبيات لتدبيرهن، حقيقة إن الفقيرة منهن ترتدي بلباس نظيف مرتب، ويرى بيتها على قلة أثاثه نظيفًا مرتبًا، وطعامها لذيذًا متنوعًا، وأولادها مؤدبين أصحاء، ومع ذلك نفقاتها قليلة. نرى كل يوم نساء ضباط الإنكليز ماشيات في الطريق بلباسهن التيل الأبيض البسيط وأولادهن لابسين القبعات الجميلة والأحذية البيضاء ومنظرهم يأخذ باللب، لا يقاربهم في شكلهم عندنا إلا أولاد (الذوات) الذين تخدمهم المربيات (الدادات) أما سائر أطفالنا فهم في حالة يرثى لها من الإهمال، ولكن هل تدبر من تتزوج منهن مصريًّا أمر زوجها كما كانت تفعل لو كان زوجها أوروبيًّا؟ كلا، والحسُّ يؤيد ما أقول؛ فإن أغلب رجالنا الذين تزوجوا منهن يئنون ويصرخون من تبذيرهن واتباعهن أهواءهن، فالمرأة الغربية تعتقد أنها من جنس أرقى من المصري، فإذا تزوجته ظلت رئيسة له يعمل بإشارتها وحسبت أنه ملزم بالإنفاق على ما تشتهي وجلبه لها حتى ولو كان في الصين، فهي مدبرة مع الغربي مسرفة مع المصري. وإذن، ضاعت أفضليتها من هذا القبيل، وبعضهم يدعي أنه يفضلها لأنه يمكنها الخروج معه في نزهة وروحاته وغدواته، ولا أظن الرجل يحب أن ترافقه زوجته وتلزمه لزوم الظل فإنه داعية للملل، على أنه لو كان هذا الرأي صحيحًا لما تأخر أكثرنا عن تنفيذه وأنا أول من تفعله، ولا أجد للمرأة الغربية التي تقبل الزواج من مصري ما يفوقها علينا إلا أمرًا واحدًا، لا أرانا نحسنه لأننا لم نمارسه ولا أريد أن نمارسه، ذلك أنها ماهرة في اجتذاب القلوب وفي نصب الشباك للرجال، فإذا صادت بحركاتها وغنة صوتها مصريًّا فليعلم أنها دربت على ذلك في عشرين غريبًا قبله؛ فهل يقبل وفيه غيرة الشرقيين وأنفتهم أن تطعمه طبيخًا، حقيقة، لذيذًا ولكنها أنضجته على نار غيره، ثم انتبذه من قبله خلق كثير؟!

وبفرض أن الزوجة الشرقية الراقية نقصت قليلًا عن أختها الغربية، فلماذا لا يرشدها بعلها إلى مواضع خطئها بالرفق ويريها ما يحب وما لا يحب؟! لا سيما وأن أحب شيء إلى الزوجين المتحدين أن يبذل أحدهما وسعه ليرضي الآخر، فانصراف شباننا لتلقي العلوم الحديثة في أوروبا يجب أن يكون لخير البلاد لا لشرها، فكما يتعلمون لنفع أنفسهم يجب أن يقرنوا ذلك النفع بنفع مواطنيهم أيضًا، وإلا فلو اتبع كل واحد يرى عيبًا في صاحبه طريقة هؤلاء الشبان لما كان لأحد من أهل بلده خليل «ومن ذا الذي تُرضَى سجاياه كلها؟!» فواجبهم الوطني يقضي عليهم بأن يدخلوا كل ما يرونه صالحًا في بلادهم مع الاستغناء عن الأجنبي على قدر الإمكان، فصانع الحرير الوطني إذا رأى معامل أوروبا وسرعتها وجب أن يشتري لبلاده الآلات اللازمة لسرعة إنجاز العمل، لا أن يدخل تلك الصناعة بعينها ويقضي على صناعته الجميلة، فيكون قد اقتبس شكلًا وأبطل آخر، فنحن إذا اتبعنا كل شيء غربي قضينا على مدنيتنا، والأمة التي لا مدنية لها ضعيفة هالكة لا محالة، فشباننا يدعون أنهم يأتون بنساء أوروبا؛ لأنهم رأوهن أرقى من نساء مصر. إذن، يجب أن يحضروا لنا تلاميذ أوروبا؛ لأنهم أرقى من تلاميذ مصر وعمال أوربا لأنهم أرقى من عمال مصر؛ لأن النظرية واحدة فماذا تكون الحال لو تم ذلك؟ وهل إذا سافرت زوجة مصرية لأوروبا ورأت الأطفال هناك أجمل بشرة وأحلى منظرًا من مثلهم في مصر أيصح أن تترك أولادها، وتأتي بغيرهم من الغربيين، أم أن تجتهد في تجميلهم وتقريبهم من الشكل الذي أعجبت به؟! وإذا كانت أحط فتاة غربية تتزوج مصريًّا يتبرأ منها أهلها، أفنرضى نحن عنها وقد شغلت محل أشرف فتاة منا، وصار زوجها مثالًا لغيره من الشبان؟ أنا أول من يعجب بنشاط المرأة الغربية وإقدامها، وأول من يحترم من تستحق الاحترام منهن، ولكن يجب أن لا ينسينا احترام الغير منفعة الوطن. والمصلحة العامة فوق الإعجاب، وإننا في كثير من أمورنا نسير وفق ما يراه الرجال، فليرونا ما يحبون وكلنا مستعدات للسير بمقتضاه بشرط أن لا يكون ظلمًا لنا ولا إجحافًا بحقوقنا.

يؤلمني أن درجة احترام الرجال لنا ليست بالدرجة التي نحب، وإذا بحثنا وجدنا أننا نحن اللاتي وضعنا أنفسنا في هذا الموضع غير المرضي؛ ذلك أن الإنسان ينزله الناس في المنزلة التي يختارها هو لنفسه ويسير عليها، كما قال زهير: «ومن لم يكرم نفسه لا يكرم» لا يكرم المرء نفسه بأن يقول: سعادتي وحضرتي أو البك والباشا في نفسه، كبعض الجهلاء الذين ينالون رتبًا جديدة، ولكن لا يستهين بذاته فيهينها ويشعر من نفسه بالضعة فيهينه الغير أيضًا، فهل نضع نحن أنفسنا عادة في الموضع اللائق بها؟ كلا، يحكى أن أحد الخلفاء بينما كان يروض نفسه في الطريق إذ سمع صوتًا في خربة؛ فاتَّجه نحوه فوجد فيها زبالًا يقول:

وأكرم نفسي إنني إن أهنتها
وحقك لم تكرم على أحد بعدي

فقال له: وأي إكرام لنفسك وأنت تحمل التراب والأقذار؟! قال: نعم؛ أفعل ذلك لأكفي نفسي مهانة السؤال من مثلك. إن معتقداتنا وأفعالنا كانت سببًا عظيمًا في قلة احترام الرجل إيانا، أيعتبر رجل عاقل امرأة تعتقد في السحر والشعوذة وكرامة الأموات وتجعل من الدلالات والبلانات، بل ومن الشياطين عليها سلطانًا؟! أيحترم المرأة ولا حديث لها إلا (فساتين) جارتها ومصوغات صاحبتها وجهاز فلانة وأخبار علانة؟! هذا فضلًا عما انطبع في ذهنه من أن المرأة أضعف منه وأقل ذكاء، إن تهاوننا في هذه النقطة اعتراف بأن حالتنا مرضية فهل هي كذلك؟ وإذا لم تكن فماذا يرقينا في أعين الرجال؟ يرقينا حسن التربية والتعليم الصحيح، فإذا حسنت تربيتنا وتعلمنا علمًا حقًّا لا قشور بعض اللغات الأجنبية و(دوري مي فاسول) والعلم يشمل أيضًا تدبير المنزل والصحة والأطفال، وإذا تركنا الخلاعة في الطريق جانبًا، وإذا أثبتنا لأزواجنا بحسن سلوكنا وقيامنا بواجباتنا حق القيام، أننا آدميات نشعر وأن لنا نفوسًا لا تقل عن نفوسهم فلا نسمح لهم بحال من الأحوال بإيلام شعورنا أو بالاستهانة بنا، إذا فعلنا كل ذلك فمن أين يجد الرجل العادل طريقًا لاحتقارنا؟! أما غير العادل فكان حريًّا بنا أن لا نقبل الزواج منه.

يرقينا أن نطرح الكسل أرضًا، فإن عمل أكثرنا في المنزل هو القعود على (الشلتة) كل النهار، أو الخروج للزيارات كأن رد فعل القعود أدار لولب أرجلنا ونفخ في شراع حبرنا فلم نقوَ على ضبط جماحنا، والتي تعرف القراءة منا ففيم تقضي أوقات فراغها؟! في قراءة الروايات فقط، فهلا قرأت قانون الصحة أو بعض الكتب المفيدة فتنتفع وتنفع؟! إن انغماسنا في الكسل أو الترف أدى إلى ضعف أجسامنا وشحوبنا، فيجب أن نبحث لنا عن عمل نزاوله في منازلنا، والمتأمل يرى لأول نظرة أن الطبقات العاملة هي الأسلم صحة والأكثر نشاطًا والأنجب نسلًا، ألا تنظرن إلى أولاد الطبقة الوسطى والسفلى فإنهم كلهم تقريبًا أصحاء الجسم أقوياء البنية؟ أما أولاد (الذوات) فأكثرهم مرضى أو نحفاء، يتأثرون بأقل العوارض، مع ما يبذله آباؤهم من الاعتناء بهم بعكس أولاد الطبقة الدنيا مثلًا فإنهم في إهمال شديد من والديهم، العمل يخرج الفضلات الزائدة في الدم ويقوي العضل ويبعث على النشاط، والطبقة أو الأمة العاملة يزداد نسلها فتعتز بأبنائها وإن الأمة الألمانية لشاهد حسي على ما أقول، فإن التعداد يظهر أن النسل هناك يزداد بسرعة هائلة حتى ضاق رحب ألمانيا بأهلها؛ فأخذوا يبحثون عن أراضٍ يستعمرونها ليصرفوا فيها الزائد من السكان، والذين زاروا أوروبا أخبروا أن أهل ذلك البلد مجدون نشيطون رجالًا ونساء، بعكس المرأة الفرنسية فإن ترفها الزائد كان سببًا في قلة نسلها فضلًا عن انصراف كثير من تلك الأمة عن الزواج، وقد بح صوت الاقتصاديين والاجتماعيين في نصح مواطنيهم بالاعتدال واتباع الطريق القويم فلم يفلحوا، لاحظت وأنا في البادية أن بين نساء البدو ورجالهم كثيرًا من العجائز ممن بلغوا الثمانين والمائة، وقد رأى معظمهم أربعة أعقاب من ذريته، مع أني لم أر في القاهرة ولا في المدن الأخرى ما يشبه ذلك، ولا شك أن هذا نتيجة عيشتهم الطبيعية واعتدالهم، فإنهم كلهم مبكرون في كل شيء؛ مبكرون في الاستيقاظ وفي النوم وفي تناول الأغذية وفي الأخذ بأول كل شيء وكلهم عاملون، ولم أر بينهم امرأة واحدة حتى من نساء أغنيائهم، تقضي النهار في الكسل كما نقضيه نحن، فإذا كان الفلاسفة والأطباء يبحثون عن أكسير الحياة فها أنذا قد اكتشفته، ذلك هو العمل والاعتدال في المعيشة أو العيش الطبيعي، ولعل في هذا القدر عن المرأة كفاية اليوم.

بقي علينا أن نبين الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه ولو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية:
  • المادة الأولى: تعليم البنات الدين الصحيح، أي: تعاليم القرآن والسنة الصحيحة.
  • المادة الثانية: تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وجعل التعليم الأولي إجباريًّا في كل الطبقات.
  • المادة الثالثة: تعليمهن التدبير المنزلي علمًا وعملًا، وقانون الصحة، وتربية الأطفال، والإسعافات الوقتية في الطب.
  • المادة الرابعة: تخصيص عدد من البنات لتعلم الطب بأكمله وفن التعليم؛ حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.
  • المادة الخامسة: إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.
  • المادة السادسة: تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.
  • المادة السابعة: اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم.
  • المادة الثامنة: اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.
  • المادة التاسعة: المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.
  • المادة العاشرة: على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤