صامت حتى النهاية

«شخصية باهتة لا أهمية لها»

يختتم آرثر كوستلر حديثه قائلًا: «كشخص، يبدو كوبرنيكوس شخصية باهتة لا أهمية لها، إنه كاهن خجول من مقاطعة فارميا البروسية البائسة؛ كان طموحه الرئيسي … أن يتركه الناس وشأنه وألا يجلب لنفسه السخرية …» وكتب جيكوب برونوفسكي يقول: «تبقى شخصيته صامتة بالنسبة لنا حتى النهاية. لم يتزوج مطلقًا … إلا أنه كانت له مديرة منزل ظلت تُعَد غير محل للثقة حتى عام ١٥٣٩.»

في اللوحات الزيتية التي صُوِّر فيها نجده في بعض الأحيان متشبثًا بكتابه العظيم، وهو جالس في الظلام يحدق فينا في حذر. حتى عظام وجنتيه وغيرها من زوايا وجهه بارزة، حتى إنك تظنه بشعره الأسود وعينيه السوداوين، يكاد يشبه المنغوليين أو هنود أمريكا. وكان يُصوَّر أحيانًا وهو يضم يديه كمن يصلي، وأحيانًا أخرى يصوَّر بخلاف ذلك.

ويكتب السير روبرت إس بول، قائلًا: «كان يتحاشى أي مجتمع عادي، قاصرًا صداقاته الحميمة على رفقاء شديدي الجدية ومثقفين، رافضًا الانخراط في حوار من أي نوع لا طائل من ورائه.»

كان من بين أولئك الرفقاء، الرياضي الشاب ريتيكوس، الذي كان يعرف كوبرنيكوس شخصيًّا ويجمل شخصيته على النحو التالي: «علم فلك سيدي ومعلمي لا يمكن وصفه إلا بأنه خالد.»

مقطوعات ختامية لظاهرة الاحتجاب

كان اسمه الحقيقي، الذي كان في الوقت نفسه اسم والده تاجر النحاس، نيكلاس كوبرنيك. وُلد في مدينة تورون الواقعة على أحد الأنهار، في التاسع عشر من فبراير عام ١٤٧٣. ما الفائدة التي من الممكن أن تعود علينا من تلك المعلومات؟ وبأي كسوف أو خسوف يمكننا ربطها؟ وما علاقتنا نحن بأمِّه النبيلة السيليسية أو بأسلافه الآخرين؟

استنادًا إلى رسم تخطيطي عُثر عليه في القرن التالي، تشبه تورون نجمةً محطمة تركت نقاطها الثماني دون أن يلحقها أذًى، وحافتها غير المكتملة تواجه نهر فيستولا. وفي هذا الصدد نادرًا ما تختلف تورون عن الكون القديم بعد أن توقف كوبرنيكوس عن التعامل معه.

يخبرنا أحد مؤرخي القرن الثالث عشر أن المدينة كانت في الأصل حصنًا بُني حول جذع شجرة بلوط عظيمة على يد سيد المدينة هيرمان بالك. كانت الفيضانات المستمرة لنهر فيستولا تتطلب إعادة تغيير المكان. وهنا أيضًا، يمكننا رسم حكاية عن كون قديم، إن رغبنا في ذلك. ولكن لِمَ نشقُّ على أنفسنا؟

إذا أطلنا النظر إلى المنزل ذي الجدران العالية، الذي هو بمنزلة لبنة عظيمة في جدار منازل أخرى، حيث وُلِد، ما الذي يمكننا أن نكتشفه؟ لو أننا فوجئنا به أمامنا الآن، ما الذي نود أن نعرفه منه؟ وما عساه أن يخبرنا به؟ يقول برونوفسكي من جديد: «عندما كانت الشكوك تخالجه، كان يفضِّل البقاء صامتًا، ولم يكن يقول شيئًا لا يؤمن به.»

فما الذي «يؤمن» به؟

لا نجد دليلًا على أنه صار قسًّا مكلفًا في يوم من الأيام، ومع ذلك فإنه بفضل عمِّه ذي النفوذ، عمل كاهنًا بالكنيسة الكاثوليكية منذ أن بلغ الثانية والعشرين من العمر. ولم يتمكن والده تاجر النحاس من تقديم يد العون له؛ إذ إنه توفي في ذات العام الذي طُبعت فيه أخيرًا الجداول الألفونسية؛ وكان كوبرنيكوس حينئذ في العاشرة من عمره. هذه التفصيلة تتوافق مع الانبهار الذي شكلته عن شخصية بطلي ذي الروح المعتزلة المنعزلة.

كان راتبه مريحًا ومضمونًا حتى الوفاة، غير أنه كان مكلَّفًا بالفصل في القضايا القانونية التي تنشب بين المزارعين، وبتحصيل الإيجارات، وبالتفتيش على مزارع الكنيسة، إلى غير ذلك. لا يمكننا أن نكون على يقين من حجم وقت الفراغ الذي كان يمتلكه كي يُجري فيه دراساته الفلكية. في عام ١٦٢٥، رأى الباحث سترافولسكي أنه من الملائم أن يترك لنا هذا التقييم لشخصية الرجل:

كان مشهورًا عنه في مجال الطب أنه خليفة أسكليبيوس … وهو ما يجب أن نفسره بأنه كان على علم ببعض العلاجات البسيطة، وأنه أعدَّها بنفسه، واستخدمها في سعادة، موزعًا إياها بين الفقراء، الذين كادوا يعبدونه وكأنه أشبه بإله.

لو كان سترافولسكي صادقًا فيما رواه، إذن فالبرج والعصا المدرجة ولوحات الرسوم الهندسية لا بد أنها كانت تحولات عارضة للغاية؛ ولكننا كالعادة، لا نعلم يقينًا.

حوالي عام ١٤٩١، شرع كوبرنيكوس ابن الثمانية عشر عامًا، الذي صار وقتذاك طالبًا في جامعة ياجيلونيان، في دراسة القانون أو علم الفلك، أو ربما درس الفلك مع القانون. (التجمعات البلُّورية الكثيفة للأسقف المرتفعة والأبراج حادة الارتفاع في كراكوف تحيا داخل سور متعدد الأبراج والبوابات؛ وجسر ضيق يفضي بعد عبوره النهر إلى جزيرة أصغر مساحة تدعى كاسيميرس، تتعلق جسورها فوق حركة البيئة المائية من حولها وكأنها أرجل عنكبوت؛ تلك هي الطريقة التي صُوِّر بها تخطيط معاصر لهذا البرج المكوَّن من نجمين. وفي الفناء الحجري الذي يمثل البحر تبزغ جزيرة طرقُهَا محاطة بمبانٍ قوسية الشكل، يعلوها صليب الكاتدرائية: جامعة ياجيلونيان.) من المرجح للغاية أنه عند تلك المرحلة من حياته اشترى أو أُهديت له طبعة ثانية من الجداول الألفونسية (البندقية، ١٤٩٢). وعلى النقيض من أسلوبه المعتاد، يطلب أن تُلحق صفحات بيضاء بنسخته، ربما لكي يتمكن من تحديثها بالجداول الألفونسية المحدثة.

كان معروفًا عنه قراءته لكتاب ساكروبوسكو «حول الأفلاك» وكتاب «النظرية الجديدة في حركة الكواكب» لبورباخ، وهو بحث بطلمي آخر. و«يُعتقد» أنه كان يحضر محاضرات فويتشك كريبا عن بطليموس، التي لا بد أنها كانت تعرض كتاب «المجسطي» على هيئة سلسلة من الحقائق المؤكدة التي تقترب في صدقها من النصوص المقدسة ذاتها.

في عام ١٤٩٤، بدأ في استكشاف الأصقاع الأجنبية في عالمنا الأرضي، متبعًا المسار المقبول كشابٍّ بولندي متعلم. فحضر تحديدًا محاضرات في جامعة بولونيا (التي يعد تخطيطها المدني أقل ضخامة من الناحية المعمارية من كراكوف، غير أنها مع ذلك محاطة بأسوار وذات أفنية)، وهنا درس كلًّا من القانون وعلم التنجيم. من نافلة القول، أن ذلك الميدان الأخير في حاجة إلى أن يجري مريدوه عمليات رصد كوكبي تفصيلية. وهكذا سرعان ما عاد إلى العالم السماوي، موضع تركيزه الحقيقي. كان معلمه يُدعى دومينيكو ماريا دي نوفارا، رصد معه الخسوف القمري الذي حدث فوق «نجم الدبران في برج الثور» عام ١٤٩٧. واكتشف أن تزيُّح القمر خلال ذلك الحدث يأبى الإذعان لتنبؤات بطليموس.

في هذه الأثناء كان يدرس اللغة الإغريقية، ليقرأ كتاب «المجسطي» الأصلي. رسالة الدكتوراه التي تقدَّم بها في فيرارا، ورحلاته الأخرى جيئة وذهابًا، ماذا يعني كل هذا بالنسبة لنا؟ لقد كُتِب أنه في ذلك التوقيت تقريبًا بدأ كوبرنيكوس لأول مرة في التفكير مليًّا في فكرة فيثاغورس عن الكون الذي تُمثِّل الشمس مركزًا له، لكن لماذا لم تكن البداية في وقت مبكر عن هذا؟ يمكننا أن نجول في عقله مثلما تمكَّن هو من رؤية قرص كوكب عطارد، غير أنه يبدو من المرجح أنه في مجالات بحثه هذه، أصبح معرضًا لأهواء دعاة الأفلاطونية الجديدة، الذين بشَّروا بأن الكون الأرسطي المحدود من شأنه أن يحدَّ من كمال الرب (تذكَّر أن كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» يدعو إلى الكمال، الذي اقتبسنا بالفعل أجزاءً منه كمثال على علم الفلك الوارد في النص المقدس: «في مركز كل شيء تستقر الشمس؛ إذ مَن ذا الذي يرغب في وضع ذلك المصباح المنير لمعبد شديد البهاء في موضع آخر أو أفضل من ذلك الموضع الذي منه يمكنه إضاءة كل ما حوله في آن واحد؟») مع أن كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» لن يقحم نفسه أبدًا فيما وراء كرة النجوم الثابتة، فإن تلك الغريزة الأفلاطونية الجديدة المتجهة نحو الخارج ربما كانت لديها النزعة الكوبرنيكية تجاه عدم مركزية الأرض. هل وجب علينا أن نعتبره أفلاطونيًّا مجددًا، مثلما دعاه كون؟ يجيب محرره روزن ساخطًا: «هذه التقسيمات تركن إلى قصبة مهشمة تتزلج فوق وحل زلق، في الوقت الذي تتجاهل التصاق كوبرنيكوس الوطيد بجوهر الأرسطية الصلب.» حسنًا، حسنًا؛ على كلٍّ، من ذا الذي يعرف كوبرنيكوس؟

عام ١٥٠٠ ألقى محاضرات في الرياضيات في روما. أي شيء آخر من المحتمل أن يكون قد صنعه هناك؟ كم تتخيل من وقتٍ كان لديه كي يتردد على الغواني أو يزور الآثار؟ في كتابه «عن دورات الأجرام السماوية» يربط بين التفاصيل الفنية المختلفة لحالة كسوف مرصودة بواسطة بطليموس منذ ردح طويل من الزمن، ثم يعلق قائلًا: «أجرينا بعمليات رصد متأنية لكسوف آخر حدث فوق روما، في سنة ١٥٠٠ ميلاديًّا، عقب اليوم التاسع من شهر نوفمبر، بعد منتصف الليل بساعتين، وقد حدث في فجر اليوم الثامن قبل منتصف نوفمبر.» إذن فهو يطارد غرامه في روما.

عام ١٥٠٣ عاد إلى كراكوف ليعمل أمينًا وطبيبًا لدى عمه. ونعلم أنه منذ ذلك الحين وصاعدًا «عاش حياة منعزلة كرَّس فيها جهده لعدة وظائف.»

عام ١٥٠٤ أو نحو ذلك العام، رصد حالة اقتران للكواكب الخمسة جميعها والشمس والقمر في برج السرطان؛ وكانت مواضعها تبدو بعيدة عما كانت ترى الجداول الألفونسية.

نحو عام ١٥٠٦، بدأ بحثه في رياضيات نظامه التي تمثل الشمس مركزه.

وفي فترة ما بين عامَي ١٥٠٨ و١٥١٤ ألَّف كتابه «الشرح المختصر»، الذي رأى فيه من بين آراء أخرى ربما ستُعَدُّ لاحقًا من قبيل الهرطقة:

  • (١) «لا يوجد مركز واحد لجميع الأفلاك أو المدارات السماوية.»

  • (٣) «جميع الأفلاك الكروية تحيط بالشمس … بحيث إن مركز الكون قريب من الشمس.»

  • (٦) «ما يبدو لنا حركات للشمس ليس بسبب حركتها هي، بل نتيجة لحركة الأرض وفلكنا، الذي ندور معه حول الشمس.»

فيما يختص بالهرطقة، ربما تجدر الإشارة إلى أنه بفضل حساسية ملوك بولندا في القرن السادس عشر تجاه مستشاريهم البروتستانت، الذين كانوا يحظرون كثيرًا المذابح الطائفية التي كانت تحدث في بلدان أوروبية أخرى، لُقبت بولندا باسم «فردوس المهرطقين».

أيام الصوم وأيام الإفطار في جاينوبوليس

ثم انتقل عام ١٥١٠ إلى فراونبورج، أو فرومبورك — إن كنت تفضل ذلك الاسم — أو «قلعة سيدتنا» مثلما يمكننا أن نترجم الاسم حرفيًّا، أو «جاينوبوليس» مثلما كان يهوى هو ترجمة الاسم إلى الإغريقية تدليلًا له، على أمل أن يحظى بمزيد من السلام. وأظن أن ما وجده كان سلامًا. في أعوام ١٥١١ و١٥٢٢ و١٥٢٣ يرصد ثلاث حالات كسوف كامل، قاس فيها عواملها المتغيرة القيمة مستخدمًا أدواته البدائية. وفي أعوام ١٥١٢ و١٥١٨ و١٥٢٣، رصد ثلاث حالات مواجهة للمريخ مع الشمس. «نحن أنفسنا رصدنا موقعًا ثانيًا للزهرة في عام ١٥٢٩ ميلاديًّا في اليوم الرابع قبل انتصاف مارس، بعد الغروب بساعة واحدة … وكان المشهد تامًّا عند فراونبورج.» ويعلن عالم الرياضيات آر إف ماتلاك عن تقديره له؛ لحلِّه صعوبتين كانتا محيرتين وقتذاك تتعلقان بحساب المثلثات الكروية: كيف تجد الزوايا عند علمك بأطوال جميع الأضلاع؛ والعكس صحيح. كيف كان في استطاعته تحقيق النجاح في تلك الإنجازات لو لم تتركه الحياة وشأنه؟

لا ريب أنه في هذه الأثناء كان يقاوم الأوبئة ويؤمِّن لفارميا حصولها على مورد للمياه. ويعتقد الدكتور الطبيب ألكسندر ريتل أنه مسئول مسئولية مباشرة عن تصميم برج المياه الذي يبلغ ارتفاعه مائة قدم، والذي كان يرفع المياه فوق «بكرتين منشوريتَي الشكل»؛ دلو وسلسلة كانا يملآن الصهريج. غير أن هناك آخرين عارضوا هذا الزعم.

دُعي الناس لحفل استقبال رسمي، وكتب قائلًا: «السادة المبجلون الموقرون، سادتي المحترمين … كادت الترتيبات تكتمل لأيٍّ من» الظرفين، «إن كان يوم صوم أو يوم إفطار.»

في هذه الأثناء، كان يمسك في يده أول جدول لقواطع العالم، باعتباره حشية تفسيرية لعمل ريجيو مونتانوس.

ويعتقد جيكوبسن أنه كان «سعيدًا للغاية بمنصبه الإكليروسي المريح، وإن كان هذا المنصب غامضًا قليلًا، حيث تمتع بسمعة طيبة باعتباره كاثوليكيًّا رومانيًّا ورعًا، وطبيبًا ماهرًا يسارع في تقديم العون، ومديرًا جيدًا، وفلكيًّا من المرتبة الأولى. الأرجح أنه لم يكن يرغب في أن يستشهد من أجل أي شيء.» أنا نفسي لا يسعني إلا أن أتساءل عن مدى علو سقف طموحاته. أتخيله وهو يأمل في إخلاصٍ في أن يحلَّ جميع المشكلات السماوية وأن يفسر الظواهر المرئية ويشرحها بالمثل. إنني أراه واحدًا منا، رجلًا عاش على الأرض ولن يأتي رجل مثله ثانية، رجلًا كانت أحلامه أكبر من أن تتحقق، شخصًا ضائعًا يأسره شيء لم يكن في متناوله، رجلًا منح أفضل ما لديه لشيء ما، ثم توفي تاركًا إنجازه يبلى مع الزمن. لقد عاش في زمن بعيد عنا ولا يمكننا أن نتذكر عنه أكثر من بعض الفتات؛ وهذا هو معنى أن تكون واحدًا منا في هذه الدنيا التي نعيشها، حيث تكون شخصًا تُهمَل كل أحلامه وتخلفها آمال أخرى إن آجلًا أو عاجلًا.

في عام ١٥١٥، وبعد أن صارت الآن حالة أخيه أندرو المصاب بالجذام أكثر سوءًا، بدأ في تأليف كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، الذي ربما يكون قد أنهى العمل فيه عام ١٥٣٠، غير أنه في الختام يكتب تعليقًا يقول فيه: «الازدراء الذي كان لديَّ مبررٌ كي أخشاه بدعوى صعوبة فهم نظريتي وحداثتها أقنعني قناعة شبه تامة بالتخلي التام عن العمل الذي كنت بدأته.»

ومع ذلك، فهو ليس تمامًا بالرجل الحالم المنغلق على ذاته، مثلما كان يرى كوستلر. وبالنظر إلى أماكن وجوده، نجده منخرطًا في مناقشة أو جدل ما؛ ففي عام ١٥٢٤، ماطل المبجل هينريش شنلنبرج في سداد عشرة ماركات ألمانية كان مدينًا بها لكوبرنيكوس؛ ومن ثم كتب بطلنا لأسقف فارميا قائلًا له: «لهذا أرى أن … مكافأتي التي أنالها على تعاطفي أن ألقى الكراهية، وأن يُستهزأ بي كوني راضيًا عن ذاتي.» وطلب في أدب أن يوقف الأسقف صرف راتب شنلنبرج الكنسي إلى أن يسدد ما عليه من دَين. لقد برهن على أنه قادر على كتابة نكات ساخرة ضد زملائه في هندسة السماء: «كونه فلكيًّا عظيمًا (يقصد فيرنر) فهو غير مدرك أنه حول نقاط الحركة المنتظمة … لا يمكن أن تبدو حركة النجوم أكثر انتظامًا من أي مكان آخر.» وبانحيازه إلى جانب الحركة الدائرية المنتظمة، يطالب في حماس بإنكار «موازن» بطليموس: «إذ ما الذي علينا أن نفعله بخلاف إيقاف أولئك الذين ينتقصون من هذا الفن عند حدهم؟» فلماذا إذن أخفق ذلك النمر الجسور في الثبات دفاعًا عن قضية مركزية الشمس؟

في عام ١٥١٦ تذكره واحدة من المذكرات باعتباره قدَّم المشورة بشأن إصلاح التقويم الميلادي. من ناحية أخرى، نعلم كذلك أنه في عام ١٥١٧ يختار «عدم» تقديم العون في إصلاح التقويم الميلادي؛ إذ إن الحركات الشمسية والقمرية ظلت مستعصية على الفهم الدقيق. لقد قيل إن هذا الشأن من الإصلاح هو ما حمله على حساب تفاصيل نظرية مركزية الشمس، غير أنني أجد من الصعب تصديق ذلك، استنادًا إلى الوجود المسبق لكتاب «الشرح المختصر» والصفعة المؤلمة التي وجَّهها لبطليموس أثناء هذا الكسوف لنجم الدبران التابع لبرج الثور. على أي الأحوال، يبقى إصلاح التقويم شأنًا يتناوله كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» تناولًا مباشرًا وغير مباشر؛ ومثال ذلك، أن جزءًا من تبرير تأليف الكتاب الرابع (الكتاب الذي يتناول الشئون القمرية) هو أنه: «بما أن السنة تنتسب إلى الشمس، إذن فالشهر ينتسب إلى القمر.»

عام ١٥٢٠، ينهار مسكنه بسبب الحرب، وهي قوة تشكِّل على الدوام جزءًا لا يتجزأ من عالمنا الأرضي. واعتبارًا من عام ١٥٢١ وصاعدًا يبقى في فرومبورك، منتظرًا ذلك النجم أو ذاك الكسوف.

يكتب توماس كون قائلًا: «كان كوبرنيكوس متخصصًا متفانيًا في عمله … وكان يعطي الأولوية للتفاصيل الرياضية والسماوية؛ كان يقصر تركيزه على معالم التناغم الرياضي للسماوات.»

تبين خريطة العالم لشنيت عام ١٥٣٢ بالفعل دوران الأرض. والسبب، على الأقل من الناحية التصويرية، قوة الملائكة. ولكن عام ١٥٣٣ يتلقَّى البابا كلمة عن نظريات كوبرنيكوس عن طريق الباحث فيدمانستال، ولحسن الحظ، يبرهن البابا على رحابة صدره. حسنًا، فمع كلٍّ، أليس كون كوبرنيكوس محدودًا، تحدُّه كرة النجوم الثابتة، التي هي أرسطية من الناحية السطحية؟ زِدْ على ذلك، أن الأفكار الرياضية التي أتى بها كاهننا المنتمي للعصور الوسطى من الجائز في النهاية أن تسمح بتوافق أيام الإفطار وأيام الصوم مع التقويم السنوي. والحق يقال إن كوبرنيكوس أتمَّ في عام ١٥٣٥ جداول كوكبية فائقة الدقة. وفي العام التالي يبعث تقويمه العام على هيئة روزنامة للنشر في فيينا، إلا أنه لسبب أو لآخر لم تُنشر.

وفي عام ١٥٣٦، حصل يتيكوس البالغ من العمر اثنين وعشرين عامًا — بفضل رعاية ميلانختون الذي سيصير عدوًّا لكوبرنيكوس فيما بعد — على درجة الأستاذية في الرياضيات من جامعة فيتمبيرج، وبعدها بثلاثة أعوام، يكتب بعد زيارته «لسيده ومعلمه» موجزًا لكتاب «عن دورات الأجرام السماوية» بعنوان «النبذة الوصفية الأولى». وقيل لي إنه «يفسر الظواهر» على نحو أفضل مما فعل كتاب كوبرنيكوس «الشرح المختصر». يعتبر بعض المؤرخين «النبذة الوصفية الأولى» أول عرض ينشر لموضوع مركزية الشمس.

في كتاب «الكتاب الذي لم يقرأْه أحد» (ويمكنك أن تخمِّن أي كتاب يقصد بالطبع)، يشير أحد المؤرخين إلى أن «ضرورات الحياة أعدت ريتيكوس كي يكون متمردًا» — إذ ضُرِب عنق أبيه عقابًا له على ممارسته الاحتيال، في حين أن ريتيكوس نفسه كان بروتستانتيًّا ومن المحتمل أنه كان مثلي الجنسي — «وعلم الكون القائم على مركزية الشمس، المناقض بهذا للمعتقدات الراسخة في وجدان الناس في تلك الأيام، لا بد أنه ألهب خياله.» ولكن كم يبلغ مقدار التمرد الذي كان يحتاج إليه المرء في تلك الأيام، حتى يشغل نفسه في كتاب لم يقرأْه أحد؟

«لن يكون لدى أي شخص ذريعة مقبولة لأن يظن بي السوء مستقبلًا»

هذا هو السؤال، أليس كذلك؟ هل الفرضية التي جاء بها كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، التي سرعان ما سيُطلق عليها اسم النظرية الكوبرنيكية، تتطلَّب جرأة من مبتدعها؟ ما حجم الدمار الذي أحدثه ناسك جاينوبوليس؟

عام ١٥٢٤، كتب كوبرنيكوس إلى كاهن مبجل بكراكوف تصادف أنه أيضًا أمين بلاط ملك بولندا، ناصحًا إيانا بقوله: «إن تصيُّد الأخطاء لا طائل من ورائه، ولا يحقق سوى مكسب تافه … ومن ثم فإنَّ أخشى ما أخشاه أنني ربما أثير السخط لو أنني وبَّخت شخصًا آخر بينما أنا نفسي لم أخرج بشيء أفضل مما جاء به.» غير أن هذه النزعة الصوفية يجب ألا يُنظر إليها أكثر من مجرد كونها خطابًا بلاغيًّا؛ إذ إنه بعدها مباشرةً شرع في مهاجمة فيرنر، أو مَن يطلق عليه «الفلكي العظيم».

عام ١٥٣٢، أصبح يوهان دانتيسكوس، الشخصية المكروهة، أسقفًا لخيلمنو، ودعا كوبرنيكوس لحفل تنصيبه، وردَّ عليه الأخير بكتاب يقول فيه إنه «مرتبط بمشاغل معينة»؛ حتى يعفيه من الحضور. يؤكد لنا أحد المعلقين المعجبين بكوبرنيكوس أن «هذا الرفض تطلَّب شجاعة من جانب كوبرنيكوس»، ومن المرجح جدًّا أن هذا صحيح؛ إذ إن دانتيسكوس كان من السهل للغاية أن يصير يومًا ما أسقفًا لفارميا؛ أي يصبح الرئيس المباشر لكوبرنيكوس.

من الطبيعي أن ينحني كوبرنيكوس للسلطة عندما يجب عليه ذلك. تبقى مديرة منزله السابقة — التي في مخالفة منها لنصيحة كوبرنيكوس تقرر الانفصال عن زوجها، ربما لكونه عاجزًا جنسيًّا (سوف نصدق المعلق مع أن الخطاب يقول شيئًا مختلفًا تمامًا) — في منزل كوبرنيكوس بفرومبورك عام ١٥٣١ مع سيدتها الجديدة، التي من غير المعروف على سبيل اليقين ما إذا كانت سيدة تقية أم لا. ومع ذلك، فإن المرأتين كانتا تحت سقف واحد ليلًا، وإحداهما بالفعل كانت عرضة للقيل والقال! فلا عجب إذن أن كوبرنيكوس المسكين تلقَّى خطابًا شديد اللهجة من الأسقف.

ويرد كوبرنيكوس على الخطاب قائلًا: «ولكن لما كنت أدرك الآراء السيئة المحيطة بي والناجمة عن هذا الأمر، فلسوف أرتب شئوني بحيث لا يكون لدى أيِّ امرئ أيُّ ذريعة مقبولة لأن يظن بي السوء مستقبلًا، لا سيما بمبرر من لوم نيافتك وعظتك السامية لي.»

وفي عام ١٥٣٨، يؤمر بالاستعاضة عن مديرة منزله الجديدة بأخرى من قريباته حتى يتجنب الفضيحة. ويطلب مزيدًا من الوقت، لكن طلبه يقابل بالرفض. ويرد على ذلك بكتاب يقول فيه: «أقرُّ بأبويتك المبجلة تمامًا، وهي أكثر من عظة أبوية، شعرت بها بحق من صميم فؤادي.» ثم يتخلص من مديرة منزله في الوقت المحدد له.

وبنفس الروح، يلطف كتابه «عن دورات الأجرام السماوية» بمثل تلك التعبيرات الحذرة التي تنم عن الإذعان: «في حالة الكواكب الأخرى سوف أسعى — بمعونة الرب، الذي من دونه لا نستطيع فعل شيء — نحو إجراء تحرٍّ تفصيلي يتعلق بها …» بطبيعة الحال، يشكل الحذر مجرد جزء من القضية؛ فذلك الإسراف في التعبير عن العاطفة كان سمة لذلك العصر، ومن المرجح جدًّا أنه يعبِّر عن إيمان صادق، ألم يكن كوبرنيكوس صاحب مقام رفيع في الكنيسة الكاثوليكية؟

الوصول أخيرًا إلى بر الأمان

في عام ١٥٤١، ظل كوبرنيكوس متبعًا المساعي الأرضية؛ إذ إنه كان يطبِّب أحد رجال حاشية دوق ألبريخت. وبعدها بعامين وضع نفسه بين يدي رحمة الرب، بأول نسخة منشورة من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» أثناء منازعته لأنفاسه الأخيرة. ما قيمة أي حياة؟ إن الشمس تعبر بضع درجات من إحدى الدوائر، ثم يأتي الليل.

أما عن موروثه، فدعونا نقطف بعض ثمار التفاح من جديد من سلة كوستلر للمجاملات: «إنه واحد من أكثر الكتب التي صنعت التاريخ كآبة وأكثرها استعصاءً على القراءة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤