كيف سُرقت الوثائق؟

أسرع المفتش ومعه «تختخ» و«عاطف» إلى السيارة، فركب «تختخ» بجوار المفتش، وركب «عاطف» خلفهما، وبقي بقية الأصدقاء في انتظار عودة «عاطف» و«تختخ».

وفي الطريق بدأ «تختخ» يشرح فكرته فقال: إنني متأكد الآن أن «وفيق» لم يسرق الوثائق، وأن اللص هو «حافظ».

وبرغم أن المفتش كان يقود السيارة بسرعة كبيرة، فإنه التفت إلى «تختخ» مندهشًا، وقال: وكيف وصلت إلى هذا الآن؟! وما دخل مغامرة «عاطف» به؟!

قال «تختخ»: إن وجود بقية الوثائق في جيب «وفيق» أقنعني الآن أن اللص الأصلي يُريد تضليل رجال الشرطة بإلقاء التهمة على «وفيق»، ولم تكن هناك وسيلة لهذا أفضل من أن يضع في جيبه بعض الوثائق المسروقة بعد أن أخذ الوثائق الهامة.

المفتش: لعل من الأفضل أن نبدأ في شرح فكرتك من الأول، حتى تسير سيرًا منطقيًّا.

تختخ: هذا أفضل فعلًا، وأنا أتصوَّر أن «وفيق» كان يشك في «حافظ» ويظن أنه على صلة بأشخاص يُهمُّهم أن يحصلوا على الوثائق، ولعل وجوده معه في مكانٍ واحد مكَّنه من أن يُراقبه بدقة، ولعله لاحظ مثلي حكاية الإعلانات الصغيرة التي كان «حافظ» يحرص على قطعها من الأهرام … أو لاحظ أن «حافظ» كان يفتح الخزينة كثيرًا وبدون داعٍ لذلك … المهم أنه شك فيه وبدأ يراقبه … ولكن لم تكن عنده الأدلة الكافية لإبلاغ رجال الشرطة عنه، وفضَّل أن ينتظر حتى يعثر على أدلةٍ كافيةٍ لإبلاغ الجهات المسئولة عنه … وفي يوم وقوع السرقة يبدو أنه شاهد «حافظ» يفتح الخزينة ويأخذ شيئًا منها. لم يكن واثقًا منه، فتركه حتى خرج من المكتب، وتبعه وظلَّ يتبعه حتى وصل «حافظ» إلى محطة «باب اللوق» وركب القطار.

قاطع المفتش «تختخ» قائلًا: ولماذا محطة «باب اللوق» بالذات؟ ومن أين عرفت أنها باب اللوق؟

قال «تختخ»: سأشرح لك كل شيء … لقد تبع «وفيق» «حافظ» إلى «باب اللوق» دون أن يلاحظ «حافظ» شيئًا؛ فقد كان هذا وقت خروج الموظفين والشوارع مزدحمة ومحطة «باب اللوق» مزدحمةً أيضًا، وهكذا استطاع أن يركب خلفه القطار دون أن يُلاحظه، ثم نزل خلفه في محطة «مصر القديمة» وتبِعه من بعيد، حيث شاهده يدخل المنزل الذي دخله «عاطف» اليوم، وهو المنزل الذي يسكن به الجاسوس رقم ٣٣٣ كما أُسمِّيه، ووقع «وفيق» في نفس الخطأ الذي وقع فيه «عاطف» فيما بعد، فصعد إلى المنزل، وأُرجِّح أن رقم ٣٣٣ كان يُراقب الطريق من الشرفة في انتظار حضور «حافظ»، فشاهد «وفيق» يتبعه، ثم يدخل المنزل، وهكذا انتظر، فلمَّا دخل «وفيق» إلى المنزل ضربه على رأسه وجرَّه إلى داخل الشقة، ويبدو أن الحظ كان في جانب ٣٣٣، فلم يكن هناك أحد على السلم في هذه اللحظة، فاستطاع أن يضرب «وفيق» دون أن يراه أحد … وأخذ الجاسوس و«حافظ» يُفكِّران في طريقة للتخلُّص من «وفيق» وإلقاء تهمة سرقة الوثائق عليه، فخطرت لهما فكرة شيطانية.

وسكت «تختخ» لحظة، فقال المفتش: ماذا كانت هذه الفكرة؟

تختخ: إن في هذه المنطقة تصليحات في شريط السكة الحديد، وقد لاحظت شخصيًّا أن القطار يقف في هذا المكان فترةً طويلةً ثم يسير ببطءٍ شديد، ومن المؤكَّد أن رقم ٣٣٣ لاحظ ذلك أيضًا، ففكَّر أن ينتظر هبوط الظلام، ثم يضع «وفيق» على ظهر القطار دون أن يراه أحد … وقد ظن أن الإصابة التي أصابه بها قد قضت عليه … وهكذا وضعا «وفيق» على ظهر القطار في الظلام الحالك بعد أن دسَّا في جيبه الجزء غير الهام من الوثائق … فإذا عثر عليه فسوف يتصوَّر رجال البوليس أنه هو اللص. وبموته لا يمكن العثور على دليل أو الوصول إلى رقم ٣٣٣.

وسكت «تختخ» وساد الصمت بينهما فترة، ثم قطعه المفتش قائلًا: في الواقع إنه تفسير مدهش، وإن كان أغرب من الخيال. ولكن لماذا لم يُصوِّر «حافظ» الوثائق ويتركها مكانها؟

تختخ: لعله كان سيُصوِّرها في منزل الجاسوس ثم يُعيدها في اليوم التالي لولا ظهور «وفيق»!

ساد الصمت داخل العربة وهي تشق طريقها بسرعة إلى مبنى إدارة البحث الجنائي في باب الخلق، وبعد دقائق وصلت السيارة، ونزل الثلاثة حيث أسرعوا إلى مكتب المفتش «سامي»، الذي جمع ضبَّاطه ثم روى لهم باختصار ما حدث، وطلب منهم عرض صور المشبوهين على «عاطف»، في حين جلس المفتش يُجري بعض الاتصالات التليفونية برؤسائه.

قضى «عاطف» فترةً طويلةً يفحص صور المشتبه فيهم من الجواسيس دون أن يتعرَّف على أحدٍ منهم، وفي النهاية تقرَّر رسم صورة تقريبية للجاسوس رقم ٣٣٣ بناءً على الأوصاف التي يدلي بها «عاطف»، وبعد نحو ساعة كان ثمَّ رسم تقريبي للرجل، وتقرَّر بعدها أن يذهب المفتش «سامي» وأحد مساعديه وموظفو البصمات مع «عاطف» إلى منزل الجاسوس لتفتيشه، ورفع البصمات التي سيجدونها هناك. ومرةً أخرى تحرَّكت العربات، وركب «تختخ» بجوار المفتش، وانطلقت بهم السيارة.

وصل الجميع إلى المنزل وقد بدأ المساء يهبط، واستطاع المفتش فتح الباب بوسائله الخاصة، ثم دخلوا جميعًا. كانت الشقة مكوَّنةً من غرفتين ومطبخ ودورة مياه، فانتشر الضبَّاط يُفتشونها تفتيشًا دقيقًا، فلم يعثروا على شيءٍ ذي أهمية، ولكن أحد الضبَّاط وجد ورقةً صغيرةً على الأرض قدَّمها إلى المفتش «سامي»، الذي ما كاد يراها حتى صاح: يبدو أن استنتاجات «تختخ» صحيحة؛ فهذا أحد الإعلانات الصغيرة التي تُنشر في الأهرام، وإن كنت لا أعلم مهمَّة هذه الإعلانات بالضبط.

أسرع المفتش «سامي» إلى حيث كان «تختخ» يقف في شرفة المنزل ويقيس المسافة بين الشرفة وبين سقف القطار، وقد كانت المسافة لا تزيد على مترٍ واحد، فلمَّا رأى المفتش قال: إن ما توقعتُه صحيح … فالمسافة تسمح بإلقاء «وفيق» من الشرفة إلى سطح القطار كما توقعت.

قال المفتش وهو يمد يده بالورقة: إن استنتاجاتك صحيحة؛ فهذا أحد الإعلانات الصغيرة التي كان يتبادلها «حافظ» مع الجاسوس، وهي تؤكِّد أن «حافظ» كان على علاقةٍ به، ولكني لم أفهم ما هي مهمة هذه الإعلانات بالضبط.

تختخ: إنها وسيلة الاتصال بين الجاسوس و«حافظ» حتى لا يكونا تحت رقابة المباحث أو المخابرات. كانا يلجآن إلى هذه الوسيلة لتحديد مواعيد اللقاءات والاتفاق على العمليات، وقد كان الجاسوس هو الذي يذهب لنشر الإعلان، وعندما يقرؤه «حافظ» يُرسل له ردًّا على رقم ٣٣٣ يتضمَّن مواعيد اللقاء وغيرها. إنه جاسوس بارع، وأرجو أن تُعطيني صورةً له أحتفظ بها كذكرى لهذه المغامرة.

ناول المفتش ﻟ «تختخ» الصورة فتأمَّلها قليلًا، ثم وضعها في جيبه، وبعد لحظاتٍ كانت سيارة من سيارات رجال الشرطة تحمله هو و«عاطف» إلى المعادي، حيث كان الأصدقاء في انتظارهما.

قالت «لوزة» وهي تقف لتنصرف مع شقيقها «عاطف»: إننا حتى الآن لا نعرف شيئًا عن هذا اللغز، فهل سترويه لنا يا «تختخ»؟

قال «تختخ» وهو يوصلهما ومعهما «محب» و«نوسة» إلى الباب: لقد وعدت المفتش ألَّا أروي هذا اللغز لأحد، ولكن إذا تم القبض على الرجل، قد يسمح لي المفتش بأن أروي لكم كل شيء، فنحن المغامرين الخمسة لا نُخفي عن بعضنا البعض شيئا.

انصرف الأصدقاء وبقي «تختخ» وحده، وأحسَّ بأنه في أشد الحاجة إلى الراحة، فقرَّر أن يتعشَّى مبكرًا ثم يقرأ قليلًا، ويأوي إلى فراشه وينام نومًا عميقًا، يُعوِّض به الأيام المتعبة التي قضاها في مطاردة رقم ٣٣٣ الذي اختفى ولا يعلم مكانه أحد.

بعد العشاء أسرع «تختخ» إلى غرفة العمليات حيث اعتاد أن يجلس ليقرأ، فوجد صورة الجاسوس المرسومة التي أخذها من المفتش أمامه، فأمسك بها، وأخذ يتأمَّلها لحظات، وفجأةً خطرت له فكرة غريبة … إن رقم ٣٣٣ بعد أن رآه «عاطف» لا يمكن أن يتحرَّك أو يسافر دون أن يُغيِّر شكله … وهو في الغالب سوف يتنكَّر في شكل السيدة العجوز، كما كان متنكِّرًا عندما ذهب إلى جريدة الأهرام، ومعنى هذا أن رجال الشرطة لن يعثروا عليه أبدًا؛ فسوف يبحثون عن رجلٍ متوسط العمر، بينما يكون الجاسوس في شكل سيدة عجوز بيضاء الشعر … وهكذا بدلًا من أن يأوي «تختخ» إلى فراشه كما كان يأمل، أسرع إلى التليفون يطلب المفتش، ولكنه لم يعثر عليه في مكتبه أو المنزل، وكان واثقًا أنه الآن مع رجالٍ يُحكمون حلقة الحصار حول الجاسوس الذي سيتمكَّن من الإفلات منهم متنكِّرًا في ثياب السيدة العجوز، فترك له خبرًا للاتصال به.

أخذ «تختخ» يُفكِّر، ثم قام إلى مكتبه فأحضر بعض الأقلام ومجموعةً من الألوان وفرشاة رسم، وأخذ يُجري تعديلًا في ملامح صورة الجاسوس، بحيث يُحوِّله إلى سيدة عجوز كتلك التي شاهدها أمس صباحًا، وقضى في هذا العمل نحو نصف ساعة، فلمَّا انتهى منه كانت أمامه صورة قريبة الشبه جدًّا من العجوز بشعرها الأبيض، ونظَّارتها الطبية، فتأمَّلها لحظات، ثم قرَّر أن يقوم لينام؛ فقد كان يشعر أنه متعب جدًّا، ولكنه على سبيل الاحتياط أخذ التليفون إلى غرفته لعل المفتش يتصل به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤