زحف الجيش اليوناني ومعاركه

قُسم الجيش اليوناني إلى قسمين، وجُعل معسكر القسم الأول في لاريسا تحت قيادة ولي العهد مباشرةً، وسُمي الجيش الشرقي ثم كتب له غرض معين، وهو أن يهجم على القوات العثمانية النازلة وراء الحدود اليونانية حينما يكون البلغاريون والصربيون والجبليون عامدين إلى الهجوم من الجهات الشمالية، والشمالية الشرقية، والشمالية الغربية.

أما القسم الثاني: فعُقد لواؤه للجنرال سبوندزاكيس، وسُمي الجيش الغربي وجُعل غرضه أخذ يانيه وإعادة شرف الراية الإغريقية بعد ما أصابها سنة ١٨٩٧ من عار الانكسار لدى الأهالي اليونانيين في أبيروس، وقد صدر الأمر إلى بعض البوارج اليونانية بأن تساعده من جهة بريفيزا التي جُعلت قاعدة حربية لقوة هذا الجنرال.

أما القوات العثمانية التي تمكنت الدولة العثمانية من حشدها بقيادة تحسين باشا لصد الجيش اليوناني عند الزحف، فلم يتمكن المراسلون الحربيون من تعيينها بالتدقيق، ولكن الجنرال بوكابيل يقدرها بنحو خمسة وثلاثين ألف رجل منها خمسة عشر ألفًا كانت أمام القسم اليوناني الأول، وعشرون ألفًا أمام القسم الثاني.

ولما أعلنت الحرب في ١٨ أكتوبر تحرك القسمان اليونانيان معًا، ونحن نتكلم أولًا على أعمال القسم الأول الذي قاده ولي العهد.

قلنا: إن مهمة هذا القسم من الوجهة الحربية إنما هي التعاون مع حلفائه على قهر الجيش العثماني الغربي (لأن الجيش العثماني الشرقي — أي جيش تراقيه — كان يكفيه معظم الجيش البلغاري وبعض فرق الجيش الصربي)، وسيرى أمامه قوة حسن تحسين باشا المذكور، وهو الذي كان واليًا ليانيه يوم إعلان الحرب، وعمره نحو من ٦٥ سنة. ومما يجب ذكره في هذا المقام أن نظام الجنود العثمانية كان مختلًا كما رأيناه في جميع الأنحاء، فإن المؤن والذخائر كانت قليلة، والإدارة غير منظمة، والمدافع الجبلية غير موجودة، والوسائل الصحية تكاد تكون عدمًا، وقلم المخابرات ليس له أثر.

فوَلِيُّ عهد اليونان سيرى إذن أمامه قائدًا ضعيفًا بحكم الشيخوخة وجنودًا ضعيفة بقلة العدد والعِدد، ونقص الميرة والذخيرة، وفرط الخلل والعلل، وأول ما وضعه الأمير اليوناني نصب عينه هو احتلال سلانيك؛ لأن دخول هذا الثغر في وقت قصير كان يهمُّ الدولة اليونانية من الوجه السياسي والوجه الحربي والوجه الديني.

أما من الوجه السياسي: فلأن سلانيك هي العاصمة العثمانية الثانية في تركيا أوروبا، وعدد سكانها اليونانيين نحو أربعين ألفًا، فيجب على ولي عهد اليونان أن يبذل كل رخيصٍ وغالٍ ليتمكن من دخولها قبل الجنود البلغارية. وأما من الوجه الحربي: فلأن احتلال سلانيك يُسهل على الحلفاء إرسال المؤن والذخائر إلى الجيوش التي تحارب عند مناستر، كما يسهل قطع المواصلة بين الجنود العثمانية والأستانة من جهة، وبينها وبين البحر من جهة أخرى. وأما من الوجه الديني: فلأن سلانيك كانت مركزًا لرئيس أساقفة في غابر الزمن.

(١) معركة ألاصونا

سار ولي عهد اليونان (الملك الحالي) بعد أن قسم جيشه إلى قسمين وسيَّر أحدهما إلى ألاصونا فلم يجد مقاومة يوم ١٨ أكتوبر، ولما تبسم فجر اليوم التالي تقدمت الفرقة اليونانية الأولى نحو موقع الجنود العثمانية، فوجدت فيه قوة مؤلفة من نحو خمسة أو ستة طوابير وبطاريتين، فأخذت المدافع العثمانية ترميها بنار حامية ولكن القنابل لم تنفجر وبعضها كان ينفجر وهو مرتفع، أما القنابل اليونانية فقد كانت فعالة فتاكة فما عتمت أن أسكتت تينك البطاريتين العثمانيتين، وكانت الفرقة اليونانية الثانية تتقدم نحو ميمنة العثمانيين، وقوة يونانية أخرى تزحف نحو الميسرة العثمانية لتقطع عليها طريق الرجعة، فاضطرت الجنود العثمانية إلى التقهقر قبل أن تتم حركة الإحاطة، ولم تبقَ المعركة إلا أربع ساعات.

ونحو الغروب دخلت الجنود اليونانية ألاصونا حيث وجدت سبعة مدافع وأسرت أربعين جنديًّا، أما خسارتها فبلغت ثلاثة ضباط و١٥ قتيلًا ومائة جريح.

ثم ضم ولي العهد قواته وزحف في ٢١ أكتوبر، وما كان ٢٢ منه حتى التقى بمعظم القوة العثمانية، فاشتد وطيس القتال منذ الصباح عند مضيق ساراندوبوروس، فلبثت القوات اليونانية تهاجم العثمانيين من أمام ومن الميمنة والميسرة حتى الساعة التاسعة مساءً، فلم يسع القوات العثمانية إلا التقهقر برغم مواقعها المنيعة، فغنم اليونانيون عشرين مدفعًا جبليًّا ومقدارًا كبيرًا من الذخائر والمركبات، ولكنهم دفعوا ثمنها ١٨ ضابطًا و١٦٩ جنديًّا قتيلًا و١٠٧٧ جريحًا بينهم ٤٠ ضابطًا.

وفي اليوم التالي لتلك المعركة واصلوا السير إلى سرفنجه ودخلوها نحو الساعة العاشرة مساءً، وذكر الكولونل بوكابيل أنهم وجدوا فيها سبعين جثة من نساء وأطفال ورهبان، فهاجوا أشد الهيجان ولبثوا يزحفون ليلًا حتى كان صباح اليوم التالي أي ٢٣ أكتوبر، فأدركوا عددًا من الجنود العثمانية متقهقرة بلا نظام فأسروا ٧٠٠ رجل بينهم أميرالاي وسبعة ضباط وعدد من المدافع والأسلحة والمركبات، واحتلوا البلاد التي كانت في طريقهم؛ لأن الجنود العثمانية لم تقف لصدهم وقفة تذكر هناك.

ثم تمهل ولي العهد بجيشه ليتخذ أهبة الزحف إلى سلانيك.

(٢) معركة ينيجه واردار

تسليم سلانيك

تقدم ولي عهد اليونان قاصدًا ينيجه واردار حيث تمكن حسن تحسين باشا من جمع نحو ٣٠ ألف رجل ونحو ٣٠ مدفعًا، وبعد مناوشات قليلة الشأن ومصاعب جمة في الطريق وصل ولي عهد اليونان إلى جهة العثمانيين، ونشب القتال في ٢ نوفمبر فأظهر العثمانيون حزمًا وثباتًا، ثم غابت شمس ذاك اليوم والجيش اليوناني لم يقدر على زحزحة تلك القوة العثمانية.

ولما لاح صباح اليوم التالي عاد القتال شديدًا، ووصلت فرقة يونانية جديدة وهجمت على ميسرة العثمانيين، فترك هؤلاء مواقعهم بعد خسارة ٢٠٠٠ رجل بين قتيل وجريح و٥٠٠ أسير و١٤ مدفعًا و٤ من طراز الميتراليوز.

أما خسارة اليونانيين فقد بلغت حسب إحصائهم الرسمي ٣٨ ضابطًا و٩٣٧ جنديًّا بين قتلى وجرحى.

•••

بعد تلك الوقعة بات موقف سلانيك من أصعب المواقف، وانقطع حبل الرجاء بين يدي تحسين باشا، فمن جهة البحر هجمت سفينة توربيدية على بارجة عثمانية كانت راسيةً في مياه سلانيك ومهددةً لكل عدو يأتي غربًا، فأغرقتها وأنقذت الجنود اليونانية من خطرها، ثم جاءت الطرادة أفيروف وثلاث سفن للتوربيد فضربت الحصون العثمانية، ومن الجهة الشمالية الغربية برًّا وصلت قوة من فرسان الصرب بعد أن طاردت الجنود التركية التي حاولت الخلاص من تلك الجهات، ووصلت أيضًا قوة بلغارية من الجهة الشمالية والشمالية الشرقية. وزد على هذا كله أن قوة من اليونان نزلت من طريق البحر وأخذت تتقدم نحو سلانيك، فالأعداء إذن في كل جهة.

لما رأى ولاة الأمور الملكيون وقناصل الدول ذاك الموقف واستشعروا أن قلوب الأهالي انخلعت فرقًا من حدوث مذبحة هائلة في شوارع سلانيك، شرعوا يبذلون الجهد لدى تحسين باشا ليحملوه على التسليم، وأظهروا له أن وصول تلك القوات الزاحفة نحو المدينة لا يبقي أملًا في إنقاذها بالسيف، ولا سيما أن الجنود العثمانية لم يكن عندها مدافع ولا ذخائر كافية، وكتب مراسل البرلينر الألمانية في هذا الشأن قال: «إن عددًا جمًّا من الجنود قدم سلانيك وهو في حالة تُدمي العيون والقلوب، فكان منظر هؤلاء القادمين من ضعفاء وهاربين يذكرنا بجنود نابليون يوم تقهقرت من روسيا، وكنا حيثما نذهب نجد أشلاء الرجال والخيل، ولقد مات أمس خمسون جنديًّا من شدة البرد …»

نقف عند هذا الحد من الوصف، لنكفي القارئ مئونة الشعور بما يحرج الصدور.

أما تحسين باشا فإنه لما رأى ذاك الإلحاح من القناصل وغيرهم، ورأى من وجه آخر أن القتال في شوارع سلانيك لا يُجدي نفعًا مع ضعف قوته، وافق على طلبهم وبدأ بالمفاوضة في أمر التسليم، وإليك تعريب التقرير الرسمي الذي أرسله ولي عهد اليونان إلى الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية في هذا الشأن، وهو:

جاءني أمس قناصل إنكلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا وقومندان موقع سلانيك ومندوب من تحسين باشا ليعرضوا عليَّ الشروط المتعلقة بتسليم مدينة سلانيك والجيش التركي، وطلبوا إليَّ أن أدع للجنود أسلحتها بعد أن تتعهد لنا بالتزام الحياد إلى آخر الحرب، فأبيتُ الموافقة على هذا الطلب واقتصرت على وعدهم بإرجاع الأسلحة إليها بعد إنتهاء الحرب، وعيَّنت الساعة السادسة صباحًا لقبول الجواب النهائي.

ونحو الساعة الخامسة جاءني قومندان الموقع ومعه مندوب من قِبل القناصل وعرض القومندان عليَّ شروطًا، فحواها أنه يقبل تسليم الأسلحة ما عدا ٥٠٠٠ بندقية معدَّة لتعليم الرديف الجديد فأبيت أن أوافق على هذا الشرط أيضًا، ثم سافر القومندان والمندوب بعد أن طلب مهلة ساعتين للاتفاق مع القائد العثماني العام، ولما انقضت المهلة بدون أن يعودوا إليَّ، أصدرت أمري إلى الجيش بالتقدم فعمد إلى الزحف نحو الساعة التاسعة صباحًا، ولكن ما اقتربت صفوفنا من مقدمة العدو حتى أرسل إليَّ تحسين باشا ضابطًا ومعه كتاب فيه قبول شروطنا، حينئذٍ أمرت بالوقوف وأرسلت ضابطين ليكتبا مع تحسين باشا شروط تسليم المدينة التي كان جيشنا واقفًا أمامها. ا.ﻫ.

وما بلغ الخبر أثينا حتى قابلته المملكة اليونانية بالابتهاج العظيم وأقامت المظاهر في عاصمتها وغيرها احتفالًا بتحقيق أمنيتها بعد ٤٥٠ سنة، ثم صدر أمرٌ ملكي بتعيين ولي العهد قائدًا أكبر للجيوش اليونانية كلها، وكان الملك جورج (الذي قُتل) في جيدا، فلما وصله الخبر سافر إلى سلانيك ودخلها باحتفالٍ رسميٍّ يوم ١٢ نوفمبر، وأصدرت الحكومة اليونانية أمرًا بتعيين حاكم يوناني لها.

على أن البلغاريين يدَّعون السبق إلا احتلال سلانيك، ولكن الأمر الثابت أن تحسين باشا سلَّم المدينة إلى اليونان.

(٢-١) نحو مناستر

وكان معظم الفرقة اليونانية الخامسة زاحفًا إلى جهة مناستر فقاتل قوة من العثمانيين في ليل ٢٩ أكتوبر وتغلب عليها، وكان من غرائب الاتفاق أن بعض العصابات البلغارية ولا سيما عصابة تزاكالاروف الشهير بعداوته الماضية لليونان وبمعاركه الشديدة معهم، كانت تساعد جنود اليونان في تلك الأنحاء.

وما بلغ قسمٌ من الجنود اليونانية جنوبي بانيتزا في أوائل نوفمبر حتى باغتهُ جاويد باشا بهجوم جعله ينكص مقهورًا، ثم حملت الجنود العثمانية في ٥ نوفمبر حملة صادقة على ميمنة الفرقة اليونانية الخامسة، فأهلكت نحو ثلثيها، فعجزت القوات اليونانية هناك عن المقاومة وانخلعت قلوبها رعبًا ونُهكت أجسامها تعبًا؛ لأن الجنود العثمانية كانت هناك وافية العدد قوية العزيمة، وذكر جاويد باشا في تقريره وقتئذ أنه غنم ٢١ مدفعًا بينها خمسة من طراز الميتراليوز.

ولكن جاويد باشا أحجم عن مطاردة اليونانيين بعد فشلهم فتمكنوا من الانتظار على مسافة ١٥ كيلومترًا شمالي كوزياني، إلى أن جاءتهم النجدات فعادوا إلى الهجوم، وكان ولي عهد اليونان قريبًا من تلك الجهة، فأخذ يتقدم بجيشه نحو مناستر، وحدثت عدة معارك في أثناء زحفه كان الفوز فيها لليونانيين. ولما وصل إلى جهة مناستر كان الجيش العثماني أمامها على أسوأ حال بعد المعركة الكبرى التي وقعت بينه وبين الجيش الصربي كما تقدم في باب معارك الصرب والجيش الغربي العثماني.

وفي ٢٤ و٢٥ من نوفمبر اجتمع ولي عهد اليونان وولي عهد الصرب في مدينة مناستر، وكان هذا الاجتماع كختام للأعمال الحربية الكبرى في معظم جهات مقدونيا، فأعاد ولي عهد اليونان فرقتين من جيشه إلى سلانيك وترك ثلاثًا في الجهات المقدونية، ثم أرسلت تانك الفرقتان من سلانيك إلى جهات يانيه التي زحف إليها الجيش اليوناني الغربي بقيادة الجنرال سابوندزاكيس كما قدمنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤