الفصل الأول: أدب الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر
(أ) الشعر
نشأت في ألمانيا عناصر الابتداع في الأدب قبل أن تنشأ فيها مدرسةٌ ابتداعية؛ فلا شك أن «جيته» كان ابتداعيًّا في أدبه، ولا شك كذلك أن «لِسِنْج» حين هاجم قواعد الأدب الفرنسي في عصره الاتباعي كان في الوقت نفسه داعيًا إلى الابتداع، وأنه حين أنشأ قصة «ناثان الحكيم» كان يهتدي في إنشائها بأحوال الأدب الابتداعي؛ أضف إلى ذلك تيارًا جارفًا نحو اعتداد الفرد بنفسه باعتباره فردًا، ثم أضف كذلك شعورًا جديدًا سرى بين الأدباء أن ينظروا إلى الطبيعة نظرة من يستوحي شيئًا من التصوف، لأنها دون سواها المعين الذي توحي إليك ينابيعه بمثل هذه النظرة الروحية. هذه كلها عناصرُ ابتداعية نشأت في ألمانيا قبل أن تنشأ فيها مدرسةٌ ابتداعية، وإنما نعني بهذه المدرسة جماعة من الأدباء يجتمعون على أسسٍ معينة وهم على وعي بتلك الأسس، ويُنشِئون أدبًا ابتداعيًّا وهم يعلمون ما يصنعون ويحاولون أن يدعوا الناس إلى اتباعهم والنسج على منوالهم.
وربما كان أكبر الأخوين أبقى أثرًا بترجمته سبع عشرة مسرحيةً عن شيكسبير وبمجموعة محاضراته القيمة عن الأدب المسرحي، وبمقالاته النقدية التي أنشأها في أدب «جيته» فكانت عاملًا قويًّا أدى إلى زيادة العناية بهذا الأديب العبقري في عصر الابتداع؛ فقد كانت ﻟ «شليجل» الأكبر نظراتٌ صادقة في النقد الأدبي، حتى إنه ليعد بين الطبقة الأولى من رجال النقد في ألمانيا. ولو استثنيت «لوثر» وترجمته للإنجيل إلى اللغة الألمانية في عهد الإصلاح الديني، جاز لك في يقين أن تقول عن «شليجل» إنه خير من ترجم أدبًا إلى الألمانية بين الألمان.
(١) نوفالس Novalis (١٧٧٢–١٨٠١م)
كان «نوفالس» بروتستنتي العقيدة، لكنه أحب الكاثوليكية لجمالها الفني، ولما كانت العصور الوسطى هي العهد الذي ازدهرت فيه الكاثوليكية، وسيطرت على حياة الناس بما كان يكسوها من رداء الشعر، بدأ أديبنا ينظر إلى تلك العصور نظرته إلى المأوى الذي تجد فيه الروح كنَّها. وهل يكون الأدب أدبًا إذا لم يعش الأديب بروحه في تلك العصور التي فاحت أيامها بعبير الإيمان! فماذا أنت قائل إذن في قصة «جيته» «ولهلم مايستر» التي جعلها زميلك «شليجل» أحد مقوماتٍ ثلاثة للعصر كله: هي «ولهلم ما يستر» وفلسفة «فخته» والثورة الفرنسية، والتي تقوم على الواقع الراهن ولا تعود بخيالها إلى تلك العصور؟ أقول إنني شديد الإعجاب بها، لكني لا أسلكها في أدب الابتداع الذي قوامه الخيال والوجدان.
الفرق بين قصة «جيته» «ولهلم مايستر» وقصة «نوفالس» «هنريش فون أوفتردنجن» هو أن «نوفالس» كان واضح المرمى في قصته؛ فليس البطل هنا كالبطل عند «جيته» تكتنف أغراضه سحب الغموض فلا ينفك باحثًا، ولا ينفك جاهلًا بحقيقة ما يبحث عنه، بل البطل هنا عند «نوفالس» يبدأ رحلته شاعرًا وغايته المحددة هي أن يظفر من رحلاته ﺑ «الزهرة الزرقاء» — وهي شعار أدباء الابتداع — وأمله في بلوغ غايته لا يتزعزع، فليس هو مثل «مايستر» يصادف في حياة الواقع ما يهدُّ فيه العزمَ ويبعث في نفسه الشكوك، بل تراه يمضي في رحلته ويبلغ ما يريد، فيجد ما أراده حقيقة لا أوهامًا، لأن ما أراده هو حياة الروح؛ وتستطيع الروح أن تحيا لو استعادت بالخيال مفاتن العصور الوسطى.
(٢) لدفج تيك Ludwig Tiech (١٧٧٢–١٨٥٢م)
(٣) كلمنز برنتانو Clemees Brentano (١٧٧٨–١٨٤٢م)
(٤) فون آرنم Achim Von Arnim (١٧٨١–١٨٣١م)
(٦) زاكارياس فرنر Zacharias Werner (١٧٧٦–١٨٢٣م)
وهذا أديبٌ ابتداعيٌّ آخر، اقترنت ابتداعيته بعربدة في حياته كما حدث لزميله «برنْتانو»؛ لولا أنه في شبابه أخذ يتذبذب بين حياة الفجور وحياة التصوف الديني. بدأ حياته الأدبية بقصتَين «أبناء الوادي» و«الصليب على البلطيق»، في الأولى يروي عن انهيار طائفةٍ دينية كانت تُعرف باسم فرسان المعبد، وفي الثانية يقصُّ كيف تحولت ألمانيا الوثنية إلى ألمانيا المسيحية، لكنه لم يبلغ مجده بهاتين القصتَين، بل كان المسرح مجال نبوغه، فأصدر مسرحية «مارتن لوثر» ظفر بها باسمٍ في عالم المسرح، لعله هو الذي جعل «جيته» يقربه منه حين جاء «فرنر» إلى فيمار. ومن علاقة الأديبين أحدهما بالآخر، نتجت مسرحيةٌ أخرى، عنوانها «الرابع والعشرون من فبراير» تقع أهميتها في ذاتها أولًا وفي كثرة ما كتب على غرارها من المسرحيات ثانيًا؛ المسرحيات التي تنشئ المأساة على أساس سطوة القدر المنتقم، وأمرها هو أن «فرنر» فقد أمه وفقد صديقًا عزيزًا له في يومٍ واحد هو الرابع والعشرون من فبراير عام ١٨٠٤م، فنبه فيه هذا التوافق في وقوع النكبات شعورًا دفينًا فيه، هو الشعور بقوة القدر في مجرى الحوادث. وخلاصة حوادث المسرحية أن شابًّا من سويسرا اعترك مع أبيه بشأن فتاة أراد الزواج منها، وبلغت حدة العراك حدًّا جعل الولد يرمي أباه بخنجرٍ أخطأه، لكن الوالد مات على الأثر، وفي موته استنزل اللعنة على ابنه العاق وزوجته. وأنسل الولد وزوجته ابنًا وابنةً، فشاء القدر أن يرمي الولد أخته بنفس الخنجر فيرديها ميتة؛ مما جعل أباه في ثورة غضبه يطرده مستنزلًا عليه اللعنة كذلك. وأخيرًا تجد الرجل وزوجته كهلَين في كوخ فوق سفح الجبل، يعيشان في فقرٍ مدقع، ويطرق بابَهما غريبٌ ذاتَ ليل، وينتهز الرجل هذه الفرصة ويفتك بالزائر الغريب وهو في نعاسه ليسلبه ما عسى أن يكون معه من مال، يفتك به بالخنجر نفسه، وما هو إلا أن تنكشف له الحقيقة المرعبة وهي أنه إنما فتك بابنه الطريد! والكاتب يجعل حوادث القتل كلها تتم بخنجرٍ واحد، وفي يومٍ واحد من العام، هو الرابع والعشرون من فبراير، ليرمز بذلك إلى العقيدة الخفية في النفوس، بأن القدر متربص لفاعل السوء، لا بل إنه ليتربص له في شيء من دقة التدبير، فكثيرًا ما يجعل العقاب في نفس المكان أو في نفس الزمان أو بنفس الأداة التي وقعت بها الجريمة.
كانت هذه المسرحية ذات فصلٍ واحد، وهي قطعةٌ فنية من حيث شعرها وفنُّها المسرحي على السواء، وقد فتحت الباب بعدها لفصيلة بأسرها من المآسي التي تقوم على أساسها؛ المآسي التي تصور أسرة حلَّت بها النقمة لجريمة اقترفها أحد أفرادها فيما مضى. غير أن المحاكاة لا بد يومًا أن تنتهي إلى الضعف، وهكذا حدث في نهاية الأمر لهؤلاء المقلِّدين؛ إذ وصلت بهم المحاكاة مرحلة كانوا لا يراعون فيها أن ينتقم القدر ليضع الأشياء في نصابها الصحيح، بل يربطون العلاقة بين القدر وبين مكانٍ أو زمانٍ أو أداةٍ ربطًا آليًّا لا يحمل شيئًا من المعنى. وبهذا أصبح الأساس أقرب إلى التخريف منه إلى الشعر، فالخرافة — كما قال جيته — قد تكون هي شعر الحياة، إذا عولجت كما عالجها «فرنر» في مسرحيته هذه، ولكنها كذلك قد تكون تخريفًا لا أكثر ولا أقل، إذا فهمت على النحو الذي فهمها به هؤلاء المحاكون، حين رأوا تناسبًا بين الجريمة والعقاب، حين يقع العقاب في نفس مكان الجريمة أو زمانها أو بالأداة التي اقتُرفت بها، دون أن يؤيدوا هذا التناسب بسند من معنى العدالة.
(٧) هنريش فون كليست Heinrich von Kleist (١٧٧٧–١٨١١م)
إذا غزا الأمةَ غازٍ وكانت أمةً حية، أخذ الأدب بقسطٍ موفور في إنهاض الشعور القومي ليرد المعتدي عن محراب الوطن؛ وقد وقعت ألمانيا تحت أقدام نابليون، فلا بد لأدبائها أن يستعينوا بربة الأدب على هذا الغازي، وكانت ألمانيا عندئذٍ لم توحَّد أمةً؛ إذ كان يتقسَّمها الأمراء الحاكمون، لكن حملة التحرير التي نهض بها الألمان ضد نابليون كانت من بواعث نشوء القومية الألمانية؛ ومن أجل هذه الوحدة الألمانية كان يحارب الأدب الألماني حتى ظفر.
ولو استثنينا «جيته» كان «فون كليست» أهم أدباء العصر النابليوني في ألمانيا، وكان «فون كليست» فوق كل شيء كاتبًا مسرحيًّا موهوبًا، وإن تكن موهبته هذه لم تنكشف كلها لبني عصره، فكل من سبقه إلى كتابة المسرحية من أدباء المدرسة الابتداعية: شليجل (الشقيقان كلاهما) و«برنتانو» و«آرنم» و«تيك» و«فرنر»؛ كلهم كانوا بمثابة من جاءوا ليمهدوا الطريق إلى المسرحية الابتداعية بمعناها الصحيح على يدي «فون كليست».
(٨) فريدريش روكرت Friedrich Rűchert (١٧٨٨–١٨٦٦م)
يكاد يستحيل أن يخلو عصر ممن يؤمنون أن حياة الإنسانية تسير من سيئ إلى أسوأ؛ فالقدماء كانوا في أخلاقهم أفضل، وفي أدبهم أروع، وفي فنِّهم أنبغ. ثم يزداد هذا الشعور حدة إذا ما وجد الناس أن ما يعلقون عليه آمالهم قد تبين فيه السوء والفساد؛ فهذه هي الثورة الفرنسية قد فتحت آفاق الأمل أمام المستبشرين الذين رجوا منها أن تؤدي بالناس إلى حرية ومساواة وإخاء، هذه هي الثورة قد انقلبت في أعين الناس إرهابًا وإرهاقًا للنفوس واستبدادًا في الحكم! فالرجاء الذي لا رجاء سواه، إن أردت أن تسعد بحياتك، هو أن تغضَّ النظر عن الحاضر، وأن تعود بخيالك إلى الماضي الجميل، بل إن استطعت أن تعيش حياتك كما عاش الأقدمون. وبهذا انقسم الناس جماعتين: واحدة تنظر إلى المستقبل وتمزج نفسها بشئون الحياة الحاضرة، وأخرى تلوي عنقها نحو الماضي وتنطوي على نفسها بخيالها. الأولى تهتدي بالعقل وإملائه، والثانية تمجد التقليد وإيحاءه. فأين تضع الأدباء الابتداعيين؟ بين الجماعة الثانية ولا ريب، بين أولئك الذين يفتنهم الماضي بسحره مع اختلاف في معنى الماضي، فقد تجد الابتداعي الذي يجد ضالته في عهد اليونان، وقد تجد الابتداعي الذي يلقي عصاه بخياله في العصور الوسطى التي سادتها سلطة الكنيسة وقوة الإيمان، ثم قد تجد الابتداعي الذي يريد أن يجعل ماضيه أبعد من هذا وذاك، وقد لا يكون البعد في المسافة الزمنية، بل في المدى الذي ينبغي للخيال أن يعبره، في الشرق الذي يرتسم في أذهان الغربيين أحيانًا وكأنه بلاد السحر والعجائب، فما أبعد الشوط بين أوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر وبين بلاد الهند وبلاد العرب! ما أبعد الشقة بين الواقع إذ ذاك وبين ما عسى أن يصادفه خيال الأديب لو عاش في تلك الأصقاع!
هذا هو «جيته» يدير البصر إلى هذا الشرق البعيد ليخلص من الواقع الذميم، إلى هذا الشرق كما يراه مصوَّرًا في ألف ليلة وليلة وما إليها من مفاتن الخيال، إلى هذا الشرق كما يُروى عنه في أشعار الهندوس والفرس والعرب. لكنك لكي تعود بالخيال إلى تلك الأصقاع فلا بد من علمٍ دقيق بها، وإلا شطحتَ في ترهات وأكاذيب، ومن هنا نشأت جماعة من المستشرقين في ألمانيا جعلت بغيتها مثل هذه الدراسة الدقيقة للشرق في تاريخه وعلمه وأدبه وديانته وسائر ما يتصل به، بل نشأت الرغبة الشديدة عند كثير من الأدباء أن يدرسوا لغات هؤلاء الأقوام، فالشقيقان «شليجل» اللذان حدثناك عنهما علمَين من طلائع النهضة الابتداعية في ألمانيا درسا اللغة السنسكريتية، وتبعهما كثيرون، لأن سحابة الأحلام التي تكتنف آداب الشرق تصادف هوًى عند من جعل الأدب الابتداعي مذهبه. وضَرَب كبير الشعراء الألمان «جيته» لزملائه بنفسه مثلًا، إذ أصدر ديوانه الشرقي الذي زعم أنه فارسي وما هو بفارسي، لا روحًا ولا مادة؛ ﻓ «جيته» في هذا الديوان بمثابة من يُبدي غبطته إن وجد في «حافظ الشاعر الفارسي» زميلًا له في وجهة النظر، وراح يوهم أنه ينظر إلى الحياة كما نظر إليها «حافظ»، لكنه في الواقع إنما كان يعبر عن آرائه هو ومشاعره هو، مستخدمًا في هذا السبيل أسماءً شرقية.
وبين الرجال الذين فتنهم الشرق فوجَّهوا إليه عنايتهم، «روكرت» الذي قضى حياته الطويلة أستاذًا مستشرقًا من جهة، وشاعرًا ينظم القصيد من جهةٍ أخرى، وقد نظم طائفةً كبيرة من «قصائد الغزل» — قصائد منظومة على غرار الشعر العربي في الغزل، تجري في القصيدة قافيةٌ واحدة — كما ترجم مجموعةً منوعة من الشعر عن السنسكريتية والفارسية والصينية والعربية والعبرية وغيرها من اللغات الشرقية. ولو قيس الشعراء بضخامة نظمهم، كان «روكرت» في طليعة شعراء القرن التاسع عشر، ولكن كثيرًا جدًّا من شعره المتأخر رديء، وجيد شعره هو ما نظمه في صدر حياته.
(٩) أوجست فون بلاتن August Von Platen (١٧٩٦–١٨٣٥م)
وهذا رجلٌ آخر ممن عُنوا بالشرق؛ نظم كثيرًا من «قصائد الغزل» — القصائد التي قلنا إنها تقليد الشعر العربي — لأنه كان يؤمن إيمانًا قويًّا بقيمة هذا اللون من الشعر، وامتدح شعرَه هذا «جيته» لكن كثيرين لم يروا فيه سوى قدرةٍ على صوغ القوافي، لا أكثر ولا أقل، فكأنما القصيدة قالبٌ أجوف لا مادة فيه. ولعل أقوى وأقذع ما قيل في نقد «قصائد الغزل» ما قاله «هيني» من أن قارضيها كانوا بمثابة من أكل من «جنة شيراز» حتى أتخم نفسه فتقيَّأ هذه «القصائد الغزلية»! ونشأت على أثر ذلك بين الأديبَين «بلاتن» و«هيني» معركةٌ أدبية، لكن «بلاتن» بالطبع لا تُقاس قامته إلى قامة «هيني»، فوضعه الناس حيث وضعه «هيني» إذ اعتبروه شاعر صنعة لا شاعر طبع؛ فكل قدرته انحصرت في صياغة القصائد التي لا مادة فيها ولا شعور. ولقد أصاب «هيني» في حكمه هذا على شعر «بلاتن» إلى حدٍّ ما؛ فلم يكن شعره بالذي يوقظ بأنغامه أحلام قارئيه أو سامعيه، بحكم أنه صيغ في قوالب لم تألفها الأسماع، فمن أراد أن يستمتع بشعره فليُعمِل فيه الفكر ليبلغ معانيه؛ فإن كنت ممن لا يؤمنون بأن مثل هذا النظم يدخل في دولة الشعر فليس «بلاتن» عندك شاعرًا، أما إن كنت ممن يفسح المجال في دولة الفن إلى الشعر الذي يروع بفكره لا بأنغامه، فسيجد «بلاتن» عندك مكانًا يستقر فيه.
(١٠) هنريش هيني Heinrich Heine (١٧٩٧–١٨٥٦م)
ها نحن أولاء نسوق لك الآن عملاقًا من عمالقة الشعر في آداب العالم أجمعين؛ «هيني» الذي كان ابتداعيًّا على نحوٍ خاص به، فلا هو متمرد على الواقع الحاضر، كما تمثله الثورة الفرنسية وأعقابها، فيتركه جملةً واحدة لينطوي بخياله على أحلام الماضي، ولا هو تارك هذا الماضي جملةً ليحصر نظره في الواقع، إنما كان «هيني» بعواطفه شيئًا وبعقله شيئًا آخر، فعاطفته مع الماضي وعقله صنيعة الحاضر الواقع.
كان «هيني» في شعره بمثابة من يعترك مع الحياة اعتراكًا ربما كان مصدره مرض أعصابه الذي انتهى به آخر الأمر إلى شللٍ ألزمه الفراش — وقد أطلق على فراشه إذ ذاك «قبر من حشايا» — على أن هذه النظرات السوداء كانت ترتفع عنه أحيانًا لتأخذ مكانها نوباتٌ من مرح تجد سبيلها إلى شعره في ضحكات ونكات، ولكنها أيضًا ضحكات السخرية من إنسانية ضلت سواء السبيل، على الرغم من أنه لم يكن باليائس من أن تهتدي الإنسانية إلى الطريق القويم، بل كان يؤمن أنها تستطيع ذلك بالهداية البصيرة، وجعل همه أن يكون هو أحد الهداة. وها نحن أولاء نقدم لك بعض شعره:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وهذه قصيدةٌ أخرى:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
(ب) القصة
(١) فردريش دي لامت فوكيه Friedrich de la Motte Fouqué (١٧٧٧–١٨٤٣م)
ويجدر بنا أن نذكر هنا على سبيل المقارنة أديبًا آخر أسلفنا الحديث عنه، هو «تيك» الذي كان عندئذٍ يكتب أقاصيص قصارًا يتوخى فيها ما يشبه الواقع، إذ لم يركن في أقصوصته إلى غرابة الحوادث كما فعل «فوكيه» بل جعل ركيزته حكمة الحوار الذي يديره بين الأشخاص؛ فقد كان يقدم لقارئه شخصَين أو مجموعة أشخاص لكلٍّ منهم خُلُقه الذي يميزه من سواه، ثم يتركهم ليناقش بعضهم بعضًا في موضوع يختاره لهم من الفن أو الأدب أو الموسيقى أو الفلسفة؛ لأن الذي كان يهتم له «تيك» من الطبيعة الإنسانية هي كيف يفكر الإنسان، لا كيف يسلك أو يتصرف في الظروف المختلفة. ولم يكن الحوار الذي يديره بين الأشخاص عباراتٍ قصيرةً على هيئة السؤال والجواب، أو على صورة ما يجري في الحياة من سمر، بل كان في معظمه عرضًا طويلًا لفكرة يتقدم بها شخص ليُردَّ عليه شخصٌ آخر بعرضٍ طويلٍ لفكرةٍ أخرى أو لنقد الفكرة التي سمعها من زميله. فإن لم تكن أقاصيص «تيك» صورةً لحياة عصرها، فهي بلا شك صورةٌ لتفكير أهل ذلك العصر. ولم يلجأ «تيك» في تلك الأقاصيص إلى العناصر الخارقة لما هو مألوف، كالجن والملائكة وما إلى ذلك، على خلاف الاتجاه العام الذي كان سائدًا بين أدباء القصة في عصره؛ إذ كان من عناصر الأدب الابتداعي إحياء خرافات العهد القديم، لا لذاتها، بل لأنهم إذ أرادوا إحياء الأغاني الشعبية أو الحكايات الشعبية، لم يكن لهم محيص عن إحياء ما انطوت عليه تلك الأغاني والحكايات من خرافات ومن التحدث عن المخلوقات الخارقة للمألوف.
(٢) أدلبرت فون شاميسو Adelbert vou Chamisso (١٧٨١–١٨٣٨م)
(٣) أرنست تيودور هوفمان Ernest Theodor Hoffmann (١٧٧٦–١٨٢٢م)
كان «هوفمان» مثل زميله «شاميسو» ممن يضفي خياله على المستحيل مسحةً واقعية من صدق التصوير في مجرى الحوادث وتفصيلاتها. وهو فوق براعته الأدبية موسيقيٌّ موهوب ورسامٌ نابغ، كأنما وهبه الله إحساسًا لاقطًا لكل ضروب الجمال من مرئي ومسموع. ومن خصائص «هوفمان» في أدبه أنه كان يختار لموضوعاته ما يثير الرعب في نفس القارئ — وبمثل هذه الخاصة يتميز أدب إدجر ألن بو — فهو يكتب عن الجن والأشباح والأماكن «المسكونة» بالعفاريت، وعن السحر والعرافة والجَوَلان النومي وتخليط المحموم وهواجسه، وعن الإجرام ودوافعه والجنون بدرجاته وما إلى ذلك.
(٤) بتينا فون آرنم Bettina von Arnim (١٧٨٥–١٨٥٩م)
عاشت «بتينا» حياةً فيها الحياة بكل معانيها؛ حياة تتأثر بكل ما يسرُّ وما يحزن مما يقع حولها، وعرفت مشاهير الرجال في عصرها، فعرفت «جيته» والتقت به مراتٍ عدة، بل جاءها منه بضع رسائل عبَّر فيها عن شعورٍ جميل نحوها، وعرفت أم «جيته» وأخذت عنها مذكرات وحكايات، ومن هذه المذكرات والحكايات التي لقفتها من شفتَي أُمِّ أديب ألمانيا الأكبر، أنشأت هذا الكتاب تمجيدًا للرجل الذي ملك عليها أحلامها وهي في عهد الشباب. ولم تكن «بتينا» لتجهل ما قد يفسر به الناس هذه الرسائل التي تخيلت أن «جيته» بعث بها إليها، لكنها لم تأبه لهذا، موقنة أنها ستصادف فهمًا صحيحًا عند من ينزعون بعقولهم نزعة الخير، وإلى هؤلاء كانت تريد بأدبها، وليفسر أصحاب السوء رسائلها كيف شاء لهم شرهم؛ فهذه الرسائل مذكرات لم تصدر عن «جيته» حقيقة بل هي خيال امرأةٍ موهوبة صورت بقلمها ما كان جائزًا أن يكون. ولو أطلقت على كتابها «رسائل شاعر إلى امرأة» لكان أدنى إلى الصواب، لأنها في هذه الرسائل تصورت الشاعر في «جيته» وتصورت «المرأة» في نفسها، وأدارت الرسائل بين هذين الطرفَين. وهي حين رمزت إلى نفسها ﺑ «طفلة» في عنوان الكتاب، أرادت أن تعبر عن إحساسها إزاء هذا الجبار، فهي بالقياس إليه طفلة إلى جوار عملاق. وقد مجَّدت في بطلها «جيته» المحب؛ مجدت فيه الرجل يعيش بما يمليه عليه الشعور والدافع الفطري، لأنها هي نفسها عاشت حياتها وفق إملاء شعورها ودوافعها الفطرية، وليس من اليسير أن تعيش في مجتمع مثل هذه الحياة.