النَّحْلة العَامِلة

figure

(١) جَمالُ الرِّيفِ

كان «صفاءٌ» و«سُعادُ» مُبْتَهِجَيْنِ بِما رأَياهُ مِنْ جمال الرِّيفِ. وقد شكرا لأَبِيهِما (مَعْرُوفَهُ) الذي أَسْداهُ (أَحْسَنَ بِهِ) إليهما، إِذْ أتاحَ لهما أن يَقْضِيا شَطْرًا كبيرًا مِنَ العُطْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ في دَسْكَرتِه (مَزْرَعَتِهِ). وكَان قَدِ اشْتَرى هَذهِ الدَّسْكَرةَ في العامِ الماضي.

وقد أَعْجَبهما منَ الرِّيف: سِحْرُهُ المُتَجَدِّد، وهواؤُه النَّقِيُّ، وَمَناظرِهُ الفاتِنَةُ. وكانا يستيقظان كلَّ يوم — في الصباحِ الباكرِ — لِيَمْتَعا برؤيةِ شروقِ الشمس، وَتغرِيدِ الطُّيُور. وليس أَرْوَحَ للنَّفْسِ، وأبهجَ للعَيْنِ، وأَمْتَعَ للأُذنِ، من التَّفَرُّجِ (التَّخَلُّصِ مِنَ الضِّيقِ) بروائعِ الرِّيفِ ومَفاتِنهِ.

•••

فإذا طلع الفَجْرُ استيقظَتِ الزَّرَازِيرُ، وخَرجتْ من أوكارِها، تستقبلُ نُورَ الصَّباحِ في بَهْجَةٍ وَانْشِراحٍ، وظلَّتْ تُزَقزِقُ فرحانةً مَرِحةً، كأَنما تَهْتِفُ بالشَّمْسِ وتُحَيِّيها. ثُم تنْبَعِثُ — على أَثَرِ ذلك — آلافٌ من الأغاريدِ العذْبِة، من المَرْجِ (الْأرضِ الْمَفْرُوشَةِ بِالنَّبَاتِ) والْحَقْلِ، والسَّهْلِ والْجَبَل، فَتَرِنُّ تلك الأغاريدُ متصاعدةً أنغامُها المُطْرِبةُ في الهواءِ مُؤْذِنَةً بطلوعِ الصباحِ، مُبَشِّرَةً بِمَقْدَم الشمسِ، الْحَبِيبِ إلى كل نَفْسٍ، فَيَهُبُّ النائمُ، ويستيقِظُ الوَسْنانُ، وقِد استعاد نَشاطَهُ، واستقبل يومَهُ، بعزيمَةٍ مُجَدَّدَةٍ، وآمالٍ فَسِيحَةٍ.

•••

وتَرَى النحلةَ العاملةَ تطيرُ من فَنَنٍ إلى فَنَنٍ، وتَتَنَقَّلُ من زهرَةٍ إلى زَهْرةٍ، وهي تَطِنُّ فرحانة، وتقول: «لقد حانَ وقتُ العملِ، وانقضَتْ فَتْرَةُ النَّوْمِ. وليس يَليقُ بي أَن أتأَخَّرَ عن أَدَاءِ ما عليَّ من فُروضٍ وواجباتٍ، لخَيْرِ الناسِ، ونفعِ الإنسانيَّةِ. ولقد سبقَتْني من أسْرابِ النَّمْلِ «أُمُّ مازِن» و «أُمُّ مشغولٍ» وإخْوَتُهما، وخرجتْ من مساكِنِها، باحثةً عن طعامِ يومِها، في جِدٍّ ونشاطٍ عَجِيبَيْن.»

ويَهُبُّ الفَرَاشُ من نومِه، وقد استجدَّ نشاطَه، ويَرِفُّ بِجَناحَيْه — وقد بلَّلَهُمَا النَّدَى — ويطيرُ إِلَى الأَزْهارِ التي لمَّا تَتَفَتَّحْ أكمامُها (لَمْ يَتَفَتَّحْ وَرَقُهَا الَّذِي يُغَطِّيها بَعْدُ).

ثم تَمشي قُطعانُ الغنمِ (جَماعاتُها) إلى مرعاها الخِصْبِ، وتَرِنُّ أجراسُها الصغيرةُ في أثناءِ سيرِها، حتى تصلَ إلى الحقلِ، حيث تَقْضي يومَها سعيدةً وادعةً. فإِذا مالَتِ الشمسُ للغُروب عادتِ الأطيارُ إلى أوكارِها، وأخْفَتْ رءُوسَها تحت أجنحَتِها، وضَمَّتِ الزَّهَراتُ أكمامهَا، وهدأَتْ أصواتُ الكائناتِ، فلا تسمع في سُكونِ الليِل إِلَّا أغاريدَ البُلبُل العذبةَ، يُرْسِلُها من أَعلَى فَنَنٍ (غُصْنٍ) في دَوْحَتِهِ، وقد فاضَ قلبُه سُرُورًا، فأَوْدعَ أنْغامَه الْمُطْرِبةَ أحلَامَ السعادة التي يَنْشُدُهَا.

وتُضِيء النجومُ فيَخالُها (فَيَظُنُّها) الرائي مصابيحَ صغيرةً، مُعَلَّقَةً في السماءِ. ثم يسطَعُ نورُ القمرِ الفِضِّيُّ، وَيُرسِلُ أَشِعتَهَ على الكون، فيملؤُه بهجة ورَوْعَةً، ويُضْفي من سِحْرِهِ على الحقول والمُروج، فيَزِيدُها فِتْنَةً إِلَى فتنَتِها.

ثم تَخْرُجُ الحَشَراتُ من مخابِئِها، وتستيقظُ حارساتُ النباتِ لِتَسْهَرَ على نباتِ الْحَقل وحُبوبِه، فتخرُج أُمُّ الصِّبيان: تلك البومةُ الناعِبَةُ، وتَظْهَرُ الخَفافيشُ والقنافِذُ من مكامِنِها، ذاهبَةً إلى الحُقول في غيرِ ضَجَّةٍ، مُرْهِفَةً آذانَها، متربِّصَةً بالحشراتِ المُؤْذِية، فَتَفْتِكُ بأعداءِ الفَلَّاحِ، وتَلْتَهِمُها في غيرِ رحمةٍ.

فإِذا انتصف الليلُ رأيتَ كلبَ الحِراسة لا يزال ساهرًا يَقِظًا أمام الدارِ، وقد نام صاحبُه، فيُخيِّل إليك — في وِقْفَتِهِ الحازِمَةِ — أنه شُرْطِيٌّ يتأَهَّبُ (يَسْتَعِدُّ) للقَبْض على الأشرارِ!

فإِذا استيقظتِ الخَنْسَاءُ — تلك البقرةُ السمراءُ — سَمِعْتَها تقول: «ما أسعدَها ليلةً قَضَيْتُها ناعِمَةَ البالِ!».

•••

ثُمَّ تلتفِتُ إلى صديقِها الجوادِ (الحِصانِ)، قائلةً: «انهضْ من سُباتِك يا لاحِقُ، فقد حانَ وقتُ العملِ!»

فَيُحَيِّهَا صديقُها «لاحِقٌ»، وهو يضرِبُ الأرضَ بِسُنْبُكِهِ (حافِرِه) ويُجِيبُها: «صدقتِ يا خنساءُ، فقد حُقَّ علينا أن نَعْمَلَ، وما خُلِقْنا إلَّا لِنَعْمَلَ. وهأنذا أترقبُ فَطُوري، لأستَجِدَّ به قُوَّتي ونشاطي. فإنَّ عملي — في هذا اليوم — شاقٌّ مُتْعِبٌ … أَرْهِفِي أُذُنَيْكِ، يا خَنْساءُ. ألا تَسْمَعين صوتَ السَّيِّدِ، وهو يُعِدُّ المِحْراثَ في فِناءِ الدَّارِ؟»

وبعد قليل تَرَى الخنساءَ، وصديَقها لاحِقًا: دائِبَيْنِ على العمل، في جِدٍّ ونشاط، لسَقْيِ الحشائِشِ والأزْهار. وهِيَ تَجْرَعُ الماءَ في شَرَهٍ عجيبٍ، لتُرْوِيَ ظمأَها الشديدَ.

وتخرُجُ الدِّيدانُ من شُقُوقِ الأرضِ، وتَسْلُكُ طريقَها في الوحَل، وهي بهذا جِدُّ سعيدةٍ.

ثم يجرِي «الحلزون» في الْمَمْشَى الرَّطْبِ، وتقْفِزُ الضفادعُ على حافاتِ الْحُفَرِ، وتَخْرُج البِرَصَةُ من مخابئها. حتى إِذا انقضى النهارُ، شبِع هؤلاءِ جميعًا، ولم يَبْقَ لهذه الكائناتِ إِلَّا أن تَنامَ.

وترى الْحُصَّادَ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الثِّمارَ عائدين — وقتَ الغروبِ — إلى ديارِهم، وهم يُغَنُّون فرِحينَ مبتهجين، يشكرون للهِ — سبحانَهُ — ما أسبَغَه (ما أَوْسَعَه وأَتَمَّهُ) عليهم من نِعْمَةٍ، وما رَزَقَهُمْ من خَيْرٍ.

(٢) أُنْشودَةُ الْيَعْسُوبِ

في هذا الْجوِّ المَرِحِ، وَبَيْنَ تِلكَ الْمَباهِجِ الفاتنةِ، وَالْمَظاهِرِ الْجَمِيلَةِ: عاشَ «صفاءٌ» و«سُعادُ». فلا غَرْوَ إِذا تَمَلَّكَهُما حُبُّ الرِّيفِ، والإعجابُ بِجَمالِهِ، وَوَدَّا لو قضيا كلَّ وقتِهمَا فيه!

وَذا صباحٍ كان «صفاءٌ» و«سعادُ» جاثِمَيْنِ عَلَى بِساطٍ سُنْدُسِيٍّ (حَرِيرِيٍّ) أخْضَرَ (وهُوَ الزَّرْعُ النَّاضِرُ الْبَهِيجُ)، في حديقةِ الدَّارِ. وكان ذلك المكانُ هو أحبَّ أماكن الريفِ إليهما. وإنهما لَيَنْعَمان بما يكتنِفُهما (يُحِيطُ بِهما) من المناظرِ الجَذَّابة، إِذْ طَرَق أَسماعَهُما صوتٌ رقيقٌ يناديهما، في عُذُوبَةٍ وَتَوَدُّدٍ: «إِلَيَّ يا سُعادُ، إِلَيَّ يا صفاءُ.»

figure

فَتَلَفَّتا — يَمْنَةً ويَسْرَةً — ونَظَرا إلى عَلٍ، فلم يَريا أحدًا.

فقالت «سُعادُ»: «ما أغْرَبَ هذا الصَّوْتَ! تُرَى مَن يُنادينا؟»

فعادَ الصَّوْتُ — مرةً أخرَى — يقول: «لا غَرابةَ في ذَلكِ يا عزِيزتي!»

فأخذا يُحَدِّقان، ويَبْحَثَان فِي كلِّ مكانٍ، لعلَّهما يهتديان إلى مَصْدَرِ الصوتِ. وأجالا أبصارَهما في الأَزْهارِ والأشجارِ، فلم يَشْهَدا أحدًا مِن الناسِ.

فقال «صفاءٌ»: «هذا صوتٌ عجيبٌ، لم أسمعْ له مثيلًا، طُولَ عمرِي. فأين صاحبُه يا تُرى؟»

فقال الصَّوْتُ: «أُقِسِمُ بِعَسَلِيَ الشَّهِيِّ اللذيذِ: إِنَّكما لن تستطيعا الاهتداءَ إليَّ مهما تَبْذُلا مِنْ جُهدٍ!»

ثم استأنف الصَّوْتُ قائلًا في نَغَمَةٍ بهيجةٍ:

أنا يعْسُوبٌ نَشِيطٌ
وأنـا أُمُّ الخَـلِيَّهْ
أنا في النَّـحْل أميرٌ
خادِمٌ بينَ الرَّعِيَّهْ
عسَـلِي حُلْـوٌ لذيذٌ
عسلي أشْهَى غِـذاءْ
فَكُـلُوهُ في فُطُـورٍ
وغَـداءٍ وعَشـاءْ
عَسَـلِي خيرُ طَعامٍ
لِصَحِيـحٍ وسَـقِيـمْ
هلْ عَرَفْتُمْ أنَّ شُهْدِي
مَصْدَرُ الْخَيْرِ الْعَمِيمْ؟
أنفعُ النَّاسَ، وحَسْبِي
أَنَّنِـي أَحْيـا لِأَنْـفَـعْ
أنفعُ النَّاسَ، وما لِي
غَيْرُ نَفْعِ النَّاسِ مَطْمَعْ.

فابتهج الشَّقيقانِ بِسَماع هذه الأُنْشُودةِ الْجميلةِ، وأُعْجِبا بِغِناءِ الْيَعْسُوبِ أَيَّمَا إعْجابٍ. وتَلفَّتا فرأيا أَميرةً من أميراتِ النَّحْل، ذاتِ فِرَاء، يَميلُ لَوْنُها إِلى السَّوادِ، يُمازِجُه لَوْنٌ بُرْتُقالِيٌّ، وهي واقفةٌ عَلى إِحْدَى الزَّهَراتِ الْقَرِيبَةِ منهما، وقد تَأَلَّقَ مُحَيَّاها البَهِيُّ (لَمَعَ وَجْهُها الْحَسَن)، وبَدا في مِثْلِ جَمالِ الْوَرْدِ، وَلَمعتْ عيناها الواسعتانِ، وبَدا جَناحاها اللطِيفانِ، وقد كساهما ريشٌ خفيفٌ، وهما يَتَهاديان (يَتمايَلانِ) إلى الأَمامِ تارةً، وإلى الوراءِ تارةً أُخْرَى. ورَأَيا — في كِلْتا يَدَيْها — قُفَّازَيْنِ لامِعَيْنِ، أَصْفَرَيْنِ. كما رأيا في — قَدَمَيْها — حِذاءَيْنِ بَرَّاقَيْنِ، يُخَيِّلانِ — لِمَنْ يراهُما — أَنَّهما قَدْ صُنِعا من أَدِيمٍ (جِلْدٍ) ثمينٍ مَصْقُولٍ (ناعِمِ الْمَلْمَسِ).

وَأَبْصَرا ذَلك الْيَعْسُوبَ الظَّرِيفَ يَحْمِلُ قَوْسًا — بُرْتُقالِيَّ اللَّوْنِ — تَحْتَ ذَقْنِه. وقد شاعَتْ على فَمِهِ ابْتِسامَةٌ زاهِيَةٌ، تَتَمَثَّلُ لَكَ فيها أَحلامُهُ البَهِيجَةُ (السَّارَّةُ).

(٣) حِـوارُ النَّحْلَةِ

ثمَّ اقترَبَتِ اليَعْسُوبُ من «سُعادَ»، ووقَفَتْ إلى جِوارِها.

ففرِحَتْ برؤيَتِها، وقالتْ لها: «لَقدْ عَرَفْتُكِ، أيتها الصَّدِيقَةُ الكَرِيمَةُ، فأَنت — بِلا رَيْبٍ (بلا شَكٍّ) — مَلِكَةُ النحل التي طالما حدَّثَنا عنها أساتِذَتُنا وأَهْلُونا.» فقالت «اليعسوبُ»: «صدقتِ يا سعادُ، ولم تُخْطِئي جادَّةَ الرَّأْيِ (طَرِيقَ الصَّوابِ).»

ثُمَ اسْتَأْنَفَتْ حَدِيثَها، مُغَنِّيَةً الأُنْشُودَةَ التَّاليَةَ:

النَّحْـلُ أَنْشَطُ عـاملٍ
وأَبـرُّ مخْلـوقٍ بكُمْ
في شُهْـدَه أَشْهَى الْغِذَا
ءِ، وشَمْـعُهُ نُورٌ لَكمْ
أَجْدَى عليكمْ من دَجا
جٍ، صائحٍ في بيـتِكـمْ
أَجدى عليكم من جِدا
ءٍ، رُتَّـعٍ في حَقْلِكـمْ
أَجـدى عليكم من نِعـا
جٍ، ثاغيـاتٍ عنـدكمْ
وأَبَـرُّ من بـقـراتِـكم
وأَجَـلُّ من نَخَلاتِكمْ
ومِـنَ الجيـادِ الصَّافِنـا
تِ، وما حَوتْه أرضُكمْ

فابتسمتْ «سعادُ»، وقالتْ مبتهِجَةً: «ما أظرفَها أُغْنِيَّةً، وما أجملَهُ صَوْتًا، وما أصدَقَه كلامًا!»

فقال «صفاءٌ»: «ولَكنَّكِ شديدةُ الزَّهْوِ أيتها النحلةُ الكريمةُ. فإن عسلَكِ اللَّذيذَ الطعم — على ما فيهِ من فوائدَ جليلةٍ — هو أقلُّ نَفْعًا من صُوفِ الغنمِ. على أَنَّ كلَّ جِنْسٍ من أجناس المَخْلوقاتِ يرَى نفسَه أجدرَ من غيرِهِ بالفخرِ، وأحقَّ مِن سِواهُ بالإِعجابِ!»

figure

فقالت «سعادُ»: «إن فوائدَ النَّحلِ ومنافِعَهُ جليلةٌ، لا يُحْصِيها الْعَدُّ.»

فقالت اليَعسوبُ: «ألا تَعْلَمان أنَّ في عسلي شفاءً للمريضِ، وقُوَّةً للسَّقيم، وجَلاءً للصَّوْتِ؟ ألم تسمعا أن المُغنيِّين والمُغنِّياتِ والمُمَثِّلينَ والممثلاتِ، يأكلون من شُهْدِي، قُبَيْلَ الغِناءِ أو التمثيلِ، ليُجَوِّدُوا في غنائِهم، ويُطْلِقُوا مِنْ ألسنَتهم؟»

فقال «صفاءٌ»: «لعلَّك في عُطْلةٍ مِثْلَنا أيتها النَّحْلةُ الكرِيمة؟»

فقالت له ملِكةُ النَّحْلِ: «لستُ في عُطلَةٍ، كما تظنُّ. ولكنَّنِي قادمَةٌ من رِحلةٍ شاقةٍ. وقد جئتُكما من بَلَدٍ بعيدٍ لأُشاهِدَكما، وأتَحَدَّثُ إِلَيْكُمَا بِأَعْذَبِ الأَحَادِيثِ الَّتي تُعْجِبُكم وتُطْرِبُكم.»

فقالت «سعادُ»: «ما أشهَى حديثَكِ أيَّتُها اليَعسوبُ، فَحَدِّثينا بِما تشائين.»

وقال «صفاءٌ»: «كيف قطعتِ المَسافاتِ الشاسِعَةَ (الْواسِعَةَ)، حتى وصَلْتِ إلينا؟»

فقالت اليعسوبُ: «ليس أقدَرَ منا — مَعْشَرَ النَّحْلِ — على قطعِ المسافاتِ البعيدةِ، في خِفَّةٍ وسُرْعَةٍ. ألا تعلمُ — يا صفاءُ — أن النحلةَ قادِرَةٌ على الطَّيرانِ إلى الأَمامِ والْخَلْفِ على السَّواءِ؟ ألا تعلمُ أننا نقطعُ زُهاءَ (نَحْوَ) عشرين مِيلًا في الساعِة، إذا اعتزمْنا السفرَ من بلدٍ إلى آخرَ؟ إِن النحلةَ — يا عزيزي — تقطَعُ قُرابَةَ هذه المسافةِ، ما دامت غيرَ مُثْقَلةٍ بالعسلِ، أو بما تَجْنِيه من الأزهارِ. وليس يَعُوقُنا عن الطيرانِ بِمثلِ هذه السرعِة إلَّا أن تَهُبَّ الرياحُ المُعاكِسَة لِسَيْرِنا، فتعْتَرِضَنا في طريقِنا، وتَعُوقَنا عن الوصولِ بِمِثْلِ هَذه السرعَةِ. وربَّما مَطَرتِ السماءُ، فاختبأنا بين أوراق الأزهارِ، أو انْزَوَيْنا (اسْتَخْفَيْنا) في ثُقوب الجُدْران، حتَّى إِذا كَفَّ المَطَرُ (وقَفَ) واصَلْنا الطَّيرانَ.»

(٤) أجنحة النحل

فقال «صفاءٌ»: «ما أظرَف أجنحتَك الغِشائيَّةَ (الرَّقيقةَ، الَتي تُشْبِهُ الْغِشاءَ الخفِيفَ)! ولكنَّني أَعجَبُ مِنِ اختلافِ أجْنحةِ النحلِ!»

فقالت «اليعسوبُ»: «إن الأجنحةَ تختلِف — بِلا شَكٍّ — تَبَعًا لاختلافِ النوع. فأَجنحةُ النحلَةِ العاملَةِ، إذا تأَمَّلْتَها، رأيتَها أقصَرَ أجنحةِ النحل جميعًا. على حين ترى أن أجْنحةَ «اليَمْخُورِ» هي أكبرُ أجنحةِ النحلِ.»

فقالت «سعادُ»: «ما أكثرَ أَرجُلَكِ أيَّتُها اليعسوبُ!»

فقالتِ «اليَعسوبُ»: «إنَّ لكُلِّ نَحْلةٍ — متى كَمُلَ نُمُوُّ جسمِها، وتمَّ تكوينُها — ستَّ أرجلٍ.»

فقال «صفاءٌ»: «خَبِّريني — أيتها النحلةُ الذَّكيةُ — في أيِّ مكان من جسمِكِ تَخْزُنِينَ العسلَ؟»

فقالت «اليعسوبُ»: «للنحلةِ العاملةِ كيسٌ في مُقدَّمةِ بطنِها، وهو مُسْتَوْدَعُ الرَّحيقِ (الْعَسَلِ)، الذي تجمَعُه مِمَّا تَجْنِيِه (تَقْطِفُهُ) مِنَ الْأَزْهارِ وَالنَّباتِ، وَما إِلى ذلِكَ. ثُمَّ لا يَلْبَثُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَسلًا، فَتَمُجَّهُ النحلةُ العامِلةُ (تُخْرِجَه وتُفْرِزَه).»

فقالت «سعادُ»: «أليست كلُّ نحلة من نَحْلِ الخَلِيَّةِ عاملةً؟»

فقالت «اليَعْسوب»: «كلَّا يا سعادُ، فإن النَّحْلَ أقسامٌ شَتَّى. والنحلةُ العاملةُ هي التي تَمْلَأُ الْخَلِيَّةَ شُهْدًا. وهي تمتازُ عن غيرِها من النحل بتلكِ الأَغْشِيَةِ (الْأَغْطِيَةِ) الَّتي تَمُجُّ الشَّمْعَ.»

(٥) أُسرةُ النحلِ

فقالت «سُعادُ»: «لقد كنت أحسبُ أن النحلَ — كلَّه — مُتَّحِدٌ — في مزاياُه وأشكالِه ولكنَّني أراكِ تُحَدِّثينَني أن النحلةَ العاملةَ لها مِيزاتٌ تُفْرِدُها عن غيرِها من النَّحْلِ. وهذا ما لم يَدُرْ بِخَلَدي (ما لَمْ يَمُرَّ بِخاطِرِي) قَطُّ.»

فقالت «اليعسوب»: «إنَّ أسرةَ النحلِ تتألَّفُ من أنواعٍ ثلاثةٍ: فأنا اليعسوبُ، أو — كما يسمِّيني الناسُ — مَلِكةُ النحْل، وأميرةُ الخَلِيَّةِ، وسيِّدَتُها، وأمُّ النحلِ الذي يعيشُ في الخلايا. أما اليماخِيرُ، فَهِيَ الذُّكورُ مِنَ النَّحْلِ، ومنها نتخذ جنودَنا وحرسَنا، وهي قليلَة العددِ في الْخَلِيَّةِ، وجسمُها عريضٌ، وهي أكثرُ النحل طنينًا (تَصْوِيتًا)، وأبطؤها طيرانًا، وأقلُّها نفعًا. أما سوادُ النحل عندنا فيتألَّفُ منَ النَّحَلاتِ العامِلاتِ، وَهُنَّ أكثرُ نحلِ الخليَّةِ عدَدًا، وأعظمهن نفعًا، لأنهنَّ أضعافُ أضعاف عددِ اليماخيرِ. فإِذا رأيتِ في الخلية بضعَ مِئاتٍ منَ اليماخِير: رأيتِ إلى جانِبها أُلوفًا عدَّةً من النحَلاتِ العاملاتِ. ومن هذه الْجَمْهَرَةِ (الطائِفَةِ) الكبيرة تتألف أُسرةُ النحْل. وهي جميعًا تَحْترِم اليعسوبَ، وتدين لها بالزَّعامَةِ. ويتألَّفُ منها جماعةٌ تحرُسُها، وتخدُمُها، وتَفدِيها بأرواحِها، إذا ألَمَّ بها مَكْروهٌ (إذا أصابها سُوءٌ).»

(٦) اليعسوب

فقالت «سعادُ»: «فكيف نتعرَّفُ أَخَواتِكِ من اليعاسيبِ، إذا رأيناها؟ وأيُّ المزايا (الخصائصِ) تُفْرِدُها عن سائرِ أنواع النحْلِ؟»

فقالت اليعسوب: «إنني أضعُ البيضَ، ولا أتوانى عن العمل لحظةً واحدة. وأنا أضعُ — في كلِّ يوم — أكثرَ من ألْفَيْ بيضةٍ في عُيون الأقراصِ. ومن هذه البُوَيضاتِ يتكوَّن النحْلُ، على اختلافِ أنواعِه. فلا عجبَ إذا سَمَّوْنِي: «أُمَّ الخلية». أما جسمي، فهو — كما تريانِ — مستطيلُ الشكل، طويلٌ في مؤخَّرِه، وأجنحَتي قصيرةٌ، وعمري أطولُ أعمارِ النَّحْلِ جميعًا، فإنني أعيش سنواتٍ عِدَّةً. وفي لوني دُكْنَةٌ قليلةٌ (مَيْلٌ إلى السَّوادِ).»

فقال «صفاءٌ»: «أتَقْضِينَ طولَ عُمْرِكِ ملِكةً على النحْل؟»

فقالت اليعسوب: «لا أزال ملِكةَ الْخَلِيَّةِ، الجديرةَ بالاحترام والطاعةِ، ما دُمْتُ فَتِيَّةً، قَويَّةً، نشيطةً، قادِرَةً على العمل، فإذا توانيتُ عن البَيْضِ — لِضَعْفٍ، أو مَرَضٍ، أو شَيخوخةٍ — قتلني النَّحْلُ، إذا لم يُعَجِّلِ الله بِمَوْتِي، لِتَحُلَّ مكاني ملكةٌ أخرَى، من شبابِ النحْل، تمتازُ بالفُتُوَّةِ والنشاطِ، والقدرة على الإكثار من البَيْضِ، حتى لا ينقرِضَ النَّوْعُ.»

فصاح «صفاءٌ» و«سعادُ» مذعورَيْنِ: «ما أقْبَحَهُ جزاءً، وأسوأها خاتِمَةً! أيكونُ القتلُ مكافأةً لكِ على نشاطِكِ وإخلاصِك؟»

فقالتِ اليعسوبُ: «إن الموتَ — عندنا — عقابُ الكسلانِ، والضعيف، والعاجز عن العمل! والبقاءُ — في شريعَتِنا — للأصلحِ. وقد سادَ بيننا هذا القانونُ فلا مَفَرَّ منِ اتِّباعِ أحكامِه. وليس في قدرَةِ كائنٍ كانَ أن يغِّيرَ نصوصَه أو يبدِّلَها.»

(٧) اليَمْخورُ

فقال «صفاءٌ»: «ما أشهَى حديثَكِ وأعجَبَه أيتها اليعسوبُ! فهل تَتَفَضَّلِينَ علينا بالحديثِ عن اليَماخيرِ، لنتعرَّفَها فلا نخطِئَها؟»

فقالت اليعسوبُ: «إنَّ لليماخيرِ فائدةً لا تُنكَرُ، وهي تلقيحُ اليعاسيب الصغيرةِ، والاتصالُ بِها لتَبيضَ. ولكنَّها — بعد ذلك — لا تُؤَدِّي عملًا كبيرَ النَّفعِ، لأنها تميلُ بطبيعتها إلى الكَسل، فلا تعجَبا إذا قلتُ لكما: إننا — معشرَ النحلِ — لا نسمحُ لجَمْهَرَةٍ كبيرةٍ من اليماخيرِ أن تعيشَ معنا في خليَّةٍ واحدَةٍ؟»

فقالت «سعادُ»: «كيف نُمَيِّزُ اليمخورَ عن أخواتِه منَ النحلِ؟»

فقالت اليعسوب: «إنه أصغرُ مني حجْمًا، وجسمُه مُسْتَعْرِضٌ ضخْمٌ. وليس له إبْرَةٌ يَلْسَعُ بها، مثلُ إبْرَتِي، أو إبْرَةِ النحلةِ العاملةِ.»

فقال «صفاءٌ»: «لماذا تصِفينَ اليمخورَ بالكسلِ؟»

فقالت اليعسوبُ: «ذلك بأنَّه يقضي أكثرَ وقتِه مُتَبَطِّلًا، بلا عَمَلٍ يُذكَرُ. فهو لا يُعَنِّي (لا يُتْعِبُ) نَفْسَهُ بالبحثِ عن غِذائِهِ، ولا يسعَى لامتصاصِ رَحيقِ الأزهارِ. وإنما تُطعِمُه النَّحَلاتُ العامِلاتُ، وهو يَظلُّ نائمًا في الخليِة إلى منتَصف النَّهارِ، ثم يطيرُ إلى الأزهارِ مُتنَزِّهًا، ليستدْفِئَ بحرارةِ الشمِس، حتى إذا جاء الأصيلُ (وَقْتُ الْعَصْرِ) عاد إلى خَلِيَّتِه ليأكُلَ وينامَ. ولا يزالُ مستَسْلِمًا للنوِم، حتَى يجيءَ الْغَدُ.»

فقالت «سعادُ»: «فما بالُكم تأذَنون له في البقاءِ مُتَبَطِّلًا؟»

فقالتِ اليعسوبُ: «إننا نأذنُ لليماخيرِ أن تبَقى معنا في أوقاتِ الرَّخاءِ، فإذا حَلَّ فصلُ الشتاءِ قلَّ زادُنا، فاضْطُرِرْنا إلى قتلِ اليماخيرِ، لنقتَصِدَ فيما ادَّخَرْناه في خَلِيَّتِنا من طعامٍ.»

figure

(٨) النَّحْلَةُ العامِلَة

وأرادتِ اليعسوبُ أن تسترسِلَ في حديِثها (تَمْضِيَ وَتُطيلَ)، ولكنها سمِعَتْ غِناءً مُعْجِبًا، فأنصتَتْ إليه. وأصغَى «صفاءٌ» وأختُهُ إلى ذلك الصَّوتِ المطرِبِ، وهو يُرَتِّلُ الأُنشودةَ التالِيَةَ في الفَضاءِ:

أنا خيـرُ العـامِـلاتِ
أنـا رمـزٌ للثَّـبـاتِ
أَرْشُفُ الْمُرَّ منَ النُّـوَّ
ارِ بَـيْنَ الـزَّهَـراتِ
أَرْشُفُ الْمُـرَّ فَيَـغْدُو
بَعْدَما أَجْنِيهِ شُهْـدًا
ويَصِيرُ الْمُـرُّ حُـلْوًا
مستساغَ الطعمِ جِدَّا
أَمْنَحُ الْمُشْتارَ شُهْدِي
حالِيًا عَذْبًا هَنِيَّا
عَسَلًا حُلْـوًا مَرِيـئًا
سائِغَ الطعـمِ شَهِيَّا

فابتهجَ «صفاءٌ» و«سُعادُ» لسماع تلك الأُنشودةِ الْجَمِليةِ. ونهض «صفاءٌ» فحيَّى تلك النحلةَ الْمُبْدِعةَ الجمِيلةَ. وقال لها: «لقد عرفتُك يا عزيزتي. ولئن صدَق حَدْسِي (ظَنِّي وتَخْمِيني)، وصحَّتْ فِراسَتي (تَقْدِيري بِذَكائي) لَتَكونِنَّ: النحلةَ العاملةَ.»

فقالت له، بعد أن رَدَّتْ تَحِيَّتَه بأحسنَ منها: «لقد صدقتَ — يا صفاءُ — ولمْ تُخْطِئْ فِراستُك؛ فإِنني أنا النحلة العاملةُ، كما قُلْتَ.»

فقالتِ اليعسُوبُ: «لقد كنتُ معتزمَةً أن أحدِّثَكما عنِ النحلةِ العاملَةِ، ولكنها جاءتْ إليكما — من تلقاءِ نفسِها — لتحدِّثَكما بقصَّتهِا، وهي أصدقُ مَن يتحدثُ عن نفسِه.»

فقالتِ النَّحْلَةُ العامِلَةُ: «صدقتِ — يا مليكَتي المحبوبةَ — وإني لقاصَّةٌ على هذين الصديقَيْن طَرَفًا يسيرًا من حديثي، حتى إذا كَبِرا، عَرَفا من أنباءِ قصَّتي، ودقائقِ أَخْباري، ما يملأُ نفسَيْهما بَهْجَةً وانشِراحًا.»

فقالت «اليعسوبُ»: «ها هي ذي نَحْلُتنا العامِلَةُ تحدِّثُكما بقصتِها الْمُعْجِبَةِ، وهي عمادُ الخليَّةِ. ومصدرُ الرخاءِ فيها، وجالِبَةُ الخيرِ للنَّاسِ، وباذلةُ حياتِها الغالِيَةِ رَغْبةً في إسعادِكم، مَعْشَرَ الآدميِّين، وهي دائبةٌ على العمَلِ في غيرِ هوادَةٍ ولا راحةٍ.»

فابتسمتِ النحلةُ العاملةُ، وشكرَتْ لليعسوبِ ثناءَها عليها، وقالت لها: «إِن أجدَرَ النحلِ بالثناءِ والشكرِ، هُوَ أنتِ — يا مليكَتَنا العزيزةَ — لأنكِ أمُّنا، ومصدرُ وجودِنا في هذه الحياةِ. وإنَّما نقتدي بكِ في النَّشاطِ والدُّؤُوبِ على العملِ وليس لَنا فضلٌ يُقاسُ إلى فضلِك. لأن في الخلِيَّةِ آلافًا — من النَّحَلاتِ العاملاتِ — يشرَكْنَنِي في مزايايَ وخَصائِصي. أما أنتِ فقدِ انفَردْتِ من بينِنا بالإِمارةِ والسِّيادَةِ.»

فقالت «سعادُ»: «وماذا تعملُ تلك النَّحَلاتُ يا عزيزتي؟»

فقالت لها: «إن لنا — معشرَ النَّحَلاتِ العاملاتِ — أعمالًا مختلفةً، مقسَّمةً بَيْننا؛ فمِنَّا من يقطِفُ الْجَنْيَ منَ الأزهارِ، ليَمُجَّه شُهْدًا سائِغًا، لذيذَ الطَّعْمِ، فيَضَعَهُ في الأقراصِ، ويُغَطِّيَهُ بطبقةٍ رقيقةٍ منَ الشَّمَعِ. ومنا من ينظِّفُ الخليةَ ويحرُسها. ومنا: النحلةُ الساقِيَةُ التي تَجْلبُ الماءَ إِلى الخليةِ، والنحلةُ المربِّيَةُ: التي تُعْنَى بِصِغِار النَّحْلِ، والنَّحلةُ الرَّاعِيَةُ: التي تجمَعُ عصيرَ الأزهارِ وتمتَصُّ رحيقَها، والنحلةُ البانِيَةُ: التي تَبْنِي أقراصَ الخليَّةِ مِنَ المُومِ (الشَّمَعِ)، وتُعْنَى بتَنْسِيقِ عيونِها السُّداسيةِ الشكل. ومِنَّا الشُّرْطِيَّةُ: الَّتي تَحْفَظُ الْأَمن وتَرْعَى النِّظامَ، والْمُهَنْدِسَةُ: الَّتِي تُنَسِّقُ وتُرَتِّبُ الأشياءَ، والخادِمُ: الَتِي تُؤَدِّي ما يَلْزَمُ لَنا من الحاجاتِ، وما إلى ذلك من الطَّوائِفِ التي يَتَأَلَّفُ منها أَهلُ المدينةِ الكامِلةِ.»

فقال لها «صفاءٌ»: «فَمَنْ تكونين — بين هؤلاءِ — أيتها النحلةُ العاملةُ الذكيَّةُ؟»

figure

فقالت له مبتسمة: «أنا أقِضي جُلَّ وقتي (أَكْثرَهُ)، طائرةً من فَنَنٍ إلى فَنن، متنقِّلَةً من زهْرَةٍ إلى زهرة، لأمتَصَّ رحيقَ الأزهارِ بلسانِيَ الطويلِ، ثم لا يلبثُ غِذَائي هذا أن يتحوَّلَ عسَلًا سائِغًا للآكلين. ونحنُ نأكُلُ جُزءًا مِنَ الشَّهد الذي نمُجُّه، ثم ندَّخِرُ الباقِيَ في خليَّتِنا، لنأكلَهُ في فصلِ الشتاءِ، حين لا نجدُ في ذلك الفصلِ ما نَمْتَصُّه مِنَ الأزهارِ.»

فقالت «سعادُ»: «فمِنْ أيْنَ تحصُلون على ذلك المُومِ، لتَبْنُوا تلك الأقراصَ السُّداسِيَّةَ الشكلِ؟»

فقالتِ النحلةُ العاملَةُ: «إن جُزْءًا مِمَّا نَرْشُفُه منَ الأزهارِ يتحوَّلُ — في الغُدَدِ (قِطَعِ اللَّحْمِ الصُّلْبَةِ)، التي في مؤخِّرَةِ جسومِنا — إلى الشَّمَعِ الذي تُطلِقون عليه اسمَ: المُوم.»

فسألها «صفاءٌ»: «وما فائدةُ تلك النخاريب (الثُّقوبِ وَالْخُروقِ) السُّدَاسِيَّةِ الشكل؟»

فقالت له «اليعسوبُ»: «في هذه العيونِ: نَضعُ البيْضَ، ونُرَبِّي صِغارَ النحلِ، حتى تكبَرَ، فتصبحَ تلك العيونُ مَخازِنَ لِشهادِنا.»

(٩) أَطوارُ النَّـحْلَةِ

فقالت اليعسوبُ: «لا تنسَيا حرفًا واحِدًا مما سَمِعْتُماه — أيها الصديقان — منَ النحلةِ العاملَةِ التي تُخْرِجُ الشُّهْدَ للناسِ، فيصنَعُون منه المُرَبَّياتِ، وأَلوانَ الحَلْوَى، وما إِليها من لذائذ الأطعمةِ التي تُحِبَّانِها.»

فقال «صفاءٌ»: «ليس أعذبَ من حديِثكُما، ولا أشهَى من كلامِكما. ولقد عرَّفتُمانا — أنتِ والنحلةُ العاملة — ما لم نكن نعرِفُ، وعَلَّمْتُمانا ما لم يكن لنا به علمٌ. فشكرًا لكما على هذه الفوائِد الجليلَةِ.»

فقالت «سُعادُ»: «ليتَكِ — أيتها النحلةُ العاملةُ — تُخْبِرينَني عن أطوارِ حياةِ النحَلاتِ العاملاتِ شيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؟»

فقالت النحلة العاملةُ: «إنَّنا معشرَ النَّحَلاتِ العاملاتِ — نبدأُ أعمالَنا، ونحن صغيراتٌ، بإعدادِ الخلايا، لنضعَ في نخاريبِها البُوَيْضاتِ الْمُلُوكيَّةَ التي تبيضُها اليعسوبُ — مليكتُنا الجمليةُ — ونُعْنَى بتنظِيفِها، ولَعْق جوانِبها. ثم لا يَمُرُّ يومان — أو ثلاثةٌ — حتى نجتمعَ حول النخاريبِ، لِنُدْفِئَ تلكِ البُوَيْضاتِ، ثم نُعْنَى بتغذيتِها.»

فقال «صفاءٌ»: «بماذا تُغَذِّينَها أيتها العزيزةُ؟»

فقالتِ النحلةُ: «إننا نغذِّي تِلك الأطفالَ الناشئةَ بالعسلِ وطَلْعِ الزَّهَرِ، ممَّا تَخْزُنُه أخَواتنا في تلك النخاريبِ.»

فقالت «سعادُ»: «لست أفهمُ ما تعنِينَه بِطَلْعِ الزَّهَرِ؟»

فقالت النحلةُ: «أعني ما نَخْزُنُه من لَقاحِ الأزهارِ، في قافوِرنا (وهُوَ وعاءُ الطَّلْعِ)».

ثم استأنفتِ النحلةُ قائلةً: «وتظل تلك الأطفالُ الناشئةُ سبعةَ أيامٍ، ثم نَتركُ أمرَ العنايةِ بها إلى أصغرِنا سنًّا. ثم تُدَرِّب هي نفسَها على الطيرانِ، على مَقْرَبَةٍ منَ الخليَّةِ، حتى لا تَضِلَّ عنها. فإذا عادتِ النحلُ إلى مَباءَاتِها (بُيُوتِها)، نزعَتِ اللِّقاحَ والعسلَ من النحلِ القادمةِ، لتَخْزُنَهما في تلك النخاريبِ، فَتُوَفِّرَ لها الوقتَ، وتيسِّرَ لها العودةَ إلى جَنْيِ الأزهارِ في أقربِ زمنٍ، فإذا كَبِرَت تلك النحَلاتُ اتخذْنا منهن حارساتٍ للخليةِ، ليتعرَّفْنَ النحلَ القادمةَ، ويَشْمَمْنَها، حتى يَثِقْنَ بأنها من ساكناتِ الخليةِ. والويلُ للنحلةِ الغريبةِ، فإنها لا تلبَثُ أن يَكشِفَ حُرَّاسُنا حقيقةَ أمرِها، فيعاقِبْنَها أشدَّ العِقابِ، ويلسَعْنَها حتى تَفِرَّ هارِبَةً، وهي لا تكادُ تصَدِّقُ أنها نَجَتْ من الهلاكِ.»

(١٠) أعداءُ النحلِ

فقال «صفاءٌ»: «ولِماذا تَخْشَيْنَ من النحلِ الغريبِ على خليَّتِكنَّ؟»

فقالتِ النحلةُ العاملةُ: «إننا نَخْشَى على الخلية أن يَقتحِمَها لصوصُ النحلِ، فيسرِقوا ما ادَّخَرْناه لأبنائنا وأخَواتِنا من الشِّهَادِ.»

فقالت «سعادُ» مدهوشةً: «يا لَلْعَجَبِ العاجبِ! أعندكم لصوصٌ وأشرارٌ، تَتَّقُونهم، وتحذَرون شرورَهم؟»

فقالت اليعسوبُ: «ليس يخلو كائنٌ كان من أعداءٍ يَكيدون له، ويتحيَّنون (يَنْتَظِرُون وَيَرْتَقِبُونَ) الفُرَصَ لإهلاكِه.»

فقالت «سعاد»: «لقد فهِمتُ من كلامِكِ أن للنحلِ أعداءً كثيرين؟»

فقالَت اليعسوبُ: «ليس في هذا أقلُّ شَكٍّ، فإِنَّ لنا أعداءً من بناتِ جنسِنا، يحاوِلْن أن يسرِقْن ما في نخاريبِنا من الشِّهادِ. ولنا أعداءٌ من النحل والضفادِع. فالأُولى تَسْرِق العسلَ وتأكُلُه، والثانيَةُ تصطاد النحلَ بلسانها، وتَتَحَيَّنُ الفرصَ لذلك؛ فلا تكاد ترى نحلةً مُتْعَبَةً مكدودةً، حتى تأخذَها على غِرَّةٍ (غَفْلَةٍ)، وتأكلَها بما حمَلَتْه منَ العَسَلِ. ومن أعدائنا: الفأرُ والزنابِيرُ الصُّفْرُ. وهناك جمهرةٌ من الطيورِ تترَبَّصُ بنا الدوائرَ، لتأكلَنا حين يشتَدُّ بها الجوعُ، ونحن نَتَّقِيها جهدَنا، كما نَفِرُّ فِرارًا كلما رأينا واحدًا من الشراشيرِ والزَّرازير، وبعضِ العصافيرِ. التي تُطلِقون عليها اسمَ: «عصافير الجَّنةِ». وليس خوْفُنا من النَّقَّارِ بأقلَّ من خوفِنا من أولئك الذين حدَّثْتُكما بهم، ولنا أعداءٌ كثيرون غيرُ هؤلاء؟».

(١١) نَشيدُ النحَلاتِ العاملاتِ

فقال «صفاءٌ»: «إِن حياتَكُن — يا معشرَ النحل — مستهدِفَةٌ (مُتَعَرِّضَةٌ) لأخطارٍ شتَّى. وقد حزَنَني — يا صديقَيَّ ما سمعُته منكما!»

فقالَتِ اليَعْسوب: «إن الْموتَ علينا حقٌّ. وليس يَعْنِينا إلا أن نُؤَدِّيَ واجَبنا في هذه الحياةِ. أما قضاءُ الله فلا حيلةَ لأحدٍ في دَفْعِه.»

figure

واستأنفَتِ النحلةُ العاملةُ قائلةً: «لقد حدثتُكما عن عمل النحلةِ، قبل سِنِّ العشرين. فهل تأذَنان لي أن أحدثكما عما تفعَلُه بعد هذه السنِّ؟» فقالت «سعادُ»: «يالَله! وهل تبلغ النحلةُ عشرين عامًا؟»

فابتسمت النحلة، وقالت: «إنما عَنَيْتُ (قَصَدْتُ) عشرين يومًا — لا عشرين عامًا — يا عزيزتي؛ فإِن عُمْرَ النحْلِ قصيرٌ، كعمر الأزهارِ والرياحين!»

ثم استأنفتْ قائلة: «فإِذا بَلغتِ النَّحْلةُ العاملةُ سِنَّ العشرين خرجَتْ مع النحْلِ لامتصاصِ الأزهارِ. وثَمَّةَ تُصْبِحُ في عِداد النحَلات الأبكارِ، لأنها تُصْبح — حينئذٍ — قادرةً على التعسيلِ.»

فقال «صفاءٌ»: «ما أعجبَ حياتَكُنَّ — أيتها النحْل — فإِنها حياةٌ حافلةٌ بالْجِدِّ والخيرِ!»

فقالت له النحْلة العاملة: «صدقتَ يا صفاءُ، فإِن شعارَ النحْلةِ العاملة؛ هو: حُبُّ الْجِدِّ، والتَّفاني في عملِ الخيرِ. ألم تسمعْ نشيدَ العاملاتِ؟»

فقال «صفاءٌ» و«سعادٌ»: «كلاَّ، لم نَسْمَعْهُ — يا عزيزتي — وما أشْوَقَنا إلى سماعِه منكِ!»

فانطلقتِ النحْلة تغنِّي نشيدَ العاملات، بصوتها العذبِ الْحَنونِ:

إن حُـبَّ الْجِدِّ دَأْبـي
وفَـعالَ الخيـرِ طبْـعي
فأنا أُعطيك شُهْدي
مثـلما أُعـطيك شمْعي
وحياتي مثل عُمْـر الـزَّ
هـْرِ، تَـذْوِي بعدَ حينِ
مثل عمر النرجس الغَـ
ـضِّ، وعمـرِ الياسَمـيـنِ
يَذْبُلُ الـورْدُ، ويُبْـقِي:
أثرَ العِـطْرِ شَذِيَّا
وأنـا أتـرك شُهْـدي
لكـمُ حُـلْـوًا شَهِيَّا
يَذْهَبُ الْمرءُ، ويبقَى الـ
ـذكـرُ حيًّا لَيْسَ يُطْوَى
فلتـكنْ آثـارُكمْ أحـ
ـسنَ ما يُـحْكَى ويُرْوَى
ولتكن أخـلاقُكم — مِن
عِطْـرِها — كالزهرِ طِيبَا
ولتكن شُهْـدًا لـَذِيـذًا
يُبْرِئُ الْمَرْضَى طبـيبَا
ولْأَكُنْ في بيتِكم خيـ
ـرَ صـديقٍ تـألَفُـونَـهْ
وليكن شُهدي لكم أشـ
ـهَى غِذاءٍ تَطْعَمُونَهْ
وَسَـلُوا أنـفسَـكم
في كلِّ يَومٍ: «ما صنعتمْ؟»
وأَحِبُّـوا الخيـرَ والبِـ
ـرَّ، سعِـدْتُـمْ، وسَلِمْـتُمْ!
واغنَـموا أعمـارَكم في الـ
ـباقياتِ الصالحاتِ
واجعلوا رمـزَكُمُ الـ
ـجِدَّ لنيـلِ الْمَكْرُماتِ!

فطرِبَ «صفاءٌ» و«سعادُ» من نشيد النحلةِ العاملة، واستعاداه منها مرَّاتٍ عدَّةً، حتى حفِظاه عن ظهرِ قلبٍ. وشكَرَا لها تلك النصائِحَ الحكيمةَ أحسنَ الشكر.

فسألها «صفاءٌ»: «كم تعيشُ النحلةُ العاملةُ يا عزِيزتي؟»

فقالت له: «إن أكثرَ العاملاتِ يُخاطِرْنَ بحَياتِهنَّ (يُعَرِّضْنَها للِخَطر)، ويُجْهِدْنَ أنْفُسَهُنَّ في العمل داخلَ بيوتهِنَّ، فلا يَعِشْنَ أكثرَ من سَّتِة أسابيعَ، وبعضُهن يخرُجْن إلى الأزهارِ، لرَشْفِ رحيقِها، فَيُعَمَّرْن (يَعِشْنَ) بضْعَةَ أَشْهُرٍ. ولكلِّ واحدَةٍ منا عملٌ تؤدِّيه، مُخْلِصَةً في أدائه، كما حدَّثْتُكما. والمُنافَسَةُ بينَنا شديدةٌ، فإن كلَّ نحلَةٍ منا تسابِق الأخرى في جُهودها، فإذا عجزَتْ إحدانا عن العمل: قتلتْها رفيقاتُها، لأن الحياةَ في الخلية وقفٌ على الأصلح!»

فقال «صفاءٌ»: «ما أقْسَى شريعَتَكُنَّ، أيتها الصديقةُ العاملَةُ!»

فقالت له: «إن شَريعَتَنا — على قسوَتِها — عادلَةٌ. وقد أَلِفْناها، ودرَج عليها أسلافُنا. ولا حيلَةَ لنا في تغييرِها أو تبديلِ شيءٍ من نصوصها، وهي تَسْرِي على سوادِ النحلِ (الكثرةِ الغالبةِ فيه) وعلى خُصوصِه (القِلَّة المُمتازة مِنْهُ)، فَلا تُبْقِي خادِمًا ولا تَرْحَمُ أميرًا.»

(١٢) خاتمةُ القصةِ

ثم قالتِ اليعسوبُ: «لقد حان وقتُ العودَةِ، فَهل تأذنان لنا بوَداعِكُما، أيها الصَّديقان؟»

فقَال «صفاءٌ» و«سعادُ»: «لَوَدِدْنا أن تَبْقَيا معنا، فَقد سحرتُمانا بحديِثكُما العذبِ!»

فَقالت اليعسوبُ والنحلة العاملةُ: «إن لَدَينا أعمالًا كثيرةً، ولا سبيلَ إلى تأجيلِها، وحسبُكما ما عرفْتماه في هذه المَرَّةِ، فَوَداعًا أيُّها الصديقان!»

•••

فَشكر لهما الشقيقانِ تلك الدُّروسَ الثمينَةَ التي تَعلَّماها منهما، وودَّعاهما.

فَبسطتِ النحلتان أجنحَتَهُما، ثم انطلقتا طائرتيْن في الفضاءِ، حتى اسْتَخْفَتا عن الأنظارِ. وعاد الشقيقان إلى بيتِهما يُحَدِّثان أبوَيهِما وأصحابَهما بِما عَرَفاه في يومهما السعيدِ، عن حياةِ النحل العجيبةِ.

•••

وكان ذلك الدَّرسُ أكبرَ حافِزٍ (أَعْظَمَ دافِعٍ) لهما على الِاستزادَةِ من القراءَةِ في كُتُبِ النَّحلِ، ليتعرفا — من دقائِقه — كل مُعْجِبٍ ومُطْرِبٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤