سوريا حلقة التمدُّن

جمع صاحب كتاب التمدُّن الإسلامي أسباب عظمة العرب واتساع فتوحهم في أحد عشر سببًا؛ وهي: نشاطهم وخفة أحمالهم، اعتقادهم بالقضاء والقدر وأن الإنسان لا يموت إلا إذا جاء أجله، مهارتهم في ركوب الخيل ورمي النبال، نبوغ رجال عِظام في صدر الإسلام، صبرهم ومطاولتهم في الحرب، إنجادهم بعضهم بعضًا، حفظهم خط الرجعة، واقعة اليرموك التي شدَّدتْ عزائمهم، انقسام الروم والفُرس يومئذٍ وفساد أخلاقهم، انحياز اليهود إليهم، عدلهم ورفقهم وزهدهم.

وبديهي أن هنالك أسبابًا أعظم من هذه الأسباب لم ينتبه المؤلف إليها، منها مسألة التوحيد التي كانت كبرق خُلَّب تخطف الأبصار، ومنها — وهو أهمها كلها — النفس الساميَّة العربية التي صاغتها عوامل بلاد العرب الطبيعية وغير الطبيعية. ولو أن أمة غير أمة العرب اجتمعَتْ فيها كل الأسباب التي ذكرها المؤلف لما استطاعَتْ أن تقوم بما قامت أمة العرب به إذا لم تكن ساميَّة؛ ولذلك قال رينان وجميع المستشرقين إن النسل الذي صدر عنه الدين والحرية والنزاهة والإخلاص وتصورات النفس الغزلية إنما هو نسل هنود أوروبا والساميين.

أما الساميُّون فهم جميع الشعوب التي كانت تتكلم بلغة من اللغات التي يسمونها سامية؛ وهي: العربية، والسريانية، والعبرانية، والآرامية، والكلدانية، والآشورية، والحميرية. فمن هذين النسلين — هنود أوروبا والساميين — خرج تمدُّن العالم وأديانه الراقية. أما هنود أوروبا فقد كانت ثمار عقولهم تصورات رقيقة وحنانًا وعواطف جدِّية؛ أي عواطف من ألزم لوازم الآداب والدين، ومع ذلك فإن الدين لم يخرج منهم؛ لأنهم كانوا شديدي التمسُّك بتقاليدهم الدينية القديمة، وإنما خرج من الساميين الذين كان لهم في ذلك فضل عظيم على الإنسانية؛ فالذين أعدوا إذًا سبيل الدين للإنسانية في العالم هم أولئك البدو الذين كانوا سارحين في بلاد المشرق وتحت الخيام والأطناب، بعيدين عن فساد العالم واضطراباته. يعني رينان بذلك القبائل الإسرائيلية التي خرجت منها الديانة اليهودية والديانة المسيحية، والقبائل العربية التي خرجت منها الديانة الإسلامية.

نقول: وكما أن الساميين — أي الشرقيِّين في عُرفنا اليوم — كان لهم فضل عظيم على الإنسانية من حيث خروج الأديان منهم، كذلك لهم فضل عظيم عليها من حيث تعزيز الصناعة والتجارة، وانتشار الفنون والمعارف. ولا ريب أن القارئ قد أدرك من هذا القول أننا لا نعني به أحدًا غير الفينيقيِّين.

والذي أخطر هذا الموضوع في بالنا كتاب علمي كبير، نشره العالم الفرنسوي فيكتور بِرار، وعنوانه: الفينيقيُّون والأوديسة. وقد قصد به الكاتب أمرين؛ الأول: تأييد ما قاله سترابون من أن هوميروس؛ الشاعر اليوناني المشهور، اعتمد على الفينيقيِّين في وصف البلاد الخارجية التي وصفها في قصيدته الأوديسة، فهم إذًا أساتذته، والثاني: أن حوادث الأوديسة المبنية على نكبات البطل اليوناني عولس أبي تليماك، بعد خروجه من جزيرة كاليبسو، ليست بحوادث خرافية. وقد ذكر المؤلف أنه اكتشف البلاد التي حدثَتْ فيها تلك النكبات ونشر رسومها.

أما الأمر الأول فيؤيده المؤلف بإقامة عدة أدلة على أن الفينيقيين هم الذين مدَّنوا اليونان، وعلى الخصوص جهات الأرخبيل؛ وذلك أن قرصان اليونان كانوا يخطفون الفينيقيين، أي سكان صور وصيدا وغيرهما من الثغور الفينيقية السورية، ويأخذونهم إلى بلادهم فينشرون فيها الميل إلى الفنون والتجارة. وإليهم — أي إلى هؤلاء الأسرى الذين نبغوا في اليونان وعاشوا فيها — ينسب المؤلف نفائس الفنون اليونانية التي ظهرت في النهضة اليونانية.

وعلى ذلك فإن فينيقية أو سوريا تكون الوصلة الكبرى بين التمدُّن القديم والتمدُّن اليوناني الذي تلاه، بل إنها تكون أستاذ اليونان وأصل نهضتها.

ولا يخفى أن هذا القول لا يُرضي أنصار التمدُّن اليوناني؛ لأنه ينفي عن النفس اليونانية صفة الإبداع؛ ولذلك أكثروا من الصياح بالمؤلف واستهزءوا به، ولكن الصياح والاستهزاء لا ينقضان الدليل والبرهان.

وأما إثبات صحة الحوادث التي نسبها هوميروس إلى عولس في الأوديسة، فلسنا في صدده الآن، ونكتفي بأن نقول إن المؤلف ذكر في كتابه أن جزيرة الآلهة كاليبسو، التي سافر منها عولس، هي جزيرة واقعة في المدخل الشرقي لجبل طارق، وتُدعى اليوم جزيرة بريجيل، وأن الشاطئ الذي قُذف عليه عولس بعد سفره منها هو شاطئ جزيرة كورفو في بلاد اليونان. وقد وصف المؤلف مواقع هذه الجزيرة التي زارها بنفسه وصفًا ينطبق على وصف هوميروس.

ولكن إذا ثبت أن هوميروس لم يكن قادرًا من تلقاء نفسه على وصف البلاد البعيدة التي وصفها، وأنه اقتبس وصفها من الفينيقيِّين الذين كانوا يعيشون في بلاد اليونان، بقي علينا أن نعلم السبب الذي أوجب على الفينيقيين تعليمه إيَّاه، وجعله يرضى بنظمه، فنقول إن هنالك واحدًا من ثلاثة: فإما أن هوميروس أراد بذلك خدمة بني جنسه اليونان وإفادتهم بمعلوماته الجديدة، وإما أنه أراد بإغراءٍ من الفينيقيِّين تحذير قومه اليونان من أخطار السفر التي أكثَرَ من ذِكرها ووصْفها في قصيدته صَرْفًا لهم عن البحر؛ ليبقى الفينيقيُّون منفردين فيه، فلا يُزاحمهم اليونان عليه.

وإما أن الفينيقيِّين راموا اتخاذ شعره البليغ بمثابة إعلان لبضائعهم وفضائلهم. وفي هذه الحالة تكون الأوديسة؛ تلك القصيدة البليغة الساميَة التي يقتبس منها شعراء الإفرنج أفكارهم وأساليبهم، عبارة عن إعلان تجاري، ويكون الفينيقيُّون أول مَن اخترع هذه الإعلانات البليغة التي كثرت في هذا الزمان.

وإذ ذكرنا الحلقة الفينيقية التي ربطت التمدُّن القديم بالتمدُّن اليوناني، وكانت أساسًا له، فإننا نذكر معها مدنية أخرى كانت سوريا حلقة لها أيضًا. وإليك البيان:

لمَّا دبَّ سوس الفناء في التمدُّن اليوناني والروماني على إثر الانقسامات والمشاحنات الدينية التي قامت بين أهله، قامت في العالم دولة جديدة لتجديد شباب العالم، وهي دولة العرب؛ فقيامها كان طبقًا للنظام الأزلي الذي تُديره اليد الأزلية. وكان روم القسطنطينية وروم روما في تلك الأزمان في نزاعٍ شديد بشأن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية؛ ففي أوائل القرن الخامس أظهر نسطوريوس؛ بطريرك القسطنطينية، رأيه في أن طبيعة المسيح البشرية منفصلة عن طبيعته الإلهية؛ ولذلك لا يجوز تسمية العذراء مريم والدة الإله، بل يجب أن تُدعى والدة يسوع، فعارضه في ذلك البطريرك الإسكندري وأسقف روما لأغراض خصوصية غير الأغراض الدينية مما يطول شرحه، ثم اجتمع مجمع في أفسس وقرر تكفير نسطوريوس وعزله، من غير أن يحضر هذا المجمع أساقفة سوريا والشرق؛ لأنهم كانوا من حزب نسطوريوس، وكان أنصار البطريرك الإسكندري يخشون من ارتفاع كلمتهم. ولمَّا عُزل نسطوريوس ونُفي إلى وطنه سوريا تفرَّق حزبه السوري في أنحاء آسيا كلها، وراح رجاله ينشرون معارفهم اليونانية وعقائدهم في جميع الأقطار، فبلغوا الهند والصين وبلاد العرب. وقد عرف صاحب الشريعة الإسلامية وأبو بكر الصديق بعضًا منهم.

ولما قويَتْ شوكة العرب كانوا يحمون هؤلاء النساطرة؛ لأن اعتقادهم بالسيد المسيح كان قريبًا من اعتقاد المسلمين به من بعض الوجوه، وربما كان يومئذٍ بين الاعتقادين شيء من العلاقة، فكان النساطرة يستخرجون علوم اليونان ومعارفهم وهم آمنون في حِمى الإسلام، وراتعون في قصور خلفائه، وهم الذين كانوا أول من ترجم الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، وهم الذين أنشئوا في مدينة أدسيس؛ الواقعة فيما بين النهرين، المدرسةَ المشهورة التي خرج منها العلماء للنهضة البغدادية. وقد ذكر مؤرخو العرب هؤلاء النساطرة، فقالوا إنهم قوم يحكمون في كل شيء بعقولهم، ويفحصون كل الآراء بأنفسهم. وقد ذكرنا في ترجمة ابن رُشد أن هذا الفيلسوف لم يعرف فلسفة أرسطو إلا من الكتب التي ترجموها، فكأنه كُتب لسوريا أن تكون حلقة ثانية بين مدنيَّة اليونان ومدنيَّة العرب، كما كانت حلقة بين المدنيَّة القديمة والمدنيَّة اليونانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤