الفصل الثاني: العصر الفكتوري
(أ) الشعر
يمثل الشعرَ في عصر فكتوريا شاعران بينهما من التفاوت ما لا تجد مثيلًا له بين شاعرَين في عصرٍ واحد، وهما «تِنِسُن» و«براوْنِنْج»؛ لكنهما على اختلافهما في طريقة الأداء يكمل أحدهما الآخر؛ الأول يغني لعاطفته والثاني يغني لعقله.
(١) ألفرد تنسن Alfred Tennyson (١٨٠٩–١٨٩٢م)
كان العنصر الجديد في هذه المجموعة الجديدة هو السلاسة في عرض المناظر وتصويرها، ثم اتساق الأنغام في الألفاظ والجمل والأبيات والمقطوعات، بحيث تأتي موسيقى القصيدة في النهاية على أتمِّ اتفاق مع المعنى. أما براعته في التصوير فسرُّها دقة ملاحظته للطبيعة بحيث لم تفلت منه دقيقة من دقائقها. وأما روعة موسيقاه فقد أعانه فيها ضخامة ثروته اللفظية وقدرته على وزن الكلام وزنًا يخلب السمع مهما كان البحر الذي يُجري فيه قصيدته، وبخاصة في شعره المرسل غير المقفى، فهو في هذا الضرب من الشعر في سماء وحده بالقياس إلى من حاول هذا النوع من شعراء الإنجليز، لا يعلو على منزلته فيه سوى «ملتن».
لبث «تنسن» بعد ذلك خمسين عامًا يقرض الشعر الجيد، فيضيف بذلك إلى إنتاجه إنتاجًا جديدًا يزداد تنوُّعًا وكمالًا، لكنه في كل ذلك لم يكد يأتي بالجديد المبتكر من ضروب الشعر، شأنه في ذلك شأن الكثرة الغالبة من أئمة الشعر في العالم؛ فقلما يأتي الشاعر العظيم بالمبتكَر الجديد في نوعه، وهو إن جاء بشيءٍ مبتكر لم يكن من أعظم إنتاجه.
وهذه قصيدته «سيدة شالت» نسوقها مثالًا لشعره:
١
•••
•••
•••
٢
•••
•••
•••
٣
•••
•••
•••
•••
٤
•••
•••
•••
•••
•••
(٢) روبرت براوننج Robert Browning (١٨١٢–١٨٨٩م)
ولد «براوننج» في ضاحية إلى الجنوب من لندن، ولم يتلقَّ دراسةً منظمة ولا هو ممن تخرجوا في أكسفورد أو كيمبردج؛ لذلك تراه على الرغم من سعة اطلاعه وحسن تذوِّقه لما قرأ، كانت تنقصه لمسة العلماء التي تميَّز بها معاصره «تِنِسُنْ»، ومع ذلك فقد كانت لشعره خصائص وسماتٌ لا تكاد تخطئها من أول قصيدةٍ نظمها إلى آخر إنتاج أخرجه، ذلك لو استثنينا بعض إنتاجه الغثِّ الذي لم يقصد به إلى شيء سوى أن يُطعِم جمهرةً من القراء أرادت أن تقرأ لبراوننج حين اتسعت شهرته كائنًا ما كان الموضوع أو الأسلوب.
طريقة «براوننج» في إنشاء القصيدة هي أن يتخذ شخصيةً معينة أو حكاية بذاتها، ويرجَّها رجًّا عنيفًا ليفرق عناصرها ويشرِّحها تشريحًا ليعرض لك أعضاءها عضوًا عضوًا دون أن يعينك على تركيب هذه الأعضاء في النهاية جسمًا مترابط الأجزاء. وأما طريقته في الأداء فهي النَّظم المرسل الذي لا قافية فيه. وكثيرًا ما ينحطُّ نظمه إلى مستوى النثر من حيث الإيقاع والرنين، أو ينقص جماله بما يصطنعه أحيانًا من ألاعيب في تركيب ألفاظه، وقد لا تجد في نظمه في بعض المواضع ما يغريك بالإعجاب، وعلى الرغم من أنه لا يكاد يخطئ في قواعد العروض إلا أنك تحس في أمثال هذه المواضع أن شيئًا ينقص هذا الكلام الذي أنت بصدده ليكون شعرًا له في الأذن وقع الشعر.
لقد قال عنه ناقد حين كان يرثيه عند موته، إنه كان «شاعر الحب»؛ فدهش الناس لهذا الوصف يُنعَت به هذا الشاعر الذي لم يمجد فيه أنصاره ومريدوه سوى فكره وفلسفته! كيف يكون شاعر الحب هذا الذي نراه يضرب بعقله في أغوار موضوعه، هذا الذي ترك لزميله «تِنِسُنْ» أن يعبر عن عواطف العصر ليتولى هو التعبير عن نزعاته العقلية؟ لكن الناقد سرعان ما تبعه آخرون، ثم لم يلبث الآخرون أن لحق بهم آخرون حتى أصبح «براوننج» في تاريخ الأدب من شعراء الحب في غير ريبة ولا جدل. لماذا؟ لأنه لم يفتأ يبشر بقوة الحياة وعنفوان الحياة وانتصار الحياة وظفرها على كل ما يقف في سبيلها من جمود. لم تُذكِّره الشيخوخة الموت بل بامتداد الحياة، ولم يُذكِّره الفشل بالفناء بل بالنجاح يُكتَب آخر الأمر للأحياء. لقد كان «براوننج» شاعر الحب حين كان اللسان الناطق بقوة الحياة وتيارها الزاخر، وربما أصاب شوقي حين قال إن «الحياة الحب والحب الحياة.»
وهاك بعضَ قصيدته «الحبر ابن عزرا» مثالًا لشعره:
•••
•••
•••
•••
•••
(٣) ماثيو آرنلد Matthew Arnold (١٨٢٢–١٨٨٨م)
أما وقد فرغنا من نابغتَي الشعر في عصر فكتوريا، وهما «تِنِسُنْ» و«براوْنِنْج» فقد بقي علينا أن نذكر شاعرَين آخرَين أو ثلاثة جاءوا في الشطر الثاني من العصر، ولم يكونوا من تفاهة الشأن بحيث لا يجدون مكانًا في هذا التاريخ.
ومن هؤلاء «ماثيو آرنلد» الذي عُرف شاعرًا وناقدًا، وهو في شعره أقل إنتاجًا وأقصر مدًى من زميلَيه «تنسن» و«براوننج»، ولكن لعله أوضح منهما دلالة على ما تعاور العصر من تحلُّل في قوة الإيمان؛ فهو — مثل «براوننج» — قد انغمس في الحياة الاجتماعية حتى أعماقها، لكنه لم يحاول — كما فعل «براوننج» — أن يدخل هذه الحياة الاجتماعية في شعره، وجعل ميدان ذلك نثره الذي يدل على بصيرةٍ نافذة، وملاحظةٍ دقيقة، وتحليلٍ بارع لكل ما يدور في العقل الإنساني من خواطر ونزعات.
تلقى أول مراحل تعليمه في مدرسة «رَجْبي» التي لا يزال ذكرها يدوِّي في كتب التربية بفضل المشرف عليها إذ ذاك، وهو «تومس آرنلد» والد الشاعر، فالولد والوالد كلاهما ممن تحتفظ لهم إنجلترا في العهد الفكتوري بالفضل العظيم. ثم استأنف «ماثيو» دراسته في أكسفورد حيث برز ودلَّ على قدرة ونبوغ جعلاه موضع التكريم من الجامعة. ثم غادر أكسفورد ليشتغل بالتدريس حينًا ثم عُيِّن كاتمًا لسر وزير المعارف في عهده، ولم يلبث أن نُصِّب مفتشًا للتعليم، وفي هذا المنصب قضى خمسة وثلاثين عامًا كان له فيها اليد الطولى في كثير من الإصلاح، ولا تزال كتبه وتقاريره في شئون التربية مما يشار إليها بالإجلال والتقدير. ومات في نحو الخامسة والستين من عمره وهو لم يزل شابًّا في روحه وتفكيره وطلاوة حديثه، فقد قال عنه عارفوه إنه كان نعم الصديق المهذَّب الوفي المرح.
كان لأبيه بيت في منطقة البحيرات قريب من موطن «وردزورث» فكان «ماثيو» يقضي عطلاته المدرسية مع أبيه في هذا البيت؛ وبهذا أُتيح له أن ينظر بعينَيه ما كان «وردزورث» قد رأى من مفاتن الطبيعة، وأن يسمع بأذنَيه ما كان «وردزورث» قد سمع من أنغامها، فلا عجب أن رأيناه فيما بعدُ يقدم للعالم «وردزورث» مشروحًا منقودًا ليفتح الأعين والآذان لما في شعره من جمال، ولا شك أن قد كان لهذا كله أثره العميق في شعره كلما شعر.
كان «ماثيو آرنلد» يتخذ لنفسه مكانًا وسطًا بين الشك والإيمان، فلا هو بالشكَّاك الذي يهدم العقائد بجرة من قلمه، ولا هو بالمؤمن الذي يعتقد بغير تفكير وتردد؛ لذلك كنت تراه يكثر التأمل في العقائد السائدة، لعله يستطيع أن يتبين فيها الصحيح والباطل، فكل قارئ من هؤلاء الذين يتشكَّكون ولكنهم لا ييئسون، يتشككون وفي أنفسهم رغبةٌ صادقة أن يجدوا ما هو جدير بالإيمان الصحيح، كل قارئ من هؤلاء سيجد التعبير عن وساوس نفسه في شعر «ماثيو آرنلد».
•••
(٤) تشارلز سونبرن Charlss Swinburne (١٨٣٧–١٩٠٩م)
هذا رجلٌ فريد في شخصيته، فريد في شعره؛ أبواه من علية القوم، لم يشذَّا في وجه من وجوه الحياة، أما الابن فقد جاء ذا شذوذ يستوقف النظر، شذوذ في هيئة جسمه وشذوذ في سلوكه؛ فيروى عنه أنه كان يساكن قسيسًا وزوجته، وذات مساء حلا له أن يقرأ لهما روايةً تمثيلية كتبها، فوجَّه إليه القسيس نقدًا في بعض أجزائها؛ فما هو إلا أن حدج الشاعرُ بنظره فترة، ثم صرخ صرخةً داوية وأسرع إلى غرفته في الطابق العلوي، حيث ضم مخطوط روايته إلى صدره، وظل يذرع الغرفة جيئةً وذهوبًا، وعبثًا حاولت زوجة القسيس أن ينزل لعشائه، ولبث طول الليل في غرفته يتحرك ويحدث أصواتًا تدل على حالةٍ عصبيةٍ شديدة، خشي الزوجان أن تؤدي به إلى خطر. فلما أن كان الصباح استيقظ متأخرًا ونزل شاحب اللون، ولما هم القسيس أن يعتذر عما بدر منه، أجابه الشاعر بأنه أشعل نارًا في مدفأته وأحرق الرواية كلها ورقةً ورقة، فارتاع القسيس لهذا النبأ، فقال له الشاعر: «لا عليك فقد سهرت الليل كله وكتبت الرواية من ذاكرتي مرةً أخرى.» ذلك هو الرجل العجيب الذي أراد له الله أن ينشد للناس شعرًا عجيبًا.
•••
•••
•••
•••
(٥) دانتي جبرائيل روزتي Dante Gabriel Rossetti (١٨٢٨–١٨٨٢م)
ولد «روزتي» في لندن لأبٍ شاعر كان أستاذًا للأدب الإيطالي في جامعة لندن؛ وحسبك أن تلقي نظرةً على صورته لتعلم أن شاعرنا تجري في عروقه الدماء الإيطالية؛ فهو إنجليزي في رُبعه، إيطالي في ثلاثة أرباعه. وكانت أخلاق أوروبا الجنوبية باديةً في شخصيته وسلوكه، تراها واضحة في سرعة انقلابه وحدة انفعاله؛ فهو الآن يضحك من كل قلبه كأنه الطفل الغرير، وهو الآن في ثورة من الغضب لا يستطيع كبح جماحها.
كان «روزتي» شاعرًا ومصوِّرًا في آنٍ معًا، وبدت فيه مخايل الفنَّين إذ كان غلامًا في عامه الخامس عشر. ولم تكتمل سنته الحادية بعد العشرين حتى كان الفتى مصوِّرًا معروفًا يرسم بريشته لوحات عليها طابعه ولا يدرك غايتها منافس. وكذلك لم تكتمل سنته الحادية بعد العشرين حتى كان الفتى شاعرًا معروفًا ينشد القصائد عليها سمته، وتجد مكانها بين جيد الشعر. بل كان الفتى أكثر من مصور وشاعر؛ كان زعيمًا لمدرسة في الفن ألَّف أعضاءها ورسم لها الطريق، يتلخص برنامجها في محاولة رسم الطبيعة بكل تفصيلاتها. وللمصادفة أحيانًا تدبيرٌ محكم؛ فقد تصادف أن كانت أُمُّ شاعرنا الفنان تسير في أحد الشوارع الكبرى في لندن وفي صحبتها صديق لابنها فنان، وصادفتهما فتاة ودَّ الفنان الشاب لو جلست ليصورها، وطلب من الأم أن تعرض على الفتاة أمنيته هذه، ورضيت الفتاة، وكان ما تمنى الفنان، ثم كان شيء غير ذلك، كان أن رسمها أيضا «روزتي» فأحبها فتزوج منها. ولو زرت متحف الفن في لندن لوجدتها مصورةً بريشة زوجها في أوضاعٍ عدة. ولم يمضِ على هذا الزواج الذي نسجته وربطت عراه أيدي الفن عامان حتى لقيت الزوجة حتفها، ووقف الزوج الشاعر إلى جانب تابوتها وفي يده مخطوط شعره كله الذي نظمه حتى ذلك الحين، ثم قال إن في سبيلها كان ذلك الشعر قد أنشد، ومعها إلى قبرها لا بد لذلك الشعر أن يمضي، ودفن الشعر مع من أوحت به في قبر واحد. ومضت أعوام قبل أن يلحَّ الأصدقاء على «روزتي» ألا يدع تلك الدرة الثمينة في ظلمة القبر لا تشهد نور الحياة، ووافق الشاعر بعد إلحاح الأصدقاء أن يُفتَح قبر زوجته وأن تُستردَّ القصائد الدفينة بين جدرانه. وطُبع الديوان وطالعه الناس فطالعوا شعرًا جميلًا، وكان ذلك والشاعر في الثانية والأربعين من عمره. وبعد عشر سنوات أصدر ديوانًا آخر يدور معظمه على الحب، ومعظم قصائده مليئة بالمعاني إلى حدِّ الغموض؛ مما دعا الشاعر أن يعتزم شرح ديوانه بنفسه، ولو أنه لم ينفذ ما اعتزم؛ مما دعا أخاه أن ينثر ديوان أخيه ليفهم القراء معانيه!
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وأما «رحلة الأمير» فقصة تروى عن أمير بدأ رحلته في سبيل عروسه، وكان وحيدًا وكانت الطريق شاقةً مليئة بالعقبات والصعاب، والعروس من ناحيتها ترتقب قدومه في صبرٍ نافد، وحيدةً في قصرها المعزول. فيلاقي الأمير في رحلته بائعة لبن هي في حقيقتها ساحرة تعرقل له السفر، ثم يصادف رجلًا هرمًا في كهف يحاول أن يستخرج بعلمه في الكيمياء من النحاس ذهبًا. وينجح الشيخ في أن يوقف الفتى حينًا ينفخ له النار، ثم يقطع عليه الطريق بعد ذلك فيضان كاد يغرقه؛ حتى إذا ما بات على مقربة من قصر عروسه رأى جنازتها سائرة بجسدها نحو قبرها؛ فقد أضناها الانتظار حتى جاءها الموت.
ومن شعرها:
•••
(ب) القصة
(١) تشارلز دكنز Charles Dicknes (١٨١٢–١٨٧٠م)
(٢) وليم ثاكري William Thacheray (١٨١١–١٨٦٣م)
ولد «ثاكري» في كلكتا بالهند، ومات أبوه والوليد ما يزال في خامسته، فلما تزوجت أمه من غير أبيه، أُرسل إلى أرض الوطن حيث لم يلبث أن أخذ في الدراسة التي انتهت به إلى كيمبردج، لكنه غادرها ولم ينل فيها الدرجة الجامعية. وبعدئذٍ سافر إلى ألمانيا حيث طوَّف بأرجائها حينًا، ثم استقر ليأخذ في دراسة القانون، لكنه سرعان ما فقد ثروةً قليلة ورثها؛ فأصبح حتمًا عليه أن يشتغل ليكسب القوت، فأدلى بدلوه في عالم الصحافة، ولم يكفه أن يكتب ويؤجر، بل أخرج صحيفةً لنفسه وضع فيها كل ما بقي له من مال. ثم ذهب إلى باريس حيث كانت عندئذٍ أمه وزوجها يعيشان، وبدأ في دراسة فن التصوير الذي كان ينزع إليه بطبعه أكثر مما ينزع إلى الأدب، لكنه لم يطُلْ به المقام هناك، وعاد إلى لندن وألقى عصاه، لا يكاد ينقطع عن الكتابة لهذه وتلك من صحف العصر، لم يفرق بين أعلاها وأدناها.
لم يبلغ «ثاكري» أوج شهرته الأدبية إلا بعد أمدٍ طويل، وهو في ذلك يختلف عن زميله «دكنز» الذي قفز إلى الذروة بوثبةٍ واحدة. كما يختلف الأديبان في تدرج النضج الفني، فبينا تجد أدب «دكنز» أوله كآخره جودة، ترى «ثاكري» على عكس ذلك قد أخذ يتدرج نحو كماله الفني بحيث يرتفع في كل خطوة عن سابقتها. وجاوز «ثاكري» عامه الخامس بعد الثلاثين ولم يكن قد انفسح أمامه الأمل بعدُ في أن يمتاز بين الناس بأدبه.
ومن أبرز السمات التي تطبع أدب «ثاكري» أنه واضح المعالم والحدود؛ فهو في أسلوبه متميز من سواه بحيث لا تكاد تخطئه، ثم هو في شخصياته التي يخرجها أصيل لا يحاكى، ويخلق الشخصية واضحة القسمات فريدة الطباع. أسلوبه ساحر لكنه لا يسلم من الأخطاء، يكتب وكأنه يحدث شخصًا يستمع إليه، ومن هنا تراه كأنما يجيب على كل ما يعترض به محدثه؛ فكان من أثر ذلك أن جاءت عباراته كثيرة الانحناءات تنعرج يمينًا ويسارًا في سرعة تملؤها حياة، وترغم القارئ على أن يرهف السمع، وأن يكون في وعي ويقظة ليتابع المتحدث كلما انعرج به ذات اليمين أو ذات اليسار. قد تجد من الكتَّاب من يعطيك العبارة الفخمة الجزلة الرنانة المصقولة، فتستمع إليها معجبًا، لكنك لا تخلو إزاءها من الشعور بأنها تمثالٌ جميل خالٍ من الحياة، حلية للزينة لا للسير والحركة؛ وهذا ما لا تجده عند «ثاكري» الذي لا يسعك وأنت تقرؤه إلا أن تحس بأنك أمام شخصٍ حيٍّ نابضٍ متحركٍ نشيط، لست تقف إزاء أسلوبه موقف المتفرج على تحفةٍ رائعة لكنها على روعتها شيءٌ منفصل عنه، بل لا بد أن ينشأ بينك وبين ما تقرؤه تجاذب وتعاطف وتبادل أفكار.
(٣) شارلُت برنتي Charlotte Brontë (١٨١٦–١٨٥٥م)
لم تكن «أخوات برونتى» — الأخوات الثلاث — غزيرات الإنتاج، ولا هن طالت بهن الحياة ليكتبن أكثر مما صنعن، ومن هنا كانت صعوبة الناقد، ماذا كان يئول إليه أمرهن لو امتدت بهن الحياة؟ أذلك مدى نبوغهن أم كان يُنتظر لهن نبوغ فوق هذا النبوغ؟ ومهما يكن من أمرهن فقد كنَّ في وسط القرن التاسع عشر نقطة تحولت عندها القصة إلى الواقع شيئًا ما بعد إغراق في الخيال طُبع به الابتداعيون جميعًا.
وأي واقع لجأ إليه هؤلاء الأخوات؟ واقع نفوسهن وتجربتهن الشخصية، وهنا موضع براعتهن وقصورهن في آنٍ معًا؛ أما البراعة فلأن التجربة الشخصية أصدق ما تلجأ إليه من موارد القول، وأما القصور فلأنك إن قصرت نفسك على تجربتك فلا بد لك في نهاية الأمر أن تستنزف معينك وتبدأ حيث تنتهي. والأديب الفحل يستطيع أن يجد كتابًا مفتوحًا في كل شخصٍ حي إلى جواره؛ فهذه «شارلت» في قصتها «جين إير» تكاد تؤرخ حياتها في دقة توشك معها أن تسمي أشخاص قصتها بأسمائهم في الحياة، وفي قصتها «شيرلي» تصور أختها «إملي» وما تحسه نحوها من حب وغيرة.
ليس نقصًا في كاتب القصة أن يستمد من تجربته، بل حتم عليه أن يجعل تجربته الشخصية معينًا، هكذا صنع أئمة القصة في الآداب كلها. لكن كاتب القصة لا يستطيع ما يستطيعه الشاعر، وهو أن يكون قلبه معينه الأوحد، لأن ذلك ينتهي به حتمًا — كما قدمنا — إلى ضحولة وجفاف؛ فلزام عليه أن يضيف إلى نفسه نفوس من حوله، وذلك ما لم يكد يفعله الأخوات الثلاث، ونريد أن نختم حديثنا عن القصة بذكر سيدتَين أخريَين، أولاهما:
(٤) مسز جاسكل Mrs Gaskell (١٨١٠–١٨٦٥م)
وثانيتهما:
(٥) جورج إليت George Eliot (١٨١٩–١٨٨٠م)
(ﺟ) التاريخ والنقد
(١) تومس كارلايل Thomas Carlyle (١٧٩٥–١٨٨١م)
ولد لأبٍ بنَّاء، وكان أكبر أخواته التسعة. أرسله أبوه إلى مدرسة القرية، فإلى المدرسة الثانوية؛ ولما كان الفتى ذا نبوغٍ ظاهر قرر الوالد أن يبعث به إلى جامعة «إدِنْبِره» ليتلقى تعليمه العالي في الدين إعدادًا له ليكون فيما بعدُ قسيسًا. وسار الفتى على قدمَيه من بلده إلى «إدنبره» وهي مسافةٌ طولها مائة ميل، وبلغها وهو في الخامسة عشرة من عمره، لكن أين لهذا الصبي الفقير بمصروفات الجامعة؟ لا بد له أن يلجأ إلى ما يلجأ إليه أبناء الأسر الفقيرة عادة في اسكُتْلندة، وهو أن يشتغل ليكسب قوته إبان دراسته الجامعية؛ وأخذ كارلايل يشتغل بالتدريس بعض وقته، ثم ما لبث أن تبيَّن في نفسه نفورًا من هذا الذي أُريدَ له أن يدرسه؛ فانحرف عن ذلك الطريق ليكتب مقالة هنا ومقالة هناك، ثم ليدرس اللغة الألمانية. وفي هذه الدراسة كانت ولادته الأدبية؛ فقد انفتحت له آفاقٌ فسيحة حين قرأ «جيتي»، عرف أولًا كيف يصوغ إنجليزيته صياغةً ألمانية، ثم عرف ثانيًا كيف يفكر.
وآيته الكبرى هي «الثورة الفرنسية» التي قصَّ قصتها في صورةٍ حيةٍ ناصعة؛ فكارلايل مؤرخ موهوب، يبعث الحوادث والأشخاص بعثًا جديدًا، فإذا أنت إزاء حياةٍ تجري فيها الدماء وأشخاصٍ يتحركون وينشطون كما يتحرك الأحياء وينشطون. ومن خصائصه في وصف الأشخاص أنه كثيرًا ما يوفَّق إلى عبارةٍ واحدة تلخص كل شيء عن الرجل الذي هو بصدد الحديث عنه. فرغ «كارلايل» من كتابة «الثورة الفرنسية» فأعار المخطوط إلى «مِلْ» ليقرأه قبل طبعه، وحدث أن أعاره «مل» بدوره إلى سيدة تدعى «مسز تيلر» فألقت به خادمتها في النار ظنًّا منها أنه أوراقٌ مهملة! ولم يكن عند «كارلايل» نسخةٌ أخرى، ولم يستطع أن يستعيد بالذاكرة عبارةً واحدة؛ فأخذ نفسه بكتابته من جديد! ولم ينقطع أسفه على الصورة الأولى لأنها كانت في رأيه أروع، وإن تكن زوجته تخالفه الرأي في هذا، فعندها أن الصورة الثانية أقل من الأولى حيوية لكنها أكثر تنسيقًا وأنظم تفكيرًا.
في كل هذه الكتب كان «كارلايل» ذا أسلوب يستحيل أن تخطئ سماته وقسماته حتى لو لم تكن ذا درايةٍ واسعة بالأدب الإنجليزي وخصائص أساليبه، لأنه أسلوبٌ فريد في بابه؛ أسلوب يصبُّ اللغة الإنجليزية في قالبٍ تيوتونيٍّ ألماني كما قلنا؛ فهو يصف الأسماء بصفاتٍ طويلة التركيب، وهو يصوغ لنفسه أحيانًا ألفاظًا لم يعهدها الناس من قبلُ، وهو فوق كل شيء يُركِّب عباراته تركيبًا خاصًّا به، ويُنظِّم ألفاظه في عباراته تنظيمًا لا يشاركه فيه سواه، وللجُمل عنده رنين وإيقاع يضيفان مادةً جديدة إلى خصائص أسلوبه؛ وإن أنت أخطأت في أسلوبه كل هذا فلن يفوتك أن ترى بعينَيك ما عُرف به الكاتب من الإفراط في استعمال حروف التاج والفواصل، وحذف كثير من حروف العطف والضمائر وشتى الألفاظ التي يدرك أنه لو حذفها وأمعن القارئ قليلًا في معنى ما يقرأ، لاتَّضح المعنى الذي يريد.
(٢) جون رسكن John Ruskin (١٨١٩–١٩٠٠م)
كان وحيد أبيه، وأبوه تاجرٌ غني للخمور. ولم يكد يسافر هنا وهناك من أنحاء البلاد حتى أدركت نفسُه المتفتحة ما في الطبيعة من جمال وفتنة؛ لأنه كان قبل كل شيء شاعرًا مرهف الحس للجمال يبدو في شتى صوره، في الطبيعة وآيات الفن على السواء. اذكر دائمًا أنك إزاء شاعر كلما قرأت له نثرًا يصف به شيئًا أو ينقد شيئًا أدركت حقيقة الرجل في صميمها؛ فها هنا نحن بصدد رجل من المدرسة الابتداعية لا يفتنه الجمال يبدو للعين كما يفتنه الجمال يبدو للروح. هو إلى الصوفي الذي يحب في الأشياء روح الله الكامنة فيها، أقرب منه إلى العاشق الذي يحب من الأشياء ما يشبع الحواس؛ الجمال عنده — كما كان عند وردزورث — حبُّه عبادةٌ روحانية لا نشوة المخمور.
كان رسكن ناقدًا للفن، وكان رأيه أن الصورة الفنية تُقاس جودتها بمقدار ما تحمل من معانٍ. ولا شك أنه بذلك يخالف رأي أعلام الفن أنفسهم، الذين يرون القيمة معظم القيمة فيما تقتضيه الصورة من فن التصوير نفسه، بغضِّ النظر عن الموضوع الذي تعبر الصورة عن معانيه؛ فن التصوير عندهم هو قبل كل شيء وسيلة نخلق بها جمالًا، وينبغي أن يُحكَم على الصورة بما فيها من جمال؛ وإذن ﻓ «رسكن» مخطئ حين جعل قياس التقدير ما وراء الصورة من معانٍ؛ ولكننا نعود فنذكر القارئ أن رسكن لا يُقرأ لصدق آرائه، إنما يُقرأ كما يُقرأ الشاعر، يُقرأ لنرى كيف استطاع هذا القلم القدير أن يخرج شعوره الجياش أتمَّ إخراج وأكمله.
(د) الأدب الإنجليزي في أواخر القرن التاسع عشر
لما بدأ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ معه تحول في الأدب الإنجليزي، لأن الحياة الإنجليزية نفسها أخذت في التحول؛ وبهذا التحول في الحياة والأدب معًا بدأت فترة لها سماتها وخصائصها، امتدت حتى بداية الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٤م.
كان الربع الثالث من القرن التاسع عشر — الفترة ما بين ١٨٥٠ و١٨٧٥م — فترة رخاء وازدهار في إنجلترا لا تكاد تجد له مثيلًا في تاريخها، وكان من الطبيعي أن ينشأ عن هذا الرخاء والازدهار تفاؤل بالحياة عند الناس وثقة في مستقبل أمتهم؛ وإذا ما رضيت أمة عن نفسها وعن مستقبلها المأمول زال عنها القلق واستقرت، فاستقر تبعًا لذلك أدبها وركزت أوضاعها. تلك الفترة من حياة الشعب الإنجليزي والأدب الإنجليزي هي صميم العصر الفكتوري، فلما أن تقضَّت تلك الفترة الهانئة بقرارها، الراضية بمُثلها العليا؛ توالت الصدمات التي رجَّت حياة الناس رجًّا عنيفًا؛ فارتجَّت له موازين الأدب وتغيرت مجاريه.
في أول الربع الرابع من القرن ذهب عن الإنجليز رخاؤهم فذهب يقينهم بأنفسهم وثقتهم بمستقبلهم؛ فهذه صناعتهم تنافسها أممٌ أقل منهم شأنًا وتهددها على نحوٍ خطير، وهذه تجارتهم يهبط ميزانها رويدًا رويدًا، ثم هذه طبقاتهم العاملة تتأثر لذلك الكساد الاقتصادي تأثرًا شديدًا، فيسود التعطل ويعمُّ الفقر والحاجة، ويزداد الاضراب اتساعًا، وتزداد العقول ميلًا إلى الاشتراكية. بهذا كله انقضى عهدٌ ذهبي في حياة الإنجليز كان فيه النصر عليهم هينًا، وكان سبقهم في ميادين التنافس مع سائر الأمم أمرًا محققًا لا يتطلب منهم كثيرًا من عناء؛ فأي عجب إذن في أن تضطرب النفوس والعقول لهذا الأفق الذي اضطرب بعد قرار؟ وأي عجب في أن ينعكس هذا الاضطراب في شتى ألوان التعبير والتفكير؟ ثم أي عجب في أن يتجه الناس نحو إصلاح أنفسهم، والإصلاح يتطلب الخروج على الأوضاع القائمة كلها؟ فإن كان صميم العصر الفكتوري قد سايرته نزعة الاتِّزان العقلي، فطبيعي أن ينادي المصلحون بتغيير الأمر والعودة إلى سيادة العاطفة على العقل، وسيطرة الشعور على قواعد المنطق الهادئ. وها هنا تجد الأقلام متضافرةً على مهاجمة العلم في حصونه؛ فمعالجة الأمور بطرائق العلم لم تحقق للناس ما ظن الناس — مخطئين من قبلُ — أنها ستحقق لهم من سعادة وسير بالأخلاق نحو الكمال، بل الأمر على نقيض ذلك تمامًا؛ إذ جفف العلم وطرائقه نبعًا فياضًا للسعادة، وشق ينبوعًا للتمرد بالحياة والنقمة عليها. بهذا كله أخذ الناس يميلون إلى الأخذ بأحكام الغريزة قبل العقل، بالبداهة الفطرية قبل المنطق، بالنظرة الصوفية إلى الحياة قبل النظرة المادية، وبهذا الاتجاه الجديد فكر الفلاسفة وكتب الأدباء وصوَّر رجال الفن.
ولما استهلَّ القرن العشرون جاء معه لونٌ جديد من التحول؛ إذ جاء جماعة من الكتَّاب يساهمون بنصيب في الثورة على الاستقرار الذي ساد في عصر فكتوريا، لكنهم جاءوا إلى جانب ذلك مبشِّرين بدعوة إلى النشاط والحركة والتفاؤل الذي يبعث على السير نحو الإصلاح بعد وضع قواعده وأصوله؛ فهذا «كبلنج» ينادي بالتوسع الاستعماري، لا مستندًا إلى عقل ومنطق، بل مدفوعًا بشعور وعاطفة، وهذا «وِلْز» لا يدخر وسعًا في نشر مبادئ الاشتراكية أساسًا للإصلاح الاجتماعي، تحفزه إلى ذلك نفسه القلقة التي تنشد الخير.
(١) صموئيل بتلر Samuel Butler (١٨٣٥–١٩٠٢م)
بهذا الاتجاه الجديد الذي أراد أن يعلو بالحياة على المادة، وبالغريزة على العقل، وبالوجدان على قواعد المنطق، كتب «بتلر» الذي قضى شبابه في صميم العصر الفكتوري، فاستنشق شيئًا من جو الثقة بالنفس السائدة عندئذٍ، وشيئًا من النظام الذي خيم على أطراف الإمبراطورية الواسعة، لكنه استنشق ذلك الجو ليفرَّ منه، وعاش تلك الحياة ليعلن عليها الثورة والعصيان. ولو أردت عبارةً واحدة تلخص فلسفته ووجهة نظره، فتلك أنه شكاك ينشد اليقين الذي تطمئن له نفسه؛ فسرعان ما انتهت به تلك النظرة إلى أن يقف إزاء المجتمع المحيط به موقف الناقم الثائر المهاجم، لكن هجومه لم يكن بمثابة الحرب العلنية تجري على مرأى من الناس، بل كان أقرب إلى المخاتلة والاحتيال.
أعلن حربه هذه على ما حوله من دين وأخلاق وعادات، ثم أعلنها فوق كل شيء؛ على العلماء وما يبشرون به من مذاهب أخذها الغرور فظنَّت أنها بمنجًى من كل نقد وتجريح، وإنما دعاه إلى محاربة العلماء أنه إذ كوَّن لنفسه رأيًا في كل مشكلة من مشاكل العصر، نظر فإذا برأيه هذا يناهضه العلم كما عرفه العلماء إذ ذاك. وخلاصة حملته دعوة إلى الحد من العقل بحيث يعرف حدوده التي ينبغي أن يقف عندها، وإلى الاعتراف بالغريزة وما لها من حقوق.
ومن الصور الرائعة أيضًا في كتاب «إرون» تطبيقه مذهب دارون على الآلات، أليس أساس التطور تنازع البقاء وبقاء الأصلح؟ ثم أليس للأصلح الباقي السيادة على من دونه صلاحية؟ إذن فانظر إلى الآلات تجدها أقدر من الإنسان في شتى النواحي، تحسب فلا تخطئ الحساب، تنظر فلا تخطئ النظر، تطير في الجو وتغوص في الماء؛ إذن فلا بد لها في تنازع البقاء أن تبقى لأنها أصلح من الإنسان، ولا بد أن يجيء يوم يكون فيه الإنسان عبدًا للآلة، على نحو ما ترى الخيل والبغال والحمير اليوم عبيدًا للإنسان. تلك هي النتائج المنطقية لعلمٍ يأخذ بنظرية التطور، ولعصر يؤمن باستخدام الآلة في حياته على نطاقٍ واسع. كلا، العالم في تطور لكن تطوره يأخذ صورة غير هذه الصورة البشعة التي ارتآها «دارون»، هو تطور الكائن الحي الذي يختار لنفسه ما يصلح له، ليست البيئة هي التي تفرض على الكائنات ما ينبغي أن تكون عليه من هيئة وأعضاء، إنما الكائنات الحية هي التي تستغل البيئة بما لها من القدرة على تشكيل أنفسها تشكيلًا مناسبًا للظروف، ليس التطور حركةً آلية، إنما هو تطورٌ مبدعٌ خلَّاق.
أخضع «بتلر» كل شيء حوله للنقد الساخر؛ هذه الجامعات التي — في رأيه — لا تُعلِّم شيئًا ذا غناء، هذه القوانين التي تظلم وترى العدل في ظلمها، هذه الأخلاق التي تنقصها روح الفضيلة بأصح معانيها، هذه النظم الاجتماعية الفاسدة كالأسرة وما إلى ذلك؛ كل هذا في سخريةٍ عميقة تفوت القارئ العابر. فلن تجد على سطح مائه أمواجًا هائجةً مزبدة، إنما أنت منه إزاء بحرٍ هادئ فيما يبدو للعين، جياش بالتيارات العنيفة الهادمة لمن يغوص في أعماقه؛ ولذلك لم يظفر «بتلر» بإعجاب عامة القراء، ولم يعجب به إلا الخاصة المثقفة.
(٢) جورج مِرِدِث George Meredith (١٨٢٨–١٩٠٩م)
كان «مردث» — على شديد اختلافه عن زميله «بَتلَر» — ينتمي معه إلى مدرسةٍ فكريةٍ واحدة. وتستطيع أن تحدد الاختلاف بين هذين الأديبَين بأنه اختلاف في النسبة بين العناصر المكوِّنة لشخصية كلٍّ منهما، لا اختلاف في العناصر نفسها، ﻓ «مردث» من بناة الموجة الابتداعية الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن، بعد أن ساد العنصر العقلي حينًا من الدهر إبان عصر فكتوريا. هو من بناة الموجة الابتداعية الجديدة التي أرادت أن يكون للشعور الإنساني مكانته. ولا عجب؛ ﻓ «مردث» — كما ترى من تاريخ مولده — قد شهد الحياة، والأدب الابتداعي الذي أشرق وساد في أول القرن كان قد بلغ أوجه ومال به الطريق نحو الانحدار، فكأنما ترك بذرته في طبيعة هذا الأديب، وظلت البذرة كامنة حتى نضجت وآتت أكلها في أواخر القرن؟ وكذلك عاصر «مردث» موجة الأدب العقلي — إن صح لنا أن نستخدم هذا التعبير لندلَّ به على الفترة التي توسطت القرن التاسع عشر — عاصر أديبنا موجة الأدب العقلي في عصر فكتوريا، فوافقت في طبيعته وضوح الفكرة في ذهنه، لكنه مزج هذا الوضوح الفكري بحرارة الخيال، ولم يجعل العنصرَين نقيضَين إذا وُجد أحدُهما ارتفع الآخر؛ العقل عند «مردث» مهمته أن يوضح الطريق للخيال، لا أن يمسك بالخيال ويلجمه، لو ترك العقل وحده ليسود ذهبت عنا — في رأي مردث — الفاعلية والنشاط، فالعقل المنطقي يتأثر ولا يؤثر، ينفعل ولا يفعل. ولا فرق عنده بين إنسان يجمد فيه النشاط وتخمد الحيوية الفاعلة عن غيبوبةٍ عقلية وبين إنسان ينتهي إلى نفس الموقف الجامد الخامد عن وعي وتنبُّه. وإن لخصنا رسالة «مردث» كلها في عبارةٍ واحدة قلنا إنها توجيه الطعنات المتلاحقات النافذات إلى جمود تيار الحياة في الفرد أو في المجتمع؛ ذلك الجمود الذي ينشأ عادة عن الغباء أو الجهل أو آلية العمل اليومي؛ عدوُّه الألد في الإنسان هو التفكير الآلي الذي تنساب حلقاته بغير خلق وإبداع، إنه لا حياة لرجل يومه كأمسه. والدرس الذي نتلقاه عنه هو أن نكون أحرارًا بكل ما وسعت هذه الكلمة من معانٍ؛ أحرارًا في تفكيرنا فلا نقلد، أحرارًا في سلوكنا فلا نكون آلاتٍ صماء، أحرارًا في تجديد حياتنا كل يوم بالإقدام على المجهول دون أن نخشى مخاطر المغامرة، أحرارًا في استقبال الحياة مستبشرين بها مسيطرين عليها، لا أن نخشاها فلا نلبث أن نكون عبيدها الأذلاء.
و«مردث» — فوق أنه كاتب للقصة — شاعرٌ مُجيد، أحب الطبيعة حب العشق وطفق يتغنَّى بفتنتها.
(٣) تومس هاردي Thomas Hardy (١٨٤٠–١٩٢٨م)
«هاردي» هو القصصي الأكبر في الفترة التي نقدمها الآن إليك. وهو شاعرٌ نابغ وقصصيٌّ بارع على السواء، جاءنا في قصصه وفي شعره بالجديد الجيد، ولعل أوضح ما يستوقف النظر في هذا القصصي أنه كاد يحصر نفسه في إقليمٍ صغير من بلاده؛ الإقليم الجنوبي الشرقي من إنجلترا، يصف مناظر ريفه ويحلِّل أشخاصه، ومع ذلك فقد اتخذ من هذا الإقليم الريفي الصغير نافذةً أطلَّ منها على العالم الفسيح، وإذا به لا يحدثك في قصصه عن زيد وعمرو من سكان هذا الإقليم الذي عُني بدراسته، بل يقدم لك الإنسانية كلها متبلورة في زيد أو عمرو؛ فجاء ذلك مصداقًا لقول «إِمِرْسُن» بأن الطبيعة كلها تعكس نفسها في قطرةٍ واحدة من قطرات الندى.
في هذه القصص وغيرها مما جادت به قريحة هاردي، كان مدار القول دائمًا — كما قدمنا — الإقليم الريفي في الجنوب الشرقي من إنجلترا. وقد وهب الله هذا الكاتب كل ما يعينه على الوصف الدقيق الجميل، وعلى النفاذ ببصيرته إلى أعماق نفوس أهل هذا الإقليم؛ فهو يقدم لك في تحليل الخبير القدير تفصيلات الحياة التي أخذت رويدًا رويدًا تصوغ هذا الرجل أو ذاك، ثم هو يبسط أمامك ما يدور في رءوس أهل الإقليم الريفي الذي تناوله بقلمه، من آراء وعقائد. فبهذه المعرفة التامة التي أحاطت بكل دقائق الحياة هناك، أمدَّ «هاردي» قصصه بالقوة والجمال.
وكان «هاردي» — كما أنبأنا — شاعرًا إلى جانب فنه القصصي، بل كان شاعرًا قبل أن يكون قصاصًا. وأما وقد لذعه النقد الظالم في عالم القصة فقد ترك القصة وعاد أدراجه إلى الشعر ليعزف على قيثارته هادئ البال مطمئن النفس، لكنه إذ عاد إلى فنه الأول، بعد تلك الجولة الطويلة العميقة التي جالها في نفوس الناس وفي جوانب الحياة، عاد مثقلًا بعلم وخبرة، أخذ يصبُّهما اليوم في كأس الشعر.
(٤) روبرت لويس ستيفنسن Robert Louis Stevenson (١٨٥٠–١٨٩٤م)
ولد في «أدنبره» باسكُتْلندة من أسرةٍ متوسطة يشتغل بعض رجالها ببناء منائر البحر، وقد اشتغل بالكتابة منذ حداثته، وكان له خصائصُ معينة ميَّزت أسلوبه، فهو قويٌّ واضح لكن تنقصه حلاوة النغم. ومنذ حداثته ظهرت فيه موهبة الحكاية، فالقدرة على الحكاية موهبة تولد مغروزة في فطرة الموهوب، شأنها في ذلك شأن سائر المواهب الفطرية التي يهبها الله عباده المختارين.
درس ستيفنسن فن الهندسة ليكون فيما بعدُ موردًا لرزقه، فانتهى به هذا الطريق إلى فشل، ثم درس القانون وأراد أن يكسب قوته من المحاماة، وعلق على بابه لافتة، لكن بابه لم يطرقه من الزبائن سوى ثلاثة أو أربعة؛ فليفر — إذن — إلى ما أرادت له الطبيعة أن يكونه، وليحمل قلمه ليكتب استدرارًا لرزقه.
(٥) رويارد كبلنج Rudyard Kipling (١٨٦٥–١٩٣٠م)
ولد لأبٍ عالم في الآثار كان ذا صلة في زمانه بأعلى دوائر الفن والثقافة، وقد ولد في بمباي بالهند وتلقَّى تعليمه الثانوي في إنجلترا، حتى إذا ما بلغ مرحلة الجامعة آثر أن يعود إلى الهند، وكان إذ ذاك في عامه السابع عشر، فاشتغل مساعدًا لرئيس التحرير في مجلةٍ رسمية، وكان إلى جانب ذلك يُخرج آثارًا أدبية لم تزد في أول الأمر عن قطعٍ هجائية يوجهها إلى بعض من كانوا يعايشونه، وأغانٍ جماعية تكون ملهاةً للناس إذا الْتأمت منهم جماعة. ولما بلغ الثانية والعشرين سافر في أرجاء الهند والصين واليابان وأمريكا، ثم ألقى عصاه في إنجلترا حينًا استأنف بعده السفر إلى أمريكا والهند وأستراليا وزيلندة الجديدة، وعاد آخر الأمر إلى إنجلترا مرةً أخرى ليتخذ منها مستقرًّا.
وانتشر الناس في الأرض شرقًا وغربًا يبحثون عن الذهب، فالتقوا على اختلاف أجناسهم في هذا البلد أو ذاك، وبهذا امتزجت الشعوب بعضها ببعض في المدن الكبرى، فكان ذلك مظهرًا دوليًّا يؤلف في صعيدٍ واحد أجناسًا أشتاتًا، لكنه مظهر لا روح فيه، فالروح وراء ذلك وطنيةٌ إقليميةٌ متطرفة، فأفراد الشعب الواحد كانوا في هذا البحث عن الذهب يتعصبون ويتعاونون ومن ورائهم دولهم، خشية أن يلقف الغنيمة شعبٌ آخر. ذلك كان العالم الذي ارتحل في جنباته «كبلنج»؛ أفلا يمكن أن يستغل هذا الشر فإذا به خير للبشر! ذلك ما صوره الشاعر لنفسه بخياله، ولكن كيف؟ ها هنا تظهر في الأديب عنجهية وطنه، ها هنا تتبدى روح العصر من حيث حدة الشعور القومي إزاء الفكرة الدولية؛ فطريق الخير في رأي شاعرنا وأديبنا «كبلنج» هو أن تُدعَم قوائم الإمبراطورية البريطانية، لماذا؟ لأن شخصًا معنويًّا تستطيع أن تطلق عليه اسم «القانون» هو وحده السبيل إلى كل خير؛ «القانون» يرمز لتقدم المدنية، و«القانون» يضمن العدل ويقاوم الجوع والمرض؛ فمن ذا يجسد لنا «القانون» ليفعل فعله ويؤتي أكله في هذه الدنيا التي كادت تمزقها المطامع؟ تجسده — في رأي «كبلنج» — الإمبراطورية البريطانية التي يراها تغزو العالم لتُحرِّره.
لو أردت عبارةً واحدة تلخص لك أدب «كبلنج» فهي أنه حاول أن يوفق بين الفرد ودنياه التي يعيش فيها، أو قل أراد أن يعلم الإنجليزي كيف يعيش في هذا العالم الواقعي الذي يحيط به. لقد تجد من الشعراء الفحول من يؤرقه أن يرى العالم أصغر من الإنسان، فيبحث للإنسان عن شيءٍ أكبر من العالم يعيش فيه، لكن «كبلنج» لا يرى هذا الرأي؛ إن العالم في نظره فيه من الرحابة والاتساع ما يكفي كل إنسان كبر أو صغر، ومهمتنا أن نُبصِّر الأفراد بعالمهم هذا ليفهموه.