فرح أنطون

١٨٧٤–١٩٢٢

كان في الثانية عشرة من عمره عندما دخل مدرسة بكفتين يتلقَّى فيها العلم؛ وهي مدرسة للرُّوم الأرثوذُكس بقضاء الكورة في دير فوق طرابلس. وكانت يومئذٍ على جانبٍ من الرُّقِي والازدهار، تُعلِّم العلوم والآداب والفقه الإسلامي، واللغات العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية، ومع أنها مدرسة طائفية فلم تصطبغ بها أسرتها التعليمية، بل كانت خليطًا لا ينتمي إلى طائفة واحدة؛ فالرئيس بروتستَنتي، والمدير والناظر مارونيَّان، وأستاذ العربية والفقه مسلم، ولم يكن فيها سوى مُعلم أرثوذُكسي واحد، كما يُخبرنا فرح أنطون في مجلته «الجامعة»، فأقبل إليها الطلاب على اختلاف النِّحَل، تسودهم الأُلفة والمودة، فتركَتْ هذه المدرسة المختلطة أثرًا بليغًا في نفسه لبُعدها عن التعصُّب الديني، ويقول في ذلك: «وإنما الأثر الذي أشرت إليه أثر أدبي لم يبرَح نفسي قط، ولعله كان ذا تأثير على أفكاري في كل حياتي.» ا.ﻫ.

ولزم الفتى الناشئ هذه المدرسة إلى السنة السادسة عشرة من عمره، فأتقن فيها العربية والفرنسية، وطرفًا صالحًا من العلوم. وكان لا يميل إلى الإنكليزية فأعرَضَ عنها، وسخر برفاقه الذين يَعنون بها دون الفرنسية، إلا أنه ندِم على تنكُّره لها بعدما سافر إلى الولايات المتحدة وشعر بالحاجة المُلِحَّة إليها.

وكان شديد الشغف بالآداب الفرنسية، فأكبَّ على مُطالعة مُصنفات أعلامها منهومًا لا يشبع، وجليدًا لا يهي له صبر أو يعتريه ملل، فكان من أكثر الأُدباء حُبًّا للقراءة، كما يشهد على ذلك الكتب المتنوِّعة التي نقلها إلى العربية أو لخَّصها، أو بحث فيها دارِسًا مُنتقِدًا. ويُخبرنا عن نفسه أنه صرف عمره في دَرْس الفرنسية، وقرأ فيها ما لا يقرؤه غيره في مائة سنة.

ولم تقتصر مُطالعاته فيها على ما أنتجه أبناؤها، بل شملَتْ جانبًا مما نُقل إليها من آداب الألمان والإنكليز والروس، فكانت له ثقافة غربية مُتَّسعة أضافها إلى ثقافته العربية والشرقية، وهي في جوهرها عقلية أكثر منها أدبية؛ فقد كان ينزع إلى حياة الفكر، فيُعنى بالفلسفة والتاريخ والاجتماع والدين، وإن لم يُهمل الأدب والفن، ولا سيما القصص والتمثيل.

على أن هذه الثقافة المأخوذة من مُطالعات سريعة غير مُتَّئِدة، فوضويَّة غير منتظمة، متنوِّعة غير محدودة، مُفرِطة غير مُعتدِلة، لا يسهُل في الغالب هضمها على مُلتهمها، فتُحدث له اضطرابًا في الحفظ، وارتجاجًا في التفكير، لا يقتدر معهما على التأمُّل الصحيح ليبني رأيًا ثابتًا بعد التدقيق والتمحيص، فيُصبح عُرضة للتأثُّرات الطارئة عليه من كل كتاب يقرؤه، أو مذهب ينتهي إليه.

وهذا ما نجده عند فرح أنطون في أبحاثه وقصصه؛ فقد كان مُتأثِّرًا بروح الثورة الفرنسية، على ما فيها من حسَنٍ وقبيح، يلذ له أن يُشاكس رجال الدين وأرباب الأموال، ويُنادي بالمساواة وحرية الفكر وحقوق الإنسان، ولكنه لا يتنكَّر لسُنَّة تنازُع البقاء، والانتخاب الطبيعي، وسيادة الأفضل. ويكتب عن ابن رُشد مُعجبًا بآرائه في أزليَّة المادة، مُلخِّصًا أقوال رينان فيه، ويتطرَّف إلى بحث ديني جعل الشيخ محمدًا عبده يُناظره ويردُّ عليه. وكان — مع ذلك — يميل إلى رأي الغزالي في فصل الدين عن الفلسفة؛ لأن الدين ينبجس من القلب، والفلسفة من العقل. ولخَّص تاريخ المسيح وأعمال الرُّسل لرينان، وتحمَّسَ له كثيرًا وانتحل مذهبه في إنكار المعجزات، دون أن يُحاول درْسه ونَقده ليتبيَّن له الصحيح من الفاسد، على أنه لم يكن مُعطِّلًا للدين في حقيقته الإلهية، ولا واقعًا في الجحود المطلق، ويؤثر الاشتراكية الإنجيلية على الاشتراكية المادية.

ومثل هذا الاضطراب نجده في قصته: «العالم الجديد، أو مريم المجدلية»، فإن خطبة شيشرون مُستوحاة من مَذهب نيتشه في إتلاف الضعيف، وتحقير الرحمة، وتعظيم القوة والصراع. وخطبة مريم في الرد عليه ترمي إلى تحطيم هذا المذهب، وتدعو إلى رحمة الضعيف كما يدعو إليها الدين.

وله قصيدة عنوانها «على جبل» نظمها في نيويورك، وجعلها بين نيتشه وتولستوي، فذكر أقوال الفيلسوف الألماني في نبذ الشرائع الدينية، وتغليب القوي على الضعيف، ولكنه احترس منها بقوله:

هذا كلام نِيتشَ إن نيتشَ كا
ن مُقَوِّمَ المعوجِّ والمُنادِ
في زعم بعض الناس. أما مذهبي
فيه، فأُبقيه إلى ميعادِ

ثم ذكر أقوال الفيلسوف الروسي في نقض آراء معطِّل الشرائع، وقاتل الرحمة، حتى إذا سكت الفيلسوفان لم يستفِد صاحِبنا منهما إلا التحيُّر والارتجاج:

لم تستفِد غير التحيُّر منهما
فجميعها أمسى أبا مرقالِ

وكذلك قصة الدين والعلم والمال، حاول أن يشرح فيها المشكلة الاجتماعية بين العُمَّال وأصحاب رءوس المال، فبنى لها ثلاث مدن مُتجاوِرة تتجادل وتتخاصم وتتشاتم، فلم يجد وسيلة للتوفيق بينها، فدمَّرها كلها وتركها خرابًا.

كان فرح أنطون وافر الذكاء، مُتَّقِد الخاطِر، واسع الاطِّلاع على مذاهب روسو، ورينان، وفولتير، وكونت، وداروين، ونيتشه، وماركس، وتولستوي، وابن رُشد، وابن طُفيل، والغزالي، وعُمر الخيام وسواهم، فنقل من مُصنَّفاتهم، ولخَّص آراءهم وحلَّلها، وأحبَّها كلها، وأشاد بذكرها، وأراد الإصلاح والحرية والخير للإنسان، ولكنه اضطرب في آرائه، وارتجَّ عليه، فلم يقُم له مذهب شخصي، ولا نظام فلسفي مُترابِط، مع ميله إلى الحياة الفكرية، واتسع نشاطه الأدبي إلى القصص والمسرحيات تصنيفًا وترجمةً، وتشبَّه بكُتَّاب الفرنجة والروس، فجعل ما صنَّفه منها وسيلة لبثِّ آرائه الدينية والاجتماعية، فغلبَتْ عليه الخُطب والمواعظ والمجادلات، فضعفَتْ في قصصه الميزة الأدبية والفنية.

ولغته سهلة غير مُتكلَّفة، لا يُعنى باختيار ألفاظها، وحُسن تنزيلها، فهي أشبه بلُغة الجرائد، وكان يؤثِر هذا الأسلوب في الكتابة ويدعو إليه، ويتنكَّر لتنميق العبارة وتنخُّلها. ولعل مرد ذلك إلى شغفه بالثقافة العقلية، ثم إلى سرعته في العمل، وكثرة اشتغاله بالتأليف والنقل وتحبير «الجامعة»، فلم تنحسِر له أسرار الألفاظ كما انحسَرَتْ له أسرار المعاني، وفاتته ملكة التعبير، فلم يُدرِك جماله كما أدرك جمال التفكير.

وظل يتعهَّد مجلته «الجامعة» في الإسكندرية حينًا، وفي الولايات المتحدة آخر، ويُعالج الأبحاث الاشتراكية تصنيفًا وترجمةً، ويتوفَّر على القصص والتمثيل حتى تهدَّمَتْ بنيته وانهارَتْ قواه، ويُخبرنا عن نفسه فيقول: «رأيتُ في بعض الليالي الفجر يطلع عليَّ وأنا وراء مائدة العمل.» فتُوفِّي في مصر وهو دون الخمسين من عمره.

بطرس البستاني
عن: مناهل الأدب العربي، رقم ٢٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤