الفصل الثاني: العصر الفكتوري

وهو الثلثان الأخيران من القرن التاسع عشر

(أ) الشعر

يمثل الشعرَ في عصر فكتوريا شاعران بينهما من التفاوت ما لا تجد مثيلًا له بين شاعرَين في عصرٍ واحد، وهما «تِنِسُن» و«براوْنِنْج»؛ لكنهما على اختلافهما في طريقة الأداء يكمل أحدهما الآخر؛ الأول يغني لعاطفته والثاني يغني لعقله.

(١) ألفرد تنسن Alfred Tennyson (١٨٠٩–١٨٩٢م)

أما أولهما «تنسن» فقد وجد سبيله إلى مدرسةٍ ثانوية فإلى جامعة كيمبردج حيث ظهر نبوغه في الشعر، فظفر بجائزة من الجامعة على إحدى قصائده. وقد نُشر له أول ديوان وهو في الحادية والعشرين من عمره، ولم تكن يراعة الشاعر في هذا الديوان الأول قد ثبتت بين أنامله، وإن يكن قد أظهر براعةً فائقة في التصوير وانسجام النغم مع المنظر الذي يصوره. ثم أصدر بعد ذلك بعامَين وبعض عام ديوانًا آخر جاءت قصائده أقرب إلى الكمال من قصائد الديوان الأول. ومن أبرز قصائد الديوان الثاني قصيدة «سيدة شالُتْ»،١ ولكنه لم يكن بعدُ قد بلغ منتهي كماله، ووجَّه إليه رجال النقد طعناتٍ قاسية. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن الشاعر اهتدى بهذا النقد وأصلح من شعره، فلم تجئ حملة النقد بمثابة الصقيع الذي يفتك بالنبات قبل اكتمال نموه، بل كانت كلذعة البرد تمسُّ شجرةً أفرطت في النمو فتُمسكها ليحسن فيها الزهر والثمر فيما بعدُ. ولبث «تنسن» بعد ذلك ما يقرب من عشرة أعوام يقرض الشعر ولا ينشره، ثم نشر مجموعتَين في آنٍ واحد، إحداهما تحتوي على طائفة من قصائده القديمة، وقد راجعها وأصلحها على ضوء ما وُجِّه إليه من نقد، والأخرى مجموعة من قصائدَ جديدة، وهنا يكاد يجمع النقاد على أن الشاعر بلغ في هذه المجموعة أقصى مداه. وجاء في هذه المجموعة بعض قصائده المشهورة مثل قصيدة «يوليسيز»٢ و«موت أرثر».٣

كان العنصر الجديد في هذه المجموعة الجديدة هو السلاسة في عرض المناظر وتصويرها، ثم اتساق الأنغام في الألفاظ والجمل والأبيات والمقطوعات، بحيث تأتي موسيقى القصيدة في النهاية على أتمِّ اتفاق مع المعنى. أما براعته في التصوير فسرُّها دقة ملاحظته للطبيعة بحيث لم تفلت منه دقيقة من دقائقها. وأما روعة موسيقاه فقد أعانه فيها ضخامة ثروته اللفظية وقدرته على وزن الكلام وزنًا يخلب السمع مهما كان البحر الذي يُجري فيه قصيدته، وبخاصة في شعره المرسل غير المقفى، فهو في هذا الضرب من الشعر في سماء وحده بالقياس إلى من حاول هذا النوع من شعراء الإنجليز، لا يعلو على منزلته فيه سوى «ملتن».

لبث «تنسن» بعد ذلك خمسين عامًا يقرض الشعر الجيد، فيضيف بذلك إلى إنتاجه إنتاجًا جديدًا يزداد تنوُّعًا وكمالًا، لكنه في كل ذلك لم يكد يأتي بالجديد المبتكر من ضروب الشعر، شأنه في ذلك شأن الكثرة الغالبة من أئمة الشعر في العالم؛ فقلما يأتي الشاعر العظيم بالمبتكَر الجديد في نوعه، وهو إن جاء بشيءٍ مبتكر لم يكن من أعظم إنتاجه.

أخذ «تنسن» منذ ذلك الحين يشتهر بين القراء حتى أصبح ما يباع من دواوينه موردًا من الرزق لا بأس به، ثم أضيف إليه موردٌ جديد هو راتبٌ أجري عليه من القصر؛ ولذلك لم ينفق جهده إلا في الشعر، وظل على مهل يصقل مجموعةً أخرى لها أعظم الخطر في إنتاجه، وهي طائفة من «المراثي»، ثم أخرج قصيدة «الأميرة»٤ وهي أطول قصائده وأروع ما ظهرت فيه عبقريته في الشعر المرسل، وهي تُعدُّ من أعظم الشعر في الأدب الإنجليزي كله، وهي تمثل ضربًا من الشعر الابتداعي الطروب الذي يقابل في الشعر الاتباعي ما يسمى «بالشعر الحماسي الساخر»:٥ كلاهما يتناول موضوعًا تافهًا ويعالجه كأنه موضوعٌ هامٌّ خطير؛ فقصيدة «الأميرة» في هذا النوع في الأدب الابتداعي تقابل قصيدة «بوب» «اغتصاب الخصلة»٦ في الأدب الاتباعي، وكلٌّ منهما آية نوعها. وأخيرًا نشر الشاعر ديوانه «أناشيد المَلك»٧ الذي كفل له إمارة الشعر الإنجليزي حتى ختام حياته، وقد اتخذ الشاعر من أسطورة الملك أرثر٨ موضوعًا لهذا الديوان.

وهذه قصيدته «سيدة شالت» نسوقها مثالًا لشعره:

١

على جانبَي النهر تمتد
حقولٌ مديدة من شعير،
تكسو النجد، وبالأفق تلتقي،
وخلال الحقول يمتد الطريق
إلى ذات البروج العديدة، إلى «كاملت»،
والناس هنالك في جيئة وذهوب
يحدقون حيث السوسن عابق،
حول جزيرة ثمة في مرمى البصر؛
جزيرة «شالت».

•••

الصفصاف مبيض والرجراج مهتز،
وهبات النسائم ارتعشت قائمة
خلال الموجة التي ما تنفك تجري
في النهر جنب الجزيرة،
تجري منسابة إلى «كاملت»؛
جدرانٌ رماديةٌ أربعة وأبراجٌ رماديةٌ أربعة،
كلها تطل على فضاءٍ فسيح من زهور،
والجزيرة في سكونها تؤوي
سيدة شالت.

•••

حذاء الحاشية — والصفصاف لها قناع —
تنزلق السفائن الثقال مشدودة
إلى خيلٍ وئيد؛ ثم في غير احتفاء
مرق الزورق حريري الشراع
يطير سبحًا إلى «كاملت»
لكن من ذا رآها بيدٍ ملوِّحةً؟
من ذا رآها عند شباكها واقفة؟
بل من ذا في طول البلاد عرف
سيدة شالت؟!

•••

لا يعرفها سوى الحاصدين يحصدون عند الفجر،
يتخللون أعواد الشعير الملتحي،
وهنا يسمعون أغنية يرتد صداها مرحًا،
من النهر ينثني رائقًا
متجهًا صوب ذات البروج، صوب «كاملت»،
وعندما يضيء القمر ترى الحاصد المنهوك
يكوِّم ما ضمه فوق النجاد ذات الهواء الطليق،
تراه يصغي، ثم يهمس: «إنها ربة الفتنة»،
إنها سيدة شالت.

٢

لبثتْ هنالك تنسج بالنهار والليل
نسيجًا سحريًّا ساطع الألوان،
فقد سمعت هامسًا يقول
إن عليها اللعنة لو وقفت!
شاخصة بعينَيها إلى «كاملت»
لم تدرِ ماذا عسى اللعنة أن تكون،
فمضت في نسجها لا تني،
ليس غير النسج يشغلها
سيدة «شالت».

•••

وتحركت على مرآةٍ مجلوَّة السطح؛
مرآةٍ تدلَّت أمامها طوال العام.
أشباح العالم التي أخذت أمامها تبدو،
فرأت هنالك الطريق القريب
إذ ينثني صوب «كاملت».
وعند انثنائه تدور دوامة النهر،
وهنالك ترى أبناء الريف أجلافًا غلاظًا،
وترى البائعات حمر المعاطف
يمضين مبعدات عن «شالت».

•••

آنًا ترى جمعًا من مراح الغواني،
وآنًا ترى رئيس الدير ممتطيًا جوادًا،
ومرةً ترى الغلام الراعي أجعد الشعر،
وأخرى ترى الصبي الخادم طويل الشعر قرمزي الرداء
ماضيًا في طريقه إلى ذات البروج؛ إلى «كاملت».
وحينًا ترى في مرآتها الزرقاء؛
ترى الفرسان اثنين اثنين على الجياد
وليس لها بينهم فارسٌ مخلصٌ وفيٌّ
سيدة «شالت».

•••

لكنها في نسجها لم تزل يسرُّها
أن تنسج ما يبدو على سحريِّ مرآتها
فكم مرةٍ، خلال الأمسية الساكنة،
جاءت جنازة، فيها ريش وأضواء
وموسيقى، ماضية إلى «كاملت»!
وكم مرةٍ حين كان البدر في كبد السماء
جاء المُحبَّان تزوجا منذ قريب!
«لقد أوشكت بالأشباح أن يضيق صدري» هكذا قالت
سيدة «شالت».

٣

وقاب قوس من سقف مخدعها
جاء راكبًا بين أكوام الشعير،
وسطعت الشمس خلال أوراق الشجر،
وانعكس بريقها على درع ساقَيه؛
ساقي الباسل «سير لانسِلُت».
فارس شارته الصليب الأحمر لم ينفك جاثيًا
أمام سيدة وهو مدَّرِع
درعًا تلألأ على الحقل الأصفر
بجوار القصر البعيد، قصر «شالت».

•••

وتلألأ في الفضاء سرجه ذو اللآلئ
كأنه جمع من النجوم نراه
عالقًا في المجرة الذهبية،
ورنَّت أجراس السرج في مرح
إذ هو في طريقه إلى «كاملت».
ومن نجاده المزركش تدلَّى
بوقٌ فضيٌّ ثقيل،
وبينا هو راكب شنت عدته
بجوار القصر البعيد، قصر «شالت».

•••

كان الجو أزرق صافيًا
فأضاء سرجه المغطى باللآلئ،
ولمعت فوق رأسه الخوذة وريشتها،
سطع كلاهما معًا كأنهما الشعلة اندلعت،
بينا هو راكب نحو «كاملت».
وكثيرًا ما حدث خلال الليل الأرجواني
تحت عناقيد النجوم اللألاءة
أن هوى في السماء جرمٌ مضيء يجرُّ وراءه ذيلًا من ضياء
هوى في السكون الشامل حول «شالت».

•••

أشرق في ضوء الشمس جبينه الوضَّاء العريض،
وعلى السنابك الصقيلة خطر الكميُّ،
وفاضت من أسفل خوذته
ذوائب شعره الفاحم بينا هو راكب؛
راكب صوب «كامِلُتْ».
من الشط حينًا ومن النهر حينًا
لمع ضوءه على بلور مرآتها،
وحذاء النهر أخذ يغني
«سير لانْسِلُتْ»

•••

تركت نسجها، تركت منوالها،
خطت في الغرفة ثلاثًا من خطواتها،
رأت سوسن الماء مزدهرًا
رأت خوذة الفارس وريشتها؛
شخصت بعينها صوب «كامِلُتْ».
طار النسج في الهواء سابحًا،
انشقت المرآة شقًّا فادحًا،
«لقد حلت بي اللعنة!» هكذا صاحت
سيدة شالُتْ.

٤

الرياح الشرقية العاصفة تدوي،
والغابات الشاحبة الصفراء تذوي،
والمجرى العريض على شطآنه يشكو،
والسماء الوطيئة أمطارها هطالة
فوق أبراج «كامِلُتْ».
وجاءت هابطة فوجدت زورقًا
تحت صفصافة على الماء طافيًا،
فحوْلَ حيزومه كتبت
«سيدة شالُتْ».

•••

وعلى امتداد النهر ما امتد قاتمًا —
كأنها النبي المقدام في ذهوله
يرى كل ما سوف يصيبه من سوء —
شخصَتْ وعلى محياها بريقٌ آسن؛
شخصت إلى «كاملت».
وعندما غاب النهار
أرخت لزورقها الرباط وانطرحت،
وحملها المجرى العريض بعيدًا بعيدًا
سيدة شالُتْ.

•••

وبينا هي راقدة في ثوبها الأبيض الناصع
الذي رفَّ في الهواء يمينًا وشمالًا،
وأوراق الشجر تسَّاقطُ عليها خفافًا،
ومن حولها لغط المساء
طافت صوب «كاملُتْ».
وبينا شق زورقها الماء بحيزومه
خلال الحقول، حذاء التلال غطاؤها الصفصاف،
غنت آخر أغانيها، وسمعها الناس تغني
سيدة شالُتْ.

•••

سمعوا نشيدًا حزينًا عليه جلال،
تنشده في صوتٍ عالٍ مرةً، ومرةً في صوتٍ خفيض،
وأخذت دماء عروقها تجمد رويدًا رويدًا،
وأظلم في عينَيها الضياء،
وهي ما تزال مصوَّبة نحو «كاملُتْ»،
إذ قبل أن يطفو بها الماء
إلى أول دار على شاطئ النهر
ماتت وهي تغني نشيدها
سيدة شالُتْ.

•••

تحت البرج والشرفة
وحذاء البهو وحائط البستان
مرَّت طافية في محياها الوضيء
مرَّت — وعليها شحوب الموت — بين شاهق الدور
صامتة نحو «كاملت».
وجاء الجمع مندفعًا إلى مرفأ النهر؛
جاءوا فارسًا وحاكمًا، سيدة وسيدًا،
وعلى الحيزوم قرءوا اسمها
«سيدة شالت».

•••

من هذه؟ ماذا نرى؟
وفي القصر القريب المضاء
سكتتْ أصوات المرح الطروب،
وكلهم رسموا الصليب على صدورهم فزعًا
كل الفرسان في «كاملت».
أما «لانْسِلُتْ» فظل يخطو مفكرًا
قال: «إن لها لوجهًا فاتنًا!
يا رحمة الله تنزلي عليها
سيدة شالت.»

(٢) روبرت براوننج Robert Browning (١٨١٢–١٨٨٩م)

ولد «براوننج» في ضاحية إلى الجنوب من لندن، ولم يتلقَّ دراسةً منظمة ولا هو ممن تخرجوا في أكسفورد أو كيمبردج؛ لذلك تراه على الرغم من سعة اطلاعه وحسن تذوِّقه لما قرأ، كانت تنقصه لمسة العلماء التي تميَّز بها معاصره «تِنِسُنْ»، ومع ذلك فقد كانت لشعره خصائص وسماتٌ لا تكاد تخطئها من أول قصيدةٍ نظمها إلى آخر إنتاج أخرجه، ذلك لو استثنينا بعض إنتاجه الغثِّ الذي لم يقصد به إلى شيء سوى أن يُطعِم جمهرةً من القراء أرادت أن تقرأ لبراوننج حين اتسعت شهرته كائنًا ما كان الموضوع أو الأسلوب.

كانت باكورة شعره قصيدة «بولين»٩ أنشأها في عامه التاسع عشر، ونُشرت وهو في الحادية والعشرين، وهي وإن لم تبلغ حد الكمال بالقياس إلى نتاجه المتأخر، إلا أن عليها طابعه الشعري الذي لم يفارق قلمه حتى النهاية، وهو في القالب المسرحي الذي عرفت به الكثرة الغالبة من شعره؛ فالقصيدة عند «براوننج» قطعةٌ تمثيلية يدور فيها الحوار، لكنها مع ذلك لم تُكتَب للمسرح بل لا تصلح للمسرح؛ إذ قد يكون فيها شخصٌ واحد، ثم قد تخلو من الحوادث خلوًّا تامًّا، لكنها عندئذٍ تغوص في تحليل هذا الشخص الواحد الذي تدور حوله القصيدة، فكأنما خواطره يحاور بعضها بعضًا، وكأنما نفسه تنحلُّ إلى نفوسٍ عدة تبيُّن تركيب شخصيته في شتى ظلالها وأضوائها. وعقب الشاعر على قصيدته تلك بقصيدة «باراسِلسَسْ»١٠ التي فاقت زميلتها جمالًا، وتقدمت عليها خطوةً نحو القالب المسرحي الذي أشرنا إليه، فها هنا لم يعد الشاعر يتحدث عن أشخاصه، بل ترك الأشخاص تعبر عن نفسها.
بهاتين القصيدتَين وضع «براوننج» خطة مستقبله الشعري كله، وإلَّا يكن قد ظفر بالإعجاب منذ باكورة نتاجه، فقد أخذ المعجبون يزدادون، وأخذ صوته بين القراء يتسع، وظل رجال النقد على شيء من الحيرة أيُثبتونه في قائمة الشعراء أم يتمهَّلون، حتى أخرج للناس ديوانه «نَوَّارٌ ورمان»١١ فقطع عندهم حبل الشك، وبات — عند أشد النقاد ترددًا وتحفظًا — بين الشعراء الذين لا ريبة في صدق شعرهم، وكان عمره إذ ذاك نحو الثلاثين، ثم ظهرت له بعد ذلك مجموعة أطلق عليها «غنائيات مسرحية»١٢ أجرى فيها القصائد على نمطه المعروف؛ وعندئذٍ تزوج الشاعر من شاعرة معروفة «اليصابات براوننج» وأخرج قطعتَين جميلتَين «وقفة عيد الميلاد ويوم شم النسيم»١٣ و«رجال ونساء»،١٤ ثم ماتت زوجته واضطرب إنتاجه، وبعدئذٍ أصدر «شخصيات مسرحية»١٥ الذي يُعدُّ آخر نتاجه العظيم. ولسنا نستطيع أن نختم القول في تفصيل قصائده الكبرى دون أن نذكر له قصيدتَي «جيمزلي»١٦ و«الحَبر ابن عزرا»١٧ اللتين تُعدَّان من أعظم ما أنتجه القرن التاسع عشر كله من شعر.

طريقة «براوننج» في إنشاء القصيدة هي أن يتخذ شخصيةً معينة أو حكاية بذاتها، ويرجَّها رجًّا عنيفًا ليفرق عناصرها ويشرِّحها تشريحًا ليعرض لك أعضاءها عضوًا عضوًا دون أن يعينك على تركيب هذه الأعضاء في النهاية جسمًا مترابط الأجزاء. وأما طريقته في الأداء فهي النَّظم المرسل الذي لا قافية فيه. وكثيرًا ما ينحطُّ نظمه إلى مستوى النثر من حيث الإيقاع والرنين، أو ينقص جماله بما يصطنعه أحيانًا من ألاعيب في تركيب ألفاظه، وقد لا تجد في نظمه في بعض المواضع ما يغريك بالإعجاب، وعلى الرغم من أنه لا يكاد يخطئ في قواعد العروض إلا أنك تحس في أمثال هذه المواضع أن شيئًا ينقص هذا الكلام الذي أنت بصدده ليكون شعرًا له في الأذن وقع الشعر.

لقد قال عنه ناقد حين كان يرثيه عند موته، إنه كان «شاعر الحب»؛ فدهش الناس لهذا الوصف يُنعَت به هذا الشاعر الذي لم يمجد فيه أنصاره ومريدوه سوى فكره وفلسفته! كيف يكون شاعر الحب هذا الذي نراه يضرب بعقله في أغوار موضوعه، هذا الذي ترك لزميله «تِنِسُنْ» أن يعبر عن عواطف العصر ليتولى هو التعبير عن نزعاته العقلية؟ لكن الناقد سرعان ما تبعه آخرون، ثم لم يلبث الآخرون أن لحق بهم آخرون حتى أصبح «براوننج» في تاريخ الأدب من شعراء الحب في غير ريبة ولا جدل. لماذا؟ لأنه لم يفتأ يبشر بقوة الحياة وعنفوان الحياة وانتصار الحياة وظفرها على كل ما يقف في سبيلها من جمود. لم تُذكِّره الشيخوخة الموت بل بامتداد الحياة، ولم يُذكِّره الفشل بالفناء بل بالنجاح يُكتَب آخر الأمر للأحياء. لقد كان «براوننج» شاعر الحب حين كان اللسان الناطق بقوة الحياة وتيارها الزاخر، وربما أصاب شوقي حين قال إن «الحياة الحب والحب الحياة.»

وهاك بعضَ قصيدته «الحبر ابن عزرا» مثالًا لشعره:

شِخْ معي عجوزًا حَمَل السنينا،
أفضل العمر أعوام بقينا،
هي للعمر انتهاء، ومن أجل النهاية كان ابتداء؛
أعمارنا في يدَيه (أي في يدي الله)
يدَي الذي يقول: «أردت أن يكون العمر كلًّا بجزأيه،
وما الشباب إلا نصفٌ، فتوكل على الله، لا تخف وأقدم لتخبر الكُلَّا.»

•••

لست أنتقص شبابًا يقول في صوت المتنهد
— إذ يجمع الزهر أكداسًا — أين فيك يا زهر ما يكون وردتي،
أي سوسنة أخلِّي لتكون لي موضع الذكرى؟
لست أنتقص شبابًا يدعو بصوت الطامح المتحرِّق
— إذ يجعل النجم نبراسًا — ولا بالمشتري أنا قانع ولا بالمريخ المتألِّق،
وليكن نجمي نجمًا يضم ويعلو الأنجم الأخرى!

•••

لست أشكو في الشباب آمالًا وآلامًا
تفسد أعوامه، وأقصر بهن أعوامًا؛
فذلك حمق لا أرتضيه،
بل إني لأحمد في الإنسان هذ القلق
فلم يخلق الحيوان الأدني بمثل هذا القلق،
خلق الحيوان طينًا له منتهًى وحدود، لم تُنْفَخْ فيه شرارة تشقيه.

•••

ألا ما كان أكذبها حياةً حين تزدهي!
لو لم يخلق الإنسان إلا ليشتهي
متعته، لو كان مخلوقًا ليسعى فيجد القوت فيطعم.
فإذا ما فرغ الطعام
كان في ذاك الختام.
وهل يشقي الهم طيرًا مليء الحويصلة؟ هل يضني الشك وحشًا جوفه أُفعِم؟

•••

وافرحتا! إننا الآن نقترب
من الله الذي يهبُ
ولا يرجو، يؤثِّر وليس عليه مؤثِّر؛
شرارة في طينة أجسادنا تحركها
فتدنو بها نحو خالقها
المعطي وهم إليه في فقر.

•••

إني لأرحب بالصدمات من دهري،
تجعل سير الحياة يسرًا بعد عسر،
أرحب بكل لسعة منه تحفزني: لا تقعدْ، لا تقفْ، بل واصل الدأبا.
ليت غبطتنا أن يكون ثلاثة أرباعها وصبًا!
اكدح، واسترخص في سبيل كدحك النَّصَبَا.
تعلم، لا يوقفنَّك رهق؛ غامر، لا تشكونَّ التعبا.

(٣) ماثيو آرنلد Matthew Arnold (١٨٢٢–١٨٨٨م)

أما وقد فرغنا من نابغتَي الشعر في عصر فكتوريا، وهما «تِنِسُنْ» و«براوْنِنْج» فقد بقي علينا أن نذكر شاعرَين آخرَين أو ثلاثة جاءوا في الشطر الثاني من العصر، ولم يكونوا من تفاهة الشأن بحيث لا يجدون مكانًا في هذا التاريخ.

ومن هؤلاء «ماثيو آرنلد» الذي عُرف شاعرًا وناقدًا، وهو في شعره أقل إنتاجًا وأقصر مدًى من زميلَيه «تنسن» و«براوننج»، ولكن لعله أوضح منهما دلالة على ما تعاور العصر من تحلُّل في قوة الإيمان؛ فهو — مثل «براوننج» — قد انغمس في الحياة الاجتماعية حتى أعماقها، لكنه لم يحاول — كما فعل «براوننج» — أن يدخل هذه الحياة الاجتماعية في شعره، وجعل ميدان ذلك نثره الذي يدل على بصيرةٍ نافذة، وملاحظةٍ دقيقة، وتحليلٍ بارع لكل ما يدور في العقل الإنساني من خواطر ونزعات.

تلقى أول مراحل تعليمه في مدرسة «رَجْبي» التي لا يزال ذكرها يدوِّي في كتب التربية بفضل المشرف عليها إذ ذاك، وهو «تومس آرنلد» والد الشاعر، فالولد والوالد كلاهما ممن تحتفظ لهم إنجلترا في العهد الفكتوري بالفضل العظيم. ثم استأنف «ماثيو» دراسته في أكسفورد حيث برز ودلَّ على قدرة ونبوغ جعلاه موضع التكريم من الجامعة. ثم غادر أكسفورد ليشتغل بالتدريس حينًا ثم عُيِّن كاتمًا لسر وزير المعارف في عهده، ولم يلبث أن نُصِّب مفتشًا للتعليم، وفي هذا المنصب قضى خمسة وثلاثين عامًا كان له فيها اليد الطولى في كثير من الإصلاح، ولا تزال كتبه وتقاريره في شئون التربية مما يشار إليها بالإجلال والتقدير. ومات في نحو الخامسة والستين من عمره وهو لم يزل شابًّا في روحه وتفكيره وطلاوة حديثه، فقد قال عنه عارفوه إنه كان نعم الصديق المهذَّب الوفي المرح.

كان لأبيه بيت في منطقة البحيرات قريب من موطن «وردزورث» فكان «ماثيو» يقضي عطلاته المدرسية مع أبيه في هذا البيت؛ وبهذا أُتيح له أن ينظر بعينَيه ما كان «وردزورث» قد رأى من مفاتن الطبيعة، وأن يسمع بأذنَيه ما كان «وردزورث» قد سمع من أنغامها، فلا عجب أن رأيناه فيما بعدُ يقدم للعالم «وردزورث» مشروحًا منقودًا ليفتح الأعين والآذان لما في شعره من جمال، ولا شك أن قد كان لهذا كله أثره العميق في شعره كلما شعر.

كان «ماثيو آرنلد» متزمِّتًا في نشر شعره، حريصًا على ألا يبدو للجمهور إلا وهو في كماله، وكان ينشر دواوينه أول الأمر دون أن يذكر اسمه على غلافها، مكتفيًا بأن يقول «بقلم أ.» صنع ذلك مرتَين متواليتَين، ثم حدث فيما بعدُ أن جمع قصائد الديوانَين في ديوانٍ واحد وأصدره باسمه كاملًا، وأضاف بعض القصائد الجديدة التي لم تكن قد نشرت، أهمها «زهراب ورستم»١٨ ثم عقب على هذا الديوان بديوانٍ آخر.
عُيِّن «ماثيو آرنلد» بعد ذلك أستاذًا للشعر في أكسفورد، ولما كان في عامه الثالث بعد الأربعين أصدر كتابه المشهور «مقالات في النقد»١٩ الذي قيل في التعليق عليه إن «آرنلد» لم يكن في هذا الكتاب ناقدًا للأدب وكفى، بل علَّم الناس كيف ينقدون؛ إنه وضع للنقد أصولًا وقواعد حتى لم يعد عذر لمن قرأ كتابه هذا ألا يكون ناقدًا.

كان «ماثيو آرنلد» يتخذ لنفسه مكانًا وسطًا بين الشك والإيمان، فلا هو بالشكَّاك الذي يهدم العقائد بجرة من قلمه، ولا هو بالمؤمن الذي يعتقد بغير تفكير وتردد؛ لذلك كنت تراه يكثر التأمل في العقائد السائدة، لعله يستطيع أن يتبين فيها الصحيح والباطل، فكل قارئ من هؤلاء الذين يتشكَّكون ولكنهم لا ييئسون، يتشككون وفي أنفسهم رغبةٌ صادقة أن يجدوا ما هو جدير بالإيمان الصحيح، كل قارئ من هؤلاء سيجد التعبير عن وساوس نفسه في شعر «ماثيو آرنلد».

استمع إليه يقول في قصيدته «ساحل دوفر»٢٠ حين استثار صوت البحر تأملاته:
إن «بحر الإيمان»
كان ذات يوم مثلك يا بحر مترعًا حتى حوافيه، وكان يمتد
حول شطآن الأرض كأنه الثنايا في ثوبٍ ناصعٍ مطوي.
أما الآن فلست أسمع
إلا زئيره الكئيب ذا الصوت المديد الرهيب،
أسمع زئيره ينسحب ليتصل بأنفاس
رياح الليل التي تهبُّ على أطراف الأرض الفسيحة المخيفة،
وعلى الفيافي البلقع من أصقاع الأرض؛
إيه يا حب! لنخلص الود

•••

أحدنا للآخر! فهذا العالم الذي أراه
يمتد وراءنا كأنه أرض الأحلام
في تنوعه وجماله وجِدَّته
ليس يحتوي في حقيقته على هناءة أو حب أو ضياء،
ليس يحتوي على يقين أو سلام أو معونة عند الألم،
ونحن ها هنا كأننا على سهلٍ معتم
شاع فيه مضطرب المفازع من عراك وقتال،
حيث الجحافل الغاشمة يصدم بعضها بعضًا في ديجور المساء!

(٤) تشارلز سونبرن Charlss Swinburne (١٨٣٧–١٩٠٩م)

هذا رجلٌ فريد في شخصيته، فريد في شعره؛ أبواه من علية القوم، لم يشذَّا في وجه من وجوه الحياة، أما الابن فقد جاء ذا شذوذ يستوقف النظر، شذوذ في هيئة جسمه وشذوذ في سلوكه؛ فيروى عنه أنه كان يساكن قسيسًا وزوجته، وذات مساء حلا له أن يقرأ لهما روايةً تمثيلية كتبها، فوجَّه إليه القسيس نقدًا في بعض أجزائها؛ فما هو إلا أن حدج الشاعرُ بنظره فترة، ثم صرخ صرخةً داوية وأسرع إلى غرفته في الطابق العلوي، حيث ضم مخطوط روايته إلى صدره، وظل يذرع الغرفة جيئةً وذهوبًا، وعبثًا حاولت زوجة القسيس أن ينزل لعشائه، ولبث طول الليل في غرفته يتحرك ويحدث أصواتًا تدل على حالةٍ عصبيةٍ شديدة، خشي الزوجان أن تؤدي به إلى خطر. فلما أن كان الصباح استيقظ متأخرًا ونزل شاحب اللون، ولما هم القسيس أن يعتذر عما بدر منه، أجابه الشاعر بأنه أشعل نارًا في مدفأته وأحرق الرواية كلها ورقةً ورقة، فارتاع القسيس لهذا النبأ، فقال له الشاعر: «لا عليك فقد سهرت الليل كله وكتبت الرواية من ذاكرتي مرةً أخرى.» ذلك هو الرجل العجيب الذي أراد له الله أن ينشد للناس شعرًا عجيبًا.

في نحو الثلاثين من عمره ظهر له ديوان «قصائد وحكايات منظومة».٢١ الذي لو لم يكن له سواه لضمن له المجد في دولة الشعر؛ لكنه قوبل بالسخط لأنه — في رأي القوم عندئذٍ — قد خرج عن مألوف القول العفِّ، والعصر الفكتوري معروف بتمسك أهله بكثير من آداب القول والسلوك في المجتمع؛ فاضطر الناشر أن يجمعه من المكتبات، فتصدى لإصداره ناشرٌ آخر. ومن القصائد التي عُدَّتْ إفكًا وعارًا قصيدة «دولورس»٢٢ التي رمز بها «سونبرن» للنساء اللاتي يستخدمن جمالهن ليجذبن المحبين إلى قضائهم المحتوم، مع أن الشاعر قد رمى بها إلى غايةٍ خلقية — ذلك لو طالبنا الشاعر أن تكون له غايةٌ سوى التعبير عما يجيش في نفسه كائنًا ما كان — إذ أراد أن يبين أن أمثال هؤلاء النسوة ينتهين مع ضحاياهن إلى نفس الهاوية:
جفونٌ باردة تخفي — كالجوهر المكنون —
عيونًا صلابًا تلين سويعة،
وأطرافٌ بيضٌ ثقال، وفم
أحمر قاسٍ كأنه الزهرة المسمومة؛
إن ذهبت هذه عنكِ وذهبت معها مفاتنكِ
فماذا يبقى عندئذٍ لديكِ يا «دولورس»؟
ثم صدر له ديوانٌ آخر عنوانه «أناشيد الفجر»،٢٣ وعقَّب عليه بحلقةٍ أخرى من «قصائد وحكاياتٍ منظومة» وهو أقل جودة من الجزء الأول. ثم أخذ بعد ذلك يصدر منظوماتٍ طويلةً واحدة في إثر واحدة، تدهورت فيها شاعريته رويدًا رويدًا؛ فقد بقي له اللفظ سلسًا دفاقًا، لكن غابت عنه موسيقاه، وهي التي وضعته في الصف الأول من شعراء الإنجليز. وإذ كان إنما يمتاز بموسيقاه، نرى عبثًا أو كالعبث أن نترجم له مختارات من شعره؛ لأننا إن فقدنا في الترجمة نغمات ألفاظه وأوزانه فقد فقدنا كل شيء. ومع ذلك فهذه أمثلة من شعره، من قصيدة «أغنية المسير»٢٤ التي يصحُّ أن يتغنى بها قادة الإنسانية في سيرها نحو الكمال:
نحن أخلاط من شتى البلاد،
مرادنا بالسير غرض قصي،
في القلوب والشفاه والأيدي
عدتنا: عسكر وقسيٌّ.
ضياؤنا تخبو له الشمس والبدر والكوكب الدريُّ.

•••

ضياؤنا لا يعتوره توهج وأفول
مع السنين، وكلما دارت في السماء أفلاكها،
الزعازع لا توهي ولا تديل
قوةً وحدت في الشعلة أجزاءها،
شعلة تستمد لنا الضوء من روح ربها.
وهذه «منظومة أرض الأحلام»:٢٥
أخفيت قلبي في عش من ورود،
أخفيته هنالك من أشعة الشمس،
أرقدته على فراش أندى من القطن المندوف،
تحت الورود أخفيت قلبي.
لماذا لا يأخذه النعاس؟ لماذا ينتفض يقظان
وليس على شجرة الورد ورقة تتحرك؟
ما الذي جعل النعاس يرفُّ بجناحَيه مبعدًا عني؟
لعلها أنشودة طائرٍ خفي!

•••

قلت يا قلب اسكن إن الريح أرخت جناحَيها،
والأوراق الحنون تردُّ عنك شعاع الشمس إن قسا.
اسكن يا قلب فقد غفت الريح على البحر الدفيء؛
الريح التي هي أشد منك قلقًا!
أفيك يا قلب فكرة تؤرقك كأنها وخزة الشوك؟
أما تزال تتحرق لآمال عنك تنأى؟
ماذا يبعد الكرى عن جفنَيك؟
لعلها أنشودة طائرٍ خفي!

•••

أرض الأحلام السندسية اسمها مغلق بطلسمٍ سحري
لم يره قط رحالة مخطوطًا على مصوره،
وعلى أشجارها الشهد كأنه الفاكهة الشهية
لم تعرفه قط أسواق البائعين بين السلع،
وعصافير الأحلام تنطق على مروجها المعتمة،
وأنغام النعاس تنبعث من أعالي الشجر،
ليس ثمة كلب للصيد يوقظ بنباحه الظبي في الغابة،
ليس ثمة إلا أنشودة طائرٍ خفي!

•••

في عالم الأحلام اخترتُ موضعي،
حيث أغفو من الدهر حينًا لا أسمع لفظًّا
عن حقيقة الحب الحق، أو فنون الحب الطائش،
لا أسمع إلا أنشودة طائرٍ خفي.

(٥) دانتي جبرائيل روزتي Dante Gabriel Rossetti (١٨٢٨–١٨٨٢م)

ولد «روزتي» في لندن لأبٍ شاعر كان أستاذًا للأدب الإيطالي في جامعة لندن؛ وحسبك أن تلقي نظرةً على صورته لتعلم أن شاعرنا تجري في عروقه الدماء الإيطالية؛ فهو إنجليزي في رُبعه، إيطالي في ثلاثة أرباعه. وكانت أخلاق أوروبا الجنوبية باديةً في شخصيته وسلوكه، تراها واضحة في سرعة انقلابه وحدة انفعاله؛ فهو الآن يضحك من كل قلبه كأنه الطفل الغرير، وهو الآن في ثورة من الغضب لا يستطيع كبح جماحها.

كان «روزتي» شاعرًا ومصوِّرًا في آنٍ معًا، وبدت فيه مخايل الفنَّين إذ كان غلامًا في عامه الخامس عشر. ولم تكتمل سنته الحادية بعد العشرين حتى كان الفتى مصوِّرًا معروفًا يرسم بريشته لوحات عليها طابعه ولا يدرك غايتها منافس. وكذلك لم تكتمل سنته الحادية بعد العشرين حتى كان الفتى شاعرًا معروفًا ينشد القصائد عليها سمته، وتجد مكانها بين جيد الشعر. بل كان الفتى أكثر من مصور وشاعر؛ كان زعيمًا لمدرسة في الفن ألَّف أعضاءها ورسم لها الطريق، يتلخص برنامجها في محاولة رسم الطبيعة بكل تفصيلاتها. وللمصادفة أحيانًا تدبيرٌ محكم؛ فقد تصادف أن كانت أُمُّ شاعرنا الفنان تسير في أحد الشوارع الكبرى في لندن وفي صحبتها صديق لابنها فنان، وصادفتهما فتاة ودَّ الفنان الشاب لو جلست ليصورها، وطلب من الأم أن تعرض على الفتاة أمنيته هذه، ورضيت الفتاة، وكان ما تمنى الفنان، ثم كان شيء غير ذلك، كان أن رسمها أيضا «روزتي» فأحبها فتزوج منها. ولو زرت متحف الفن في لندن لوجدتها مصورةً بريشة زوجها في أوضاعٍ عدة. ولم يمضِ على هذا الزواج الذي نسجته وربطت عراه أيدي الفن عامان حتى لقيت الزوجة حتفها، ووقف الزوج الشاعر إلى جانب تابوتها وفي يده مخطوط شعره كله الذي نظمه حتى ذلك الحين، ثم قال إن في سبيلها كان ذلك الشعر قد أنشد، ومعها إلى قبرها لا بد لذلك الشعر أن يمضي، ودفن الشعر مع من أوحت به في قبر واحد. ومضت أعوام قبل أن يلحَّ الأصدقاء على «روزتي» ألا يدع تلك الدرة الثمينة في ظلمة القبر لا تشهد نور الحياة، ووافق الشاعر بعد إلحاح الأصدقاء أن يُفتَح قبر زوجته وأن تُستردَّ القصائد الدفينة بين جدرانه. وطُبع الديوان وطالعه الناس فطالعوا شعرًا جميلًا، وكان ذلك والشاعر في الثانية والأربعين من عمره. وبعد عشر سنوات أصدر ديوانًا آخر يدور معظمه على الحب، ومعظم قصائده مليئة بالمعاني إلى حدِّ الغموض؛ مما دعا الشاعر أن يعتزم شرح ديوانه بنفسه، ولو أنه لم ينفذ ما اعتزم؛ مما دعا أخاه أن ينثر ديوان أخيه ليفهم القراء معانيه!

قال في قصيدته «العذراء المباركة»:٢٦
العذراء المباركة أطلَّت برأسها
في السماء عبر الحاجز الذهبي؛
كانت عيناها أعمق من البحر العميق
إذا ما سكنت ساعة الغروب،
وكان في يدها ثلاث سوسنات
وفي شعرها أنجم سبعة.

•••

ذلك الحاجز يمتد في السماء عبر غمر
من الأثير، كأنه الجسر؛
وفي أسفله ترى مدَّ النهار وجَزْر الليل
يتتابعان من نور وظلام، فيكونان
للخلاء إطارًا؛ في أسفله حيث هذه الأرض
تدور حول نفسها كأنها الحشرة الغاضبة.

•••

ومن مقامها في السماء رأت
الزمن — كأنه النبض — يهتزُّ في عنف
خلال سائر الأكوان؛ وظلت تجاهد بنظراتها
أن تعبر بها فجوة الخليج،
ثم قالت في صوتٍ رخيم
كأنه ألحان الكواكب في دورات الفلك:

•••

سيقدم إليَّ حبيبي وجلًا، وسيكون من خوفه معقود اللسان؛
عندئذٍ سأضع خدي
على خده وأقصُّ عليه قصة حبنا،
حبنا الذي عفَّ عن الخجل ولم يعتره الضعف مرة،
وستصادف عزة نفسي من «أمنا» العزيزة
قبولًا، وستأذن لي بالكلام.

•••

ستأخذنا بنفسها ونحن سائران يدًا في يد
إلى «الله» الذي حول عرشه تجثو
أرواح العباد؛ وحيث الرءوس الطاهرة التي لا حصر لعدها
تنحني وحولها هالات من النور،
فإذا ما التقت بنا الملائكة غنَّت
الألحان والأناشيد.

•••

حدقت بنظرها وأصغت ثم قالت
في صوت تغلب على نغمته الحزينة رقَّته:
«سيحدث هذا كله عند مقدمه.» وأمسكت عن الحديث
واهتزت موجات الضياء تجاهها
وعليها الملائكة صفوفًا صفوفًا سابحين،
وخشعت عيناها لله وابتسمتْ.

•••

«ورأيت ابتسامتها» وسرعان ما
غمض أمام عيني طريقهم في الأفلاك النائية،
ثم طوَّحت بذراعَيها حذاء
الحواجز الذهبية،
ووضعت وجهها بين كفَّيها
وبكت «وسمعت بكاءها».
وكان للشاعر أختٌ شاعرة تصغره بعامَين، هي «كرستينا روزتي»،٢٧ التي عاشت حياتها في عزلة، يفيض منها الشعر كأنه الماء ينبثق من نبعه؛ مما ينهض حجةً على فطرتها الشاعرة. فمن رأي «فيكتور هيجو» أن قول الشعر إما يسيرٌ وإما مستحيل ولا وسط بين الطرفَين، ومن رأي «كيتس» أنه إذا لم يُفِض الشعر بطبيعته كما تُورِق الشجرة بطبيعتها فخير للشاعر ألا يحاول الشعر إطلاقًا، ولو أخذنا سهولة فيض الشعر مقياسًا للشاعرية لما وجدت أشعر من «كرستينا روزتي» أخرجت ديوانَين، الأول: «سوق العفاريت وقصائد أخرى».٢٨ والثاني: «رحلة الأمير»؛٢٩ وهي في قصيدة «سوق العفاريت» التي سمَّت باسمها الديوان الأول تروي قصة فتاتَين قابلتا جماعةً من العفاريت إلى جانب مجرى ماء في غابة، واشْتَرَتا منهم بخصلةٍ من الشعر الذهبي عددًا من الفاكهة السحرية، أكلت منها إحداهما ورفضت الأخرى؛ أما التي أكلت الفاكهة فأخذت تذبل وتذوي؛ مما دعا أختها، رغم ما كان يملأ قلبها من رعب وخوف، أن تعود إلى جماعة العفاريت فتظفر منهم بدواء يردُّ للبنت المسحورة العافية.

وأما «رحلة الأمير» فقصة تروى عن أمير بدأ رحلته في سبيل عروسه، وكان وحيدًا وكانت الطريق شاقةً مليئة بالعقبات والصعاب، والعروس من ناحيتها ترتقب قدومه في صبرٍ نافد، وحيدةً في قصرها المعزول. فيلاقي الأمير في رحلته بائعة لبن هي في حقيقتها ساحرة تعرقل له السفر، ثم يصادف رجلًا هرمًا في كهف يحاول أن يستخرج بعلمه في الكيمياء من النحاس ذهبًا. وينجح الشيخ في أن يوقف الفتى حينًا ينفخ له النار، ثم يقطع عليه الطريق بعد ذلك فيضان كاد يغرقه؛ حتى إذا ما بات على مقربة من قصر عروسه رأى جنازتها سائرة بجسدها نحو قبرها؛ فقد أضناها الانتظار حتى جاءها الموت.

ومن شعرها:

إذا مِتُّ يا حبيبي
فلا تغنِّ من أجلي حزين الغناء،
لا تزرع عند رأسي ورودًا،
كلا ولا السَّرْو الظليل،
فحسبي أخضر العشب فوق رأسي
بليلًا بقطرات المطر والندى،
وإن شئت فاذكرني،
وإن شئت فانسني،

•••

لن أرى بعدُ الظلالا،
لن أحسَّ بعدُ المطر،
لن أسمع بعدُ صوت البلبل
إذ يغني كأنما يبث الألم،
فبينا أنا حالمة في شفق
لا يعقبه شروق أو غروب
ربما عاودتني الذكرى
وربما طال نسياني.

(ب) القصة

(١) تشارلز دكنز Charles Dicknes (١٨١٢–١٨٧٠م)

قل ما شئتَ فيما أنتجه القرن التاسع عشر من شعر وتاريخ، وقل ما شئت فيما أنتجه من أدب النقد وأدب المقالة، فسيتخذ القرن التاسع عشر مكانته في تاريخ الأدب باعتباره عصر القصة، ذلك إن أردت أن تجمع القرن كله في حكمٍ واحد. وحسبك أن تذكر أنه عصر شهدت فاتحته «سير وولتر سكُتْ» وأنتجت أواسطه «تشارلز دكنز» و«وليم ثاكري»٣٠ اللذين يوضعان في طليعة الطليعة من كتَّاب القصة في الأدب الإنجليزي.
ولد «تشارلز دكنز» عام ١٨١٢م في «بورتسموث» من أب كان يشتغل كاتبًا في أرصفة الميناء، ولم يلبث أبوه أن فقد مورد رزقه هذا؛ مما انتهى بالأسرة إلى كثير من ألوان العسر والعناء، ووجد هذا صداه في صدر أديبنا حين حمل القلم ليكتب؛ فأبوه هو «مستر مِكُوبَر»٣١ تلك الشخصية الرائعة التي صوَّرها «دكنز» في قصة «ديفد كُبَرْفيلد»٣٢ التي تُعدُّ من خيرة إنتاجه، والتي هي إلى حدٍّ كبير ترجمة لحياته.
لم يتلقَّ «تشارلز دكنز» تعليمًا مدرسيًّا منظمًا، إنما لقف العلم من هنا وهناك، ثم كان مصدر معرفته فوق كل شيء هذا الذي لاحظه بعينَيه من حياة الناس في الطرقات والدور. ولما بلغ السابعة عشرة من عمره استُخدم مخبرًا لإحدى الصحف، لكنه لم ينشر شيئًا قبل سنته الثانية والعشرين؛ وبعدئذٍ أخذ يبعث للمجلات الأدبية مقالاتٍ يغلب عليها الوصف والخيال. جُمعت فيما بعدُ، وأطلق عليها: «صور بريشة بُز»٣٣ ثم بدأ بعد ذلك بقليل في نشر «صحائف بِكْوِك»٣٤ التي كتبت له الشهرة والذيوع في عالم الأدب، ودرَّت عليه مالًا جعله منذ ذلك الحين في ميسرة من العيش حتى ختام حياته، وقد جاء هذا الختام لحياته بغتة في شهر يوليو من عام ١٨٧٠م، وهو أكمل ما يكون في قواه العقلية، وأوسع ما يكون الأديب شهرة بين أهل عصره.
وأهم ما خلفه لنا «دكنز» غير ما ذكرنا: «أولفر توِسْت»٣٥ و«حانوت التحف»٣٦ و«مارتن تشَزِلْوِت»٣٧ و«قصة مدنيتَين»٣٨ و«آمال ضخام».٣٩ ولأديبنا «دكنز» حسنات ومساوئ، كلاهما واضح لا ينكره إلا مغرض؛ ففي القدرة على الوصف، وبخاصة وصف مناظر المدن، ليس له بين رجال القلم ضريب، لو صوَّر لك لندن بطرقها ودكاكينها وضبابها، أو لو صور لك دخيلة منزل أو غرفة لما تركك في حيرة أأنت بصدد وصفٍ مقروء أم واقعٍ منظورٍ ملموس! ثم هو لا يقدم لك مناظره هذه خاويةً خالية من آهليها، بل يملؤها لك بالشخصيات ذوات الطوابع المميزة التي تجعلهم أحياءً بين الأحياء، ثم هو يحمل هذه الصورة التي رسمها، وهذه الشخصيات التي تعمرها وتحييها، فيحيطها لك بإطار من فكاهة هو في فنِّها علم من أعلامها. لكنك لا تعدم ناقدًا يتوجه نحو ذلك كله بنقده فيقول: إن الصورة لا شك في صدقها، وإن الأشخاص لناسٍ أحياء، لكن الكل في مجموعه أقرب إلى عالمٍ خيالي نسجه الكاتب على منوال يختلف عن المنوال الذي تنسج الحياة الواقعة عليه ديباجتها. ومهما يكن من أمر فقد كان المحيط الاجتماعي الذي يتحرك فيه خيال الكاتب هو القسم الأدنى من الطبقة الوسطى، برع في تصويره براعةً جعلت حياة هذه الطبقة ماثلة في أذهان القراء، وحفزت أولي الأمر في عصره على إصلاح الفاسد من تلك الحياة. والعجيب أنه إذا ما حاد قيد أنملة عن هذا المحيط الاجتماعي في قصصه، كان المخطئ العاجز الذي لا يكاد يقول صوابًا؛ وفي هذا أكبر سيئات فنه. وربما وجدت بين النقاد المعجبين من يزعم لك أن «دكنز» قصر فنَّه على أهل طبقته لأنه لم يرد أن يخوض في سائر الطبقات، ولو أراد لمهر، لكن ذلك دفاع العين الراضية التي هي عن كل عيب كليلة؛ لأن «دكنز» حاول أن يجاوز حياة الطبقة الدنيا من الطبقة الوسطى فكان نصيبه الفشل، وجاءت شخصياته في هذا الباب أمساخًا لا تجد لها حياةً واقعة تحيا فيها وتتحرك. وكذلك مما يؤخذ على «دكنز» أنه لم يكن برجل الفكر الذي تَدِقُّ عنده الفكرة وتعلو، وأن قدرته كلها تكاد تتركز في نوعٍ واحد من الناس، بل في سنٍّ واحدة هي سن الشباب. وآياته الكبرى بين إنتاجه العظيم، ثلاث، هي: «صحائف بِكْوِك» و«ديفد كُبَرْفيلد» و«آمال ضخام».

(٢) وليم ثاكري William Thacheray (١٨١١–١٨٦٣م)

ولد «ثاكري» في كلكتا بالهند، ومات أبوه والوليد ما يزال في خامسته، فلما تزوجت أمه من غير أبيه، أُرسل إلى أرض الوطن حيث لم يلبث أن أخذ في الدراسة التي انتهت به إلى كيمبردج، لكنه غادرها ولم ينل فيها الدرجة الجامعية. وبعدئذٍ سافر إلى ألمانيا حيث طوَّف بأرجائها حينًا، ثم استقر ليأخذ في دراسة القانون، لكنه سرعان ما فقد ثروةً قليلة ورثها؛ فأصبح حتمًا عليه أن يشتغل ليكسب القوت، فأدلى بدلوه في عالم الصحافة، ولم يكفه أن يكتب ويؤجر، بل أخرج صحيفةً لنفسه وضع فيها كل ما بقي له من مال. ثم ذهب إلى باريس حيث كانت عندئذٍ أمه وزوجها يعيشان، وبدأ في دراسة فن التصوير الذي كان ينزع إليه بطبعه أكثر مما ينزع إلى الأدب، لكنه لم يطُلْ به المقام هناك، وعاد إلى لندن وألقى عصاه، لا يكاد ينقطع عن الكتابة لهذه وتلك من صحف العصر، لم يفرق بين أعلاها وأدناها.

لم يبلغ «ثاكري» أوج شهرته الأدبية إلا بعد أمدٍ طويل، وهو في ذلك يختلف عن زميله «دكنز» الذي قفز إلى الذروة بوثبةٍ واحدة. كما يختلف الأديبان في تدرج النضج الفني، فبينا تجد أدب «دكنز» أوله كآخره جودة، ترى «ثاكري» على عكس ذلك قد أخذ يتدرج نحو كماله الفني بحيث يرتفع في كل خطوة عن سابقتها. وجاوز «ثاكري» عامه الخامس بعد الثلاثين ولم يكن قد انفسح أمامه الأمل بعدُ في أن يمتاز بين الناس بأدبه.

ثم دارت عجلة الزمان بعد ذلك ودار معها حظ الأديب، وكانت نقطة التحول ثلاثة مؤلفات أخرجها فغيَّرت وضعه في أعين القراء والنقاد، أهمها جميعًا «سوق الغرور»٤٠ التي أرغمت رجال النقد إرغامًا أن يعترفوا لها بالجودة والنبوغ؛ وحُكم لثاكري في نهاية الأمر أنه في القصة من الطراز الأول، وعادت عليه «سوق الغرور» فوق الشهرة بمال يسَّر له سبل العيش. وبعدئذٍ أخذت جياد قصصه تترى، فهذه «بِنْدِنْس»٤١ وهذه «إِزْمُنْد»٤٢ إلى آخر ما أخذ يخرجه حتى نهاية حياته من جيدٍ ممتاز.

ومن أبرز السمات التي تطبع أدب «ثاكري» أنه واضح المعالم والحدود؛ فهو في أسلوبه متميز من سواه بحيث لا تكاد تخطئه، ثم هو في شخصياته التي يخرجها أصيل لا يحاكى، ويخلق الشخصية واضحة القسمات فريدة الطباع. أسلوبه ساحر لكنه لا يسلم من الأخطاء، يكتب وكأنه يحدث شخصًا يستمع إليه، ومن هنا تراه كأنما يجيب على كل ما يعترض به محدثه؛ فكان من أثر ذلك أن جاءت عباراته كثيرة الانحناءات تنعرج يمينًا ويسارًا في سرعة تملؤها حياة، وترغم القارئ على أن يرهف السمع، وأن يكون في وعي ويقظة ليتابع المتحدث كلما انعرج به ذات اليمين أو ذات اليسار. قد تجد من الكتَّاب من يعطيك العبارة الفخمة الجزلة الرنانة المصقولة، فتستمع إليها معجبًا، لكنك لا تخلو إزاءها من الشعور بأنها تمثالٌ جميل خالٍ من الحياة، حلية للزينة لا للسير والحركة؛ وهذا ما لا تجده عند «ثاكري» الذي لا يسعك وأنت تقرؤه إلا أن تحس بأنك أمام شخصٍ حيٍّ نابضٍ متحركٍ نشيط، لست تقف إزاء أسلوبه موقف المتفرج على تحفةٍ رائعة لكنها على روعتها شيءٌ منفصل عنه، بل لا بد أن ينشأ بينك وبين ما تقرؤه تجاذب وتعاطف وتبادل أفكار.

ولئن كان «دكنز» مصور الطبقة الدنيا في عصره، فقد كان «ثاكري» مصور الطبقة العليا، وإن خلد «دكنز» في تاريخ الأدب بشخصية مثل «مستر مِكُوبر» فسيخلد «ثاكري» بهذه الشخصية البديعة الرائعة، شخصية «بِكي شارب»٤٣ في قصته «سوق الغرور».

(٣) شارلُت برنتي Charlotte Brontë (١٨١٦–١٨٥٥م)

اخترنا «شارلُت» عنوانًا لهذا القسم، لكننا نريد أن نكتب عن الأخوات الثلاث معًا: «شارلت» و«إمِلي»؛٤٤ و«آن»٤٥ فهؤلاء الأخوات الثلاث مما يستوقف نظر القارئ لتاريخ الأدب، لأنهن مثالٌ نادر لتشابه أفراد الأسرة الواحدة في النبوغ؛ إذ برعن جميعًا في كتابة القصة، بل كان لهن أكبر الأثر في أن تتخذ القصة من بعدهن اتجاهًا جديدًا.
أخرج الأخوات الثلاث متعاونات أول ما أخرجن ديوانًا مشتركًا، وضعن عليه ثلاثة أسماء غير أسمائهن، فلم يدعُ هذا الديوان إلى نقد ولا تعليق، لأنه لم يكن ذا قيمة تستحق الذكر في معظم أجزائه؛ فحاول الأخوات بعدئذٍ أن يتجهن بأقلامهن نحو القصة، وهنا وجدن أنفسهن على حقيقتها؛ فكتبت «شارلت» قصة «الأستاذ»،٤٦ وكتبت «إملي» قصة «مرتفعات وُذَرِنْج»،٤٧ وكتبت «آن» قصة «أجير وِلْدِفل»؛٤٨ ومن هذه القصص جميعًا كانت قصة «إملي» أروعها وأبرعها، فلا «آن» قد لحقت بأختها نبوغًا، ولا «شارلت» قد أظهرت كل نبوغها المنتظر في قصتها «الأستاذ»، ثم أخرجت «شارلت» بعدئذٍ قصة «جين إير»٤٩ ثم قصتَين هما «شيرلي»٥٠ و«فيلت».٥١

لم تكن «أخوات برونتى» — الأخوات الثلاث — غزيرات الإنتاج، ولا هن طالت بهن الحياة ليكتبن أكثر مما صنعن، ومن هنا كانت صعوبة الناقد، ماذا كان يئول إليه أمرهن لو امتدت بهن الحياة؟ أذلك مدى نبوغهن أم كان يُنتظر لهن نبوغ فوق هذا النبوغ؟ ومهما يكن من أمرهن فقد كنَّ في وسط القرن التاسع عشر نقطة تحولت عندها القصة إلى الواقع شيئًا ما بعد إغراق في الخيال طُبع به الابتداعيون جميعًا.

وأي واقع لجأ إليه هؤلاء الأخوات؟ واقع نفوسهن وتجربتهن الشخصية، وهنا موضع براعتهن وقصورهن في آنٍ معًا؛ أما البراعة فلأن التجربة الشخصية أصدق ما تلجأ إليه من موارد القول، وأما القصور فلأنك إن قصرت نفسك على تجربتك فلا بد لك في نهاية الأمر أن تستنزف معينك وتبدأ حيث تنتهي. والأديب الفحل يستطيع أن يجد كتابًا مفتوحًا في كل شخصٍ حي إلى جواره؛ فهذه «شارلت» في قصتها «جين إير» تكاد تؤرخ حياتها في دقة توشك معها أن تسمي أشخاص قصتها بأسمائهم في الحياة، وفي قصتها «شيرلي» تصور أختها «إملي» وما تحسه نحوها من حب وغيرة.

ليس نقصًا في كاتب القصة أن يستمد من تجربته، بل حتم عليه أن يجعل تجربته الشخصية معينًا، هكذا صنع أئمة القصة في الآداب كلها. لكن كاتب القصة لا يستطيع ما يستطيعه الشاعر، وهو أن يكون قلبه معينه الأوحد، لأن ذلك ينتهي به حتمًا — كما قدمنا — إلى ضحولة وجفاف؛ فلزام عليه أن يضيف إلى نفسه نفوس من حوله، وذلك ما لم يكد يفعله الأخوات الثلاث، ونريد أن نختم حديثنا عن القصة بذكر سيدتَين أخريَين، أولاهما:

(٤) مسز جاسكل Mrs Gaskell (١٨١٠–١٨٦٥م)

التي كانت صديقة «شارلُتْ برونْتي» والتي أرَّخت لحياتها؛ فقد استطاعت في قصتها «مارية بارتُن»٥٢ أن تصور الحياة في المدن الصناعية الواقعة في شمالي إنجلترا أبدع تصوير وأصدقه. وبعد سنواتٍ خمس من إخراج قصتها تلك، أصدرت خير آثارها الأدبية؛ قصة «كرانفورد»،٥٣ وفيها أبدعت ريشتها لوحةً دقيقة للحياة العائلية في إنجلترا إبان القرن التاسع عشر.

وثانيتهما:

(٥) جورج إليت George Eliot (١٨١٩–١٨٨٠م)

وهي امرأة تستَّرت في قصصها وراء اسم من أسماء الرجال، فهي «مارية آن إيفنز»٥٤ لكنها نشرت قصصها باسم «جورج إلْيَتْ».
بدأت الكاتبة حياتها الأدبية بترجمة عن الألمانية، فنقلت «حياة المسيح» للكاتب الألماني «ستراوُسْ»؛٥٥ ثم اشتغلت محررةً في مجلةٍ أدبية وكان أهم ما تنشره أدبًا ألمانيًّا مترجمًا أو تعليقًا على الأدب الألماني. وقد كانت كاتبتنا عميقة الثقافة واسعة الأفق، لكنها في الوقت نفسه لم تكن على كثير من الجمال. ومما يجدر ذكره عنها أن «هربرت سبنسر» الفيلسوف الإنجليزي، قال في ترجمة حياته التي كتبها بقلمه إنه فكر في الزواج منها، لكنه على الرغم من أنه فيلسوف يحب في زوجته أن تكون على شيء من الجمال. وانتهى أمر «مارية» أن تعيش مع ناقدٍ أدبي في بيتٍ واحد عيش الصديقَين، ثم تزوجت آخر الأمر بعد وفاة صديقها الناقد، ولم يطل زواجها أكثر من عام وبعض عام لأن حياتها لم تطل أكثر من ذلك.
كان أول ما أخرجته «مارية» باسمها المستعار «جورج إلْيَتْ» قصة نشرتها تباعًا في مجلةٍ أدبية، ثم أخرجت بالاسم نفسه خير قصصها «آدم بيد»٥٦ وفيها انتفعت بخبرتها الواسعة بالناس وحياتهم في وسط إنجلترا، وصورت حياتهم في شيء من الفكاهة التي تعطف على من تصف دون أن تسخر منهم. ومن قصصها المشهورة أيضًا: «مصنع الحرير»؛٥٧ التي درست فيها علاقة أخ بأخته. ولها طائفةٌ أخرى من القصص؛ بهذه تصور عهدها، وبتلك تصور عصر النهضة الإيطالية، وبثالثة تصور علاقة زوجة بزوجها، وهكذا. ومما هو جدير بالذكر أنها كانت في قصصها الأولى أجود منها في قصصها الأخيرة.

(ﺟ) التاريخ والنقد

(١) تومس كارلايل Thomas Carlyle (١٧٩٥–١٨٨١م)

ولد لأبٍ بنَّاء، وكان أكبر أخواته التسعة. أرسله أبوه إلى مدرسة القرية، فإلى المدرسة الثانوية؛ ولما كان الفتى ذا نبوغٍ ظاهر قرر الوالد أن يبعث به إلى جامعة «إدِنْبِره» ليتلقى تعليمه العالي في الدين إعدادًا له ليكون فيما بعدُ قسيسًا. وسار الفتى على قدمَيه من بلده إلى «إدنبره» وهي مسافةٌ طولها مائة ميل، وبلغها وهو في الخامسة عشرة من عمره، لكن أين لهذا الصبي الفقير بمصروفات الجامعة؟ لا بد له أن يلجأ إلى ما يلجأ إليه أبناء الأسر الفقيرة عادة في اسكُتْلندة، وهو أن يشتغل ليكسب قوته إبان دراسته الجامعية؛ وأخذ كارلايل يشتغل بالتدريس بعض وقته، ثم ما لبث أن تبيَّن في نفسه نفورًا من هذا الذي أُريدَ له أن يدرسه؛ فانحرف عن ذلك الطريق ليكتب مقالة هنا ومقالة هناك، ثم ليدرس اللغة الألمانية. وفي هذه الدراسة كانت ولادته الأدبية؛ فقد انفتحت له آفاقٌ فسيحة حين قرأ «جيتي»، عرف أولًا كيف يصوغ إنجليزيته صياغةً ألمانية، ثم عرف ثانيًا كيف يفكر.

لما بلغ «كارلايل» عامه الثلاثين جاء إلى لندن مربيًا لأولاد أحد الأغنياء، ولم يمضِ طويلُ وقت حتى صادف من أصبحت له فيما بعدُ شريكة حياته؛ وبعد زواجه سافر إلى «إدنبره» حيث أخذ يكتب في النقد الأدبي، لكن الزوجَين لم يجدا هنالك ما يقتاتان به فعادا أدراجهما إلى لندن، ومن ثم أخذ يخرج نتاجه الأدبي، «الثورة الفرنسية»٥٨ و«فلسفة الملابس»٥٩ و«الأبطال وعبادة البطولة»٦٠ و«الماضي والحاضر»٦١ و«خطابات أولفر كرمْوِل وخطبه»٦٢ و«تاريخ فردريك الأكبر».٦٣

وآيته الكبرى هي «الثورة الفرنسية» التي قصَّ قصتها في صورةٍ حيةٍ ناصعة؛ فكارلايل مؤرخ موهوب، يبعث الحوادث والأشخاص بعثًا جديدًا، فإذا أنت إزاء حياةٍ تجري فيها الدماء وأشخاصٍ يتحركون وينشطون كما يتحرك الأحياء وينشطون. ومن خصائصه في وصف الأشخاص أنه كثيرًا ما يوفَّق إلى عبارةٍ واحدة تلخص كل شيء عن الرجل الذي هو بصدد الحديث عنه. فرغ «كارلايل» من كتابة «الثورة الفرنسية» فأعار المخطوط إلى «مِلْ» ليقرأه قبل طبعه، وحدث أن أعاره «مل» بدوره إلى سيدة تدعى «مسز تيلر» فألقت به خادمتها في النار ظنًّا منها أنه أوراقٌ مهملة! ولم يكن عند «كارلايل» نسخةٌ أخرى، ولم يستطع أن يستعيد بالذاكرة عبارةً واحدة؛ فأخذ نفسه بكتابته من جديد! ولم ينقطع أسفه على الصورة الأولى لأنها كانت في رأيه أروع، وإن تكن زوجته تخالفه الرأي في هذا، فعندها أن الصورة الثانية أقل من الأولى حيوية لكنها أكثر تنسيقًا وأنظم تفكيرًا.

أما كتابه «فلسفة الملابس» فهو أكثر مؤلفاته تأثرًا بالروح التيوتونية في أسلوبه وهو في هذا الكتاب يعرض رأيه بأن العمل واجبٌ مقدس على الإنسان، وبأن احتمال المكاره في سبيله فرضٌ واجب، وليست السعادة التي ننشدها جميعًا إلا شعور الاطمئنان الذي نُحسُّه إذا ما أدينا واجبًا: «بارك اللهم فيمن وجد عملًا يؤديه، إن في هذا وحده البركة التي لا بركة وراءها تُرجى.» إن العمل المتقن معناه النظام، والنظام شيء تمناه «كارلايل» لبلاده بل للإنسانية جمعاء، متأثرًا في ذلك بما درس من الأدب الألماني والروح الألماني؛ فلن تفهم «كارلايل» حق الفهم إلا إذا وضعت نصب عينيك أنه ألماني الثقافة، ألماني التفكير. ولقد قيل إن إنجلترا في عصر فكتوريا كانت ألمانية النزعة والاتجاه بتأثير الملكة فكتوريا نفسها وزوجها الألماني، لكنها كانت كذلك أيضًا بتأثير «كارلايل» الذي كان له من الأثر على معاصريه ما لم يكن لكاتبٍ آخر في عهده. نقول إنه في كتابه «فلسفة الملابس» عرض فلسفته هذه في صورة حديث عن الملابس يجري على لسان أستاذٍ ألماني متقلب الأهواء.٦٤
وكتابه عن «الأبطال» يصوِّر البطولة في شتى نواحيها؛٦٥ بطولة الحرب وبطولة الدين وبطولة الشعر وهكذا. وهو في عبادته للبطولة وإيمانه بها يبشر بالفلسفة الألمانية أيضًا؛ تلك الفلسفة التي كان «نيتشه» بعد ذلك لسانها الناطق، وهذه نزعة — ولا شك — تناقض الاتجاه الديمقراطي، لأنها لا تؤمن بقدرة العامة، وتضع أملها في النوابغ وحدهم. والحق أنه إذا سادت في أمةٍ رغبةٌ نحو تمجيد البطل ووضع قيادها كله في يده، فقلَّ أن تنجح؛ لأنها — أولًا — من العسير أن تجد البطل المنشود، وثانيًا في بحثها عن بطلها تقتل كل بطولة في شعبها بمجموعه. وهو في كتاب «الماضي والحاضر» يُعيد إلى الحياة حياة القرن السابع عشر الذي كان في رأيه عصر بلاده الذهبي. ثم هو في كتاب «فردريك الأكبر» يُظهِر روحه الألماني من جديد؛ مما جعله يتخذ من هذا الحاكم الألماني بطلًا يشيد به.

في كل هذه الكتب كان «كارلايل» ذا أسلوب يستحيل أن تخطئ سماته وقسماته حتى لو لم تكن ذا درايةٍ واسعة بالأدب الإنجليزي وخصائص أساليبه، لأنه أسلوبٌ فريد في بابه؛ أسلوب يصبُّ اللغة الإنجليزية في قالبٍ تيوتونيٍّ ألماني كما قلنا؛ فهو يصف الأسماء بصفاتٍ طويلة التركيب، وهو يصوغ لنفسه أحيانًا ألفاظًا لم يعهدها الناس من قبلُ، وهو فوق كل شيء يُركِّب عباراته تركيبًا خاصًّا به، ويُنظِّم ألفاظه في عباراته تنظيمًا لا يشاركه فيه سواه، وللجُمل عنده رنين وإيقاع يضيفان مادةً جديدة إلى خصائص أسلوبه؛ وإن أنت أخطأت في أسلوبه كل هذا فلن يفوتك أن ترى بعينَيك ما عُرف به الكاتب من الإفراط في استعمال حروف التاج والفواصل، وحذف كثير من حروف العطف والضمائر وشتى الألفاظ التي يدرك أنه لو حذفها وأمعن القارئ قليلًا في معنى ما يقرأ، لاتَّضح المعنى الذي يريد.

(٢) جون رسكن John Ruskin (١٨١٩–١٩٠٠م)

كان وحيد أبيه، وأبوه تاجرٌ غني للخمور. ولم يكد يسافر هنا وهناك من أنحاء البلاد حتى أدركت نفسُه المتفتحة ما في الطبيعة من جمال وفتنة؛ لأنه كان قبل كل شيء شاعرًا مرهف الحس للجمال يبدو في شتى صوره، في الطبيعة وآيات الفن على السواء. اذكر دائمًا أنك إزاء شاعر كلما قرأت له نثرًا يصف به شيئًا أو ينقد شيئًا أدركت حقيقة الرجل في صميمها؛ فها هنا نحن بصدد رجل من المدرسة الابتداعية لا يفتنه الجمال يبدو للعين كما يفتنه الجمال يبدو للروح. هو إلى الصوفي الذي يحب في الأشياء روح الله الكامنة فيها، أقرب منه إلى العاشق الذي يحب من الأشياء ما يشبع الحواس؛ الجمال عنده — كما كان عند وردزورث — حبُّه عبادةٌ روحانية لا نشوة المخمور.

رأى «رسكن» في رسوم «تيرنر»٦٦ التي صوَّر بها مناظر الطبيعة، جمالًا له من السحر ما للطبيعة نفسها، فاتجه إلى دراسة هذا المصور الفنان واتخذ منه أساس مذهبه، فمذهبه واقعي يريد لنا أن ننقل الطبيعة بحذافيرها نقل الأمين، مع اعترافه في الوقت نفسه بتفاهة شأن الدقائق والتفصيلات في ذاتها. وقد يبدو في هذا شيء من التناقض يزول بعد شرحٍ قليل: الفن على اختلاف صوره ينبغي أن يُعنى بالفرد لا بالعناصر المشتركة بين الأفراد، يحلل زيدًا أو عمروًا باعتباره فردًا له خصائصه التي «يتفرَّد» بها، ولما كان زيد أو عمرو إنما «يتفرد» بتفصيلات يختلف فيها عن سواه من الرجال، كانت مهمة الأديب أن يتتبع هذه التفصيلات التي تجعل له فرديته متميزة من سواه. وقل مثل هذا في كل شيء تُعنى به الفنون، سواء أكان منظرًا يصوره الرسام، أو موقفًا يصفه القصصي، أو شعورًا يعبر عنه الشاعر؛ إذن فالتفصيلات هي بغية الفن، لا مقصودةً لذاتها، بل لأنها هي وسيلة تصوير الأشياء الفردة في الحياة.
درس أديبنا فن «تيرنر» لأنه رأى فيه تعبيرًا عن نفسه، وأخرج المجلد الأول من مؤلفه العظيم «المصورون المحدثون»٦٧ ثم أخرج «أحجار البندقية»٦٨ الذي يُعدُّ أعظم مؤلفاته، وهو دراسة لشتى آثار الفن في البندقية. وبعدئذٍ أخذ يصدر كتبًا صغيرة يكتب فيها عن كل شيء، فهو يكتب في الاقتصاد حينًا، وفي العلم حينًا، وفي الفن حينًا ثالثًا، على أنها جميعًا تسري فيها روحه، فلن تجد عنده فكرًا دقيقًا عميقًا، لكنك ستجد شعورًا قويًّا وتعبيرًا رائعًا، ستجده في كل ما كتب شاعرًا.

كان رسكن ناقدًا للفن، وكان رأيه أن الصورة الفنية تُقاس جودتها بمقدار ما تحمل من معانٍ. ولا شك أنه بذلك يخالف رأي أعلام الفن أنفسهم، الذين يرون القيمة معظم القيمة فيما تقتضيه الصورة من فن التصوير نفسه، بغضِّ النظر عن الموضوع الذي تعبر الصورة عن معانيه؛ فن التصوير عندهم هو قبل كل شيء وسيلة نخلق بها جمالًا، وينبغي أن يُحكَم على الصورة بما فيها من جمال؛ وإذن ﻓ «رسكن» مخطئ حين جعل قياس التقدير ما وراء الصورة من معانٍ؛ ولكننا نعود فنذكر القارئ أن رسكن لا يُقرأ لصدق آرائه، إنما يُقرأ كما يُقرأ الشاعر، يُقرأ لنرى كيف استطاع هذا القلم القدير أن يخرج شعوره الجياش أتمَّ إخراج وأكمله.

(د) الأدب الإنجليزي في أواخر القرن التاسع عشر

لما بدأ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ معه تحول في الأدب الإنجليزي، لأن الحياة الإنجليزية نفسها أخذت في التحول؛ وبهذا التحول في الحياة والأدب معًا بدأت فترة لها سماتها وخصائصها، امتدت حتى بداية الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٤م.

كان الربع الثالث من القرن التاسع عشر — الفترة ما بين ١٨٥٠ و١٨٧٥م — فترة رخاء وازدهار في إنجلترا لا تكاد تجد له مثيلًا في تاريخها، وكان من الطبيعي أن ينشأ عن هذا الرخاء والازدهار تفاؤل بالحياة عند الناس وثقة في مستقبل أمتهم؛ وإذا ما رضيت أمة عن نفسها وعن مستقبلها المأمول زال عنها القلق واستقرت، فاستقر تبعًا لذلك أدبها وركزت أوضاعها. تلك الفترة من حياة الشعب الإنجليزي والأدب الإنجليزي هي صميم العصر الفكتوري، فلما أن تقضَّت تلك الفترة الهانئة بقرارها، الراضية بمُثلها العليا؛ توالت الصدمات التي رجَّت حياة الناس رجًّا عنيفًا؛ فارتجَّت له موازين الأدب وتغيرت مجاريه.

في أول الربع الرابع من القرن ذهب عن الإنجليز رخاؤهم فذهب يقينهم بأنفسهم وثقتهم بمستقبلهم؛ فهذه صناعتهم تنافسها أممٌ أقل منهم شأنًا وتهددها على نحوٍ خطير، وهذه تجارتهم يهبط ميزانها رويدًا رويدًا، ثم هذه طبقاتهم العاملة تتأثر لذلك الكساد الاقتصادي تأثرًا شديدًا، فيسود التعطل ويعمُّ الفقر والحاجة، ويزداد الاضراب اتساعًا، وتزداد العقول ميلًا إلى الاشتراكية. بهذا كله انقضى عهدٌ ذهبي في حياة الإنجليز كان فيه النصر عليهم هينًا، وكان سبقهم في ميادين التنافس مع سائر الأمم أمرًا محققًا لا يتطلب منهم كثيرًا من عناء؛ فأي عجب إذن في أن تضطرب النفوس والعقول لهذا الأفق الذي اضطرب بعد قرار؟ وأي عجب في أن ينعكس هذا الاضطراب في شتى ألوان التعبير والتفكير؟ ثم أي عجب في أن يتجه الناس نحو إصلاح أنفسهم، والإصلاح يتطلب الخروج على الأوضاع القائمة كلها؟ فإن كان صميم العصر الفكتوري قد سايرته نزعة الاتِّزان العقلي، فطبيعي أن ينادي المصلحون بتغيير الأمر والعودة إلى سيادة العاطفة على العقل، وسيطرة الشعور على قواعد المنطق الهادئ. وها هنا تجد الأقلام متضافرةً على مهاجمة العلم في حصونه؛ فمعالجة الأمور بطرائق العلم لم تحقق للناس ما ظن الناس — مخطئين من قبلُ — أنها ستحقق لهم من سعادة وسير بالأخلاق نحو الكمال، بل الأمر على نقيض ذلك تمامًا؛ إذ جفف العلم وطرائقه نبعًا فياضًا للسعادة، وشق ينبوعًا للتمرد بالحياة والنقمة عليها. بهذا كله أخذ الناس يميلون إلى الأخذ بأحكام الغريزة قبل العقل، بالبداهة الفطرية قبل المنطق، بالنظرة الصوفية إلى الحياة قبل النظرة المادية، وبهذا الاتجاه الجديد فكر الفلاسفة وكتب الأدباء وصوَّر رجال الفن.

ولما استهلَّ القرن العشرون جاء معه لونٌ جديد من التحول؛ إذ جاء جماعة من الكتَّاب يساهمون بنصيب في الثورة على الاستقرار الذي ساد في عصر فكتوريا، لكنهم جاءوا إلى جانب ذلك مبشِّرين بدعوة إلى النشاط والحركة والتفاؤل الذي يبعث على السير نحو الإصلاح بعد وضع قواعده وأصوله؛ فهذا «كبلنج» ينادي بالتوسع الاستعماري، لا مستندًا إلى عقل ومنطق، بل مدفوعًا بشعور وعاطفة، وهذا «وِلْز» لا يدخر وسعًا في نشر مبادئ الاشتراكية أساسًا للإصلاح الاجتماعي، تحفزه إلى ذلك نفسه القلقة التي تنشد الخير.

(١) صموئيل بتلر Samuel Butler (١٨٣٥–١٩٠٢م)

بهذا الاتجاه الجديد الذي أراد أن يعلو بالحياة على المادة، وبالغريزة على العقل، وبالوجدان على قواعد المنطق، كتب «بتلر» الذي قضى شبابه في صميم العصر الفكتوري، فاستنشق شيئًا من جو الثقة بالنفس السائدة عندئذٍ، وشيئًا من النظام الذي خيم على أطراف الإمبراطورية الواسعة، لكنه استنشق ذلك الجو ليفرَّ منه، وعاش تلك الحياة ليعلن عليها الثورة والعصيان. ولو أردت عبارةً واحدة تلخص فلسفته ووجهة نظره، فتلك أنه شكاك ينشد اليقين الذي تطمئن له نفسه؛ فسرعان ما انتهت به تلك النظرة إلى أن يقف إزاء المجتمع المحيط به موقف الناقم الثائر المهاجم، لكن هجومه لم يكن بمثابة الحرب العلنية تجري على مرأى من الناس، بل كان أقرب إلى المخاتلة والاحتيال.

أعلن حربه هذه على ما حوله من دين وأخلاق وعادات، ثم أعلنها فوق كل شيء؛ على العلماء وما يبشرون به من مذاهب أخذها الغرور فظنَّت أنها بمنجًى من كل نقد وتجريح، وإنما دعاه إلى محاربة العلماء أنه إذ كوَّن لنفسه رأيًا في كل مشكلة من مشاكل العصر، نظر فإذا برأيه هذا يناهضه العلم كما عرفه العلماء إذ ذاك. وخلاصة حملته دعوة إلى الحد من العقل بحيث يعرف حدوده التي ينبغي أن يقف عندها، وإلى الاعتراف بالغريزة وما لها من حقوق.

أراد أن ينقذ الديانة من التخريف؛ فمن أسس العقيدة المسيحية عودة المسيح إلى الحياة بعد صلبه، ولم يرَ «بتلر» في مثل هذه العقيدة شيئًا يتمشى مع الفطرة السليمة، وفي الوقت نفسه لم يرد أن يحكم على عقيدة كهذه بمجرد الظن، فانطلق يحقق الأمر لنفسه، وانتهى به التحقيق إلى رأي مخالف لما تواضعت عليه القرون المتتالية، وهو أن المسيح لم يمت على الصليب، إنما «شُبِّهَ لَهُمْ» برجلٍ آخر. وهكذا هدف الكاتب بنقده إلى الكنيسة وتعالميها وقساوستها، وتهكَّم وسخر بالطريقة التي يؤدي بها المعتنقون للعقيدة شعائرهم، تجد ذلك في كتابه «إِرِوُن»٦٩ كما تجده في «المرفأ الجميل»٧٠ و«طريق الأجساد»٧١ و«عودة إلى زيارة إرون».٧٢ ومن أجمل مواضع نقده للكنيسة في كتاب «إرون» تصويره لها مصرفًا يذهب العابدون إليه وقصدهم الحقيقي بيع وشراء، يبيعون كذا وكذا من الشعائر ليشتروا به كذا وكذا من خيرات الآخرة.

ومن الصور الرائعة أيضًا في كتاب «إرون» تطبيقه مذهب دارون على الآلات، أليس أساس التطور تنازع البقاء وبقاء الأصلح؟ ثم أليس للأصلح الباقي السيادة على من دونه صلاحية؟ إذن فانظر إلى الآلات تجدها أقدر من الإنسان في شتى النواحي، تحسب فلا تخطئ الحساب، تنظر فلا تخطئ النظر، تطير في الجو وتغوص في الماء؛ إذن فلا بد لها في تنازع البقاء أن تبقى لأنها أصلح من الإنسان، ولا بد أن يجيء يوم يكون فيه الإنسان عبدًا للآلة، على نحو ما ترى الخيل والبغال والحمير اليوم عبيدًا للإنسان. تلك هي النتائج المنطقية لعلمٍ يأخذ بنظرية التطور، ولعصر يؤمن باستخدام الآلة في حياته على نطاقٍ واسع. كلا، العالم في تطور لكن تطوره يأخذ صورة غير هذه الصورة البشعة التي ارتآها «دارون»، هو تطور الكائن الحي الذي يختار لنفسه ما يصلح له، ليست البيئة هي التي تفرض على الكائنات ما ينبغي أن تكون عليه من هيئة وأعضاء، إنما الكائنات الحية هي التي تستغل البيئة بما لها من القدرة على تشكيل أنفسها تشكيلًا مناسبًا للظروف، ليس التطور حركةً آلية، إنما هو تطورٌ مبدعٌ خلَّاق.

أخضع «بتلر» كل شيء حوله للنقد الساخر؛ هذه الجامعات التي — في رأيه — لا تُعلِّم شيئًا ذا غناء، هذه القوانين التي تظلم وترى العدل في ظلمها، هذه الأخلاق التي تنقصها روح الفضيلة بأصح معانيها، هذه النظم الاجتماعية الفاسدة كالأسرة وما إلى ذلك؛ كل هذا في سخريةٍ عميقة تفوت القارئ العابر. فلن تجد على سطح مائه أمواجًا هائجةً مزبدة، إنما أنت منه إزاء بحرٍ هادئ فيما يبدو للعين، جياش بالتيارات العنيفة الهادمة لمن يغوص في أعماقه؛ ولذلك لم يظفر «بتلر» بإعجاب عامة القراء، ولم يعجب به إلا الخاصة المثقفة.

(٢) جورج مِرِدِث George Meredith (١٨٢٨–١٩٠٩م)

كان «مردث» — على شديد اختلافه عن زميله «بَتلَر» — ينتمي معه إلى مدرسةٍ فكريةٍ واحدة. وتستطيع أن تحدد الاختلاف بين هذين الأديبَين بأنه اختلاف في النسبة بين العناصر المكوِّنة لشخصية كلٍّ منهما، لا اختلاف في العناصر نفسها، ﻓ «مردث» من بناة الموجة الابتداعية الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن، بعد أن ساد العنصر العقلي حينًا من الدهر إبان عصر فكتوريا. هو من بناة الموجة الابتداعية الجديدة التي أرادت أن يكون للشعور الإنساني مكانته. ولا عجب؛ ﻓ «مردث» — كما ترى من تاريخ مولده — قد شهد الحياة، والأدب الابتداعي الذي أشرق وساد في أول القرن كان قد بلغ أوجه ومال به الطريق نحو الانحدار، فكأنما ترك بذرته في طبيعة هذا الأديب، وظلت البذرة كامنة حتى نضجت وآتت أكلها في أواخر القرن؟ وكذلك عاصر «مردث» موجة الأدب العقلي — إن صح لنا أن نستخدم هذا التعبير لندلَّ به على الفترة التي توسطت القرن التاسع عشر — عاصر أديبنا موجة الأدب العقلي في عصر فكتوريا، فوافقت في طبيعته وضوح الفكرة في ذهنه، لكنه مزج هذا الوضوح الفكري بحرارة الخيال، ولم يجعل العنصرَين نقيضَين إذا وُجد أحدُهما ارتفع الآخر؛ العقل عند «مردث» مهمته أن يوضح الطريق للخيال، لا أن يمسك بالخيال ويلجمه، لو ترك العقل وحده ليسود ذهبت عنا — في رأي مردث — الفاعلية والنشاط، فالعقل المنطقي يتأثر ولا يؤثر، ينفعل ولا يفعل. ولا فرق عنده بين إنسان يجمد فيه النشاط وتخمد الحيوية الفاعلة عن غيبوبةٍ عقلية وبين إنسان ينتهي إلى نفس الموقف الجامد الخامد عن وعي وتنبُّه. وإن لخصنا رسالة «مردث» كلها في عبارةٍ واحدة قلنا إنها توجيه الطعنات المتلاحقات النافذات إلى جمود تيار الحياة في الفرد أو في المجتمع؛ ذلك الجمود الذي ينشأ عادة عن الغباء أو الجهل أو آلية العمل اليومي؛ عدوُّه الألد في الإنسان هو التفكير الآلي الذي تنساب حلقاته بغير خلق وإبداع، إنه لا حياة لرجل يومه كأمسه. والدرس الذي نتلقاه عنه هو أن نكون أحرارًا بكل ما وسعت هذه الكلمة من معانٍ؛ أحرارًا في تفكيرنا فلا نقلد، أحرارًا في سلوكنا فلا نكون آلاتٍ صماء، أحرارًا في تجديد حياتنا كل يوم بالإقدام على المجهول دون أن نخشى مخاطر المغامرة، أحرارًا في استقبال الحياة مستبشرين بها مسيطرين عليها، لا أن نخشاها فلا نلبث أن نكون عبيدها الأذلاء.

ولد «مردث» لأبٍ خياط، لكنه على انخفاض منشئه، أدمج نفسه في سادة القوم، وجاء أدبه دراسة لهؤلاء السادة، كأنما أراد أن يقيم الدليل على أن ابن الخياط يستطيع أن يكون سيدًا. وقد صوَّر أباه في قصته «إيفَنْ هَرِنْتُن»،٧٣ التي نشرها في عامه الثاني بعد الثلاثين منجمة في سلسلةٍ متتابعة الحلقات. والقصة بأسرها تكاد تكون تأريخًا لحياة نفسه؛ إذ هو يقصُّ علينا قصة ابن خياط تربَّى في وسطٍ أخرجه سيدًا مهذبًا. ومن خير إنتاجه أيضًا «محنة رتشرد فِفْرِل»٧٤ وهي قصة والد وولده، أما الوالد فقد استعبدته آراؤه النظرية، فجلب الشقاء على ابنه بتعصبه الأعمى لآرائه تلك، وكان «مردث» قد اشتغل حينًا مراسلًا حربيًّا لإحدى الصحف الإنجليزية، وذلك إبان الحرب بين بروسيا والنمسا؛ مما اقتضاه أن يقضي بعض وقته في إيطاليا، ومن ثم خبر المناظر الإيطالية فوصفها في قصته «فِتُوريا»٧٥ التي حكى فيها عن ثورة عام ١٨٤٨م، والتي رسم فيها صورةً قلمية لزعيم إيطاليا المعروف «ماتسيني». على أن آية آياته هي قصة «الأناني»٧٦ التي لا يكاد يقرؤها قارئ إلا أحسَّ أن الكاتب يتهكم عليه لشدة ما يرى نفسه وأخطاءها في دقة ووضوح. ويُحكى أن صديقًا للكاتب قرأ القصة بعد نشرها، فذهب إليه غاضبًا عاتبًا وصاح به: «تلك منك سيئة بلغت من السوء أقصى غايته؛ إن شخصية «وِلُوبي»٧٧ هي شخصيتي!» فأجابه «مردث»: «كلا يا عزيزي، إنها تصورنا جميعًا.» وعن هذه القصة يقول القصصي المشهور «ستيفِنْسن»،٧٨ مشيرًا إلى حكاية الصديق العاتب: «لقد قرأت قصة «الأناني» خمس مرات أو ستًّا، وأنوي قراءتها من جديد، لأني كذلك الصديق الذي ذهب عاتبًا، أرى في شخصية «ولوبي» عرضًا لنفسي، فيه قسوة التعريض ولكن فيه أيضًا فائدة العرض.»

و«مردث» — فوق أنه كاتب للقصة — شاعرٌ مُجيد، أحب الطبيعة حب العشق وطفق يتغنَّى بفتنتها.

(٣) تومس هاردي Thomas Hardy (١٨٤٠–١٩٢٨م)

«هاردي» هو القصصي الأكبر في الفترة التي نقدمها الآن إليك. وهو شاعرٌ نابغ وقصصيٌّ بارع على السواء، جاءنا في قصصه وفي شعره بالجديد الجيد، ولعل أوضح ما يستوقف النظر في هذا القصصي أنه كاد يحصر نفسه في إقليمٍ صغير من بلاده؛ الإقليم الجنوبي الشرقي من إنجلترا، يصف مناظر ريفه ويحلِّل أشخاصه، ومع ذلك فقد اتخذ من هذا الإقليم الريفي الصغير نافذةً أطلَّ منها على العالم الفسيح، وإذا به لا يحدثك في قصصه عن زيد وعمرو من سكان هذا الإقليم الذي عُني بدراسته، بل يقدم لك الإنسانية كلها متبلورة في زيد أو عمرو؛ فجاء ذلك مصداقًا لقول «إِمِرْسُن» بأن الطبيعة كلها تعكس نفسها في قطرةٍ واحدة من قطرات الندى.

ولد «هاردي» لأبٍ بنَّاء في قرية تحيط بها الغابات فتعزلها عن الأرجاء المعمورة، وقد كان هذا الإقليم الريفي الذي شهد فيه النور لأول مرة هو موضوع قصته «عمدة كاسْتَرْبِرِدْج»٧٩ فوصفه وصفًا دقيقًا رائعًا. نقول إن «هاردي» ولد لأبٍ بنَّاء، ثم بدأ هو نفسه طريق الفن المعماري ليكون بدوره بنَّاءً، ولم يلبث أن أظهر في هذا الفن وهندسته براعة استحق بها نوط الجدارة من «المعهد البريطاني لفن العمارة» تقديرًا لمقالة كتبها عن البناء يُبنى بالطوب المحروق، ثم ظفر بجائزةٍ أخرى لتصميمٍ رسَمه فصادف القبول والإعجاب. ومع هذا البدء الموفق، دفعته فطرته إلى ترك هذا الفن ليجول في فنٍّ آخر؛ فن الأدب بفرعيه: الشعر والقصة، وكانت أشهر قصصه خمسًا: «عودة الوطني»٨٠ و«عمدة كاستربردج» و«أبناء الغابة»٨١ و«تِس سليلة در برفيل»٨٢ و«جوده الغامضة».٨٣ ومما يجدر ذكره هنا أن نقدًا لاذعًا وُجِّه إلى قصته الأخيرة «جوده الغامضة» فأمسك «هاردي» القلم عن كتابة القصة إلى ختام حياته.

في هذه القصص وغيرها مما جادت به قريحة هاردي، كان مدار القول دائمًا — كما قدمنا — الإقليم الريفي في الجنوب الشرقي من إنجلترا. وقد وهب الله هذا الكاتب كل ما يعينه على الوصف الدقيق الجميل، وعلى النفاذ ببصيرته إلى أعماق نفوس أهل هذا الإقليم؛ فهو يقدم لك في تحليل الخبير القدير تفصيلات الحياة التي أخذت رويدًا رويدًا تصوغ هذا الرجل أو ذاك، ثم هو يبسط أمامك ما يدور في رءوس أهل الإقليم الريفي الذي تناوله بقلمه، من آراء وعقائد. فبهذه المعرفة التامة التي أحاطت بكل دقائق الحياة هناك، أمدَّ «هاردي» قصصه بالقوة والجمال.

وﻟ «هاردي» فضلًا عن قصصه، رواية «الولاة»٨٤ — ولعلها أعظم آثاره الفنية جميعًا — أخرجها في ثلاثة أجزاء، وموضوعها أيضًا هو الإقليم الريفي بعينه الذي شغل قلمه طول حياته، لكنه هنا أطل من هذا الإقليم على أوروبا في عصر نابليون، وقد اشتعلت أرجاؤها بالحرب وسعيرها.

وكان «هاردي» — كما أنبأنا — شاعرًا إلى جانب فنه القصصي، بل كان شاعرًا قبل أن يكون قصاصًا. وأما وقد لذعه النقد الظالم في عالم القصة فقد ترك القصة وعاد أدراجه إلى الشعر ليعزف على قيثارته هادئ البال مطمئن النفس، لكنه إذ عاد إلى فنه الأول، بعد تلك الجولة الطويلة العميقة التي جالها في نفوس الناس وفي جوانب الحياة، عاد مثقلًا بعلم وخبرة، أخذ يصبُّهما اليوم في كأس الشعر.

(٤) روبرت لويس ستيفنسن Robert Louis Stevenson (١٨٥٠–١٨٩٤م)

ولد في «أدنبره» باسكُتْلندة من أسرةٍ متوسطة يشتغل بعض رجالها ببناء منائر البحر، وقد اشتغل بالكتابة منذ حداثته، وكان له خصائصُ معينة ميَّزت أسلوبه، فهو قويٌّ واضح لكن تنقصه حلاوة النغم. ومنذ حداثته ظهرت فيه موهبة الحكاية، فالقدرة على الحكاية موهبة تولد مغروزة في فطرة الموهوب، شأنها في ذلك شأن سائر المواهب الفطرية التي يهبها الله عباده المختارين.

درس ستيفنسن فن الهندسة ليكون فيما بعدُ موردًا لرزقه، فانتهى به هذا الطريق إلى فشل، ثم درس القانون وأراد أن يكسب قوته من المحاماة، وعلق على بابه لافتة، لكن بابه لم يطرقه من الزبائن سوى ثلاثة أو أربعة؛ فليفر — إذن — إلى ما أرادت له الطبيعة أن يكونه، وليحمل قلمه ليكتب استدرارًا لرزقه.

كان «ستيفنسن» مصابًا برئته إصابةً انتهت به آخر الأمر إلى قبره؛ ومن أجل هذه العلة في بدنه أخذ يجوب الأرض طلبًا للعافية، فكانت هذه الرحلات موضوع كتابَيه الأولين، «رحلة في القارة»٨٥ و«أسفار مع حمار في جبال سفن»٨٦ وهما كتابان من أمتع الكتب، يمتعانك بنصوع الصور التي يرسمها الكاتب عما يصادفه، ويمتعانك كذلك بتعليقه على من يلاقيه وما يلاقيه من ناس وأشياء، ومع ذلك لم يكونا في أول الأمر مصدرًا لشهرة أو مال؛ وبعدئذٍ صدرت قصته المعروفة «جزيرة الكنز»٨٧ فما كادت تلتمس طريقها إلى أيدي القراء حتى ذاعت وذاع معها اسم كاتبها، وقيل عنها إنها أجمل ما شهده الأدب الإنجليزي في هذا اللون من الخيال منذ «روبنسن كروزو» فهي قصة تُمتع الطفل وتُمتع الشاب وتُمتع الكهل على السواء؛ تُمتع الطفل بما فيها من مغامرة طلبًا لكنزٍ خبيء في جزيرةٍ مجهولة، وتُمتع الشاب بما تصوِّر له من أشخاص يجدون بغية الحياة في ركوب المخاطر، ثم تُمتع الكهل لما يتستر وراء حوادثها من حكمة. ثم صدرت له قصة «المخطوفة»٨٨ التي تثير الخيال بحوادثها الرهيبة ومعاركها الدامية.
وذات صباح استيقظ «ستيفنسن» من نومه بعد حلمٍ عجيب، ذكر عند اليقظة ما فيه من حوادث وأشخاص كأنها واقعٌ محسوس؛ وإذن فهذه قصةٌ أخرى، كتبها فكتب لها شهرة في أرجاء العالم أجمع على اختلاف لغاته، وهي قصة «دكتور جيكل ومستر هايد»٨٩ التي تصور رجلًا ذا شخصيتَين إحداهما تميل إلى الخير والأخرى تنزع إلى الشر، فجسدت بهذه الصورة القوية ما يحمله كل إنسان بين جنبَيه من رغبة في الخير ورغبة في الشر. وأخيرًا اتجه «ستيفنسن» إلى كتابة القصة القصيرة فبرع فيها، وأهم ما أخرجه في هذا الباب «صورة جديدة لألف ليلة وليلة»٩٠

(٥) رويارد كبلنج Rudyard Kipling (١٨٦٥–١٩٣٠م)

ولد لأبٍ عالم في الآثار كان ذا صلة في زمانه بأعلى دوائر الفن والثقافة، وقد ولد في بمباي بالهند وتلقَّى تعليمه الثانوي في إنجلترا، حتى إذا ما بلغ مرحلة الجامعة آثر أن يعود إلى الهند، وكان إذ ذاك في عامه السابع عشر، فاشتغل مساعدًا لرئيس التحرير في مجلةٍ رسمية، وكان إلى جانب ذلك يُخرج آثارًا أدبية لم تزد في أول الأمر عن قطعٍ هجائية يوجهها إلى بعض من كانوا يعايشونه، وأغانٍ جماعية تكون ملهاةً للناس إذا الْتأمت منهم جماعة. ولما بلغ الثانية والعشرين سافر في أرجاء الهند والصين واليابان وأمريكا، ثم ألقى عصاه في إنجلترا حينًا استأنف بعده السفر إلى أمريكا والهند وأستراليا وزيلندة الجديدة، وعاد آخر الأمر إلى إنجلترا مرةً أخرى ليتخذ منها مستقرًّا.

كان «كبلنج» بحكم نشأته وقراءته نزَّاعًا إلى القديم؛ فأبوه عالم في الآثار، وطفولته ترعرعت في الهند حيث استقت من ثقافة الشرق العريقة في القدم. وقرأ في شبابه كثيرًا لكنه لم يكوِّن بقراءته عقلية العالم الحديث؛ فهواه دائمًا منجذب إلى الماضي البعيد، يؤثر قراءة الذين عاشوا في العصور الوسطى وعهد النهضة ثم القرن السابع عشر، ويخصُّ بعنايته قراءة الإنجيل وكتاب «رحلة الحاج»٩١ ولم يأبه طول حياته بكاتب أو شاعر ممن ظهروا بعد النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكنه حين أخذ يطوف في أرجاء المعمورة مسافرًا من بلد إلى بلد، تغيرت تجاربه وتبدَّلت وجهة نظره، فحيثما أدار بصره ألفى مدينةً جديدة غير التي ألف في نشأته وأثناء قراءته، مدينة تعبد إلهًا جديدًا هو إله القوة البادية في نواحي الاقتصاد، فقد خلق العلماء في معاملهم، وأصحاب الأعمال في مناحي نشاطهم، آلهةً جديدة معابدها المصانع والمصارف ومباني السفن والمناجم، ومن هذه المعابد تبدَّت للناس مباهجُ جديدة في الحياة أهمها بهجة الذهب اللامع الرنَّان الذي يحكم العالم ويُسخِّر الشعوب.

وانتشر الناس في الأرض شرقًا وغربًا يبحثون عن الذهب، فالتقوا على اختلاف أجناسهم في هذا البلد أو ذاك، وبهذا امتزجت الشعوب بعضها ببعض في المدن الكبرى، فكان ذلك مظهرًا دوليًّا يؤلف في صعيدٍ واحد أجناسًا أشتاتًا، لكنه مظهر لا روح فيه، فالروح وراء ذلك وطنيةٌ إقليميةٌ متطرفة، فأفراد الشعب الواحد كانوا في هذا البحث عن الذهب يتعصبون ويتعاونون ومن ورائهم دولهم، خشية أن يلقف الغنيمة شعبٌ آخر. ذلك كان العالم الذي ارتحل في جنباته «كبلنج»؛ أفلا يمكن أن يستغل هذا الشر فإذا به خير للبشر! ذلك ما صوره الشاعر لنفسه بخياله، ولكن كيف؟ ها هنا تظهر في الأديب عنجهية وطنه، ها هنا تتبدى روح العصر من حيث حدة الشعور القومي إزاء الفكرة الدولية؛ فطريق الخير في رأي شاعرنا وأديبنا «كبلنج» هو أن تُدعَم قوائم الإمبراطورية البريطانية، لماذا؟ لأن شخصًا معنويًّا تستطيع أن تطلق عليه اسم «القانون» هو وحده السبيل إلى كل خير؛ «القانون» يرمز لتقدم المدنية، و«القانون» يضمن العدل ويقاوم الجوع والمرض؛ فمن ذا يجسد لنا «القانون» ليفعل فعله ويؤتي أكله في هذه الدنيا التي كادت تمزقها المطامع؟ تجسده — في رأي «كبلنج» — الإمبراطورية البريطانية التي يراها تغزو العالم لتُحرِّره.

فلتكن إذن هذه الفكرة أساسًا لما يجري به قلم الأديب، فهي موضوع قصة «بنو وطني»٩٢ وقصيدة «منظومة الشرق والغرب»٩٣ و«أنشودة الإنجليزي»٩٤ و«عبء الرجل الأبيض»٩٥ و«أهل الجزيرة»٩٦ إلى آخر ما كتبه شعرًا ونثرًا. فكلما وسَّعت الامبراطورية البريطانية أرجاءها طبَّل لها الشاعر وزمر، أو ربما كان العكس أقرب إلى الصواب، وهو أنه كلما أنشد الشاعر أنشودة التوسع الاستعماري في آذان قومه، اشتدت حماسة القوم نحو استعمار ما لم يستعمروه بعدُ. لكن يظهر أن لكل شهوة حدًّا تنطفئ عنده حدتها، فقد جاء يوم كاد يصم الشعب الإنجليزي فيه آذانه عن «كبلنج»؛ فكفاهم ما استعمروه إذا هم نظموه. وهنا يظهر أديبان آخران سنحدثك عنهما فيما بعدُ أخذا على نفسيهما أن يبينا للناس طريقة هذا التنظيم، وهما «ولز» و«شو».
وأديبنا «كبلنج» تربى في أحضان الصحافة كما علمتَ، فهل يفوته هذا التحول في اتجاه الشعب ولا يدركه؟ كلا، بل أدركه وأدار سفينته مع الريح؛ فليكتب للناس الآن كيف يفكرون وكيف يسلكون ليكون هذا السلوك وذلك التفكير خليقَين بالمستعمر، بل لتكن كتابته على نحو يروق لليافع كما يعجب به من اكتملت رجولته، فكتب لهم قصصًا عن الحيوان، وأخرج في ذلك «كتاب الغابة»٩٧ و«كتاب الغابة الثاني»٩٨ وغير ذلك من القصص التي يميل إليها الإنسان لما فيها من نزعةٍ بدائية تتفق مع طبعه الأصيل.

لو أردت عبارةً واحدة تلخص لك أدب «كبلنج» فهي أنه حاول أن يوفق بين الفرد ودنياه التي يعيش فيها، أو قل أراد أن يعلم الإنجليزي كيف يعيش في هذا العالم الواقعي الذي يحيط به. لقد تجد من الشعراء الفحول من يؤرقه أن يرى العالم أصغر من الإنسان، فيبحث للإنسان عن شيءٍ أكبر من العالم يعيش فيه، لكن «كبلنج» لا يرى هذا الرأي؛ إن العالم في نظره فيه من الرحابة والاتساع ما يكفي كل إنسان كبر أو صغر، ومهمتنا أن نُبصِّر الأفراد بعالمهم هذا ليفهموه.

١  The Lady of Shalott.
٢  Ulysses.
٣  Morte d’Arthur.
٤  The Princess.
٥  Mock heroic.
٦  The Rape of the Lock، انظر ما قلناه عن هذه القصيدة في الجزء الثاني.
٧  The Idylls of the King.
٨  راجع أسطورة الملك أرثر في الجزء الأول.
٩  Pauline.
١٠  Paracelsus.
١١  Bells and Pomegranates.
١٢  Dramatic Lyrics.
١٣  Christmas Eve and Easter Day.
١٤  Men and Women.
١٥  Dvamatis Personae.
١٦  James Lee.
١٧  Rabbi Ben Ezra.
١٨  Sohrab and Rustum.
١٩  Essays in Criticism.
٢٠  Dover Beach.
٢١  Poems and Ballads.
٢٢  Dolores.
٢٣  Songs Before Sunrise.
٢٤  Marching Song.
٢٥  Ballad of Dreamland.
٢٦  The Blessed Damozel.
٢٧  Christina Rossetti.
٢٨  Goblin’s Market and Other Poems.
٢٩  The Prince’s Progress.
٣٠  William Thackeray.
٣١  Mr. Micawber.
٣٢  David Copperfield.
٣٣  Sketches by Boz.
٣٤  Pickwick Papers.
٣٥  Oliver Twist.
٣٦  The Old Curiosity Shop.
٣٧  Martin Chuzzlewit.
٣٨  A tale of Two Cities.
٣٩  Great Expectations.
٤٠  Vanity Fair.
٤١  Pendennis.
٤٢  Esmond.
٤٣  Becky Sharp.
٤٤  Emily.
٤٥  Anne.
٤٦  The Professor.
٤٧  Wuthering Heights.
٤٨  The Tenant of Wildfell Hall.
٤٩  Jane Eire.
٥٠  Shirley.
٥١  Villette.
٥٢  Mary Barton.
٥٣  Cranford.
٥٤  Mary Ann Evans.
٥٥  Strauss.
٥٦  Adam Bede.
٥٧  The Mell of the Floss.
٥٨  The French Revolution.
٥٩  Sartor Resartus.
٦٠  Heroes and Hero Worship.
٦١  Past and Present.
٦٢  Oliver Cromwell’s Letters and Speeches.
٦٣  History of Frederich the Great.
٦٤  ترجم «فلسفة الملابس» إلى العربية الأستاذ طه السباعي.
٦٥  وترجم «الأبطال» إلى العربية الأستاذ محمد السباعي.
٦٦  Turner.
٦٧  Modern Painters.
٦٨  Stones of Venice.
٦٩  Erewhon، ليلاحظ القارئ أن هذا اللفظ قلب لكلمة nowhere التي معناها «لا وجود له»، وفي هذا الكتاب يتخيل الكاتب مكانًا لا وجود له ليصف أوضاع الحياة فيه ويتخذ من ذلك سبيلًا لنقد المجتمع القائم.
٧٠  The Fair Haven.
٧١  The Way of All Flesh.
٧٢  Erewhon Revisited.
٧٣  Evan Harrington.
٧٤  The Grdeal of Richard Feverel.
٧٥  Vittoria.
٧٦  The Egoist.
٧٧  Willoughby.
٧٨  Stevenson.
٧٩  The Mayor of Casterbridge.
٨٠  The Return of the native.
٨١  The Woodlanders.
٨٢  Tess of the D’Urbervilles وقد نقلها إلى العربية المرحوم الأستاذ فخري أبو السعود.
٨٣  Jude the obscure.
٨٤  The Dynasts.
٨٥  An Inland Voyage.
٨٦  Travels with a Donkey Through The cevennes.
٨٧  Treasure Island.
٨٨  Kidnapped.
٨٩  Dr. Jekyll and Mr. Hyde.
٩٠  New Arabin nights.
٩١  هو كتاب Bunyan, Pilgrim’s Progress، انظر ما قيل عن هذا الكتاب العظيم في الجزء الثاني.
٩٢  mine own People.
٩٣  The Ballad of East and West.
٩٤  A Song of the English.
٩٥  The white Man’s Burden.
٩٦  The Islanders.
٩٧  The Jungle Book.
٩٨  The Second Jungle Book.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤