النول المصري

قدَّمنا لجمعية المصري للمصري هذا التقرير التالي: شعر أعضاء جمعية المصري للمصري أن الدعاية وحدها — وهي المهمة التي أرصدت الجمعية جهودها من أجلها — ليست كافية؛ لأنها تنتهي بالوعظ المتكرر. ثم لما كانت الظروف الحاضرة لا تسمح بإيجاد مجلة خاصة بالدعاية للصناعة والتجارة المصرية فكر مجلس إدارة الجمعية في إيجاد عمل إيجابي محسوس لأعضاء الجمعية يكون أساسًا للحركة.

فمن المعروف أن غاندي قد اتخذ المغزل أساسًا لحركته في الهند، وقد فكرنا نحن في المغزل أيضًا، واشترينا من الهند عشرة مغازل كان الظن أنها قد يمكن تعميمها في مصر، ولكن اتضح لنا أنها لا تختلف كثيرًا عن المغزل المصري، وكل ما هنالك من فرق أنها من الحديد، بينما المغزل المصري من الخشب.

ومن المعقول أن ينجح المغزل في الهند حيث يمكن العامل الهندي أن يقدر ١٥ مليمًا يربحها منه في اليوم ثمن ما يغزله من القطن، ولكن مثل هذا المبلغ لا يأبه له الفلاح المصري؛ لأنه يطمع في أجرٍ عالٍ، وتجري الآن محاولتان في مصر لإيجاد مغزل يدوي يمكن الفلاح أن يعتمد عليه في معاشه، فالأستاذ أحمد الشامي يشتغل باختراع مغزل من الحديد لغزل الصوف، وقد نجح إلى حد ما في اختراعه، والضابط حسني بك يشتغل في اختراع مغزل من الخشب لغزل القطن وهو ينتظر نتيجة قريبة، وإلى أن ينجح كلاهما أو إحدهما في اختراع مغزل سهل الصنع منخفض الثمن يمكنه أن يصنع على أقل تقدير نحو خمسة أضعاف ما يغزله المغزل البلدي يجب أن نترك هذا الموضوع ونلتفت إلى النول.

فإن الملاحظ أن المغزل البلدي قد انهزم أمام الواردات الأجنبية من الغزل الذي تصنعه الآلات في أوروبا. بينما النول المصري لم ينهزم؛ إذ يمكنه أن يُزاحم بنسيجه نسيج الآلات الكبيرة، ويبيعها بأثمان تُضاهي أثمانها أو أقل منها، وما زلنا في قُرانا نرى المنسوجات البلدية تباع للفلاحين مثل العباءة والدفية والبشت، وهي جافية النسج ولكنها متينة تعيش السنوات، وفي بعض قرى الصعيد أنوال كثيرة تكفي السكان حاجاتهم من الأقمشة. ثم إن بعض هذه الأنوال ينسج الأكلمة والسجاجيد.

وألاحظ هنا أن نسج السجاجيد لا يمكن أن يفيد الفائدة المالية المرجوة، ولذلك فإن هذه الصناعة إذا قُدر لها أن تعيش فإنما سيكون ذلك باعتبارها صناعة منزلية مثل التطريز، وتقوم به ربَّات البيوت للتسلية والتأنق. أما نسج الأكلمة فالفائدة محققة منه.

وقد ذكرنا المنسوجات الجافية التي يتخذها الفلاحون، وهذه المنسوجات مثل البشت والعباءة والدفية تغزل وتنسج في مصر، وخشونتها لا تعزى إلى أنها سيئة النسج؛ بل إلى أن غزلها بلدي قد غزل على المغزل اليدوي، ولكن في أنحاء القطر أنوالًا كثيرةً تعد بالآلاف تستعمل الغزل الآلي، وتنسج نسيجًا يُضاهي أجود المنسوجات الأوروبية، وهذه الأنوال يمكنها أن تقدم أقمشة الملابس الإفرنجية لجميع الشبان في مصر، سواء أكانت ملابس صيفية أو شتوية.

وهنا يجب أن نقف وقفة الحذر. فإن النول لن يمكنه أن يخرج لنا بفتة رخيصة كتلك التي تصنعها شركة بنك مصر، وإنما يمكنه أن يخرج لنا أقمشة متينة جميلة من القطن والحرير والصوف والكتان.

وتكاليف النول قليلة تتراوح بين ١٥٠ و٣٠٠ قرش، ويمكن الفلاح أن يصنعه بأقل من ذلك كثيرًا؛ إذ إن الأخشاب تتوافر عنده، وهذه هي تكاليف الصنع لنول عادي:

المجموع ١٩٢ قرشًا
٤ عروق خشب ٣٢ قرشًا
مربوعة من الزان ٢٠ قرشًا
مشط عرض ٩٠س ٣٠ قرشًا
مكوك ٥ قروش
سلب من الكتاب ١٥ قرشًا
دف ٢٠ قرشًا
٥٠ مكرة ٢٥ قرشًا
أجرة النجار ٤٠ قرشًا
أجرة الخراط ٥ قروش

والحائك ينسج في اليوم (٩ ساعات) ثلاثة أمتار من الحرير يحصل منها على أجر قيمته ١٥ قرشًا، وإذا كان النسيج من الصوف كان أجره أقل، وينقص عن ذلك إذا كان من القطن أو الكتان، ويمكن الحائك أن يُخرج كل يوم قماش بذلة كاملة.

ويشترى الغزل من القاهرة بسعر الكبة التي تزن أربعة كيلو غرامات ٢٨٠ قرشًا للصوف و٣٦٠ قرشًا للحرير و١٩٠ قرشًا للكتان، والعادة أن الحائك يحاسب على المتر من القماش لا على الساعة من العمل.

وقد دفعت الغيرة كثيرين من الوطنيين إلى إيجاد مناسج يحتوي المنسج منها على أربعة أنوال أو خمسة أو أكثر من ذلك، ولم أسمع واحدًا من الذين أنشئوا هذه المناسج يقول إنه قد خسر شيئًا، وعند الدكتور حلمي الجيار في دكرنس مثلًا منسج به عدة أنوال وفي مدرسة ثمرة التوفيق بالقاهرة نول لم تخسر فيه مليمًا.

فالاقتراح الذي نريد أن تأخذ به جمعية المصري للمصري هو أن تنشئ مدرسة لتعليم النسيج بحيث تكون الغاية منه تعميم النول في أنحاء القطر. ففي هذه المدرسة يعلم الصبيان كيف ينسجون ومن أين يشترون الغزل وكيف يميزون بين أنواعه. ثم يُعطَى التلميذ نولًا عند الخروج من المدرسة لكي يستقل بعمله. أما ثمن هذا النول فإما أن يوفر له من ثمرة عمله بالمدرسة، وإما أن يحتسب عليه دينًا يُسدَّد بعد ذلك، وأظن أنه يمكن أن نشترط على كل شعبة من شعب الجمعية أن يكون عندها منسج يحتوي على الأقل على نول واحد، وعلى أعضاء الجمعية أن يشتروا الأقمشة الخارجة منه أو يدعوا لها بين أقرانهم ممن ليسوا أعضاءً فيها.

لقد فكرنا في مظاهرة صامتة نقوم بها في شوارع القاهرة بملابس مصرية، وفكرنا في إيجاد جريدة أو مجلة تنطق باسمنا وتدعو دعايتنا، وفكرنا في زيارة المتاجر والمصانع، ولكن الحكومة الحاضرة كتمت أنفاسنا فمنعتنا من القيام بواحد من هذه الأعمال، وأذن لنا أن ندعو إلى إنشاء المناسج لكي يقوم النول في مصر مقام المغزل في الهند، ونحن نريد من النول تربية وطنية كما نريد منه فائدة اقتصادية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤