الفصل الرابع

الأمومة واعتماد النساء على الرجال بسببها

إن حياة الحيوان الثديي العادي، بما في ذلك الأنماط البشرية البدائية فنازلًا، تكاد تُستنفد كلها في النمو والنوم والتشمُّس والبحث عن القوت والتناسل؛ ففي ذلك وحده تمضي الأيام تلو الأيام، وقد امتدت هذه الظاهرة إلى عصرنا الذي نعيش بين ظهرانيه، فشملت أفراد الطبقة الدنيا على النحو الذي شملت به أسلافنا الأوائل مما هو دون الإنسان في مراتب الحياة؛ فقد كان هؤلاء الطغام يكدحون ويتزوجون وينشئون الأبناء، ولم يبقَ لهم من حياتهم شيء؛ إذ لا يكادون يفرغون من إنشاء الأسرة ويهيئون لها أسباب العيش حتى تكون أعمارهم قد دنت من آجالها.

هكذا كان الرجال والنساء يندفعون بقوة العادة وضرورة الحياة اليومية إلى العمل من المهاد إلى اللحود. ولما كانت مواليد الإناث مساوية على وجه الإجمال لمواليد الذكور، فقد كانت صورة الزواج العادية هي اكتفاء الرجل بزوجة واحدة، وإن يكن تعدُّد الزوجات قد فُرِض في بعض الحالات فرضًا حين يحدث أن تسير جماعة من الرؤساء ومَن إليهم فتحتكر لأنفسها عددًا من النساء أكثر من نصيبها؛ وقد كان يُعَوِّض هذا الرجحان في ناحية تَعَرُّض الذكور إلى الموت العنيف، وضعف مقاومة الرجل لكثير من الأمراض إذا قيست بمقاومة النساء (نسبة النساء إلى الرجال في غربي أوروبا تقرب أن تكون واحدًا وعشرين امرأة إلى عشرين رجلًا).

لهذا شاعت في أرجاء العالم كله طريقة واحدة في تقسيم العمل أمْلتها البداهة (مع شيء من الاختلاف بين الأمم في وجهة النظر وفي ضروبٍ من التباين اليسير) فتَعَرُّضُ الأنثى للحمل الحين بعد الحين، وحاجة الصغار إلى الحماية قد اقتضيا بطبيعة الحال وملاءمة الظروف، أن يتولَّى الرجل ما يتطلب قدْرًا أكبر من الجهد والنشاط والمغامرة في صيد القوت أو إنتاجه، وأن تقبع المرأة في الدار لترعاه ولتطهي الطعام وتستقر بين صغارها، وعلى أساس هذه الضرورات الملزمة (التي لم تَعُد ضرورات في هذا العصر) قام التقليد الذي يجعل المرأة كَلًّا على الرجل.

ولكن واجب رعاية الأطفال يقع على كاهل الرجل كما يقع على المرأة سواء بسواء؛ فهو واجب ألقته الحياة عليهما معًا؛ فالرجل الاجتماعي في صورته الطبيعية كما يبدو في طوائف الزارعين، يعين الزوجة والأبناء بما يقدِّم لهم من خير، ويتصدَّى لتبعة تنشيئهم، ولكنه إلى جانب ذلك طاغية يختص نفسه بالسلطان؛ فهو سيد الدار وهي قرينته. وإنك لترى صنوف الحيوان الثديي كلها، وصنوف الطير التي جُبلت على حضانة بيضها، تضحي بكثير من حرياتها الخاصة في سبيل تربية صغارها وتهيئة السعادة لها؛ ولكن الإنسان أعظم تضحية من هذه كلها وأطول أمدًا في بذلها؛ لأن صغاره تحتاج مثل هذه الرعاية الطويلة، والمرأة في ذلك أعظم تضحية من الرجل، ولقد رضيت على كرِّ العصور بزعامته مضطرة، فإن لم يكن هذا الإذعان لزعامة الرجل جزءًا من طبيعتها الموروثة، فلقد تأصَّلت جذوره في نفسها بقوة العرف تأصُّلًا يكاد يستعصي على الزوال.

وهذا الذي تواضع عليه الناس من الإجحاف بالمرأة في قسمة العمل المنزلي بين الزوجين، مضافًا إلى حمْلها الأجنة قبل أن تُعِدَّها الطبيعة لذلك، وما تعانيه في تربية أبنائها، قد أفنى الكثرة الغالبة من النساء قبل فناء أزواجهن؛ فقد كانت المرأة فيما مضى تشيخ أسرع من الرجل، وهي لا تزال كذلك في البلاد التي تسود فيها صور الحياة العتيقة؛ وكان الرجل دائم النزوع إلى أن يُلْحِقَ بزواجه الأول زوجاتٍ في سن الشباب، ما مكَّنته قوَّته وسطوته من ذلك؛ وقد دامت هذه النزعة الملحة ألوفًا وألوفًا من السنين، تميل بأشداء الرجال وأقويائهم إلى تعدُّد الزوجات، فَطَوْرًا تستعلن هذه الرغبة وتفرض نفسها فرضًا كما هي الحال في أفريقيا السوداء، وفي كثير من أمم الشرق، وطورًا تسعى في خفاء متسترة من نُظُم المجتمع القائمة، لتحطِّم تفرُّد الزوجة الذي يأخذ به أوساط الرجال والنساء والذي بات عادة مُلزِمة. وأما تعدُّد الأزواج لامرأة واحدة فهو نادر الوقوع في بلاد التبت، ومع ذلك فهو أقرب إلى الإخاء في اقتسام النساء عما يقابله من تعدُّد الزوجات الذي يفرضه ذوو السلطان من الرجال. ومن الحق أن نقول إن النساء حين بُسِطَ لهن في القوة وأُفسح لهن في مجال الفرصة — مثل كاترين الثانية إمبراطورة الروسيا — قد بَدَوْنَ راغبات في هذا الزواج المتعدد، شأنهن في ذلك شأن الرجال سواء بسواء، ولكنها حالات نادرة؛ وهذا يسوقنا إلى موضوع البغاء ولكنا نرجئه إلى حينٍ لنتناوله بالبحث فيما بعد. وكل هذه الأمثلة الشاذة لا تغيِّر كثيرًا من الحقيقة بأن الأمومة كانت حائلًا منيعًا في وجه المرأة اضطرها اضطرارًا إلى التواكل على الرجل وإلى ضَعف حيلتها في الدفاع عن نفسها، حتى رسخت هذه الأصول في تقاليدنا الاجتماعية رسوخًا يكاد يتعذر على الزوال.

أما اليوم فإن في البلاد التي تظللها حضارة المحيط الأطلسي طائفة من الظروف تتآمر على تحوير، بل تحطيم كل هذه الأسس التي قام التقليد على أساسها، تحطيمًا سريعًا؛ وأهم العوامل التي شاطرت في هذا التحطيم هي أولًا تحديد النسل وقلة وفيات الأطفال بالوسائل الصحية؛ فذلك قد جعل أمومة المرأة أمومة جثمانية لا تعدو أعوامًا قلائل في حياتها النسوية، وثانيًا نشر التعليم وتحويل معظم المرافق المنزلية إلى خدمات عامة تُقضى خارج الدار، وثالثًا قيام القانون ورجال الشرطة مقام الرجل في واجب حماية المرأة، وهكذا كادت تفجأ المرأة بهذا التحرر من قيودها والتعرض لما يأتي به الدهر، ومع ذلك فالتقليد الذي تعاقبته أجيال لا تقع تحت الحصر، والذي يَحرِم المرأة ويَكِل أمرها إلى الرجل، لا يزال عالقًا بأذيالها حتى اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤