قصة عاطف المثيرة

اتفق الأصدقاء في صبيحة اليوم التالي على تقسيم أنفسهم؛ فتبقى «نوسة» و«لوزة» بجوار التليفون في منزل «تختخ» ليتم الاتصال عن طريقهما بالأصدقاء الثلاثة، و«تختخ» الذي تقرَّر أن يقف على محطة «باب اللوق»، و«محب» الذي يقف على محطة مصر القديمة، و«عاطف» الذي يقف في الشارع الذي شاهد فيه «تختخ» الحقيبة الزرقاء في يد الرجل، وكان على أي واحدٍ منهم أن يتبع الرجل إذا رآه، حتى يعرف المنزل الذي سيدخل فيه، ثم يتصل تليفونيًّا ﺑ «نوسة» و«لوزة» ويملي العنوان حتى يستطيع «تختخ» معرفته والاتصال بالمفتش «سامي» لإبلاغه.

وهكذا ركب الأصدقاء الثلاثة قطار المعادي، فلمَّا وقف في محطة مصر القديمة نزل «محب» و«عاطف»، ثم واصل «تختخ» الركوب إلى محطة بال اللوق، حيث نزل هناك، وجلس على أحد المقاعد ينظر هنا وهناك، لعله يرى الحقيبة الزرقاء.

ظل «تختخ» جالسًا نحو ساعة، ولمَّا لم يرَ شيئًا قام للاتصال تليفونيًّا ﺑ «نوسة» و«لوزة» لعل عندهما أخبارًا، وعند أحد باعة السجائر وجد تليفونًا فاتصل بالصديقتَين، ولكنهما قالتا له إن أحدًا لم يتصل بهما، فعاد إلى مكانه يُراقب من جديد.

أمَّا «محب» فجلس في محطة مصر القديمة يُراقب هو الآخر، في حين وقف «عاطف» في الشارع الذي وصفه «تختخ» يرقب المنازل والمارة … فلمَّا تعب من الوقوف قرَّر أن يتمشَّى في الشارع ذهابًا وإيابًا، وهو ينظر إلى شرفات المنازل.

كان الأصدقاء قد اتفقوا على أن يعودوا في الثانية إلى منزل «تختخ» إذا لم يعثروا على شيء. ومرَّت الساعات بطيئة، فلمَّا قاربت الثانية، انطلق «تختخ» إلى القطار فركبه، وعندما وقف القطار في محطة مصر القديمة، وجد «محب» في انتظاره، ولكنه لم يرَ «عاطف»، وأسرع «محب» يركب القطار، فسأله «تختخ»: ألم ترَ «عاطف»؟

محب: لا، لم أرَه، ولعله ركب دون أن نراه، فالقطار مزدحم جدًّا.

تختخ: على كل حال إذا لم يركب هذا القطار، فلعله يكون قد سبقنا أو سيلحق بنا بعد قليل.

وصل القطار إلى المعادي، وأسرع الصديقان إلى منزل «تختخ»، فوجدا «نوسة» و«لوزة» في انتظارهما ولم يجدا «عاطف»، فسأل «تختخ» «نوسة»: ألم يتصل عاطف بكما؟

نوسة: لا، لم يتصل بنا أحد مطلقًا.

جلس الأصدقاء الأربعة صامتين في انتظار عودة «عاطف»، ولمَّا حان موعد الغداء، أحضر لهم «تختخ» بعض الساندويتشات، ومضت الساعات دون أن يظهر «عاطف»، فأحسُّوا جميعًا بالقلق، وقرَّر «تختخ» الاتصال بالمفتش «سامي»، وإخباره بكل شيء.

قام «تختخ» إلى التليفون، وتحدَّث مع المفتش «سامي»، وشرح له ما حدث منذ الساعة التي خرج فيها من دار الأهرام خلف رقم ٣٣٣ حتى غياب «عاطف».

تضايق المفتش كثيرًا وقال ﻟ «تختخ»: لماذا لم تتصل بي منذ أمس؟ لقد كان أمامنا فرصة ذهبية للقبض على هذا الرجل الذي كان من الممكن أن يقودنا إلى حل اللغز.

تختخ: آسف جدًّا يا سيادة المفتش، لم أكن أنتظر أن تتطوَّر الأحداث بهذا الشكل.

المفتش: على كل حال سوف أرسل عددًا من رجال الشرطة السريين للبحث عن «عاطف» في هذا الشارع، وسأحضر الآن إليكم للحديث.

أغلق المفتش التليفون بعنف أحسَّ منه «تختخ» بمدى غضب المفتش، فنظر إلى الأصدقاء قائلًا: يبدو أننا تورطنا في قضية مخيفة، وأخشى أن يكون قد وقع ﻟ «عاطف» شيء!

قالت «لوزة» وهي تحبس دموعها خوفًا على شقيقها: إنني خائفة.

تختخ: أرجو أن يعود «عاطف»، وإلَّا فسوف أعتبر نفسي مسئولًا عمَّا حدث له.

مضت نصف ساعة والجميع جالسون في صمتٍ حزين، ثم سمعوا صوت سيارة المفتش وهي تقف بالباب، ثم دخل المفتش بقامته الطويلة وقد بدا على وجهه الضيق والحزن، وبعد أن حيَّاهم جلس هو و«تختخ» جانبًا، وأخذا يتبادلان حديثًا هامسًا لم يسمع منه «محب» ولا «نوسة» شيئًا. وفي الواقع إن المفتش كان يريد أن يطمئن على أن «تختخ» لم يُخبر الأصدقاء بشيءٍ عن حقيقة اللغز الذي يشتركون فيه.

وفجأة … وقبل أن يمضي وقت طويل، دخل «عاطف» وأخذ الأصدقاء ينظرون إليه وكأنهم يرون شبحًا … فقد ظنوا أنه لن يعود أبدًا، أو على الأقل … سيعود بعد أيام، وبواسطة رجال الشرطة … أمَّا أن يعود وحده، فهذا ما لم يكونوا يُصدِّقونه.

وكان المفتش «سامي» هو أول من تحرَّك، فقام واقفًا وقال: «عاطف» … الحمد لله أنك عدت، أين كنت حتى الآن؟

وارتمى «عاطف» على أحد المقاعد، وأخذ ينظر إلى الأصدقاء واحدًا بعد الآخر، ثم قال: لقد عدت بمعجزة!

أسرع «تختخ» فأحضر ﻟ «عاطف» كوبًا من عصير الليمون المثلج شربه مرةً واحدة، ثم أخذ يروي قصة مغامرته المثيرة فقال: لقد ذهبت ووقفت في الشارع الذي حدَّده «تختخ»، وظلِلت واقفًا فترةً طويلة، ولكني في النهاية أحسست بالملل من الوقفة، فقرَّرت أن أتمشَّى في الشارع، فتقدَّمت إلى الأمام في اتجاه شريط السكة الحديد … وفجأةً وجدت نفسي أمام رجل يحمل حقيبةً زرقاء …

سكت «عاطف» لحظة، وكانت عيون الجميع مركزةً عليه ليُكمل قصته، فمضى يقول: … نسيت نفسي في تلك اللحظة من فرط حماستي؛ فتقدَّمت منه بسرعة وأخذت بكل غباء أحملق في وجهه كأنني أرى رجلًا من القمر … ولاحظ الرجل أنني أحملق فيه بشدة، فاستدار مسرعًا ودخل المنزل الذي خرج منه، ولم أتردَّد فقد دخلت خلفه فورًا … ووجدته يصعد السلالم بسرعة، فصعدت خلفه، وسمعت صوت باب يُفتح في الدور الثاني، فضاعفت سرعتي على السلالم لأرى الشقة التي دخل فيها … ووجدت نفسي أمام باب مفتوح فنظرت داخله … وقبل أن أدرك ماذا سيحدث امتدت يد قوية وجذبتني إلى داخل الشقة، ثم أغلق الباب، ووجدت نفسي وجهًا لوجه أمام الرجل الذي كان يحمل الحقيبة الزرقاء.

مرةً أخرى سكت «عاطف»، وأخذ ينظر إلى الأصدقاء، وكانوا جميعًا صامتين ينظرون إليه في لهفة، فعاد ليقول: أمسك الرجل بذراعي وثناها إلى الخلف في قسوة أحسست أنه سيكسرها، سألني: من أنت؟ من الذي أرسلك؟ … فقلت له اسمي … ولم أقل له من أرسلني … أخذ الرجل يضغط على ذراعي بقسوة، ولكني لم أردَّ عليه، ثم وقف في مواجهتي وسألني إذا كنت أراقبه منذ فترةٍ طويلة، فقلت له إنما أراه لأول مرة، فأخذ يُفكِّر قليلًا، ثم أحضر منديلًا ربط به فمي، وقطعة حبل قيَّد بها يدي وقدمي.

قال «محب» مقاطعًا: تركته يُقيِّدك دون أن تتحرَّك؟

ردَّ «عاطف»: في الحقيقة إنني كنت مذهولًا من المفاجأة وكنت خائفًا؛ فقد كان منظر الرجل مرعبًا، ويبدو شديد القسوة، حتى لقد تصوَّرت أنني لن أخرج من المنزل حيًّا.

قال المفتش: من حسن حظك أنه لم يقتلك، ويبدو أنه أشفق عليك، أو كان ينوي مغادرة المنزل قبل حضورك، فاكتفى بتقييدك … والآن أكمل.

عاطف: قام الرجل بعد ذلك يجمع حاجاته في حقيبة جلدية كبيرة، وهي في أغلبها أوراق، وبعض الملابس، ثم أغلق باب الشقة عليَّ، وتركني وخرج.

سكت «عاطف» فقالت «لوزة»: وكيف استطعت أن تُخلِّص نفسك؟

عاطف: أخذت أحاول فك يدي، وقد استغرق هذا ساعات طويلة، ولكني استطعت في النهاية تخليص نفسي، عندئذٍ وجدت الباب مغلقًا من الخارج، وظلِلت مدةً طويلةً أحاول فتحه دون فائدة، فأسرعت إلى الشرفة التي تُطل على شريط السكة الحديد، وأخذت أرقب ما حولي حتى لا يراني أحد، ثم دلَّيت نفسي منها، وقفزت، وقد شاهدني شخص وبدأ يصيح، ولكن لحسن الحظ وصل القطار في تلك اللحظة، ووقف بجوار المنزل تمامًا فقفزت فيه، واستطعت الاختفاء بين الركَّاب وحضرت إلى هنا.

وقف «تختخ» وقال للمفتش: لقد عثرت على تفسير كل شيء؛ إن مغامرة «عاطف» لن تذهب عبثًا. لقد فسَّرت لنا اللغز!

قال «المفتش» دَهِشًا: تقصد وجود الرجل في هذا المكان؟ …

تختخ: بالضبط. لقد عثرت على ما يُؤيِّد وجهة نظري في اللغز كله، وسوف أشرح لك بالتحديد ما حدث.

المفتش: إن المهم الآن هو العثور على الرجل، وأريد أن يأتي «عاطف» معي إلى إدارة البحث الجنائي ليُدلي بأوصاف الرجل، وسنعرض عليه صورًا للمشتبه فيهم لعل الرجل يكون من بينهم، فإذا لم يكن منهم، فسوف نرسم له صورةً تقريبيةً نُوزِّعها على المطارات والموانئ قبل أن يهرب الرجل إلى الخارج.

ثم التفت المفتش إلى «عاطف» قائلًا: هل في إمكانك أن تأتي معي الآن؟

ردَّ «عاطف»: برغم أني متعب جدًّا، فلا بأس من أن آتي معك.

المفتش: وأنت أيضًا يا «تختخ» لتشرح لي فكرتك ونحن في الطريق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤