ما كنا نؤمن به: الحركة

يجري الماء منحدرًا من أعلى التلة، نحو المحيط، وتتهاوى الصخور نحو الأرض التي أتت منها، غير أن ألسنة اللهب تتعالى في عنان السماء نحو النجوم؛ والهواء كذلك يعلو ويرتفع، وهو ما نراه عندما نرى فقاقيع السابح في الماء؛ ومن ثم فإنه من الواضح بديهيًّا أن كلًّا من تلك العناصر الأربعة يسلك سلوكًا يتفق مع طبيعته الخاصة، عائدًا إلى مكانه الطبيعي بميله الفطري. أليست هناك طبيعةٌ نارية جوهرية تدفع اللهب للصعود عاليًا، ونوعٌ من الطبيعة المائية المضادة للصعود تمنع النبيذ المسكوب من أن يحذو حذو النار؟ كلٌّ من الملاحظة والحس السليم يتفقان في وقوفهما ضد ما يسمى بنظرية «الجاذبية»؛ لأن النار والهواء لا يسقطان لأسفل!

من تلك المشاهدات التي تؤكد ذاتها، ظهرت إلى الوجود نظرية حركة عاشت أمدًا طويلًا، ولم تكن مقتصرة فحسب على الحركة وحدها، وإنما سادت علم الكيمياء القديم والطب (أَتذكُر مسألة «الأخلاط الأربعة»؟) والكيمياء وعلم الفلك. وقد انتشرت العناصر الأربعة وتغلغلت في أغلب الجوانب التي يمكن تخيلها على ظهر تلك الأرض مركز الكون، تامة الاتزان، وهي الفكرة التي سوف يقدم كوبرنيكوس يد العون في تسديد ضربة قاضية إليها. ومن أمثلة ذلك، أنه كان لكل فصل من فصول السنة الأربعة عنصره الخاص به: فالبرودة الجافة للخريف كانت تمثل الأرض أو عنصر التراب، أما البرودة الرطبة في الشتاء فكانت تمثل الماء، والدفء الرطب في فصل الربيع كان يمثل الهواء، وهكذا. وكان لذلك تداعيات فسيولوجية متوافقة تمامًا؛ فعلى سبيل المثال: «الدم، الذي يزداد ويكثر في الربيع، رطب ودافئ»، ولأن الكون كان متناغمًا، فإنه حتى في أفلاكه السماوية يمكن وصفه على ذلك النحو؛ ومن ثم كان في استطاعة الفلكي الشهير ألبرتوس ماجنوس أن يؤكد لنا أن زحل يتسم ببرودة قارسة وجفاف، في حين أن المشتري بارد ورطب إلى حدٍّ رحيم …

هل ترغب في تحضير عطر متلائم فلكيًّا مع كوكب الزهرة؟ حسنًا، «خذ مسكًا، وعنبرًا، وصبارًا خشبيًّا، ووردًا بلديًّا أحمر اللون، ومرجانًا أحمر، واخلطها بمخ عصفور ودم حمامة.» إذا أمعنَّا النظر ولو لبرهة في تلك المكونات لوجدنا تفسيرًا معقولًا لها: فالزهرة كوكب متوافق مع فينوس إلهة الحب (بالطبع كمالها أمر مقصود هنا؛ وهي بطبيعة الحال تدور من حولنا في دوائر مثالية!) وما الذي يمكن أن يكون أكثر توافقًا مع الرومانسية من مكونات حمراء بلون الدم ممتزجة بروائح عطرة؟ تمامًا مثلما يحكم كوكب الزهرة بعض الجوانب فينا على الأرض، كذلك يمكننا أن نؤثر في نواحٍ فيه مستخدمين في ذلك أي مواد فينوسية الطابع تقدمها لنا الأرض.

وكلما أطلنا النظر إلى كون ما قبل كوبرنيكوس، وجدنا المزيد والمزيد من حالات التناغم. إن غياب تلك الحالات الآن يعد سلاحًا ذا حدين.

الوضع الملائم للأرض

نعود إلى موضوع الحركة. نحن النيوتِنيين وما بعد النيوتِنيين نؤمن بالقصور الذاتي للسكون والقصور الذاتي للحركة، أما القدماء فكانوا يؤمنون «بقصور ذاتي للوضع الملائم». في علم الكونيات الذي كان بارمنيدس يعتقد فيه كان لديه مبرر قوي لاحتواء عالمنا داخل كرة من النار؛ أما أناكساجوراس فكان لديه مبرر لا يقل عنه قوة لافتراض أن الفضاء الخارجي عبارة عن أثير مكوَّن من حرارة، ألا ترتفع النار لأعلى وتسمو فوق العناصر الثلاثة الأخرى المنافسة لها؟ ألا يصير الهواء أكثر ندرة فوق قمم الجبال؟ (الضغط الجوي عند مستوى سطح البحر: ٢١١٦ رطلًا/قدم مربعة. وعلى ارتفاع ١٠ آلاف قدم، يُحدِث نفس الحجم من الهواء قوة ضغط لا تزيد على ١٤٥٥ رطلًا؛ و٢٢٫٦ رطلًا على ارتفاع ١٠٠ ألف قدم؛ و٠٫٤٤ رطل على ارتفاع ٢٠٠ ألف قدم. فكيف يمكن لأي امرئ أن يعارض مسألة أن الهواء لصيق بموضعه فوق الأرض وفوق الماء، وينفد مع الارتفاع؟)

بهذا المنطق، لا بد للشمس أن تكون مصنوعة من نار: فأشعة الشمس تمنحنا الدفء؛ ليس هذا فحسب، وإنما الشمس أيضًا تتحرك في أرجاء السماء، وهو الموضع المرتفع الذي تصل إليه نيران الأرض؛ ومن ثم فإن الأجرام السماوية الأخرى لا بد أن تكون مصنوعة هي أيضًا من النار. والوضع الملائم للنار أن تكون أعلى من كل ما عداها.

من هذا المنطلق يكتب أرسطو قائلًا إن كل الكيانات الطبيعية (أي التي ليست من صنع الإنسان) «تملك بداخلها قاعدة للحركة والسكون (فيما يتعلق بالمكان، أو بالنمو والنقصان، أو بأسلوب التغير).» وبعدها بتسعة عشر قرنًا من الزمان — تسعة عشر قرنًا! — يعيد كوبرنيكوس في إذعان تكرار تلك المقولة معلنًا أن «الماء، الذي يجري بطبيعته متدفقًا يبحث دومًا عن أماكن دنيا.» زد على ذلك أن «التراب أثقل العناصر؛ وجميع الأشياء أيًّا كان وزنها محمولة فوقه وتسعى للحركة نحو مركزه.» هذا هو المنطق الذي يزعم أرسطو من خلاله أن كوكب الأرض، لكونه مصنوعًا من التراب، يجب أن يكون في المكان الطبيعي لذلك العنصر؛ أي في مركز الكون.

ومن ثم فإن من بين مهاجمي كوبرنيكوس، شخصًا بعينه من العلماء الدومينيكانيين يدعى جيوفاني ماريا تولوساني، يرى الكون على النحو التالي:

لما كان كوبرنيكوس لا يفهم الفيزياء ولا المنطق، فليس من المدهش إذن أنه أخطأ في رأيه هذا … إذ إن كوبرنيكوس يضع الشمس غير القابلة للتدمير في موضع تكون فيه عرضة للدمار. ولما كانت النار بطبيعتها تتجه لأعلى، فإنها غير قادرة، إلا من خلال قيد ما، على أن تظل لأسفل قرب المركز، ويكون هذا موضعها الطبيعي، مثلما اعتقد أنصار فيثاغورس خطأً.

حركة طبيعية أم قسرية

والآن، ما «تعريف» الحركة؟ إن أرسطو يقسِّمها إلى أفرع، فيما يبدو على النحو الذي نقسمها به نحن، إلى «ما يوجد في حالة إشباع فقط»، وما يوجد في صورة طاقة وضع فقط، وما يوجد جزئيًّا في صورة طاقة وضع وجزئيًّا في حالة إشباع. الحقيقة أننا لا نزال نستخدم تعبير «طاقة الوضع» في وصف القوة التي تسكن وزن كتلة معلومة عند ارتفاع معلوم، أو مثلما وصفها مرجعي القديم في الفيزياء على نحو أكثر دقة وأقل تنميقًا من الناحية البلاغية: «الطاقة التي تمتلكها منظومة ما بفعل كيفية تنظيمها.» لكننا نشاهد الطاقة، وكذا المادة، من زوايا أكثر شمولية مما شاهدها أرسطو؛ إذ يمكننا مقارنة حركة الهواء بحركة الماء، مستخدمين نفس المصطلحات لهذين العنصرين المتضادين: الكتلة والوضع والسرعة والعجلة والمسافة والاتجاه والاحتكاك. ومن بين أكثر الأدوات نفعًا التي صرنا نمتلكها الآن لإجراء تلك المقارنة:

القانون الثاني لنيوتن

القوة تساوي الكتلة مضروبة في العجلة.

هذا القانون يؤدي إلى الاستنتاج شديد الغرابة — وإن كان صحيحًا مع ذلك — بأن كتلة أي جسم مادي أيًّا كانت هي القوة الواقعة على ذلك الجسم مقسومة على عجلته. مثال ذلك أن الكيلوجرام الواحد يساوي قوة بقيمة واحد نيوتن لكل متر لكل ثانية (النيوتن يساوي ٣٫٦ أوقية). عندما نضيف إلى تلك الخصوصية الحقيقة الأكثر خصوصية منها، وهي وجود ثابت للجاذبية، فإن بضعة تحويلات جبرية بسيطة تتيح لنا تحديد كتلة الأرض، على سبيل المثال، دون الاضطرار لوضعها على ميزان سماوي: نصف قطر مدار القمر ومدة الفترة القمرية (الزمن الذي يستغرقه القمر لإتمام دورة واحدة كاملة حول الأرض) هي كل ما نحن بحاجة إليه! يمكننا حساب كتلة الشمس بنفس الطريقة من فترة ونصف قطر مدار المشتري، وكذلك من فترة ونصف قطر فلك الزهرة. «إن العقل يرتعد.»

غير أن هذه القاعدة ظلت مجهولة لأرسطو، بل وحتى لكوبرنيكوس؛ فالأول قرر في حزم أنه «لا يوجد شيء اسمه حركة «فوق» الأشياء» المتحركة. فحركة الماء تختلف اختلافًا جوهريًّا عن حركة النجوم. «إن حدوث تغيُّر في شيء ما دائمًا ما يكون مرتبطًا بالمادة أو بالكمية أو بالنوعية أو بالمكان.»

إذن أرسطو وقد زعم أن لكل عنصر قانونه الطبيعي الخاص به، و«فضيلته» الخاصة به، يمضي بمنتهى المنطقية إلى استنتاج مفاده أن حركة جسم ما ربما كانت: (أ) راجعة لطبيعته؛ (ب) قسرية، بمعنى أنها ضد طبيعته، أو (ﺟ) خليطًا بين الاثنتين. على سبيل المثال، حركة الماء عند رفعه باستخدام دلو، هذه حركة قسرية، مضادة لطبيعته الميالة للتدفق إلى أسفل. لا توجد حركة «طبيعية» في عرف أرسطو يمكن للماء من خلالها الصعود لأعلى، وأي هندسي أو فلكي أو غيرهما من الحالمين يفترض وضعًا يحدث فيه ذلك (على سبيل المثال: التبخر) يخسر المعركة مقدمًا. وهكذا هاجم الأب تولوساني — الذي سنلتقيه مجددًا في ظرف أكثر تهديدًا — كوبرنيكوس بعنف على النحو التالي:

لا يمكن للجسم البسيط أن تكون له حركتان طبيعيتان متضادتان؛ إذ إننا نرى التراب يتحرك بطبيعته نحو مركز الأرض بسبب ثقله الطبيعي، لكنه لو قيل إن الأرض تدور، فإن حركتها الدائرية تكون قسرية وليست طبيعية؛ ومن ثم فإن فرضية كوبرنيكوس مستبعدة تمامًا.

الكمال وفق الإرادة

لم يكن تعريف أرسطو للحركة أكثر ارتباطًا بطبيعة الشيء من تعريفنا لها فحسب، وإنما كان أيضًا أكثر جوهرية بكثير، حتى إنه اقترب من علم الوجود؛ فهو يتضمن عنصر «الفعل المحرك». «إن الحركة ما هي إلا تحقيق لحالة الوضع بوصفها حالة وضع.» فعندما نقول: «لقد دُفعت دفعًا لفعل ذلك»، فإننا نستخدم هنا مصطلحات الحركة على نفس النهج الذي يتبعه أرسطو أحيانًا. الحقيقة أنه في كتاب «فوق السماوات» نجد أرسطو في بعض الأحيان يتحدث عن حركة إرادية للنجوم؛ وهذه وجهة نظر بالغة القدم، وهي متفقة تمامًا مع ميلنا البشري لاعتبار الكون مهمًّا بسبب كونه ذا حس. من الصحيح إذن من الزاوية النفسية والروحية، أو إن كنت تفضل، من الجميل ببساطة أن تعتقد ذلك. ولهذا السبب من الممكن أن تبدو معادلة بطليموس بين الرياضيات والفلسفة جذابة للغاية. فقبل أرسطو، افترض إمبدوكليس أن الحب قوة محركة للكون، وبعده بزمن طويل، يختتم دانتي قصيدته الشعرية العظيمة برؤية لثلاث دوائر من قوس قزح والنار؛ «هنا أخفقت القدرة في بلوغ الخيال السامي؛ وصارت رغبتي الآن وإرادتي، كعجلة تدور بانتظام، أُديرت بالحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم الأخرى.»

لو أننا افترضنا أن كمالًا ما يمتلك إرادة هو السمة الجوهرية التي تحرك «العالم» السماوي، فإن غوامض أفلاك التدوير تصبح أكثر قابلية للاحتمال، وتصير ضرورة الإصرار على دورانها أكثر إلحاحًا بالنسبة والتناسب.

«الحركة الدائرية تنتمي إلى المجموع والحركة المستقيمة وذات الزوايا تنتمي إلى الأجزاء»

«أي جسم بسيط لا يمكن أن تكون له حركتان طبيعيتان متضادتان.» لِمَ لا يجوز ذلك؟ لأن هذا الأمر لن يخرق وحسب قوانين الحركة النوعية للعنصر والمكان، وإنما ستُخرق أيضًا البساطة؛ وكذلك الكمال وفق الإرادة.

«من المستحيل أن يتحرك جرم سماوي بسيط حركة غير منتظمة في فلك أوحد.» هذا ما أكده من ثم أحد أتباع أرسطو النجباء ويدعى كوبرنيكوس الذي يضيف قائلًا: «إذ إن هذا لا بد أن يحدث إما على حساب عدم اتساق الفضيلة المحركة … أو على حساب انعدام المساواة بينها وبين الجسم المتحرك.» وقد اقتبسنا من قبل رد فعله تجاه كلٍّ من الاحتمالين: «إن العقل يرتعد.»

لقد بدأنا نفهم «السبب» الذي جعل عقل كوبرنيكوس يرتعد. ولمَّا كان يعتبر نفسه من أتباع مذهب العقلانية الهندسية، وليس من الشعراء أو علماء اللاهوت، فما الذي في وسعه أن يفعله إزاء عدم اتساق الحركة؟ ما الذي في وسعه عمله إزاء حقيقة تقول إن الصيف والشتاء ليسا متساويين في طول فترتهما الزمنية؟

تلك هي! إنه يعرِّف الحركة المنتظمة التي كان يتوق إليها بأنها «متوسط الحركة». تلك حيلته السحرية.

قبل سنوات من انتهائه من تأليف كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» دوَّن ملحوظة يقول فيها: «خلال بحثهما في مسألة مسار القمر تنبأ بطليموس ومن قبله هيبارخوس الروديسي، في بصيرة نافذة دءوبة بأن دورة حركة غير منتظمة يجب أن تكون ذات أربع نقاط متضادة موجودة على الأقطار المتقابلة. تلك هي أقصى سرعة وأقصى تباطؤ، ومتوسط الحركة والحركة المنتظمة كلٌّ منهما عند طرفَي قطر يتقاطع بزاوية قائمة مع القطر الواصل بين الطرفين الآخرين.»

لقد بيَّن لنا منقذنا — أرسطو — كيف نقسم الحركة إلى أجزاء. تحديدًا برَّر لنا أرسطو منطقيًّا ما نسميه الآن متجهات الحركة؛ لكن بالنسبة له كانت الحركة في مختلف الاتجاهات تتصف بصفات متباينة: الحركة في خطوط مستقيمة والحركة الدائرية. إن العناصر الأربعة تعبر عن ميولها في شكل خطوط مستقيمة، وهو ما يعني أنها حركة لأعلى في حالة النار والهواء، أو لأسفل في حالة الماء والتراب؛ أما الأجرام السماوية فمن ناحيتها ترسم دوائر أبدية في صفحة السماوات، وهو مبرِّر آخر للاعتقاد بأنها مختلفة في طبيعتها عن المواد التي نعرفها على كوكب الأرض.

إن كوبرنيكوس بطريقة أو بأخرى يتبع خطى أرسطو في هذا الصدد، مستنتجًا أن «الحركة الدائرية تمضي دائمًا في طريقها منتظمة؛ إذ إن لديها قضية لا تموت أبدًا …» ومن ثم كان رفضه التفكر في احتمال أن تكون أفلاك الكواكب (في حين أنها بالفعل كذلك) دوائر غير تامة الاستدارة. إنه يصر على متوسط حركة حول نقاط متوسطة؛ وهكذا تسير استراتيجية كوبرنيكوس. والعقبات التي فسرها بطليموس بواسطة الموازنات، يمكننا نحن تفسيرها بالاندفاعات في خطوط مستقيمة إذا اضطررنا لذلك؛ ولكن إذا حالفنا الحظ فإننا لن نضطر أبدًا إلى ذلك. يكفينا القول — مثلما سيقول كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»: إن «الحركة الدائرية تنتمي إلى الكل والحركة في خطوط مستقيمة تنتمي إلى الأجزاء» التي زعزعت من موضعها الصحيح. فإذا بدا وكأن فلكًا سماويًّا انحرف عن الدوران، فاحسب حينئذ متوسط حركته وابنِ ما يكفي من دوائر منتظمة الدوران من حول دوائر للتعبير عن ذلك التكافؤ.

في كتابي هذا سوف أدور في حذر حول الالتفافات القبيحة في نظرية الحركة لكوبرنيكوس ما أمكنني ذلك؛ إذ إنني في بعض الأحيان أرتاب في أن يكون حتى مؤلف كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» على علم بأن اختزال الدورات السماوية في حركة دائرية منتظمة ليس من وراءه فائدة. إنه بدحضه بعضًا من أفكار بطليموس حول حركات الكواكب، يعبِّر عن الأمنية غير الطموحة للأسف بأن «تُحفظ مبادئ ذلك الفن، وأن يتم حساب معدل الحركة المنتظمة الظاهرية» لا لتكون ثابتة على نحو مثالي، مثلما قد يأمل المرء، وإنما فقط «أكثر ثباتًا».

حسنًا، ولِمَ لا؟ فيما يتعلق بتعليق كوبرنيكوس للحركة المنتظمة بأنها متوسط حركة، يعلق الفلكي الذي قرأ هذا النص المكتوب كي يجنبني الوقوع في أخطاء، بقوله: «لاحظ أننا نفعل نفس الشيء تقريبًا حتى في أيامنا هذه. من الملائم لنا أن يكون لدينا شيء اسمه «يوم» طوله بالضبط ٢٤ ساعة، لكن الحقيقة أن الشمس لا تعود إلى نفس الموضع بالضبط من السماء خلال نفس المقدار الزمني كل يوم.»

هذا كله صحيح، ولكننا نعلم أننا بالفعل نختصر الطريق، أما الكوبرنيكية فمن ناحيتها، كان أهم ما سعت إليه وناضلت في شرف حتى النهاية من أجله، التعبير عن الأفلاك الكونية في صورة «حركة منتظمة مباشرة في فلك تدوير دائري.»

السكون

منذ عهد نيوتن، صرنا — نحن المؤمنين بعدم مركزية الأرض للكون — نفهم أهمية «الإطار المرجعي» في وصف الحركة. والحقيقة أنه بالنسبة لنيوتن وجاليليو ونحن، فإن السرعة الثابتة، لا السكون، هي ما تصنع المحيط الذي نعيش فيه. إن العلم ينبئنا بأن الأرض تدور حول نفسها بسرعة تقترب من دورة كل أربع وعشرين ساعة، بينما هي تدور حول الشمس في فلك تزيد مدته قليلًا على ٣٦٥ يومًا، في نفس الوقت، ومع باقي أجرام مجرة درب التبانة، تتحرك نحو مجرة أندروميدا، ناهيك عن الزخم الآتي من الانفجار العظيم. دعونا نفكر في انفجارات أصغر حجمًا: لو أننا أطلقنا رصاصة من مسدس نحو منتصف دائرة التسديد، فربما تكون بالفعل الحركة التي تهمنا في تلك اللحظة بعينها هي حركة الرصاصة. سوف نفترض ما يلي باعتباره أمرًا ملائمًا لنا: فالحركات السماوية للرامي، والرصاصة والهدف يمكن التغاضي عنها عندما ننظر في أمر التغير الموضعي للرصاصة منذ خروجها من خزانة المسدس متجهة نحو ركام الغبار الملون بلون الرصاص الموجود خلف الهدف، إلا أن أرسطو يجسد تلك الملاءمة في حقيقة واقعة عندما يقول:

«المكان هو أوغل حدٍّ ساكن لما يحويه.» وهذا يفسر سبب ما يقال عن وسط السماء والسطح الذي يواجهنا من المنظومة الدوارة من أنه «أعلى» و«أسفل» بالمفهوم الدقيق والتام لجميع البشر؛ إذ إن الواحد دومًا في حالة سكون؛ في حين أن باطن الجسم الدوار يظل دومًا متزامنًا مع ذاته.

قبل كوبرنيكوس، كانت الأرض ساكنة. لا تكترث لذلك العدد المحدود من المهرطقين أنصار مركزية الشمس الذين جزموا بعكس ذلك، نحن أنفسنا أحيانًا ما نبتلى بوجود شيوعيين ومتحرشين بالأطفال بين ظهرانينا. كانت الأرض ساكنة. «الواحد دومًا في حالة سكون.»

لتجعل من التعريف التالي أمثولة تحكي عن الأرض مركز الكون برمته ولماذا استغرق الأمر كل ذلك الوقت كي نحركها من سكونها. كان مصدر ذلك التعريف محاورة طيمايوس لأفلاطون: «الثقل عبارة عن مقاومة الجسم لمحاولة تحريكه بعيدًا عن الموضع الذي ينتمي إليه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤