النوادر الثالثة

متفرقات من نوادر الملوك

الإسكندر وساكن المقابر

مرﱠ الإسكندر بمدينة قد ملكها غيره من الملوك، فقال: انظروا، هل بقي بها أحد من نسل ملوكها؟ فقالوا: رجل يسكن المقابر. فأحضره، وسأله عن إقامته، فقال: أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدتها سواء. فقال: هل تتبعني فأحيي شرفك إن كان لك همة؟ فقال: همتي عظيمة إن أنلتنيها. فقال: ما هي؟ قال: حياة لا موت معها، وشباب لا هرم بعده، وغنى لا فقر معه، وسرور لا مكروه فيه! فقال: ليس عندي هذا. فقال: دعني ألتمسه ممن هو عنده. فقال: ما رأيت مثله حكيمًا.

موت الإسكندر

حُكم للإسكندر أنه لا يموت إلَّا بأرض سماؤه ذهب وأرضه حديد، فلما سقط من دابته حمل على درع وظلل بترس من ذهب؛ فلما أفاق ورأى ذلك فطن لما حكم له، وقال: قاتل الله المنجمين؛ يقولون ولا يفسرون! فكتب إلى والدته: أن اصنعي طعامًا، وادعي له من لم تصبه مصيبة، فامتثلت، فبقي الطعام ولم يأتها أحد، ففطنت أنه أرسل يعزيها، وقال:

وما أنا بالمخصوص من بين من أرى
ولكن أتتني نوبتي في النوائب

تأبين الإسكندر

لما مات الإسكندر وضعوه في تابوت من ذهب، وحملوه إلى الإسكندرية، وندبه جماعة من الحكماء يوم موته، فقال بطليموس: هذا يوم عظيم العبرة، أقبل من شره ما كان مدبرًا، وأدبر من خيره ما كان مقبلًا. وقال ميلاطوس: خرجنا إلى الدنيا جاهلين، وأقمنا فيها غافلين، وفارقناها كارهين. وقال أفلاطون الثاني: أيها الساعي المغتصب، جمعت ما خذلك، وتوليت ما تولى عنك، فلزمتك أوزاره، وعادت إلى غيرك ثماره. وقال مسطور: قد كنا بالأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على الكلام، واليوم نقدر على الكلام ولا نقدر على الاستماع. وقال ثاون: انظروا إلى حلم النائم، كيف انقضى؟ وإلى ظل الغمام، كيف انجلى؟ وقال آخر: ما سافر الإسكندر سفرًا بلا أعوان ولا عدة غير سفره هذا. وقال غيره: لم يؤدبنا بكلامه كما أدبنا بسكوته. وقال آخر: قد كان بالأمس طلعته علينا حياة، واليوم النظر إليه سقم.

أزدشير الملك والخطيب

لما استوثق الأمر لأزدشير بن يزدجرد جمع الناس فخطبهم خطبة، حثهم فيها على الألفة والطاعة، وحذرهم المعصية ومفارقة الجماعة، وصفق الناس أربعة، فخروا له سجدًا، وتكلم متكلمهم، فقال: لا زلت — أيها الملك — محبوبًا من الله، رفيقًا للنصر، حاصلًا على دوام العافية وتمام النعمة وحسن المزية، ولا زلت تتابع لديك المكرمات، وتشفع إليك الذمامات، حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها، ولا تنقطع زهرتها في دار القرار التي أعدها الله لنظرائك من أهل الزلفى والحظوة لديه، ولا زال ملكك وسلطانك باقيين، والشمس والقمر زائدين في زيادة البحور والأنهار حتى تستوي أقطار الأرض معها في علوِّك عليها ونفاذ أمرك فيها، فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الصبح، ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم، فأصبحت وقد جمع الله بك الأيادي بعد اختلافها، وألَّف بك القلوب بعد تباغضها، وأذهب عنا ألسن الحساد بعد توقد نيرانها بفضلك الذي لا يدرك بوصف، ولا يحد بنعت. فقال أزدشير: طوبى للممدوح إذا كان للمدح مستحقًّا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلًا.

بهرام جور والراعي

حكي أن الملك بهرام جور خرج يومًا للصيد، فظهر له حمار وحش فاتبعه حتى خفي عن عسكره، فظفر به فمسكه، ونزل عن فرسه يريد أن يذبحه، فرأى راعيًا أقبل من البرية، فقال له: يا راعٍ، أمسك فرسي هذا حتى أذبح هذا الحمار، فمسكه، ثم تشاغل بذبح الحمار، فلاحت منه التفاتة فرأى الراعي يقطع جوهرة في عذار فرسه، فأعرض الملك عنه حتى أخذها، وقال: إن النظر إلى العيب من العيب. ثم ركب فرسه ولحق بعسكره، فقال له الوزير: أيها الملك السعيد، أين جوهرة عذار فرسك؟ فتبسم الملك ثم قال: أخذها من لا يردها، وأبصره من لا ينمُّ عليه، فمن رآها منكم مع أحد فلا يعارضه بشيء بسبب ذلك.

الملك المتعظ

بنى أحد الملوك قصرًا، وقال: انظروا من عاب فيه شيئًا فأصلحوه وأعطوه درهمين، فأتاه رجلٌ، فقال: إن في هذا القصر عيبين. قال: وما هما؟ قال: يموت الملك ويخرب القصر. قال: صدقت. ثم أقبل على نفسه، وترك الدنيا.

الملك وعبده

بعث الملك إلى عبد له: ما لك لا تخدمني وأنت عبدي؟ فأجابه: لو اعتبرت لعلمت أنك عبد عبدي؛ لأنك تتبع الهوى فأنت عبده، وأنا أملكه فهو عبدي.

الملك والوزير

أشار وزير على ملكه بجمع الأموال واقتناء الكنوز، وقال: إن الرجال وإن تفرقوا عنك اليوم فمتى احتجتهم عرضت عليهم الأموال فتهافتوا عليك، فقال له الملك: هل لهذا من شاهد؟ قال: نعم، هل بحضرتنا الساعة ذباب! قال: لا. فأمر بإحضار جفنة فيها عسل، فحضرت، فتساقط عليها الذباب لوقتها، فاستشار السلطان بعض أصحابه في ذلك فنهاه، وقال: لا تغير قلوب الرجال، فليس في كل وقت أردتهم حضروا، فسأل: هل لذلك من دليل؟ قال: نعم، إذا أمسينا أخبرك، فلما أظلم الليل قال للملك: هات الجفنة، فحضرت ولم تحضر ذبابة واحدة.

ملك الجزيرة والرجل

انكسرت سفينة برجل في البحر فوقع إلى جزيرة، فعمل شكلًا هندسيًّا على الأرض، فرآه بعض أهل الجزيرة، فذهبوا به إلى الملك، فأحسن إليه، وأكرم مثواه، وكتب الملك إلى سائر ممالكه: أيها الناس، اقتنوا ما إذا كسرتم في البحر صار معكم.

الملك الكريم

غضب الملك على بعض حاشيته؛ فأسقط الوزير اسمه من ديوان العطايا، فقال الملك: أبقه على ما كان عليه؛ لأن غضبي لا يسقط همتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤