أسئلة وأجوبة

في اليوم التالي بعد الإفطار أسرع «تختخ» إلى التليفون ليسأل المفتش ويحصل على أجوبة عن أسئلته، خاصةً وقد كان يريد أن يعرف المكان الذي عُثر على الموظف فيه؛ فهو لا بد أن يذهب إلى المكان لمعاينته. لحسن الحظ كان المفتش «سامي» في مكتبه، ودار بينهما حديث حصل «تختخ» منه على المعلومات التي يريدها.

إن الأطباء يُرجِّحون إصابة الموظف نتيجةً لوقوعه من القطار، وهو موظف أمين حسن السمعة، وكذلك مدير المكتب … وكانت إجابة السؤال السادس الخاص بتاريخ سرقة الوثائق، أن مدير المكتب شاهدها في صباح اليوم السابق على حادث القطار الواحدة ظهرًا، أي إن الموظف سرقها في نفس اليوم بعد الواحدة، وأخذها معه لتسليمها لمن سيشتريها، ثم قابل المشتري في المساء، وربما في الليل فلا أحد يعرف متى أصيب في الحادث. أمَّا مكان الحادث فقد وصفه له المفتش. قال «تختخ»: هناك سؤال أخير … هل فتشتم منزل الموظف المصاب؟

المفتش: نعم، لقد فتشنا منزل «وفيق» وهذا هو اسمه، ولكننا لم نعثر على شيءٍ يدل على صلته بأحد، وهو يسكن مع أسرته في شقةٍ صغيرة قرب ميدان التحرير.

تختخ: إنني أريد زيارة المكتب الذي تمَّت فيه السرقة، فهل هذا ممكن؟

المفتش: ممكن طبعًا، ولكننا لم نعثر هناك على شيءٍ يُساعد على جلاء غموض الحادث؛ فالخزينة ليس عليها بصمات، وفُتحت بمفتاحها الأصلي، ولم يُكسر الباب أو يُستخدم مفتاح مصطنع؛ فليس هناك من يفتح الخزينة إلَّا «وفيق» …

تختخ: إنني أريد مقابلة مدير المكتب والحديث معه، فمتى أحضر إليك؟

المفتش: تعالَ بعد ساعتَين تقريبًا، وسوف أتصل به وأطلب منه انتظارنا حتى نحضر.

انتهت المكالمة، وأسرع «تختخ» إلى محطة القطار، وقد قرَّر أن يزور المكان الذي عُثر فيه على «وفيق» لعله يعثر على شيءٍ يُفيده في كشف الغموض المحيط بالحادث.

سار «تختخ» على قدمَيه مسافةً طويلة حتى استطاع العثور على المكان الذي سقط فيه «وفيق» من القطار، وأخذ ينظر بدقة إلى الأرض دون أن يعثر على أي شيء، سوى أكوام الزلط، وقد لاحظ فقط أن الشريط في هذا المكان يلتوي في منحنًى ضيِّق.

عاد «تختخ» إلى المحطة، وانتظر حتى وصل القطار، فأسرع يركبه، واختار مكانًا بجوار النافذة يستطيع منه أن يُشاهد المكان الذي سقط فيه «وفيق»، وقد لاحظ أن القطار اهتز بشدة وهو يمر بالمكان. وعندما وصل إلى القاهرة أخذ يتمشَّى في الطرقات، ثم اشترى نسخةً من جريدة الأهرام، وجلس في ميدان التحرير يقرأ ويُفكِّر حتى يحين الموعد المناسب للذهاب إلى المفتش «سامي»، وعندما اقتربت الساعة من الحادية عشرة، أسرع «تختخ» الخطو إلى مكتب المفتش «سامي» الذي استقبله مُرحِّبًا، ثم قدَّم له بعض الضباط من معاونيه، ثم خرجا حيث ركبا السيارة، وانطلقا إلى مكتب الوثائق السرية … وفي الطريق اتفقا على الأسئلة التي يُريد «تختخ» سؤالها للمدير.

استقبلهما الأستاذ «حافظ» مدير المكتب بترحابٍ شديد، ولكنه برغم ابتسامه كان يبدو عليه الحزن، وقد أسرع يسأل المفتش: هل عثرتم على شيء؟

المفتش: للأسف لم نعثر على شيءٍ يهدينا إلى حل غموض الحادث.

وأشار المدير إلى «تختخ» قائلًا: هل نستطيع الحديث أمام الأخ؟

قال المفتش: طبعًا، لقد قابلته في الطريق إليك، وقد جئت لأسألك بعض الأسئلة حول الحادث …

المدير: إنني تحت أمرك.

المفتش: ألم تشكَّ مطلقًا في «وفيق» قبل هذا الحادث؟

المدير: مطلقًا … لقد كان موظفًا مستقيمًا، وهادئًا ومحبوبًا من زملائه.

المفتش: إنني أريد مقابلة بعض زملائه.

دقَّ المدير الجرس، فظهر سكرتيره على الباب، فطلب منه استدعاء بعض موظفي المكتب من أصدقاء «وفيق»، وبعد دقائق حضر شخصان، وجلسا فقدَّمهما المدير إلى المفتش، وكذلك قدَّم المفتش إليهما. فقال المفتش: تعلمان طبعًا أن صديقكما «وفيق» قد أصيب في حادث وهو الآن تحت العلاج، ونريد أن نعرف منكما بعض المعلومات عنه …

وسكت المفتش لحظات، ثم عاد يقول: هل لاحظتما أي تغيير في تصرُّفاته في الأسبوع الأخير؟

تردَّد أحدهما لحظةً ثم قال: الحقيقة أنني لاحظت أنه كان مضطربًا في بعض الأحيان.

المفتش: هل هذا يعود إلى متاعب مع زوجته أو أولاده؟

الموظف: على العكس، إنه يعيش حياةً منزليةً سعيدة.

المفتش: وما هي مظاهر هذا الاضطراب؟

الموظف: كان يشرد كثيرًا، ثم ينظر إلى غرفة الوثائق، ويقوم فيذهب إلى الخزينة ثم يعود مرةً أخرى.

نظر المفتش إلى «تختخ» وبادله «تختخ» النظرات، ثم شكر المفتش الموظفين وانصرفا، وأخذ المفتش يتحدَّث إلى المدير، في حين أخذ «تختخ» ينظر إلى مكتب المدير، فوجد نسخةً من جريدة الأهرام مفتوحةً على صفحة الإعلانات الصغيرة، ولاحظ أن المدير قد وضع دائرةً باللون الأحمر على إعلان فيها. وعندما لاحظ المدير ما رآه «تختخ» قال مبتسمًا: إنني من هواة شراء التحف؛ فأنا رجل أعزب، وليس عندي أسرة أنفق عليها، لهذا أنفق أكثر دخلي على شراء التحف، وعندي منها مجموعة كبيرة …

شكر المفتش المدير، ثم خرج مع «تختخ» الذي كان مستغرقًا في التفكير، فقال المفتش: واضح من تصرُّفات «وفيق» واضطرابه، وذهابه إلى الخزينة بضع مرات أنه اللص الذي سرق الوثائق.

تختخ: فعلًا، هذا واضح، ولكن السؤال: لماذا باع بعض الوثائق ولم يبِع بقيتها؟

المفتش: لعله اختلف مع الشاري على الثمن، فلم يبِع له سوى ثلاث وثائق فقط.

تختخ: ولماذا يسرق موظف مستقيم مثله، سعيد مع أسرته؟

المفتش: النفس البشرية لها أسرارها وخفاياها.

افترق «تختخ» عن المفتش عند محطة «باب اللوق»، حيث استقل القطار عائدًا إلى المعادي وهو ما زال مستغرقًا في تفكيرٍ عميق، ولكنه أفاق من أفكاره عندما توقف القطار بضع دقائق في الطريق لإصلاحات في القضبان، وكان قد لاحظ توقُّف القطار في نفس المكان في أثناء حضوره من المعادي، ولاحظ أن القطار يقترب جدًّا من المنازل في مكان التصليح، حتى إن الشرفة التي في المنزل المجاور له كانت تكاد تمس القطار، فأخذ ينظر إليها في استغراق.

تحرَّك القطار في طريقه، وما زال «تختخ» يغوص في أفكاره، حتى إن القطار كاد أن يغادر محطة المعادي دون أن ينزل منه، ولكنه استطاع في آخر ثانية أن يُسرع وينزل والقطار يتحرَّك في طريقه إلى حلوان.

لم تأتِ زيارة «تختخ» للقاهرة بمعلوماتٍ جديدة، فجلس قرب النافذة في غرفته، وفتح جريدة الأهرام وأخذ يقرأ، وتذكَّر الإعلانات الصغيرة، والدائرة الحمراء التي رآها على أحد الإعلانات عندما كان في زيارة الأستاذ «حافظ» مدير المكتب، وكان قد حدَّد مكانها في الركن العلوي من أول عمود في الصفحة، فقرأ الإعلان وكان نصه كما يأتي:

مطلوب تحف مصرية حديثة، اتصل برقم ٣٣٣ الأهرام.

لم يكن في الإعلان شيء ملفت للنظر، فطوى «تختخ» الجريدة واستغرق في خواطره.

كان في رأسه عدة أسئلة يحاول الإجابة عنها … أهمها هذا السؤال: إذا كان «وفيق» يُريد أن يسرق التصميمات ويبيعها إلى الأعداء، ألم يكن من الأفضل له أن ينقل صورةً منها ويترك الأصل في مكانه؟ إن هذا هو أسلوب اللص الذكي، أمَّا سرقة التصميمات نفسها، ففيه غباء شديد؛ لأنه يُعرِّضه للانكشاف. إن تصوير التصميمات مسألة سهلة، ولا تحتاج إلَّا إلى آلة تصوير وتنتهي المهمة في بضع دقائق. فلماذا أقدم «وفيق» على سرقة التصميمات؟ هل كان ينوي الهرب بعد السرقة؟ إن حياته العائلية السعيدة تستبعد فكرة الهرب.

لم يكن هناك شيء يهدي إلى حل غموض اللغز، بل إن سؤالًا آخر قفز إلى ذهن «تختخ» هو: ماذا كان يفعل «وفيق» في هذه الساعة المتأخرة من الليل في طريق المعادي؟ إنه يسكن في ميدان التحرير، فما الذي دفعه إلى ركوب قطار المعادي؟

أسئلة … أسئلة … أسئلة، وليست هناك إجابة واحدة، وقرَّر «تختخ» الذهاب مرةً أخرى إلى حيث وُجد «وفيق» قرب قضبان السكة الحديد. استقل دراجته وذهب إلى المكان، وقد أخذ معه عدسةً مكبرة.

انحنى «تختخ» على أكوام الزلط والحشائش التي سقط عليها «وفيق»، وأخذ يفحصها بدقة. كان يبحث عن آثار الدماء التي سالت من «وفيق» إثر وقوعه من القطار، ولكنه لم يعثر على قطرة دم واحدة أو أثر لأي دماء! شيء غير معقول أن يسقط شخص من القطار ويصاب في رأسه إصابةً بالغة، ثم لا تنزل منه قطرة واحدة من الدم … ووقف «تختخ» ينظر حوله وقد استغرقته الخواطر، وقرَّر أن يعود إلى منزله للاتصال بالمفتش «سامي».

ردَّ المفتش «سامي» على «تختخ» بمجرد أن دق جرس التليفون، وقال: أهلًا «تختخ»، هل عثرت على شيء؟

وردَّ «تختخ»: للأسف، ليس هناك سوى مزيدٍ من الأسئلة، مثلًا: ماذا كان يفعل «وفيق» في هذه الساعة من الليل في المعادي؟ أو بشكلٍ آخر ما الذي جعله يركب قطار المعادي؟ هل له أصدقاء هناك؟

المفتش: لقد سألنا أنفسنا هذا السؤال، ولم نعثر على إجابة واحدة؛ فلم يكن له أي صديقٍ في المعادي، ولكننا عثرنا على صديقٍ له شاهده يركب تاكسيًا في اتجاه ميدان «باب اللوق»، حيث محطة قطار المعادي، وكان ذلك نحو الساعة الثامنة والنصف مساءً.

تختخ: سؤال آخر … ألم تعثروا على آثار دماء في مكان وقوع الحادث؟ أقصد وقوع «وفيق» من القطار؟

المفتش: إن بعض الأهالي هم الذين عثروا عليه، ونقلوه بسيارة الإسعاف، وقد قام الشاويش «علي» بمعاينة مكان الحادث، ولكنه لم يُشِر إلى وجود آثار دماء في المكان.

تختخ: لقد ذهبت منذ فترة قصيرة إلى مكان الحادث وفحصت الأرض بنفسي فلم أعثر على أي أثر للدماء … أليس عجيبًا أن يقع رجل على رأسه من القطار، ويُصاب هذه الإصابة التي تُفقده الوعي أيامًا، ثم لا يترك أثر دماء مكانه؟

المفتش: هذه نقطة هامة للغاية وسنبحثها، وهناك شيءٌ جديدٌ يجب أن تعلمه؛ إن «وفيق» لم يعد إلى منزله في اليوم السابق على الحادث، فقد عُثر عليه صباح الأحد.

وهو لم يعد إلى منزله منذ خروجه منه في صباح يوم السبت، وقد أبلغت زوجته قسم الشرطة بذلك.

تختخ: إن اللغز يزداد صعوبةً ساعةً بعد ساعة، ولا أدري كيف سنصل إلى حلٍّ له …

المفتش: إنني أعتمد على ذكائك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤