الفصل الثاني: عصر الابتداع في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
(أ) الشعر
(١) شارل بودلير Charles Baudelaire (١٨٢١–١٨٦٧م)
لو قِيسَ الشاعر بما له من قوة الابتكار وما له من أثر على أخلافه من الشعراء، كان «بودلير» بغير شك أعظم الشعراء الفرنسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تلقَّى «بودلير» قسطًا لا بأس به من التعليم، على الرغم من أنه كان تحت رعاية رجلٍ تزوج من أمه بعد موت أبيه، لكنه لم يكد يشب عن طوقه حتى أُرسل إلى الهند ليكسب قوته بعمله، غير أنه لم يلبث أن عاد إلى بلاده وكانت سنُّه قد بلغت الحادية والعشرين، فتزوج واستقلَّ بنفسه وحياته ليكون بعدئذٍ أديبًا مذكورًا. وقد لبث مقيمًا في باريس حتى جاوز الأربعين، ثم سافر إلى بلجيكا ليحاضر في الأدب هنالك وليخرج أدبه في مجموعةٍ كاملة، وكان أمله أن يدرَّ عليه العملان، محاضراته وكتبه، ثروةً، لكن خاب رجاؤه؛ إذ لم يكد يستقر في بلجيكا حتى أخذت عافيته في الانحلال، وأُعيد إلى باريس مشلولًا، ليموت وهو في عامه السادس بعد الأربعين.
كان «بودلير» لمن جاء بعده من الشعراء الناشئين في فرنسا إمامًا في الروح والنزعة كما كان «هيجو» إمامهم في الصورة والقالب. وهاك أمثلةً من شعره:
الجمال
•••
•••
•••
وهذه قصيدةٌ أخرى له يتبين فيها خياله الغريب المبتكر:
العملاقة
•••
•••
(٢) ثيودور دي بانفيل Theodore de Baniville (١٨٢٠–١٨٩١م)
كان «بانفيل» ﻟ «بودلير» معاصرًا وصديقًا، يكبره بعام، وعاش بعد موته خمسة وعشرين عامًا. وكان هو وصديقه يمثلان اتجاهَين مختلفَين في الشعر.
وتستطيع أن تعدَّ «بانفيل» متممًا لصديقه «بودلير»؛ فاختلافهما هو اختلاف الشيئين يكمل أحدهما الآخر؛ «بانفيل» يُعنى عنايةً بلغت أقصى حدود الدقة بأوزانه وقوافيه، وقد برع براعةً فائقة في إخضاع الأوزان إلى أغراضه ومراميه، فما استعصى عليه وزن ولا أفلتت من زمامه قافية، بينما ترى «بودلير» يهتم بالروح فيما يكتب مكتفيًا من بحور الشعر بأيسرها مأخذًا وأسهلها صناعة. ولما كان جزءٌ كبير من شعر «بانفيل» مرتكزًا في جودته على جودة صناعته وجد كثير من النقاد ما يغريهم بإصدار حكمٍ سريع على الشاعر بأنه سطحي ليس لبحوره عمق من الروح والمعنى! وأقل ما يقال في مثل هذا النقد إنه يظلم بعض القصائد الممتازة التي لا يخلو منها ديوانٌ واحد من دواوين الشاعر الكثيرة. ومهما يكن من أمر، فالحق أن «بانفيل» برع في صناعة الشعر براعةً تستوقف النظر، فبغير أن يبيح لنفسه خروجًا على القواعد، استطاع أن يصوغ اللغة في يديه على أي نحو أراد، فالأوزان والقوافي سلسةٌ طيِّعة لا تعصي لفنه أمرًا.
(٣) ليكونت دي ليل Leconte de Lisle (١٨٢٠–١٨٩٤م)
«بودلير» و«بانفيل» و«دي ليل» ثالوث تعاصر أفراده، لولا أن «بودلير» مات قبل زميلَيه بربع قرن تقريبًا؛ وقد عُني «دي ليل» — كما عُني زميله «بودلير» — بالترجمة إلى الفرنسية، ترجمة ما يروقه من الآداب الأخرى؛ وذلك في ذاته اتجاهٌ ابتداعي؛ إذ من تقاليد الأدب الابتداعي أن يستورد ما يجري في البلاد الأخرى. وكان مما ترجمه «دي ليل» شعر الأعلام من شعراء اليونان، ومما تشبث به في ترجمته إصراره على نقل أسماء الأعلام كما هي في أصلها اليوناني، حتى لو نُقِلتْ إلى الفرنسية حروفًا ليست من طبيعة اللغة الفرنسية. على أنه فوق ذلك شاعر له قصائده الجيدة الممتازة، التي يبث فيها عاطفة المتشائم الناقم، وقد استفحل معه هذا الشعور السوداوي حتى انقلب في نهاية الأمر دعوة إلى تحطيم المجتمع من أساسه، وخروجًا على الديانة المسيحية.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
(٤) بول فرلان Baul Verlaine (١٨٤٤–١٨٩٦م)
هو بين أتباع «بودلير» أعلاهم كعبًا وأطولهم قامةً. وقد لقي ما لاقاه أستاذه من عنت النقاد من ناحية، وبلاهة الحمقى من أشياعه من ناحيةٍ أخرى. لكنه كان كلما تتابعت عليه الأعوام، ازداد منزلة عند النقاد كما يزداد شيعةً من خيرة الأدباء. ونحن إذ نقرنه في ذلك ﺑ «بودلير» لا يفوتنا أن نذكر ما بين الأستاذ والتلميذ من تفاوتٍ في الأصالة وفي قوة التفكير وفي جودة الشعر، لكنه من ناحيةٍ أخرى يفوق أستاذه في تنوع أبواب القول وفي رشاقة القالب الذي يختاره لشعره. وقد اختلفت نهاية حياته الشاعرة عن بدايتها؛ إذ بدأ شعره باقتفائه أثر «جوتييه» في ضرورة التمسك بصحة القواعد العروضية إلى حدِّ التزمُّت الذي يدنو بالشعر من الجفاف واليبوسة، وكذلك تأثَّر خطوَ «جوتييه» في جانبٍ آخر وهو نقل الصورة المحسوسة التي تقع من الحياة الواقعة على عين الرائي نقلًا دقيقًا أمينًا كأن الأديب آلةٌ مصورةٌ أقصى غايتها نصوع الصورة المنقولة ووضوحها. ثم ختم «فرلان» حياته الشاعرة بثورةٍ على ما بدأ به تلك الحياة، بثورة على التزمُّت في اتباع القواعد العروضية في إنشاء الشعر. ولقد كان «فرلان» في هذه الثورة مبشرًا بمبدأ أكثر منه منفذًا لما كان يبشر به. ولسنا نريد أن نزعم أنه كان أول من صرح بتحطيم القيود التي تفرضها القواعد العروضية على الشاعر؛ فقد سبقه إلى ذلك شعراء الحركة الابتداعية جميعًا في الثلث الأول من القرن كما أسلفنا. لكن الحركة الابتداعية تبعها رد فعل؛ إذ نشأت جماعة من الشعراء الأوساط، لم تعجبهم هذه الحرية التي أباحها الشعراء لأنفسهم، ونادوا بالعودة إلى القواعد التقليدية، ومن هؤلاء كان «فرلان» أول الأمر، لكنه عاد فشقَّ عصا الطاعة على هؤلاء، وخرج على ما كان آمن به؛ فثورته في الواقع بمثابة استئناف لثورةٍ قديمة.
عُني «فرلان» أشد عناية بحلاوة الإيقاع في شعره، وهو فيما بذل من مجهود في هذا السبيل، سار على منهاج اثنين من أسلافه؛ «فكتور هيجو» أولًا، و«بانفيل» ثانيًا. ومن أمثلة ما اصطنعه في نظمه ليحقق لنفسه ما أراد من نغمٍ موسيقي في شعره، أنه أولًا لم يقيد نفسه بتقليدٍ قديم في الشعر الفرنسي، وهو أن يختم الشاعر أبياته بكلماتٍ مذكرة ومؤنثة على التوالي، فبيت قافيته لفظةٌ مذكرة، والبيت الذي يليه قافيته لفظةٌ مؤنثة، وذلك لا شك قيد قد يُفوِّت على الشاعر اختيار اللفظة التي تخدم النغم. ولم يستطع «فرلان» أن يُحرِّر نفسه من هذا القيد تحريرًا تامًّا، لكنه على كل حال جاهد ما استطاع في تحطيمه. وهو ثانيًا، لم يتقيد بتقليدٍ آخر في نظم الشعر؛ وهو أن يرد في البيت وقف يجب أن يوضع في مكانٍ معين منه، وعلى نسبةٍ معينة من طرفَيه. وثالثًا، أطلق لنفسه الحرية في أن ينشئ أبيات الشعر قوامها عددٌ فردي من المقاطع وكان التقليد أن يكون البيت محتويًا على عددٍ زوجي منها. ورابعًا، أباح لنفسه أن يجعل قافيتَين من كلمة بعينها، أعني ألا يحصر القافية في المقطع الأخير، فمثلًا بدل أن تكون القافيتان المتتاليتان كلمتَين مثل: «قوافي وفيافي» وهما متحدتان في الجزء الأخير منهما فقط، لم يَرَ «فرلان» ما يمنعه من أن يجعل القافيتَين المتتاليتَين «فيافي وفيافي» وهو شيء لم تكن ترضاه تقاليد الشعر. كل هذه وغيرها أفسحت له في مجال اختيار ألفاظه، اختيارًا يرضي أُذنه قبل أن يرضي القواعد، فوُفِّق فيما أراد كل توفيق.
ومن شعره:
•••
•••
•••
•••
(٥) ستيفان مالارميه Stèphane Mallarme (١٨٤٢–١٨٩٨م)
سنتحدث الآن عن شاعرٍ ختم دولة الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر، ليسيطر بقوَّته على الشعر في فرنسا إلى يومنا هذا، لأنه لفت الأنظار لفتةً جديدة، فيها بهاء الجديد وفيها غرابته في آنٍ معًا، ونعني بهذا الاتجاه الجديد الشعر الرمزي.
كان «مالارميه» يكسب عيشه من تدريس اللغة الإنجليزية في مدارس الدولة في فرنسا، وكان مدرسًا فاشلًا من ناحيتَين، فلا هو أتقن فن التدريس، ولا هو تمكن من المادة التي كان يدرسها! ومع تقصيره عن بلوغ الكمال في معرفة اللغة الإنجليزية، فقد أحب الشعر الإنجليزي حبًّا لعله كان مصدر مذهبه الجديد، وأحب من شعراء الإنجليزية بصفةٍ خاصة «إدجر ألن بو» وترجم عنه إلى الفرنسية بعض شعره — كما ترجم عنه كذلك «بودلير» — أليس «مالارميه» يقرأ القصيدة الإنجليزية فلا يفهمها فهمًا جيدًا ومع ذلك يتأثر بها أبلغ الأثر؟ أليس هو إذ يقرأ القصيدة الإنجليزية ولا يفهمها يسد النقص بخياله؟ إذن فليكن هذا هو الأساس في الشعر كله! الشعر لا يُنظَم ليُفهَم، إنما يُنظم الشعر لكي يتأثر القارئ بما يقرأ عن غير فهم.
مذهب «مالارميه» في الشعر له جانبان: أحدهما سلبي والآخر إيجابي، فهو سلبي بمقدار ما ينفي الشاعرية عن كل شعر لا يذهب مذهبه، وهو إيجابي بمقدار ما يضع من قواعد تصلح أساسًا لقرض الشعر الصحيح. لكن جانبه السلبي أكثر شيوعًا بين أتباعه، فقلَّما تجد من يأخذ بمذهب «مالارميه» من حيث قواعده الإيجابية، وأقل من هؤلاء القليلين الذين يأخذون بمذهبه هم هؤلاء الذين يستطيعون أن يقرضوا شعرًا على أساس ذلك المذهب، بل إن «مالارميه» نفسه كاد يعجز عن نظم الشعر كما ينبغي أن يكون الشعر في رأيه؛ فتستطيع أن تقول عنه إنه لم يكن ناثرًا ولا ناظمًا، إنما كان مفكرًا ومحدثًا. والعجيب أن الكثرة الغالبة من تلاميذه جاءت على نمطه في هذا، فهم يحدثونك عن المذهب الرمزي الجديد فإذا الحديث خلَّاب، وهم يفكرون في أمر المذهب الرمزي الجديد فإذا التفكير ناضجٌ جذاب، أما أن يكتبوا على أساس ما يقولون فذلك ما لم يصنعوه على الوجه الأكمل في رأي هذا المذهب الجديد الذي بشر به «مالارميه». إن الواقع لا يصلح أن يكون شعرًا ولا فنًّا على الإطلاق؛ إذا كتبت عن الغابة فكتبت عن أشجارها فلم تكتب شعرًا، لأن أشجار الغابة أمرٌ واقع فهو إذن لا يصلح موضوعًا للأدب، وإذا حكيت حكاية فليست حكايتك شعرًا، لأنك تحكي عن الواقع أو ما يشبه الواقع، وإذا أردت أن تلقِّن قارئك درسًا يتعلمه عنك فليس ما تلقنه شعرًا لأنك عندئذٍ ستكون مرتبطًا بالواقع، بل إذا عبرت عن شعورك تعبيرًا صادقًا كما يقولون فليست عبارتك شعرًا لأن شعورك هذا الذي تعبر عنه جزء من الواقع، وليس الواقع هو ما نريد، وإذا أنشأت مأساةً أو ملهاةً فليس ذلك شعرًا، بل إن المأساة أو الملهاة هي آخر ما يمكن اعتباره شعرًا من ضروب الإنشاء جميعًا.
ماذا إذن تريدني أن أكتب ليكون ما أُنشئه شعرًا صحيحًا؟ يريدك «مالارميه» أن تكتب ما يرمز إلى شيءٍ لا ما يدل على معنًى. ولشرح ذلك نقول إن كل كلام معقول له معناه في هذه الدنيا الواقعة، لكن ليس كل كلام يرمز وراء هذا المعنى إلى شيء وراء الواقع، فلكي يكون أدبك أدبًا يجب أن يكون لإنشائك معنًى ومغزًى في آنٍ واحد، له معنى الألفاظ، ثم له بالإضافة إلى ذلك مغزًى يرمز إليه لا في دنيانا هذه الناقصة الشائهة، بل فيما وراءها من أبدية وكمال؛ فهذه الدنيا التي نرى مشاهدها ونسمع أصواتها ونذوق طعومها ونشمُّ روائحها ونلمس أشياءها، هذه الدنيا التي نسميها بالعالم الواقع، إن هي في الحقيقة إلا تشويه للعالم الحقيقي الذي تستطيع أن تستشفَّه من وراء هذه الحجب؛ فإن رأيت زيدًا وعمرًا من الناس، فسترى فيهما النقص والسوء والرذيلة، أفلا يمكنك أن ترى خلال ما فيهما من نقصٍ الإنسانَ الحق كيف يكون؟ إذن فإن كتبت أدبًا فاكتب ما يرمز إلى هذا الإنسان الحق الذي تلمحه خلال الإنسان الناقص الذي يصادفك في هذه الحياة، وبعبارةٍ أعمَّ إذا كتبت أدبًا صحيحًا فينبغي أن ترمز بما تكتب إلى العالم الكامل الأبدي الدائم الذي تنفذ إليه خلال الشقوق والفجوات التي تراها في بناء هذا العالم المحيط بك. مهمة الشاعر أن يكشف عن مواضع هذه الشقوق والفجوات، بل أن يوسعها حتى يستطيع أن ينفذ منها فينتقل من عالم الواقع العابر إلى العالم الأبدي الخالد. وربما قلت معترضًا: لكن أليست هذه مهمة الفلسفة لا مهمة الشعر؟ إن الفلسفة تحاول جهدها أن تكشف عن الحقائق الخالدة الكامنة وراء ظواهر العالم البادية للحواس، أتكون هذه هي نفسها مهمة الشعر والشاعر؟ كلا! لسنا نريدك أن تنفذ خلال نقص الواقع لتبلغ «أفكارًا» عن العالم الخالد يفهمها العقل ويجيزها المنطق، بل إن ما نحملك على صنعه لو كنت شاعرًا هو نقيض ذلك تمامًا؛ فالمقياس الذي نقيس به فشلك في مهمتك باعتبارك شاعرًا هو هذا: هل يفهم العقل ما تنشئه؟ لو كان العقل يفهمه فليس هو من الشعر في شيء! إننا نريدك أن تستخدم الألفاظ نوافذ تطل منها على عالم الروح لا عالم العقل، وعالم الروح قوامه أشياء لا تفهم إذا أردنا بالفهم ما يجري على منهاج المنطق العقلي. والشعر وحده هو الطريق المؤدية إلى عالم الروح، والفرق بينه وبين الفلسفة فيما يتصل بالعالم الخالد الذي لا يتغير ولا يزول هو أن الفلسفة «تحدثك» عن العالم الخالد، أما الشعر فيخلق فيك الأثر الخالد نفسه، والعلامة التي تميز بها الشعر الصحيح هي — كما قلنا — أن تشعر بهذا الأثر ولا تفهمه. هذه خلاصة للمذهب الرمزي الذي نادى به «مالارميه»، والذي جعل كل شاعر في فرنسا منذ ذلك الحين يسائل نفسه إذا ما أنشأ قصيدة: ترى لو قرأ «مالارميه» هذا الذي أنشئه فماذا هو قائل فيه؟
(ب) القصة
(١) جستاف فلوبير Gustave Flaubert (١٨٢١–١٨٨١م)
ﻟ «فلوبير» عيوبه التي من أهمها الخوض في موضوعات ليس له أن يخوض فيها، والاستطراد آنًا بعد آن إلى تفصيلات يبسطها ليدل بها على سعة علمه، فكأنه يلقي بها الحجارة في طريق قارئه، فيفوِّت عليه سهولة السير واتصال الحركة. لكن مهما يكن له من نقائص فهو كاتبٌ وصَّاف من الطراز الأول، وله قدرةٌ عظيمة على التغلغل إلى دقائق التفصيلات التي تكوِّن هذه الأنماط البشرية العجيبة التي يتعرض لتصويرها؛ وذلك بالطبع مرده إلى خيالٍ بارعٍ امتاز به. ومن خصائصه كذلك السخرية اللاذعة بأوضاع الحياة، سخريةً اتسمت بصفات تجعله فريدًا بين الكتَّاب الساخرين؛ فقد تجد من الناس من لا يعجبه «فلوبير» لأن أدبه يبعث على النفور، وقد تجد منهم من لا يعجبه «فلوبير» لأن أدبه عسير الفهم غامض الأغراض، لكنك لن تجد ناقدًا واحدًا يقدر الأدب لذاته لا لأغراضه ومراميه، لن تجد ناقدًا من هؤلاء ينكر على «فلوبير» مكانه في الصف الأول من أدباء العالم.
كان ﻟ «فلوبير» مذهبٌ خاص في الإنشاء الأدبي، تأثر به من تبعه من الأدباء الناشئين، ومؤدى هذا المذهب في عبارةٍ واحدة هو أنه «مذهب الكلمة الواحدة» ومعنى ذلك أنه لكي يعبر الأديب عن فكرته — بحيث ينقلها ناصعةً قويةً إلى ذهن قارئه — لا بد له أن يحاول وأن يجاهد مهما لاقى في سبيل ذلك من عناء، في سبيل الوصول إلى العبارة التي تفصح عن الفكرة بما لا تستطيع عبارةٌ أخرى أن تفصح عنها، وهو يعتقد أن لكل فكرةٍ عبارةً واحدةً هي التي تستطيع أن تقول عنها إنها تعبر عن الفكرة تعبيرًا قويًّا سليمًا لا تشوبه شائبة، وكل ما عداها من العبارات ناقصة بالقياس إلى كمالها، أو مغلوطة بالقياس إلى صحة تعبيرها؛ وإذن فمهمة الأديب عن كل فكرة يريد أن يسوقها في إنشائه هي أن يتصيَّد على مهل هذه العبارة الواحدة أو الكلمة الواحدة التي تطابق الفكرة تمام المطابقة، غير عابئ بما لا بد أن يلاقيه في سبيل ذلك من وقت ومجهود.
ومذهبه هذا في البحث عن «الكلمة الواحدة» التي تلائم الفكرة، فرع عن عقيدته بأن مهمة الأديب هي الأدب، مهمته أن يخدم الأدب لذاته، وليس هو أداةً للوصول إلى غاية وراء هذه الغاية. ولذلك يعد «فلوبير» تابعًا من أتباع المدرسة الابتداعية التي ظهرت في الثلث الأول من ذلك القرن، أكثر منه فردًا له خصائصه التي تجعله وحده مدرسةً أدبية يكون لها الأتباع والأشياع، ولكننا إذ نقول إنه دون معاصريه من أدباء القصة كان ألصق بمدرسة الابتداع التي سلفت عصرهم، ثم إذا أضفنا إلى ذلك أنه يفوق هؤلاء المعاصرين في نبوغه وفنِّه، كان لنا أن نستنتج أن هذا التفوق نتيجة لما امتاز به من صفات الابتداع الأدبي. ومهما يكن من أمر فكتابه «إغراء القديس أنطون» هو من أعظم ما أنتجته فرنسا من الأدب الخيالي الذي لا يجري في خياله مجرًى مألوفًا، وقصته «مدام بوفاري» هي كذلك من أروع آيات الأدب الفرنسي من حيث ما فيها من سخرية في عرض الحياة الواقعة. وعلى الجملة فأديبنا لا شك من أبرع من كتب نثرًا أدبيًّا على الإطلاق.
(٢) الشقيقان: جيل دي جونكور Jules de Goneourt (١٨٣٠–١٨٧٠م) وإدمون دي جونكور Edmond de Goncourt (١٨٢٢–١٨٩٦م)
في حديثنا عن «فلوبير» أشرنا إلى اختلافه عن معاصريه من أدباء القصة؛ فهو ابتداعي ينتمي إلى أدباء الثلث الأول من القرن التاسع عشر أكثر منه عضوًا من جماعةٍ أدبية قصدت بأدبها إلى تصوير الواقع على نحوٍ خاص بهم، ووجهت الأدب الفرنسي في النصف الثاني من القرن. وأدقُّ ما توصف به هذه المدرسة الجديدة التي عاصرت «فلوبير»، لكنها اختلفت عنه في المذهب، هو أنها «مدرسة التحليل العلمي» لأن أدباءها أقرب شبهًا بعلماء الطبيعة في معاملهم، إذ هم يحللون زهرة أو حيوانًا ويشرحونه عضوًا عضوًا بغير زيادة أو نقصان.
إن تاريخ الأدب لا يذكر هذين الشقيقَين لجودة ما أنتجاه، بقدر ما يذكرهما لأنهما أنشآ مدرسةً جديدة في الأدب القصصي، هي «مدرسة التحليل العلمي»؛ فإذا قست عظمة الأديب بما ابتكر من اتجاهٍ جديد في الأدب، وبأنه استطاع أن يستوقف أسماع كثير من القراء، فلك أن تضع الشقيقَين موضعًا عاليًا من التقدير، أما إذا قست عظمة الأديب بجودة أثره الأدبي، سواء أأنشأ بهذا الأثر مذهبًا جديدًا أم لم يُنشِئ، وسواء أقرأه كثيرون أم قليلون، فلا نظن أنهما يظفران من تاريخ الأدب بمكانةٍ ممتازة.
(٣) إميل زولا Emile Zola (١٨٤٠–١٩٠٣م)
لقد قلنا حين حدثناك عن «مالارميه» الشاعر الفرنسي الذي كان معاصرًا ﻟ «زولا» إنه كان يرى الشعر الحق، بل الفن على إطلاقه، لا في وصف هذه الحياة الواقعة من حولنا، بل في تلمُّس ما في هذه الحياة الواقعة من أوجه النقص، لننفذ خلالها إلى حياة الأبدية والكمال، أما «زولا» فعلى نقيض زميله الشاعر، لا يرى أمام الأديب حياة غير هذه الحياة. لقد أرادنا «مالارميه» على تلمس ما في هذا العالم من فجوات وشقوق لنتسلل خلالها إلى ما وراء الجدران، لكن ذلك كلام لم يفهمه «زولا»، إنه أراد أن يتلمَّس ما في هذا العالم من فجوات وشقوق ليرمَّمها حتى تكمل هذه الحياة، لأنه إن تسلل خلالها فلن يجد إلا خلاءً وعدمًا، إذ ليس وراء الجدران من شيء.
ليس «زولا» في تحليله لشخصياته بالعالم النفسي الذي يغوص إلى خفايا النفس البشرية ودوافعها الباطنة، فليس للإنسان عنده ظاهر وباطن، الإنسان في رأيه حاصل جمع الظروف الاجتماعية؛ فابحث هذه الظروف بحثًا جيدًا تكن لك حقيقته. وهو في كل قصصه بل في حياته كلها، ينشد شيئًا واحدًا: العدالة الاجتماعية؛ إن رأيت في دور الفجور ضحايا وإن رأيت في الحانات ضحايا، وإن رأيت في الطبقات الفقيرة البائسة ضحايا، فكلهم ضحايا الظلم الاجتماعي، كلهم ضحايا الظروف التي وضعت وضعًا خاطئًا، ولو صُحِّح وضعها لصحت حياة الناس أجمعين.
فإن أردت كلمة عن أسلوبه، فحسبنا أن نقول — على الرغم مما يوجه إلى أسلوبه من نقد — إنك إذ تقرؤه تنسى أن كاتبًا يحدثك، لأنك ترى الناس وترى الحوادث أمام عينَيك دون أن يكون بينك وبين الناس والحوادث وساطة من أسلوب الكاتب؛ أسلوب الكاتب هنا هو مادته التي يعرضها، ولو كان أسلوبًا رديئًا لاستوقف النظر، ولو كان أسلوبًا متكلفًا لاستوقف النظر كذلك، أما أن تنسى كل شيء عن الأسلوب وأنت تقرأ، فتلك علامة الفن الجيد الممتاز.
(٤) ألفونس دوديه Alphonse Daudet (١٨٤٠–١٨٩٨م)
لسنا نسلك «دوديه» في جماعة «الأدب العلمي» إلا بعد شيء من التحوُّط والتحفُّظ؛ إذ كان يختلف عنهم بعض الاختلاف، فهم يرجعون فيما يكتبون إلى «الوثائق» لتجيء القصة أقرب إلى «البحث» منها إلى أي شيءٍ آخر، أما هو فيرجع فيما يكتب إلى مذكراته وذكرياته؛ فقد كان «دوديه» أنى سار وأينما حلَّ يلاحظ الدقائق التي تجعل من الأشخاص والمواقف والحوادث أشياء فريدةً في ذاتها. فقد ترى إنسانًا له سحنةٌ معينة تتسم بما يجعلها وحيدة نوعها، وقد تسمع كلمةً ترى فيها طابعًا يميزها من سائر الكلمات، فكان «دوديه» يلاحظ أمثال هذه الفرائد ويسجلها في مذكراته وهو لا يدري في أي قصة أو حكاية سيكون مصير هذه المذكرة أو تلك.
لا عيب في أن يتأثر أديبٌ بأديب، ولكن العيب في أن ينكر المتأثر فضل المؤثِّر، وفي هذا وقع «دوديه» فليس هناك من شك في أن أديبنا قد تأثر أبلغ الأثر وأعمقه في كتابه «الكائن الصغير» ﺑ «دكنز» القصصي الإنجليزي، وفي كتابه «فرومان الصغرى ورسليه الكبير» ﺑ «دكنز» أيضًا وﺑ «ثاكري» كذلك، فهناك من التشابه ما يحمل على الترجيح، بل هناك من التطابق في بعض المواضع ما يحمل على اليقين بأن «دوديه» قد تأثر بهذين الكاتبَين الإنجليزيَّين، ولكنه هو وأتباعه ينكرون ذلك؛ وكذلك مما يؤخذ على «دوديه» أنه بسط في قصصه حوادث واقعة عن أشخاصٍ حقيقيين، ولم يكن له من قوة الخيال ما يجعل الستار من الكثافة بحيث تخفى هذه الحقيقة عن العيون، فكانت الغلالة التي أسدلها بخياله على الأشخاص والوقائع من الرقة بحيث استشفَّ كل راءٍ حقيقة ما وراءها، فقد اشتغل أمينًا لسر «دوق دي مورني» وجعل من حوادث تجربته كما وقعت موضوعًا لقصة «الثري». وقصة «الملوك في المنفى» لا تزيد في كثير عن رواية ما حدث لملك نابلي الذي خُلع عن عرشه، ولغيره من الملوك الذين طاحت عن رءوسهم تيجانها، و«نوما رومستان» هو «غامبتا» بكلِّه وأجزائه، و«الخالد» فيها تعريض يكاد يكون صريحًا بأعضاء المجمع العلمي مَن كان حيًّا منهم ومَن مات، ولعلنا نسمع القارئ هنا يعترض قائلًا: وأين وجه النقد في كاتبٍ استقى أدبه من تجاربه، وإن لم تكن تجارب الأديب معينة فأين يكون هذا المعين؟ والجواب: إن هذا حق لا غبار عليه ولا مطعن فيه، ولكن هناك فارقًا شاسعًا بين أن تروي لنا عن رجل صادفته في حياتك رواية الفنان الذي يكسب ما يقوله جمالًا وحكمة، وبين أن تبحث في هذا الرجل الذي تروي عنه عن دخائل سره بقصد التعريض والفضيحة.
ولئن ذكرنا هذه المآخذ على «دوديه» فإنما نذكرها لنعبر بها عن أسف أن يشوب أمثالُها أدبًا جميلًا فاتنًا كأدبه، وإنه لمن حسن الحظ أن تكون الأجزاء المنقولة في أدب «دوديه» أقبح ما فيه لا أجمل ما فيه.
(٥) جي دي موباسان Guy de Maupassant (١٨٥٠–١٨٩٣م)
وما دام «موباسان» عضوًا في جماعة القصة التحليلية، فهو كغيره من أعضاء هذه الجماعة يبحث عن الحوادث التي تثير بطبيعتها شوق القارئ. مثل حوادث الجرائم والرذيلة، حتى لا يجيء وصف الواقع كما هو باعثًا على الملل، وقد كان «موباسان» فوق ذلك متشائمًا سوداوي المزاج ينظر إلى الحياة بمنظارٍ أسود؟ ولذلك تراه — شأنه في ذلك شأن الكثرة الغالبة من أصحاب المزاج السوداوي من الأدباء — يُدخل السخرية في أدبه، والسخرية — كما قيل — هي للأدب كالملح للطعام، لا بد من قليل منها ليملح طعمه على اللسان ويصبح شهيًّا مستساغًا.
كان «موباسان» موهوبًا في حكاية القصة، فالقدرة على الحكاية موهبةٌ يصعب تحليلها أو تعليلها، فإما أن تكون حكَّاءً بطبعك أو لا تكون، وأسلوبه سهلٌ قوي لا تكلف فيه ولا صناعة. وقد مات بالشلل وهو لم يزل في سنٍّ متوسطة لم تشِخْ، ولعله لو عاش لكانت شجرته أكثر إيناعًا وثمرًا. والعجيب في أدبه أنه يجود إذا تخلص الكاتب من تطبيق آرائه النظرية — وهي حقيقة كثيرًا ما نجد لها الشواهد في تاريخ الأدب — فأقل قصصه انصياعًا للآراء النظرية التي بسطها في المقدمتَين اللتين ذكرناهما، هي أجود قصصه، وهي قصة «بطرس وجان» مع أنه قدم هذه القصة نفسها بمقدمةٍ شرح فيها رأيه في أدب القصة كما أسلفنا.
(ﺟ) النقد الأدبي
(١) هبولت أدلف تين Hippolyte Adolphe Taine (١٨٢٨–١٨٩٣م)
«تين» فيلسوف ومؤرخ وناقد، وهو في هذه الجوانب جميعًا يتخذ موقف الجبري الذي يعتقد أن كل شيء مما يحدث في هذه الدنيا نتيجة لعوامل تحتم حدوثه، لا تستثنِ من ذلك شيئًا حتى عبقرية العبقري، فإن أردت أن تعلل عبقرية زيد من الناس فعليك أن تتعقب العوامل التي أنتجته في ثلاثة أشياء: أسلافه وعصره وظروف حياته الخاصة. والجانب الذي يعنينا الآن من «تين» هو مذهبه في النقد الأدبي.
العبقري — كالشجرة — نتيجةٌ مباشرة للتربة التي نبت فيها، ولا بد لفهمه من الرجوع إلى هذه التربة التي أنبتته، وإلى الطريقة التي اغتذى بها من عناصر تلك التربة. وستجد في دراستك هذه للعناصر التي كونت العبقري، أن هناك ألوفًا منها، لكنك تستطيع أن تردها جميعًا إلى أنواعٍ ثلاثة: ما يتعلق منها بالجنس الذي ينتمي إليه الرجل الذي تدرسه، وما يتعلق منها بالوسط الذي عاش فيه، وأخيرًا ما يتعلق منها باللحظة التي ولد فيها العبقري ولادةً فكرية والتي بدأ فيها يفكر ويعبر عن تفكيره في حديث أو كتابة. تلك هي المفاتيح الثلاثة التي لا بد منها جميعًا — والتي لا حاجة إلى شيء سواها — لكي تنفتح لك مغاليق العبقري وتنبسط أمام عينَيك آفاقه.
هي طريقة تخلب القارئ للوهلة الأولى، لأنها تبشر بإخضاع النقد الأدبي إلى شيء إلَّا يكن علمًا دقيقًا فهو أقرب ما يكون إلى العلم الدقيق. ولكنك إذا ما تدبَّرتها وجدتها أبعد ما تكون عن الكمال؛ هي طريقة من يؤمن بأن الأدب يصور المجتمع، لأنه إن كان كذلك، فمعرفة المجتمع ودقائقه سبيلٌ مؤكدة لفهم ذلك الأدب الذي يصوره. لكن هل صحيح أن الأدب يصور المجتمع؟ لكي نجيب عن هذا السؤال إجابةً فيها شيء من الدقة، ينبغي أن نسأل: أيَّ أدب تقصد؟ وأيَّ مجتمع تريد؟ أما إن أردت بالمجتمع مجموعة الأسرة البشرية في شتى أجيالها الماضية، وفي جميع أنحاء المعمورة فلا شك أن الأديب نتيجة هذه المجموعة الإنسانية، ولكن هل هذا طريق يؤدي بنا إلى غاية؟ إنه من الحق الذي لا ريبة فيه أن فولتير — مثلًا — نتيجة للعوامل الإنسانية التي سبقته في الحضارات البشرية المتعاقبة، ولكن هل يمكنك أن تدرس تلك الحضارات البشرية المتعاقبة دراسةً تفصيلية لتفهم فولتير؟ أما إن أردت بالمجتمع معناه الضيق، وهو الأمة الواحدة التي تعيش في عصرٍ معين هو العصر الذي فيه الأديب، فها هنا يأتي السؤال الثاني: أيَّ أدب تقصد حين تزعم أن الأدب يصور مثل هذا المجتمع؟ ذلك لأن الأدب ليس شيئًا متجانسًا يشبه بعضه بعضًا، ليس الأدب كالماء في النهر كلُّ جزء منه قريب الشبه بكل جزءٍ آخر، فهناك أدب اليوميات وأدب الرسائل وأدب الصحافة، ثم هناك الأدب بالمعنى الأرفع؛ أدب الشعر، ولا شك أن أدبًا كأدب الصحافة يعبر عن المجتمع ويصوره، وتستطيع أن تطبق عليه طريقة «تين» ولكن هل يجوز تطبيق مثل ذلك على الشعر؟ كلا؛ لأن الشاعر العبقري إنما أصبح شاعرًا عبقريًّا لأنه اختلف عن سواه من جيرته وإخوانه وبني وطنه. طريقة «تين» صالحة كل الصلاحية لو كان موضوع البحث هو العناصر المشتركة بين الناس في زمنٍ معين وأمةٍ معينة، لأنه حتى إذ يطالبنا ببحث العناصر التي أحاطت بالعبقري عند ولادته الفكرية، فتلك العناصر شيء مجرد لا يعطيك صورةً فردية هي التي ميزت العبقري من سواه؛ وإذن فتستطيع أن تقول إن طريقة «تين» ناجحة في أدب الدرجة الثانية، فاشلة في أدب الدرجة الأولى، ناجحة إذا بحثت الأدباء الأوساط، فاشلة إذا بحثت العباقرة الفحول. ومع ذلك ﻓ «تين» تعرض بطريقته هذه لطائفة من هؤلاء العباقرة الفحول، فكأنه وضع طريقة وأراد أن يطبقها حيث يستحيل عليها التطبيق.
لكن هذا كله جانبٌ واحد من طريقته، وهنالك جانبٌ آخر، فهو يقول إنه بعد أن يبحث الناقد العناصر التي أحاطت بالأديب الذي يدرسه، ينبغي أن يحاول ما استطاع أن يضع نفسه في صميم هذا الأديب، ينبغي أن يضع نفسه في النقطة المركزية التي توسطت تلك العناصر المحيطة؛ إذ لكل إنسان دافعٌ أساسي يحركه، أو قل إن لكل إنسان مركزًا يقع من بنائه في السويداء، فإن كشفت عن مكان هذا المركز وحلَلْت فيه، رأيت الدنيا التي عاصرت الأديب بعينَيِ الأديب، وبهذا تستطيع أن تسلك شتى العناصر التي أحاطت به في حياته في عِقدٍ واحد أو بناءٍ واحد؛ هو الرجل. إن العناصر التي تحيط بالعبقرية — أو بالإنسان على إطلاقه — تعد بألوف الألوف، فهي منوَّعةٌ متباينةٌ مختلفة إلى درجة لا تكاد تقع تحت الحصر، ولكنها ليست كلها على درجةٍ واحدة من القيمة في تكوين العبقري، فلتكن مهمتنا أن نغربل هذه العناصر، لنلقي وراء ظهورنا ما لم يكن ذا قوةٍ مؤثرةٍ دافعة، ونبقي على الأساسي منها، وذلك مستطاع لو أحللنا أنفسنا في سويداء الأديب الذي ندرسه. هذا كله جميل، ويشبه أن يكون طريقةً علميةً دقيقة، لو كان حقًّا ينطبق على الواقع! إذ الواقع غير ما تخيل «تين»، فالناس صنوفٌ أشتات، منهم من له قوةٌ مركزيةٌ واحدة نظمت حياته تنظيمًا جعلها بناءً متماسكًا، فلو كشفت عن هذا المركز الواحد انكشف لك سائر البناء، ومنهم من دفعته في حياته دوافعُ شتى، تتضارب حينًا ويتوازن فعلها حينًا آخر.
وبعدُ فلسنا نظن أن النقد الأدبي علم تجري عليه طرائق العلم ومقاييسه، فأكثر ما يمكن أن يقال في ذلك إنه — كسائر ضروب المعرفة التي تجعل الحياة الإنسانية موضوع بحثها — مزيج من العلم والفن. ليست هناك طريقة بعينها يمكن اصطناعها في النقد الأدبي بغض النظر عن الناقد نفسه باعتباره فنانًا ينظر إلى آثار الفن فيدرك جمالها. ولو لم يكن «تين» نفسه هذا الناقد الفنان لما نفعته طريقته في نقده نفعًا كبيرًا. إن دراسة العناصر التي أحاطت بالعبقري تساعد على فهمه، ولكنها ليست كل ما نريد. الفرق بين «تين» و«سنت بيف» هو أن «سنت بيف» بحث الأدباء أفرادًا؛ لعله أن يصل إلى قواعدَ عامة، فبدأ بدءًا صحيحًا، وأما «تين» فقد بدأ بالقواعد ليبحث الأفراد على سُننها فأخطأ البداية.