الفصل الثالث

فشل برامج الصحة العقلية الحالية

في الوقت الذي تزايدت فيه أعداد السجناء بسرعة البرق في العقود الأخيرة، وزادت نسبة السجناء الذين يعانون من اضطرابات عقلية حادة ومزمنة بمعدل سريع أيضًا، لم تشهد ميزانية خدمات الصحة العقلية في المؤسسات العقابية زيادة سريعة تكافئ ذلك؛ مما أسفر عن وجود العديد من المرضى المصابين باضطرابات عقلية ويحصلون على أدوية لعلاج الأمراض النفسية، لكنهم لا يخضعون للرقابة الملائمة ولا يحصلون على أيٍّ من العلاجات المساعدة المعروف عنها أنها ضرورية لتحقيق مستوى الفعالية المرغوب من الأدوية النفسية.

في إطار استعدادي لتقديم شهادتي كخبير في قضية كولمان ضد ويلسون، وهي دعوى قضائية جماعية أقامها عام ١٩٩٣ مجموعة من السجناء بكاليفورنيا، يدعون فيها حرمانهم من المستوى الملائم من خدمات الصحة العقلية؛ التقيت بسجين يعاني من اضطراب عقلي من الفئة العادية من السجناء في سجن بيليكان باي. وقد وصفتُ «السجين رقم ٥٠٠» (إذ كان يُعيَّن للسجناء أرقام من أجل السرية) في إقرار خطي1 قائلًا:

أخبرني السجين رقم ٥٠٠، الذي بدا لي مؤرخًا موثوقًا، بأنه يرغب في الانضمام إلى أحد برامج علاج الصحة العقلية. وقال لي إن السبب الوحيد وراء إرساله إلى سجن بيليكان باي هو تلقيه استمارات ١١٥ (استمارات تأديبية) بعد محاولات الانتحار التي أقدم عليها، ولولا ذلك لكان مؤهلًا لمستوًى أمني أقل، وربما كان سيُرسَل إلى مؤسسة يمكنه أن يتلقى فيها علاجًا للصحة العقلية [إذ كاد يخلو سجن بيليكان باي من أي علاج نفسي آنذاك].

وفي أثناء الشهرين اللذين قضاهما السجين رقم ٥٠٠ في سجن بيليكان باي، تقدم بطلبين لمقابلة الطبيب النفسي، لكنه لم يكن قد التقى به عند لقائي معه، ولم يتلقَّ أيضًا أي أدوية ذات تأثير نفساني. ونتيجة لذلك، كان يسمع أصواتًا في رأسه ويشعر بارتياب وذعر شديدين. فسر ذلك بأنه يظل في زنزانته معظم الوقت؛ لأن ذهنه يتشتت، الأمر الذي يزيد من ضعفه وسرعة تأثره. فيقول لي: «بالأمس لم أسمع صياح أحد الحراس وهو يأمرني فيه بالانبطاح أرضًا، وكدت أموت رميًا بالرصاص.»

كانت أنشطته الحياتية محدودة للغاية، فكان يأكل وجبة واحدة فقط يوميًّا في غرفة تناول الطعام؛ لخوفه من الوجود مع السجناء الآخرين، ويظل في زنزانته قدر الإمكان، ولم يكن يتلقى أي علاج من أي نوع. ومن المعلوم أن ما أظهره السجين رقم ٥٠٠ من عزلة اجتماعية وأعراض مرضية لا تخف حدتها هو أمر مدمر للغاية لأي شخص يعاني من اضطرابات عقلية. كان بحاجة بدلًا من ذلك إلى علاج قوي، وبيئة أكثر أمانًا، قد يشعر فيها بتمكنه من التوقف عن عزل نفسه والبدء في الاندماج مع الآخرين، وتعلم المهارات الضرورية لحياته اليومية من أجل التكيف مع حياته في السجن وحياته بعد خروجه منه.

يحاول بعض السجناء الذين يعانون من اضطرابات عقلية التكيُّف مع عموم السجناء وتجنب التعرض للإيذاء. ويميل البعض الآخر للانتحار. وهناك عدد كبير أيضًا من السجناء يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة، لكنهم لا يتلقون اهتمامًا أبدًا من موظفي الصحة العقلية. ويحيون في زنزاناتهم حياة بلادة وخمول أو يتورطون مرارًا وتكرارًا في مشاحنات، وتكون النتيجة قضاء مدة في الحبس المشدد العقابي حيث تزداد حالتهم تدهورًا. وهناك عدد أقل من السجناء الذين تتدهور حالتهم إلى مرحلة يصيرون معها ذُهانيِّين أو انتحاريين على نحو سافر، ويُنقَلون إلى مؤسسة علاج نفسي مكثف.

لقد وجدت أن موظفي العلاج الطبي والصحة العقلية في السجون يتسمون بالضمير الحي والمهنية بوجه عام، لكن ليس أمامهم الكثير الذي يمكنهم فعله لأغلبية السجناء المصابين باضطرابات عقلية؛ لذا، فإنهم يركزون على نسبة صغيرة من السجناء المضطربين الذين يمكنهم التعرف عليهم وتقديم بعض العلاج لهم، ويتعلمون التعايش مع أوجه القصور في البرنامج. ويعاني الكثير من موظفي العلاج من الإنهاك؛ فإما يتركون العمل بالطب النفسي داخل المؤسسات العقابية وإما تزداد لديهم حالة اللامبالاة بما يواجهه السجناء من محن. وبدلًا من الدفاع عن احتياجات مرضاهم العلاجية عندما يأمر موظفو الأمن برد فعل عقابي شديد على خرق المرضى المضطربين للقواعد، يتوقفون عن الاعتراض ويبدءون في اتباع توجيهات موظفي الأمن دون تفكير، أو يغضون الطرف عن أي تصرف يقوم به موظفو الأمن تجاه السجين مما يعتبره هؤلاء المعالجون مضادًا للعلاج أو غير إنساني.

وبالرغم من وجود معايير لتقييم جودة خدمات الصحة العقلية خلف القضبان، لا يوفر سوى عدد قليل جدًّا — هذا إن وُجد — من المؤسسات المستوى الملائم من الخدمات العلاجية. فرعاية الصحة العقلية في معظم السجون تعاني من قصور شديد. والنتيجة المأساوية لذلك هي ضم تلك السجون لعدد كبير من السجناء المصابين باضطرابات عقلية، الذين يظلون محبوسين في زنزاناتهم ويحصلون على الأدوية.

(١) جودة رعاية الصحة العقلية

لقد وضِع حد أدنى للمعايير في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية لخدمات الصحة العقلية داخل المؤسسات العقابية. ومعظم أنظمة السجون — ولا سيما في العشرات من الولايات التي رفع ضدها سجناء قضايا تثبت انتهاكات لحقهم الدستوري في الحصول على مستوًى ملائم من الرعاية الصحية العامة ورعاية الصحة العقلية — تحاول الامتثال لهذا الحد الأدنى من المعايير. لكن في جميع أنظمة السجون التي أجريت تحقيقات فيها، لا تقدم خدمات الرعاية الصحية الحد الأدنى المقبول من مستوى الرعاية لعدد كبير من السجناء المصابين باضطرابات عقلية، الذين يحتاجون إلى اهتمام من أطباء نفسيين. لا يُلتفت كثيرًا إلى مسألة التعرف على السجناء المصابين باضطرابات عقلية، كما يتعذر كثيرًا على المرضى العقليين الحصول على الخدمات العلاجية اللازمة من الوحدات العلاجية الداخلية بالسجون، بالإضافة إلى وجود ثغرات هائلة في «مستويات الرعاية المتوسطة».

(١-١) الحد الأدنى من معايير الرعاية

في قضية رويس ضد إستيل، وهي دعوى جماعية يعود تاريخها إلى عام ١٩٨٠، قاضى سجناءُ تكساس الولايةَ؛ لانتهاك حقوقهم الدستورية بحبسهم في ظروف شديدة القسوة وحرمانهم من الرعاية الملائمة للصحة العقلية. فصاغت المحكمة الإقليمية الفيدرالية ستة عناصر للحد الأدنى الملائم من برنامج رعاية الصحة العقلية، وهي:
  • (١)

    إجراء فحص منتظم.

  • (٢)

    توفير علاج يتضمن ما هو أكثر من العزل والإشراف.

  • (٣)

    توفير علاج يشمل عددًا كافيًا من اختصاصيي الصحة العقلية لتقديم الخدمات على نحو ملائم لجميع السجناء الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة.

  • (٤)

    الاحتفاظ بسجلات سريرية سرية ملائمة.

  • (٥)

    وضع برنامج للتعرف على السجناء ذوي الميول الانتحارية وعلاجهم.

  • (٦)

    حظر وصف الأدوية ذات الخطورة المحتملة دون مراقبة ملائمة.

وقد شهدت ولايات أخرى أيضًا دعاوى قضائية مماثلة. وتنشر كلٌّ من اللجنة الوطنية للرعاية الصحية داخل المؤسسات العقابية ووزارة العدل الأمريكية والجمعية الأمريكية للصحة العامة الحد الأدنى المُحدَّث لمعايير2 توفير خدمات الصحة العقلية في المؤسسات العقابية. وتفرض هذه المعايير عناصر العلاج، مثل الفحص والتقييم، والتدخل في الأزمات، والخدمات العلاجية داخل السجن، والخدمات العلاجية في المستشفيات، والاستخدام المناسب للعزل والاحتجاز، والسياسات المتعلقة بالأدوية الإجبارية، وبرامج منع الانتحار، وتدريب الموظفين غير السريريين على أساسيات منع الانتحار ورعاية الصحة العقلية، وتقييم الأقران، وحفظ السجلات، وما إلى ذلك.

وقد تم تحديد مستوى الرعاية الذي تأمر به المحاكم وتنص عليه المعايير المنشورة بحيث يقترب من «مستوى الرعاية في المجتمع». ولا شك أنه مع استمرار خفض ميزانيات الصحة العقلية العامة، قد يزعم البعض أن مستوى الرعاية في المجتمع قد تدهور في السنوات الأخيرة. بل ويذهب آخرون أيضًا إلى الاعتقاد أن الرعاية التي يتلقاها السجناء داخل المؤسسات العقابية أفضل من الرعاية التي يحصل عليها ذوو الدخول المنخفضة والمشردون في المجتمع. لكن هذه ليست الحقيقة. ففي المجتمع، حتى إن كانت رعاية الصحة العقلية الجيدة غير متوافرة للجميع، فإن كل فرد حر في الْتِماس خدمة علاجية ذات جودة أعلى في مؤسسة علاجية أخرى أو حتى في مدينة أخرى. لكن السجين، على النقيض من ذلك، لا يمكنه الْتِماس خدمات العلاج في مكان آخر عندما يكون غير راضٍ عنها. علاوةً على ذلك، فنحن غير مدربين كمتخصصين على ممارسة نوع معين من الرعاية مع المرضى الذين يمكنهم تحمل تكاليف العلاج الجيد ونوع آخر أقل جودة مع المرضى المعوزين. فثمة معيار للرعاية الملائمة ينطبق على جميع الطبقات، بغض النظر عن خفض نفقات مؤسسات الصحة العقلية الحكومية.

من الصعب التعميم بشأن برامج الصحة العقلية داخل المؤسسات العقابية. فكلٌّ منها له نقاط قوة ونقاط ضعف. وفي كل أنظمة الصحة العقلية داخل المؤسسات العقابية التي أجريت دراسات عليها، كان هناك مسئولون إداريون وأطباء سريريون أكفاء وحسنو النية يفخرون بجوانب معينة في برامجهم، لكنهم يعترفون في الوقت نفسه بشعورهم بالإحباط في محاولاتهم تقديم رعاية شاملة عالية الجودة. والتقيت أيضًا بآخرين لا يهتمون كثيرًا بجودة الخدمات ومحن السجناء.

عندما تكون موارد خدمات الصحة العقلية شحيحة، لا يحصل أحد على رعاية سريرية معقولة سوى المرضى الذين يعانون من اضطرابات شديدة. وبعض المسئولين الإداريين للبرامج ينفقون أغلب ميزانيتهم المحدودة على تطوير وحدة علاج نفسي نموذجية للمرضى العقليين داخل السجن؛ فهم يعرفون كيفية إدارة عنبر في مستشفًى، حتى لو كانت مهمة تقديم خدمات الرعاية العقلية الشاملة لجميع السجناء لا يمكن تحقيقها. ومن ثم، صار برنامج توفير الخدمات العلاجية النفسية داخل السجن من خلال وحدة علاج نفسي مجرد واجهة صورية لا تهدف إلا لإظهار قسم الإصلاح يهتم بالأمر ويحاول جاهدًا إدارة برنامج علاجي عالي الجودة.

فمن الأيسر أن تُعرض على الزائر وحدة داخلية للمرضى العقليين تُدار بكفاءة من أن يتم إعطاء توضيح لكيفية توزيع الأموال المخصصة لخدمات الصحة العقلية على جميع جوانب النظام؛ لجعل الحياة بالسجن محتملة على نحو أكبر لعدد كبير من السجناء المصابين بأمراض عقلية وغير المودعين في المستشفيات. لكن المشكلة أن عددًا قليلًا نسبيًّا من السجناء يتمكنون من الوصول إلى الوحدة الداخلية للمرضى العقليين، وحتى المحظوظون الذين يدخلونها يبقون فيها فترة قصيرة من الوقت، ثم يتلقون خدمات متابعة غير مناسبة بعد خروجهم منها.

تضع فئة أخرى من المسئولين الإداريين الجزء الأكبر من مواردهم المحدودة في برنامج نموذجي لإعادة تأهيل متعاطي المخدرات أو برنامج لمكافحة الانتحار أو أية استراتيجية تدخُّل أخرى ممتازة، لكن مثل هذه الاستراتيجيات تركز على جانب معين دون غيره. وبهذه الطريقة يمكنهم أن يشعروا على الأقل بأنهم يفعلون شيئًا ما بكفاءة، ويوفون بمعايير الرعاية المناسبة في جانب معين.

(١-٢) فحص السجناء المصابين باضطرابات والتعرف عليهم

عندما بدأت جولاتي في السجون منذ خمسة وعشرين عامًا، صدمني اكتشاف عدد كبير من حالات الوفيات بين السجناء التي حدثت نسبة كبيرة منها خلال ساعات أو أيام الحبس. وتضمنت الأسباب الموضحة لهذه الوفيات الانتحار، وإصابات الرأس أثناء إلقاء القبض على السجين، وجرعات المخدرات الزائدة، وانسحاب المخدرات من الجسم، والأزمات القلبية، وأزمات السكَّر. وتوصلت إلى نتيجة مفادها أنه في جميع الحالات تقريبًا، كان من الممكن تفادي الوفاة لو كان السجناء قد خضعوا للفحص الملائم عند دخولهم السجن للمرة الأولى.

ولقد علمنا بالفعل من تقارير بحثية سابقة ومقال افتتاحي في دورية الجمعية الطبية الأمريكية أن معدل الانتحار في أماكن الاحتجاز فاق عدة مرات معدل الانتحار بين السجناء عمومًا، وأن نصف حالات الانتحار حدثت في خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى من الاحتجاز. كان ينبغي أن يُفطَن إلى حقيقة أن المقبوض عليهم الذين ضُربوا على رءوسهم بهراوات الشرطة من الممكن أن يصابوا بأورام دموية تحت الجافية. وبالرغم من أنهم قد لا يفقدون الوعي مباشرة، فإن التجلط الدموي في مخهم قد يزداد حجمه ويتسبب في نهاية الأمر في وفاتهم أو إصابتهم بتلف دائم في المخ. وبما أن عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين يُلقَى القبض عليهم معروف عنهم تعاطيهم للمخدرات، كان يجب على مسئولي أماكن الاحتجاز التفكير في احتمالية وقوع حالات من جرعات المخدرات الزائدة أو الآثار المهددة للحياة المترتبة على الامتناع عنها. ومن المعروف أن الأزمات الطبية، مثل الأزمات القلبية والسكتات الدماغية والقرحات الدامية وغيبوبة السكَّر، تحدث عندما يتعرض الأفراد المعرضون للإصابة بهذه الحالات المرضية لتوتر شديد مثل الاعتقال والحبس. لكن ما من أحد يهتم بالحالة الطبية والنفسية للأفراد المقبوض عليهم! ولقد بدأت المحاكم في طلب فحص طبي ونفسي عند دخول مراكز الاحتجاز.

لقد بدأت الجمعية الطبية الأمريكية والكثير من حكومات الولايات الأمريكية في نشر معايير تقديم خدمات الصحة والصحة العقلية في مراكز الاحتجاز المحلية. وتضمنت هذه المعايير ضرورة إجراء الفحص عند دخول الحبس. ويجب أن يتضمن الفحص أسئلة مُعدَّة خصوصًا لاستبعاد احتمالية أن يكون الفرد المقبوض عليه يعاني من حالة طبية خطيرة أو لديه ميول انتحارية. ويمكن لغير الأطباء إجراء استبيان الفحص — يجريه عادةً ضابط تلقى تدريبًا طبيًّا على حالات الطوارئ، أو مساعد تمريض — لكن من المفترض أن أية إجابات مثيرة للشكوك تدفع لفحص المريض بمزيد من الدقة والعناية على يد طبيب.

لذا، تُجري معظم المحابس المحلية حاليًّا فحصًا نفسيًّا للمعتقلين عند دخولهم إليها، وتقدم الخدمات لعلاج المتهمين المرضى أو المعرضين للخطر. ويُكلَّف موظفو الصحة العقلية بعلاج السجناء الذين تم التوصل إلى أن لديهم ميولًا انتحارية أو يعانون من اضطرابات عقلية. وبالرغم من أن معظم الموظفين المتخصصين يحاولون جاهدين تنفيذ مسئولياتهم بمستوًى جيد من الالتزام والكفاءة، يظل الازدحام يمثل مشكلة كبيرة في المحابس. فهناك تصدعات في تنظيم الخدمات والبرامج، وعدد الموظفين قليل عادةً (ومع التوجه لخصخصة خدمات الصحة العقلية في مراكز الاحتجاز المحلية، تزداد احتمالات تقليل عدد الموظفين على نحو أكبر)، وعدد السجناء الذين يعانون من اضطرابات خطيرة ويحتاجون إلى رعاية أكبرُ بكثير مما يمكن للموظفين المنهكين خدمته بكفاءة.

ولا تتسم إجراءات الفحص بالكفاءة إلا إذا أُجريت على نحو متسق ويتوافق مع ما يمليه الضمير. في إحدى المقاطعات التي طُلِب مني فيها الشهادة بشأن وفاة أحد الأشخاص في السجن، تضمن بروتوكول الفحص استبيانًا يملؤه أحد مساعدي التمريض لكل متهم يصل إلى الحبس. وفي هذه الحالة، لم يتمكن رجل غاضب أبيض البشرة، أشعث الرأس، في منتصف العمر، من الإجابة عن الأسئلة على النحو الملائم، فترك مساعد التمريض استمارة المقابلة فارغة ولم يكتب فيها سوى أن السجين يبدو عليه السُّكْرُ وعدم القدرة على التعاون بسبب الغضب والارتباك؛ وأُرسِل من ثم إلى إحدى الزنزانات حيث عُثِر عليه بعد ذلك ميتًا. وأوضح التشريح أنه قد مات بسبب ورم دموي تحت الجافية نتيجة لضربة على الرأس، إما سبقت القبض عليه وإما ارتكبها الضباط الذين ألقوا القبض عليه. المؤسف في الأمر أن مَن أجرى الفحص كان لديه ما يكفي من المعلومات لإبلاغ أحد الأطباء عن حالة الرجل الخطيرة.

إن الفحص وسيلة للتعرف على الأفراد المقبوض عليهم الذين يحتاجون إلى رعاية طوارئ. ولا يمكن الاعتماد على المساعدين المهنيين في إجراء هذا الفحص، إلا إذا كانت هناك ثقة في أنهم سيحيلون الحالة إلى مهني مدرب على نحو أكبر إذا كان هناك ما يدعو للشك في وجود حالة طارئة، أو عند وجودها بالفعل. وحقيقة أن ذلك الرجل قد فشل في الفحص الأولي للسجين — لأنه لم يكن متسقًا في إجابته عن الأسئلة — كان من المفترض أن تدفع مساعد التمريض إلى إبلاغ أحد الأطباء. فلو أن أحد الأطباء فحص هذا الرجل وهو لا يزال في وعيه، لكان قد اكتشف على الأرجح الورم الدموي تحت الجافية، ولربما أنقذت حياة الرجل عمليةٌ جراحية عاجلة. والنقطة الأشمل هنا هي أنه حتى الإجراءات التي وضِعت لضمان رعاية عالية الجودة يمكن أن تنهار تحت ضغط عجز الميزانية والازدحام؛ الأمر الذي يسفر عادةً عن عواقب وخيمة.

أما في السجن، فلا يقتصر الأمر على الفحص، وإنما ينبغي إجراء تقييم دقيق لكل سجين يدخل إلى السجن لتحديد إن كانت هناك حالة طبية أو نفسية تتطلب رعاية. ويُجرَى هذا التقييم عادةً في مركز استقبال داخل السجن يُرسَل إليه السجناء الجدد إلى أن يتم تصنيفهم من حيث مستوى الأمن ليتم إيداعهم بناءً على ذلك مؤسسةً ووحدةَ زنزانات محددتين. ومرة أخرى نشدد على أن إرسال المدانين الجدد إلى مركز استقبال فكرة جيدة للغاية، لكن في كل سجن تجولت به، كانت هناك صعوبات كبيرة. ففي بعض السجون، يتسبب الازدحام والنظام بأكمله في تراكم للحالات في مركز الاستقبال؛ ما يتطلب إيداع المدانين الذين وصلوا حديثًا إلى السجن في مهاجع مؤقتة مقامة في صالات الألعاب الرياضية وغرف التجمع.

ومن مشكلات هذا النظام أن السجناء بجميع المستويات الأمنية يودَعون في بيئة يفوقون فيها من حيث العدد موظفي الأمن الذين يعجزون عن التدخل سريعًا عند اندلاع أي حالات عنف. والعديد من السجناء الذين يعانون من اضطرابات عقلية في مراكز الاستقبال يشكون من تعرضهم للإيذاء على نحو متكرر على يد السجناء الأقوى منهم الذين يودَعون في النهاية مكانًا يتمتع بمستوًى أعلى من التأمين. لكن في مركز الاستقبال، لم يكتشف الموظفون أن المدانين المصابين بأمراض عقلية يحتاجون إلى الحماية وخدمات الصحة العقلية، أو أن المعتدين الأقوى يحتاجون إلى العزل. فكلما زاد الازدحام؛ قل اهتمام الموظفين بالشجارات بين السجناء وطالت المدة التي يستغرقونها في تحديد احتياجات كل سجين.

حتى بعد تحديد سجن ومستوًى أمني معين للسجين، يواجه السجين صعوبات في الوصول إلى خدمات الصحة العقلية. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنه لا تتضح في بيئة السجن الأعراض التي تؤهل السجين للحصول على تشخيص نفسي. ففي مستشفيات الأمراض النفسية في المجتمع، عندما يحتفظ المريض بالفضلات ليرشق بها أي شخص يفترض أنه عدو له، يفترض الموظفون بالمستشفى أنه يعاني من ذهان حاد. لكن في السجن، وخاصةً في وحدة الحراسة المشددة، يحدث تراشق الفضلات كل يوم.

وبالمثل، إذا فزع أي مريض نفسي في المجتمع عند خروجه من غرفته، فيُفترَض أنه يعاني من درجة معينة من رهاب الخلاء أو جنون الارتياب. لكن في السجن، يبقى العديد من السجناء في زنزاناتهم طوال اليوم خشية أن يتعرضوا للهجوم من أعدائهم عند خروجهم إلى ساحة السجن. كيف يمكن إذن إدراك الأهمية التشخيصية للنوم طوال اليوم في زنزانة مظلمة وتحديد إن كان ذلك علامة على الاكتئاب أم استراتيجية متعمدة وبارعة للغاية للنجاة في عالم السجن العدواني؟

ليس من السهل تقييم العجز النفسي في بيئة السجن أيضًا. فمعظم قوانين الولايات، التي تنص على معايير محددة للإيداع القسري في المستشفيات، تتضمن معيارًا ينص على أنه يتعين أن يكون الشخص المصاب باضطراب عقلي يمثل خطرًا على نفسه والآخرين، أو غير قادر على رعاية نفسه. ومن ثم، إذا وجد ضابط شرطة أو فريق إدارة أزمات الصحة العقلية أن رجلًا ما يهيم في الشوارع بثياب ممزقة ويتمتم بكلام غير مفهوم، ثم يصطحب هذا الرجل إلى منزله ليجد شقة قذرة بها ثلاجة فارغة، يكون قد تحقق معيار «عدم القدرة على رعاية نفسه»، ويُرسَل الرجل إلى مؤسسة للعلاج النفسي. لكن في السجن حيث يودَع السجين زنزانةً، ويحصل على طعامه فيها، ويؤمر بالاستحمام كل بضعة أيام، يكون من الأصعب تحديد ما تعنيه عدم قدرته على رعاية نفسه. رأيي أنه نظرًا لإيداع السجناء زنزاناتٍ، وإطعامهم بانتظام، يميل الأطباء النفسيون داخل المؤسسات العقابية إلى التخلي عن حذرهم فيما يتعلق بالإعلان عن أن السجين المصاب باضطرابات عقلية غير قادر على رعاية نفسه.

إن الفحص والكشف المبكر عن الاضطرابات العقلية جزءان مهمان في أي برنامج لعلاج الأمراض العقلية؛ لأنه كلما طالت مدة ترك الاضطراب العقلي الخطير دون علاج، زادت حدة الأعراض وساءت توقعات سير المرض. على سبيل المثال، تشير العديد من الأبحاث السريرية إلى أنه كلما كان العلاج الفعال للفصام الحاد سريعًا، نقصت المدة التي تستمر فيها الحالة وازدادت توقعات سير المرض تحسنًا. وهذا هو الأساس المنطقي الذي يقوم عليه الإعطاء السريع للأدوية المضادة للذهان والتطبيق المكثف وقصير المدة للعلاج النفسي الجماعي والفردي في أثناء فترة الإقامة القصيرة في مستشفى الأمراض النفسية. ويوصَى أيضًا بأن تتْبع الإقامة القصيرة في المستشفى مدة أطول من إعادة التأهيل النفسي، تشمل إدارةَ الحالة المرضية، والاستشفاءَ الجزئي (مكوث المريض النفسي في البيت وتردده على مركز العلاج بمعدل يصل إلى سبعة أيام أسبوعيًّا)، وبرنامجًا يقيم فيه المريض مدة طويلة نسبيًّا في أماكن أخرى غير المستشفيات، إن لزم الأمر. وعند ترك الأعراض الذهانية — التي تشمل الهلاوس والتفكير غير المنظم والسلوكيات الغريبة — دون علاج أو التقصير في علاجها لأية مدة زمنية، يكون التوقُّعُ النهائيُّ لسير المرض أسوأَ مما كان يصير عليه إذا قُدِّمَ العلاج المناسب في حينه.

يفسر الأطباء النفسيون بمختلف مشاربهم هذه النتيجة التجريبية تفسيرات متباينة تباينًا كبيرًا. فالممارسون المعنيون بالديناميكا النفسية وأطباء النفس المجتمعيون يشيرون إلى أن العلاج السريع يحول دون اكتساب عادات سيئة، مثل عادات التصرف بغرابة، والنظر إلى نفسه باعتباره مريضًا عقليًّا، واعتياد المرء على نظر الآخرين إليه على أنه مريض عقلي. أما الأطباء المتخصصون في الطب النفسي البيولوجي، فيركزون أكثر على احتمالية أن تصبح الاختلالات الكيميائية الحادة في المخ، التي تسفر عن الأعراض الذهانية، ثابتة وأصعب في الشفاء منها بمرور الوقت. لكن في جميع الأحوال، هناك اتفاق واسع النطاق بين الأطباء النفسيين على أنه عند ترك الذهان دون علاج فترة زمنية طويلة أو عندما يتعرض الشخص المصاب به لظروف حياتية ضاغطة على نحو متكرر، يزيد احتمال تدهور حالة المريض وتحول الذهان إلى حالة مزمنة.

على النقيض لما يحدث للشخص الذي يعاني من انهيار نفسي حاد في المجتمع، عندما يبدأ السجين في الانهيار النفسي «بداخله»، يستغرق الأمر وقتًا أطول للانتباه إلى حالته من المحيطين به وعلاجها. وقد يلاحظ السجينَ المضطرب السجناءُ الآخرون ويؤذونه قبل أن يتمكن الموظفون من التوصل إلى أن سبب المشكلة هو اضطراب عقلي، خاصة إذا حدثت الحالة الحادة في مركز استقبال مزدحم. ويتحتم على السجين في كثير من الأحيان الصراخ طلبًا للمساعدة أو إحداث جلبة قبل أن يُقدَّم العلاج إليه. لكن حتى لو فعل ذلك، ينظر الموظفون على الأرجح للصراخ وإحداث الجلبة على أنهما تلاعب من جانب السجين، ومن ثم يُنقَل المجرم المضطرب على الأرجح إلى الحبس المشدد كعقاب له، بدلًا من إرساله لمقابلة أحد الأطباء النفسيين.

(١-٣) الحصول على خدمات مكثفة

إن الخدمات النفسية الطارئة وعنابر المرضى الداخليين ذوي الحالات الحادة جزء من معظم أنظمة السجون، وهي جزء مهم أيضًا من أي برنامج لعلاج الأمراض العقلية. فتتعاقد بعض الأنظمة في الولايات الأمريكية على تقديم خدمات الحالات الحادة خارج السجن في أحد المستشفيات المحلية للأمراض النفسية أو في مركز قريب تابع لإحدى الجامعات. وفي العديد من الولايات، تتعاقد إدارة المؤسسات العقابية مع هيئة الصحة العقلية لتتولى الأخيرة إدارة وحدات العلاج النفسي داخل السجون. ويكون بعض هذه الوحدات مشابهًا لمراكز العلاج النفسي العامة الموجودة خارج أسوار السجون.

لكن، تكمن المشكلة في الحصول على الرعاية؛ فوحدات العلاج النفسي الداخلية أو عنابر العلاج النفسي في المؤسسات العقابية تكون صغيرة نسبيًّا بالمقارنة باحتياجات السجون شديدة الازدحام. على سبيل المثال، في حين قد يوجد نحو ستين ألفًا أو مائة ألف سجين في إحدى المؤسسات العقابية بالولاية، يمكن أن تحتوي وحدة العلاج النفسي الداخلية على ٧٥ أو ١٥٠ سريرًا فقط؛ يعني ذلك أن الموظفين يضطرون لتسريح المرضى سريعًا لإفساح مكان لمرضى جدد. كما يعني أيضًا أن هناك تراكمًا للمرضى في مكان آخر في السجن بانتظار توافر سرير في وحدة العلاج النفسي الداخلية.

وبحلول الوقت الذي يُقبَل فيه أخيرًا دخول السجين، الذي يعاني من حالة ذهان حادة أو ميل شديد للانتحار، إلى وحدة العلاج النفسي الداخلية، يمكن أن يقضي أسابيع أو شهورًا محبوسًا في زنزانة السجن بانتظار نقله. وبعد أسبوع أو اثنين، يُسرَّح السجين على الأرجح من وحدة العلاج النفسي الداخلية ويُعاد إرساله إلى مبنى الزنزانات العادية غير الخاصة بالعلاج.

لقد تجولت في سجون يُحبَس فيها اثنا عشر سجينًا أو أكثر من المصابين بذهان حاد في زنزاناتهم أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا، بينما ينتظرون الموافقة على نقلهم إلى وحدة العلاج النفسي الداخلية. ولا يعلم موظفو الأمن كيفية التعامل معهم، فيتجاهلونهم تمامًا إلا فيما يتعلق بجلب صواني الطعام لهم. ويلتقي هؤلاء السجناء عادةً بطبيب نفسي في عجلة من أمره بضع دقائق يوميًّا، ويعطيهم هذا الطبيب أدوية قوية مضادة للذهان، لكنهم لا يتلقون أي علاج آخر. ولا يتحدث معهم أحد فترة طويلة، ويُترَكون وحدهم يعانون أصوات الهلوسة التي يسمعونها، وحالة من الذعر والغضب.

والسجناء المضطربون، الذين حالفهم الحظ في الانتقال إلى وحدة العلاج النفسي الداخلية، يخضعون لعلاج أقوى يشمل العلاج الجماعي واللقاءات في محيط العنبر. ويقضي الموظفون وقتًا في التحدث معهم وتعديل الأدوية التي يحصلون عليها للتحكم على نحو أفضل في الأعراض الذهانية التي يعانون منها. لكن ما إن يبدو عليهم الاستقرار حتى يُسرَّحون من المكان الوحيد الذي يحصلون فيه على رعاية دائمة، ويجدون أنفسهم في زنزانة السجن مرة أخرى.

يذكر العديد من السجناء المصابين باضطرابات حادة أنهم دخلوا مستشفى الأمراض النفسية التابعة للسجن مرة أو مرتين، لكن لفترة قصيرة عادةً. لقد صار برنامج العلاج النفسي الداخلي واجهة صورية فحسب، فهو مجرد محاولة لإظهار أن الإدارة المسئولة عن علاج الجناة تهتم بالأمر وتحاول جاهدة إدارة برنامج علاج نفسي عالي الجودة.

(١-٤) مستويات الرعاية المتوسطة

بينما توضَع نسبة كبيرة من التمويل المحدود لبرامج الصحة العقلية داخل المؤسسات العقابية في وحدة العلاج النفسي الداخلية، فإن ثمة توجه مؤسف نحو التوفير في «مستويات الرعاية المتوسطة»؛ وهي الخدمات المقدمة للسجناء الذين لا تؤهلهم اضطراباتهم العقلية في الوقت الحالي لدخول وحدة العلاج النفسي الداخلية، لكنها لا تزال تمثل عقبة أمام تكيفهم في الزنزانات العادية أو مع السجناء عمومًا.

إن «المستوى المتوسط من الرعاية» في المجتمع تقدمه شبكة تفاعلية من عيادات المرضى الخارجية، وبرامج العلاج ذات المواعيد المرنة، وبرامج الإقامة مثل منازل التأهيل ومديري الحالات وبرامج التدريب المهني. وتتمثل فكرة هذا المستوى في مساعدة الشخص المصاب بمرض عقلي في تعلم «مهارات الحياة اليومية»؛ كي يتمكن من العيش في المجتمع، والالتزام بنظام الأدوية الخاص به، وتجنب دخول المستشفيات مرة أخرى. أما في السجن حيث يُجبَر السجناء على النوم في زنزاناتهم والبقاء داخل المؤسسة العقابية، فليس من المنطقي التحدث عن برامج المرضى الخارجية أو برامج الإقامة. لكن حتى في السجون، يحتاج الأفراد المصابون باضطرابات عقلية إلى الخدمات المتوسطة. على سبيل المثال، يحتاج هؤلاء المرضى إلى الالتقاء بعضهم ببعض في مجموعات، مع وجود ممارسين مدربين على رعاية الصحة العقلية، حيث يمكن للمرضى تعلم إدارة ما ينتابهم من غضب وما يتعرضون له من اعتداءات وأزمات، مما يُعَد جزءًا من حياة السجن. وهم يحتاجون أيضًا إلى المساعدة في فهم حالاتهم العقلية، وإدراك سبب تحسن أدائهم إذا التزموا بنظام الأدوية المُعَد خصوصًا لهم. وقد يحتاجون أيضًا إلى بعض الحماية من المعتدين عليهم الذين يعمدون إلى إيذاء السجناء المصابين باضطرابات عقلية، لكنهم لا يرغبون في الوقت نفسه في دخول «الحجز التحفظي». بعبارة أخرى، هم يحتاجون إلى مجموعة كاملة من الخدمات؛ لكي يبقوا بمنأًى عن المشكلات ويتجنبوا أي انهيارات في المستقبل. بيد أن هذه الخدمات يفتقر إليها السجن عادةً في برامج علاج الأمراض العقلية؛ ولهذا السبب يعود عدد كبير من السجناء المصابين بأمراض عقلية إلى وحدات العلاج النفسي الداخلية ووحدات الحراسة المشددة.

أخبرني الطبيب النفسي في وحدة الحراسة المشددة بمؤسسة واباش فالي العقابية بأن نحو نصف عدد السجناء في وحدة الحراسة المشددة يعانون من اضطراب نفسي خطير، وقلما يتحدثون مع أحد سوى السجناء المجاورين لهم، وحتى عندما يفعلون ذلك يضطرون للصياح بصوت عالٍ كي يسمعهم الآخرون. ومعظم السجناء المصابين باضطرابات عقلية الذين التقيت بهم في هذه المؤسسة كانوا يعانون من حالة ذهان نشطة، أو كانت الأعراض الذهانية التي يعانون منها تخضع لقدر بسيط من التحكم فيها باستخدام الأدوية المضادة للذهان أو المنظمة للحالة المزاجية.

وقد أخبرت الطبيب النفسي المسئول هناك برأيي، وهو أن هؤلاء المرضى ينبغي عدم التحفظ عليهم في وحدة التحكم؛ لأن مثل هذه البيئة تزيد من حالتهم النفسية سوءًا. لم يعترض على ما قلته، ولكنه أوضح لي أنه ليس مسئولًا عن توزيع السجناء على مباني الزنزانات، وأن هؤلاء الرجال يعرضون أنفسهم للمشكلات كثيرًا عند اختلاطهم بالسجناء عمومًا. ووصف لي الطريقة التي تجري بها الأمور؛ وهي أن هؤلاء السجناء يخرقون الكثير من القواعد مما يسفر عنه إرسالهم إلى وحدة الحراسة المشددة، فيقدم إليهم ما يكفي من الأدوية في أثناء وجودهم بهذه الوحدة كي يهدءوا، لكن عند إطلاق سراحهم من هذه الوحدة وعودتهم إلى عموم السجناء، تثور ثائرتهم بسبب احتجازهم في هذه الوحدة. ونظرًا لعدم اعتيادهم على التفاعلات الاجتماعية بعد قضاء مدة من الوقت في العزل؛ يشرعون في خرق القواعد مجددًا. وفي هذه الأثناء، يتعهدون بتحدي السلطة متى أمكنهم ذلك، فيتوقفون عن الحصول على الأدوية الخاصة بهم. وفي النهاية، يُودعون مجددًا وحدة الحراسة المشددة وقد أصيبوا بالذهان وصار من الصعب التحكم فيهم.

توجد وحدة داخلية للعلاج النفسي في سجن آخر داخل مؤسسة السجون هذه، لكنها لا تحتوي على عدد كافٍ من الأسرَّة للإبقاء على المساجين المصابين بالذهان فيها فترة طويلة. ولا توجد وحدات من المستوى المتوسط ليرسل الطبيب النفسي إليها السجناء المصابين بأمراض عقلية ممن هم مهيئون لمغادرة وحدة التحكم، لكنهم غير قادرين في الوقت نفسه على التكيُّف في الزنزانات العادية دون علاج نفسي داعم. ومن ثم، تستمر العودة إلى وحدة التحكم دون هوادة.

(١-٥) استخدامات الأدوية

يمكن التحكم مؤقتًا في أعراض الذهان — كالهلاوس مثلًا — بمجرد مداواة المريض باستخدام العقاقير القوية المضادة للذهان. بيد أن ذلك بعيد كل البعد عن العلاج الملائم. فالشخص المصاب بانهيار انفعالي ذهاني حاد لا بد من مراقبته عن كثب وإخضاعه لمجموعة متنوعة من الوسائل العلاجية، بما فيها العلاج الجماعي والفردي، والعلاج المهني أو العلاج بالرسم، والعلاج المحيطي في العنابر، وتدخُّل العمل الاجتماعي الهادف إلى تحسين بعض العوامل الأسرية والاجتماعية المثيرة للأزمات، والتربية النفسية المعدة لتثقيف المريض بشأن المرض والأساس العلمي الذي ينبني عليه العلاج وما إلى ذلك. وفي حال عدم توافر هذه الوسائل العلاجية، يقتصر دور الأدوية على التحكم فحسب في الأعراض عن طريق تهدئة المريض دون التعامل مع التوترات والصراعات الكامنة. ولا يتعلم المريض سوى حجب الأعراض مع الجرعات العالية من الأدوية، ولا يتعلم فعليًّا أي شيء عن المرض أو أهمية الأدوية. ومن ثم، يزيد احتمال توقفه عن الالتزام بالعلاج بمجرد أن يُتاح له الخيار لفعل ذلك، ومن ثم يكون خطر الانتكاس عاليًا جدًّا.

ولهذا السبب، يُودع الشخص المصاب بانهيار ذهاني المستشفى. ومن لديهم ميل قوي للانتحار يُودعون المستشفى لحمايتهم. وفي أثناء وجودهم في المستشفى ومنحهم العناية العلاجية المكثفة، يكون الهدف الكشف عن أسباب ميولهم الانتحارية3 ومعالجة هذه الأسباب بما فيه الكفاية، بحيث لا يحاولون الانتحار مجددًا بمجرد مغادرتهم المستشفى؛ لذا، فإن مجرد مداواة مثل هؤلاء الأفراد وعزلهم ليس علاجًا كافيًا. تتطلب الأدوية المضادة للاكتئاب أسابيع لتُحدث مفعولًا، والعزل في حقيقة الأمر يزيد من خطر انتحار الشخص الذي لديه النية لتدمير نفسه بمجرد أن يخرج من زنزانة العزل.

وفي المؤسسات العقابية، حيث يتعامل الأطباء السريريون المختصون بعلاج الأمراض العقلية مع عدد كبير للغاية من السجناء المصابين باضطرابات شديدة، يكون هناك ميل للتضحية بالأنشطة التي تستغرق وقتًا، مثل التحدث مع المرضى في بيئة سرية تدفع إلى الثقة. وفي معظم المؤسسات العقابية، لا يتمكن السجين/المريض في المعتاد من رؤية الطبيب النفسي سوى بضع دقائق مرة كل شهر أو شهرين. وتكون مهمة هذا الطبيب هي متابعة الأدوية وطلب إجراء فحوصات للدم لتحديد مستوى الليثيوم — على سبيل المثال — أو التحقق من وظائف الكبد إذا كان من الممكن للأدوية أن تتسبب في إحداث تلف بالكبد. وفي وحدات الحراسة المشددة التي تجولت بها، لا يُسمَح للسجناء بالذهاب إلى العيادة، ومن ثم يقوم الطبيب النفسي ﺑ «جولات تفقدية» مرة واحدة أو عدة مرات في الأسبوع. ويعني ذلك عادةً سير الطبيب النفسي بين الزنزانات وسؤاله كل سجين عن حاله. وعدد قليل للغاية فقط من السجناء هو الذي يختار التحدث كثيرًا في هذا السياق.

يوجد أيضًا سوء استعمال جبري للأدوية خلف القضبان. على سبيل المثال، تُعطَى المهدئات القوية مثل ثورازين وهالدول — المصممين لعلاج حالات الذهان — عن طريق الحقن الإجباري للسجناء المخلين بالنظام ممن لا يعانون من الذهان؛ وذلك لتهدئتهم. وبالرغم من فعالية هذه الأدوية في إسكات الأصوات الداخلية التي تأمر السجين المصاب بالفصام بالاعتداء على الآخرين، فهي ليست على درجة كبيرة من الفعالية كمهدئات للأفراد غير المصابين بالذهان. والجرعة المطلوبة لتهدئة السجين غير المصاب بالذهان يمكن أن تجعله ينام أو تعرضه لآثار عصبية مزعجة، مثل التخشب وتشنجات العضلات.

ومعظم الولايات لديها قوانين وسياسات فيما يتعلق باستخدام الأدوية الإجبارية. ويتضمن الإجراء القانوني المتعلق بذلك عادةً جلسة استماع قبل أن يتخذ القاضي أو لجنة المراجعة قرارًا بشأن إن كان السجين عاقلًا بما فيه الكفاية ولديه الحق في رفض الأدوية أم لا.

وفي العديد من المؤسسات العقابية التي تجولت بها، يتفادى الموظفون مطلب جلسة الاستماع المستنفدة للوقت، عن طريق إكراه السجين على الحصول على الأدوية. ولقد رأيت سجناءَ مقيدين في قيود رباعية (تقيد فيها الأطراف الأربعة) أو خماسية (الأطراف الأربعة إضافة إلى الصدر) في زنزاناتهم، وقد قيل لهم إنهم لن يُطلَق سراحهم — ولا حتى لاستخدام دورة المياه — إلا بعد أن يوافقوا على الحصول على الأدوية.

وإرشادات الموافقة المطلعة تتطلب من الطبيب إعلام المريض بآثار الدواء وأخطاره، بالإضافة إلى إخباره بالعلاجات البديلة. وتُنتَهك هذه الإرشادات بمعدل يبعث على الانزعاج في جميع السجون التي تجولت فيها.

(١-٦) اعتبار السجين «مجنونًا وسيئ الخلق»

تفتقر معظم أنظمة السجون لأماكن وبرامج العلاج للسجناء الذين يُصنفون بأنهم «مجانين وسيئو الخلق». على سبيل المثال، السجين الذي لديه سجل من أعمال العنف المتكررة يُرفَض التحاقه عادةً ببرنامج العلاج النفسي، حتى وإن كان يعاني من ذهان حاد أو ميل شديد للانتحار، وإن كان في كل الشجارات يدافع عن نفسه ضد السجناء الذين يتحرشون به بسبب مرضه العقلي. وإن حالفه الحظ ودخل أحد عنابر العلاج النفسي الداخلية، فسوف يُسرَّح منها سريعًا. ويفسر موظفو الصحة العقلية ذلك بأن هذه المجموعة من السجناء لا يكون لديهم الدافع الكافي للاستفادة من العلاج، ويكونون مزعجين لدرجة أنهم يفسدون البرنامج على الجميع.

ويدخل العديد من هؤلاء السجناء في شجارات مع عموم السجناء أو يتطاولون على موظفي السجن، ويستقر بهم الحال في وحدات الحراسة/العزل. كما قد يصدر موظفو المؤسسة العقابية — في محاولة لتجنب ما قد يبدو حتميًّا من المواجهات والإنذارات التأديبية — أوامر بإخضاع هؤلاء السجناء للحبس الانفرادي المشدد (يكون هذا الحبس في زنزاناتهم بوحدة غير وحدات الحبس الانفرادي). وسواء أكان هؤلاء السجناء في وحدة الحبس الانفرادي أم يخضعون للحبس المشدد في زنزاناتهم، فإنهم يوضَعون على لوائح جولات الطبيب النفسي التفقدية. لكن نظرًا لأنهم مزعجون على نحو يحول دون وجودهم في مجموعات، لا يتم ضمهم غالبًا في أي نوع آخر من برامج علاج الأمراض العقلية؛ ومن ثم، يلزمون زنزاناتهم في خمول وعزلة، حيث يزيد غضبهم وتنتكس حالاتهم للغاية ويصيرون غير قادرين على المشاركة في أي نوع من التفاعل الاجتماعي، حتى في غرفة التجمع. وما إن يوضَع السجناء في الحبس الانفرادي المشدد حتى يتم التعامل مع سلوكياتهم غير الملائمة كمخالفات انضباطية بدلًا من التعامل معها كعلامات على الانهيار الانفعالي العقلي الوشيك أو الحاد.

ثمة ميزة في وضع قيود صارمة على السجناء المخلين بالنظام، بما في ذلك مَن يعانون من اضطرابات عقلية حادة. فمن المستحيل تقديم الخدمات النفسية في موقف غير آمن. وموظفو الصحة العقلية يحتاجون إلى تجنب التواطؤ مع السجناء الذين يتظاهرون بالاضطراب العقلي، ذلك التواطؤ الذي قد يقع من خلال نفي تهمة سوء السلوك عنهم، وبعض من حالات التظاهر هذه لا تزال تحدث بالفعل. في الوقت نفسه، يميل الأفراد المصابون باضطرابات حادة إلى التصرف على نحو غريب وغير ملائم نظرًا لحالتهم النفسية.

وإساءة التصرف وخرق القواعد يمكن أن يكونا علامتين على اضطراب نفسي لم يخضع للعلاج والسيطرة على النحو الملائم. على سبيل المثال، يسمع العديد من السجناء المصابين باضطراباتٍ أصواتًا أو «هلاوس آمرة» تحثهم على ارتكاب أعمال عنف ضد أنفسهم أو ضد الآخرين. وعندما يفقد المريض المصاب بالذهان السيطرة على نفسه ويتبع أوامر الهلاوس التي يسمعها، فإنه يحتاج في هذه الحالة إلى تكثيف العلاج. وقد يحتاج إلى جرعة أعلى من الدواء المضاد للذهان، وإلى وضعه أيضًا في غرفة عزل حتى يتحدث أحد معه لتحديد إن كان قد تعرض لحدث ما أثاره. على سبيل المثال، هل تعرض للتهديد أو الاغتصاب أم أن كل ما هنالك أنه تلقى أنباء سيئة عن طفل يعاني من مشكلة خارج السجن؟

مع ذلك، ثمة اتجاه سائد لدى موظفي رعاية الصحة العقلية في السجون نحو الإذعان لموظفي الأمن الذين يتدخلون في مثل هذه المواقف ويُخضِعون السجين المخل بالنظام للحبس الانفرادي المشدد. فالتعامل الأمني يأتي في المرتبة الأولى، في حين تأتي رعاية الصحة العقلية في مرتبة متأخرة. فلا أحد يستقطع من وقته للتحدث إلى السجين أو التواصل مع أسرته لتحديد إن كان هناك اعتداء أو خبر سيئ قد أثاره. ومن الصعب للغاية على موظفي رعاية الصحة العقلية كسب ثقة السجين الذي حُبِس في زنزانته وأخذ يصرخ بشأن ما يتعرض له من ظلم؛ وتكون النتيجة سجينًا غاضبًا للغاية موجودًا في زنزانة ومستعدًّا لأن يصب جام غضبه على أي شخص يتعسه الحظ بمواجهته. وبطبيعة الحال، في هذه المرحلة، غالبًا ما ينأى موظفو رعاية الصحة العقلية بأنفسهم، مدعين أن السجين على درجة من الغضب والتمرد تحُول دون التعامل معه؛ ومن ثم، يُترَك السجين المخلُّ بالنظام وحده مع أوهامه الذهانية.

بالطبع هناك بعض الأفراد الذين لن يُعاد تأهيلهم أبدًا، وهم السيكوباتيون والسفاحون الذين يبثون الرعب في المجتمع ويستحقون العزل مدى الحياة. لكن هؤلاء الأفراد يمثلون نسبة ضئيلة للغاية من السجناء حاليًّا. وهناك عدد أكبر من الأفراد المصابين باضطرابات شديدة الذين لم يصيروا أشخاصًا يتسمون بالعنف ويصعب السيطرة عليهم إلا بعد تعرضهم لصدمات متكررة في السجن، والعديد من هؤلاء الأشخاص سيُطلَق سراحهم يومًا ما؛ لذا، إذا تحدث الموظفون مع هؤلاء السجناء الذين يصعب التحكم فيهم واكتسبوا ثقتهم ببطء، فستكون هناك فرص لإعادة توجيه طاقاتهم إلى مشروعات بنَّاءة تساعدهم في إعداد أنفسهم لاستئناف حياتهم كمواطنين أحرار. وسوف أعود لتناول هذا الموضوع في الفصل العاشر من هذا الكتاب.

ملء الزنزانات بالسجناء هو الوضع الافتراضي. وفي حالة عدم وجود برامج العلاج وإعادة التأهيل، يُترَك السجناء ليتصرفوا كيفما يشاءون دون مراقبة أو إشراف. ويجد السجناء المضطربون عقليًّا صعوبةً في الاحتفاظ بحالة من الاستقرار في ظل غياب تفاعلات اجتماعية آمنة خاضعة للإشراف. فينتهي الحال بالكثيرين منهم إلى الحبس في زنزاناتهم حيث تتدهور حالاتهم الصحية.

(٢) سلوك الموظفين بالسجون

بعيدًا عن المهام الموكَلة إلى موظفي الصحة العقلية في المؤسسات العقابية، مثل تقديم التقارير للمحاكم ومجالس إطلاق السراح المشروط وتقديم العلاج بأمر من المحكمة لمرتكبي الجرائم الجنسية، لا يملك الكثير من هؤلاء الموظفين القدر الكافي من الوقت اللازم لتلبية الطلب على الخدمات السريرية المباشرة. وبعد تقديم الرعاية لأخطر حالات الذهان وأكثر مخاطر الانتحار جديةً، يفقد هؤلاء الموظفون المُنهَكون صبرهم سريعًا مع أي سجين تنتابهم الشكوك بشأنه فيما يتعلق باحتمال تلاعبه بهم للحصول على الأدوية أو لفت الانتباه.

لكن الطبيب السريري ذا الضمير الحي لا بد أن يشعر بأنه يحقق شيئًا ما في عمله. وإذا شعر بعجزه عن منح المرضى الرعاية اللازمة لحالاتهم بسبب كثرة عدد الحالات التي ينبغي عليه فحصها كل يوم، أو إذا منعته الاعتبارات الأمنية من التصرف وفقًا لتقديره الإكلينيكي في الكثير من الحالات، فسيحاول البحث عن جانب أكثر محدودية من الممارسة السريرية حيث يمكنه التمتع بقدر من الاستقلالية والتحكم. ومن الأمثلة على هذا النوع من الانسحاب إلى إطار محدد من السلطة طبيب نفسي التقيت به وكان يفتخر باحتفاظه بسجلات سريرية ممتازة.

اتسم حفظ السجلات السريرية في معظم السجون التي تجولت فيها بالقصور الشديد، فتناثرت الملاحظات، وساد عدم الاتساق؛ إذ يفحص كل طبيب سريري المرضى ويغيِّر علاجهم دون أن يُعبِّر بوضوح عن النتائج الموضوعية والأساس المنطقي لتغيير الأدوية أو مكان إقامة السجناء. لكن الطبيب النفسي الذي التقيت به كان استثناءً؛ فالملاحظات حول تقدم الحالة والأوامر التي أدخلها في المخططات كانت تستحق الثناء. لقد سجَّل ملاحظات عن حالة السجين/المريض في وقت زيارته، وأشار إلى أي تغييرات شعر بضرورتها في خطة العلاج، بالإضافة إلى تاريخ موعد الزيارة السريرية التالية.

لكن المشكلة هي أن هذا الطبيب النفسي لا يملك الوقت الكافي لفحص كل السجناء الذين يحتاجون إلى الرعاية، وتقتصر استراتيجية علاجه على وصف الأدوية وحجز السجناء المضطربين في زنزاناتهم. ولا يوجد أي أطباء سريريين آخرين بين موظفي هذا السجن، ولا يوجد أي علاج جماعي، أو اختصاصي اجتماعي يمكنه التواصل مع أسرة المريض، أو أي برنامج إعادة تأهيل نفسي من أي نوع. علاوة على ذلك، ينقل موظفو الأمن المرضى إلى طوابق ومباني زنزانات مختلفة متى شعروا بأن هذا النقل يلزم لأسباب أمنية، ولا يستشيرون أبدًا الطبيب النفسي المُعالِج بشأن النقل أو السبب وراءه. وقد صارحني هذا الطبيب النفسي قائلًا:

لست معتادًا على هذا النوع من البرامج المناهضة للعلاج. فعندما أتعامل مع أي مريض في المستشفى، أكون أنا صاحب القرار؛ فأطلب تخصيص غرفة فردية أو مزدوجة، وإيداع المريض غرفة عزل عندما أقرر أن الحالة السريرية تتطلب ذلك. لكن في هذا السجن، لا أتحكم في أيٍّ من هذه الأمور، ولا يمكنني حتى طلب الخدمات التكميلية، مثل تواصل الاختصاصي الاجتماعي مع أسرة المريض. ونظرًا لأنني الطبيب الوحيد هنا والسجن ممتلئٌ عن آخره بالمجرمين المضطربين نفسيًّا، فلا يمكنني فحص كل مريض سوى بضع دقائق فقط. والأمر الوحيد الذي أتحكم فيه هو جودة السجلات الطبية التي أقوم بإعدادها؛ ولذا فإنني أحرص تمامًا على أن تكون ملاحظاتي واضحة ودقيقة.

(٢-١) شعور الموظفين بالإنهاك

لقد التقيت بموظفين يعملون في مجال رعاية الصحة العقلية في السجون على قدر هائل من تبلد المشاعر وعدم الاكتراث، فضلًا عن تعاونهم مع موظفي الأمن في أعمال وحشية للغاية ضد السجناء. لكن عددًا أكبر بكثير من هؤلاء الموظفين يتسمون بقدر كبير من صحوة الضمير والكفاءة والاهتمام والاجتهاد الشديد في العمل لتقديم خدمات الصحة العقلية الملائمة. هؤلاء يحاولون تقديم العون للآخرين متى تمكنوا من ذلك، أو على الأقل عدم إلحاق أي ضرر بهم. لكن نظرًا لأن عدد السجناء الذين يحتاجون إلى خدمات الصحة العقلية هائل، ومعظم أنظمة تقديم خدمات الصحة العقلية في السجون تعاني من نقص التمويل ونقص الأيدي العاملة ومن القصور المؤسِف، يعاني الموظفون المكترثون في النهاية من الإنهاك.

ومظاهر الإنهاك منتشرة على نحو كبير في برامج الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية حاليًّا. أستشف هذا الأمر عند تحدثي مع الموظفين بهذه المؤسسات؛ فهم لا يشعرون بالحماس تجاه عملهم، ويشكون من مديري السجون، ويتحدثون عن المشاحنات والمجادلات التي تشهدها الاجتماعات. هذا فضلًا عن ارتفاع معدلات التغيب عن العمل وعدد الشكاوى الغامضة من المرض، بالإضافة إلى قلة نسبة حضور الموظفين في الدورات التدريبية، إلا إذا كان الحضور إجباريًّا. فيبدو أن الكثير من الموظفين يسعون لعزل أنفسهم ولا يهتمون بتجريب أساليب جديدة.

ويتحدث الموظفون سرًّا عن شعورهم بالعجز وعدم التقدير، والاستياء من اضطرارهم اتباع الأوامر والخطط الصادرة عن موظفي الأمن، بينما تتمثل مهمتهم في تقديم خدمات الصحة العقلية. قال لي طبيب نفسي سريري في أحد سجون الولايات الأمريكية ذات الإجراءات الأمنية المشددة: «لم أحصل على تدريب لأكون ضابط شرطة. وكلما أشرع في اكتساب ثقة المريض، يتورط في مشكلة ما مع الحرَّاس، فينقلونه إلى إحدى وحدات العزل حيث لا يمكنني رؤيته بعد ذلك. وعند دخول المريض وحدة العزل، يصل إلى درجة من الغضب تجعله يرفض التحدث إلي على أية حال، ومن ثم تزول كل المكاسب التي حققناها في العلاج، ويبدأ المريض في إساءة التصرف بشتى الطرق.» ويتساءل الكثير من موظفي الصحة العقلية عن سبب صبرهم ومواصلتهم العمل بالمؤسسات العقابية، ويبدأ الكثير منهم في البحث عن سبل لتركها.

يشير ماسلاك ولايتر إلى أن الإنهاك4 يحدث لمَن يؤدون أعمالًا يتعاملون فيها مع الناس. ويحددان ثلاثة أبعاد للإنهاك؛ ألا وهي الإجهاد والتشاؤم وعدم الفاعلية. وهما يفسران الإنهاك بأنه لا يتعلق بافتقار العاملين للقدرة أو الرغبة في مواصلة العمل، وإنما بالبيئة الاجتماعية. فإذا كان مكان العمل لا يقدِّر «الجانب الإنساني في العمل»، يرتفع خطر التعرض للإنهاك.

ومقياس ماسلاك للإنهاك هو مقابلة مُنظَّمة تُطرَح فيها أسئلة على الموظفين — دون ذكر أسمائهم — حول مدى تطابق مجموعة من العبارات مع خبراتهم. ومن الأمثلة على هذه العبارات: «أشعر بالإنهاك الشديد في نهاية يوم العمل» و«لقد أصبحت أكثر غلظة في تعاملاتي مع الناس منذ عملت بهذه الوظيفة» و«أتعامل على نحو فعال للغاية مع مشكلات مَن أقدم لهم الخدمات.» ويمكن استخدام هذا المقياس لمساعدة الموظفين على بدء التحدث فيما بينهم عما يزعجهم في العمل. عندما أسأل موظفي الصحة العقلية في المؤسسات العقابية هذه الأسئلة، تشير إجاباتهم إلى إنهاك واسع الانتشار بينهم.

وكلما ارتفع مستوى الإنهاك لدى الموظفين، ازداد نأيهم بأنفسهم عن أي تورط عاطفي مع مِحَن السجناء. فالاهتمام بالسجناء يزيد من صعوبة مهام هؤلاء الموظفين، ولا سيما عندما يكون الموظف المهتم غير قادر على إيقاف ما يعتبره تدخلات وحشية غير ملائمة من جانب موظفي الأمن، أو عندما تعلن الإدارة بوضوح عن عدم قبولها أية مشكلات يتسبب فيها موظفون بالمؤسسة.

لكي يقدم موظفو الصحة العقلية علاجًا إنسانيًّا للمرضى، لا بد من توافر درجة معينة من الاستقلالية لديهم عن موظفي الأمن. لا شك أن الأمن هو الاعتبار الأساسي في المؤسسات العقابية. وموظفو الصحة العقلية ينبغي عليهم التعاون على نحو وثيق مع موظفي الأمن للحفاظ على الأمن داخل المؤسسة، والتعاون لتنفيذ خطة إدارية معينة مع السجناء المضطربين نفسيًّا. لكن موظفي الأمن يستأثرون في أغلب الأحيان بالسلطة، حتى عندما يكون من الواضح أن تصرفات السجين هي نتيجة لحالته النفسية، وأنه لا يمثل خطرًا أمنيًّا مباشرًا.

(٢-٢) المخاوف بشأن التعرض للتلاعب من جانب السجناء

يمكن للسجناء أن يكونوا على قدر كبير من التلاعب، والكثيرون منهم يتظاهرون بالفعل بأنهم يعانون مرضًا عقليًّا. وفي عدد معين من الحالات، يكون هذا الأمر وسيلة للنجاة في السجن. فاكتساب المرء شهرة بأنه «مجنون» يمكن أن يكون وسيلة وقائية له؛ إذ يبتعد السجناء الآخرون عن الشخص الذي يشتهر بجنونه؛ لأنهم لا يستطيعون التنبؤ بردود أفعاله. وبعض السجناء يتظاهرون بالمرض العقلي لكي يُنقَلوا إلى وحدات ذات ظروف أفضل. وإذا شعر السجين بالخوف من السجناء الأقوى منه أو بعدم القدرة على تحمل الوحدة داخل السجن، فستبدو له البرامج الموضوعة للسجناء المصابين بأمراض عقلية جذابة نسبيًّا. وثمة سجناء آخرون أيضًا يتظاهرون بالمرض العقلي؛ لأنهم يعتقدون أن وصفهم بالمرض العقلي سيساعدهم في الحصول على حكم مُخفَّف، أو الخضوع لمحاكمة جديدة، أو تحسين موقفهم القانوني بأية صورة أخرى. وهناك آخرون يسعون فقط للفت الانتباه من خلال هذا الأمر؛ ولذا، فإن العاملين في مجال الصحة العقلية بالمؤسسات العقابية ينبغي عليهم التفريق بين السجناء الذين يتظاهرون بالمرض العقلي ومَن يعانون فعلًا من اضطراب نفسي خطير.

لكن هذا التفريق ليس من السهل دائمًا القيام به؛ فالكثير من السجناء يعانون من مرض عقلي خطير ويشعرون بالحاجة إلى التلاعب من أجل الحصول على الاهتمام الذي يحتاجون إليه. ويكونون عادةً محقين تمامًا بشأن هذه الحاجة إلى التلاعب. ثمة حلقة مفرغة هنا؛ فكلما ازداد قصور خدمات الصحة العقلية وازداد تصميم الموظفين على عدم تقديم الخدمات للسجناء المحتمل قيامهم بالتلاعب، ازداد احتمال اضطرار المجرم المصاب بمرض عقلي فعلي للتلاعب إذا كان سيحصل بهذه الطريقة على الرعاية التي يحتاج إليها. على سبيل المثال، قد يضطر المجرم المصاب باضطراب عقلي إلى إحداث شغب أو ضرب شخص ما لكي يحظى بالاهتمام من جانب موظفي الصحة العقلية.

وموظفو الصحة العقلية الذين يهتمون كثيرًا بالتعرف على المتلاعبين يغفلون كثيرًا عن هذا الفرق الدقيق بين المريض الفعلي والمتلاعب، ويرفضون إعطاء السجناء المرضى الرعاية التي يحتاجونها. وفي السجون التي أجريت تحقيقات فيها، يُنظَر إلى السجين إما على أنه متلاعب، وفي هذه الحالة يتم تجاهل كل احتياجاته، وإما على أنه مريض عقلي حسن النية. والتمييز بالطبع بين هذين النوعين من السجناء مطلوب من جانب الموظفين. والأماكن القليلة المتوافرة للعلاج المكثف يجب ألا يشغلها السجناء الأكثر حِنكة في التلاعب. بيد أن القدرة على التمييز في هذا الشأن هي جزء من موهبة الطبيب السريري المتخصص في الصحة العقلية، سواء أكان داخل السجون أم خارجها.

(٣) القصور في التخطيط لما بعد إطلاق السراح

أكثر من ٩٠ بالمائة من السجناء، بمن فيهم مَن يعانون من اضطرابات عقلية حادة ومستديمة، ينهون مدة عقوبتهم يومًا ما ويُطلَق سراحهم في النهاية. وفي العديد من الولايات الأمريكية، يُطلَق سراح هؤلاء السجناء مع تخطيط بسيط أو دون تخطيط على الإطلاق فيما يتعلق بخدمات العلاج أو الدعم خارج السجن. ويجعل ذلك من عملية تكيف السجين بعد إطلاق سراحه أمرًا صعبًا بالنسبة إلى المجرمين السابقين الأكثر استقرارًا من الناحية النفسية، أما مَن يعانون من اضطرابات عقلية حادة — خاصةً إذا كانوا قد قضوا فترة طويلة من مدة عقوبتهم بالسجن في حبس مشدد — فيكون نجاحهم في التكيف بعيد الاحتمال؛ فتبلغ نسبة العودة إلى الإجرام لدى جميع السجناء السابقين بعد ثلاثة أعوام من إطلاق سراحهم ٦٣ بالمائة، بينما تفوق هذه النسبة ٨٠ بالمائة بين السجناء السابقين الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة.

يحاول بعض موظفي الصحة العقلية في المؤسسات العقابية التحدث مع مديري التدبير العلاجي للحالات؛ من أجل وضع خطة علاج لفترة ما بعد إطلاق السراح. لكن في السنوات الأخيرة، شهد العلاج والتدريب والفرص الوظيفية المتاحة للسجناء السابقين تراجعًا هائلًا، مثلما تناقصت فرص العلاج وإعادة التأهيل داخل السجون. والسجناء المضطربون عقليًّا، الذين تمَّ حبسهم في زنزاناتهم معظم مدد عقوباتهم — خاصةً مَن ليس لديهم أُسر يعودون إليها بعد خروجهم من السجن — يقعون عادةً في مشكلات خطيرة فور إطلاق سراحهم.

التقيت، على سبيل المثال، بسجين يعاني من ذهان حاد كان محتجزًا في إحدى وحدات العزل الإداري وكان قد أُطلِق سراحه منذ بضعة أشهر مع انتهاء مدة عقوبته المحددة في السجن. وما إن خرج من السجن حتى ذهب إلى إحدى ساحات انتظار السيارات لينتظر الممرضة «التي أحبها» حتى تغادر مكان عملها ويغتصبها. فأُلقي القبض عليه على الفور، واكتُشِف أنه كان يعاني هلاوس تأمره بارتكاب هذه الجريمة. وبعد إدانته بجريمة الاغتصاب، عاد إلى السجن ليقضي مدة عقوبة أطول بكثير من مدته الأولى.

وفي بعض الحالات، يُنقَل السجين المضطرب عقليًّا، الذي قضى مدة عقوبته، مباشرةً من السجن إلى إحدى المؤسسات العلاجية غير العقابية. وفي أغلب الأحيان، يكون هناك نوع من سوء التخطيط لهذا الإجراء. على سبيل المثال، أخبرتني مديرة معنية بالصحة العقلية في إحدى المقاطعات، التي تشتمل على سجن ذي إجراءات أمنية مشددة، بقصة مريض مضطرب عنيف فرضه عليها سجن الولاية دون أي إخطار مُسبَق؛ إذ تلقت مكالمة في وقت متأخر من ظهيرة أحد أيام الجمعة من مساعد مأمور السجن، مُخبِرًا إياها بأنهم على وشك إطلاق سراح سجين من الواضح أنه يعاني من الذهان ويصعب التحكم فيه. فسألته: لماذا أُطلِق سراح هذا السجين بدلًا من إرساله إلى المقاطعة التي أُدين فيها؟ فأجابها مساعد المأمور بأنه ليست لديه أسرة، وارتكب جرائم في عدة مقاطعات.

وأضاف مساعد المأمور: «لذا، أعتقد أنه تحت تصرفكِ الآن لتتعاملي معه كيفما ترينه مناسبًا.» ثم قدم لها نصيحة من تلقاء نفسه قائلًا: «لو كنت مكانكِ، لاتصلت بعُمدة البلدة وطلبت منه إرسال بعض الضباط إلى بوابة السجن في خلال ساعة من الآن كي ينقلوا هذا السجين إليكِ عند إطلاقنا سراحه، على افتراض أنه مريض عقليًّا ويمثل خطرًا على الآخرين.» فاستمعت إلى نصيحته، وأوقف نواب العُمدة السجين الذي أُطلِق سراحه ونقلوه إلى غرفة طوارئ الحالات النفسية بالمقاطعة. وعلى الرغم من أنه كان يحصل على جرعات عالية من الأدوية المضادة للذهان، رأى الطبيب النفسي بغرفة الطوارئ أنه كان يعاني من الهلاوس والأوهام ويمثل خطرًا حقيقيًّا على الآخرين؛ بسبب ميله للتصرف بعنف عند تعرضه لأبسط صور الاستفزاز. ولزم وضعه في وحدة رعاية نفسية مؤمَّنة.

يُطلَق سراح الكثير من السجناء الآخرين، الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة، عند انتهاء مدد عقوباتهم المحددة، ويُمنَحون تذكرة ذهاب فقط عن طريق إحدى الحافلات المتجهة إلى الوجهة التي يختارونها داخل الولاية. والسجناء الذين يعانون من الاكتئاب يتركون السجن عادةً في هدوء، لكن الكثيرين منهم يعانون من شلل انفعالي ناتج عن قضاء فترات زمنية طويلة وحدهم داخل الزنزانة، ويجدون صعوبة هائلة في العودة إلى أُسرهم والبحث عن عمل وبدء حياة جديدة خارج السجن.

يقضي عدد متزايد من السجناء المصابين بأمراض عقلية ويتسمون بإخلالهم المزمن بالنظام (يعني «مجانين ومشاغبين في ذات الوقت») السنوات الأخيرة من مدد عقوباتهم المحددة في وحدات الحراسة المشددة. ونظرًا لأن القانون يفرض إطلاق سراحهم؛ يخرجون مباشرةً من هذه الوحدات إلى الشوارع. فيكونون غير مؤهلين على نحو جيد للحياة في المجتمع. وسرعان ما يُلقَى القبض مرة أخرى على الكثيرين منهم، لكن ذلك يكون بعد ارتكابهم جرائم جديدة بالفعل. ولا شك أن هذه الدورة تعرض الأمن العام للخطر.

•••

إن قضاء فترة عقوبة في السجن يسبب صدمة دائمًا للمدانين الذين هم عرضة للانهيار الانفعالي. لكن سمات الحياة في السجون حاليًّا مرهقة على نحو خاص وتسبب ضررًا أكبر بكثير مما يمكن توقعه في أية بيئة سجن مُدارة جيدًا. وتشمل هذه الظروف العنصرية السائدة، وعدم الاهتمام بالمطالب الخاصة بالنساء، والتحرش الجنسي من جانب موظفي السجون، ورعب الاغتصاب، وعدم اكتراث الموظفين بضحايا الاغتصاب، وغياب التواصل الجيد بين السجناء وذويهم، والتزايد المرعب في حوادث الانتحار خلف القضبان. في الجزء الثاني من هذا الكتاب، سأركز على هذه الظروف والأحداث الصادمة بشدة التي يمكن الحيلولة دون حدوثها في كثير من الأحيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤