الفصل الأول: أدب الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر

(أ) الشعر

نشأت في ألمانيا عناصر الابتداع في الأدب قبل أن تنشأ فيها مدرسةٌ ابتداعية؛ فلا شك أن «جيته» كان ابتداعيًّا في أدبه، ولا شك كذلك أن «لِسِنْج» حين هاجم قواعد الأدب الفرنسي في عصره الاتباعي كان في الوقت نفسه داعيًا إلى الابتداع، وأنه حين أنشأ قصة «ناثان الحكيم» كان يهتدي في إنشائها بأحوال الأدب الابتداعي؛ أضف إلى ذلك تيارًا جارفًا نحو اعتداد الفرد بنفسه باعتباره فردًا، ثم أضف كذلك شعورًا جديدًا سرى بين الأدباء أن ينظروا إلى الطبيعة نظرة من يستوحي شيئًا من التصوف، لأنها دون سواها المعين الذي توحي إليك ينابيعه بمثل هذه النظرة الروحية. هذه كلها عناصرُ ابتداعية نشأت في ألمانيا قبل أن تنشأ فيها مدرسةٌ ابتداعية، وإنما نعني بهذه المدرسة جماعة من الأدباء يجتمعون على أسسٍ معينة وهم على وعي بتلك الأسس، ويُنشِئون أدبًا ابتداعيًّا وهم يعلمون ما يصنعون ويحاولون أن يدعوا الناس إلى اتباعهم والنسج على منوالهم.

ويمكن القول إن مدرسة الابتداع الأدبي قد نشأت في ألمانيا حين أصدر الشقيقان «ولهلم شليجل»١ و«فردريش شليجل»٢ مجلةً أدبية أطلقا عليها «أثنيوم»٣ وأخذا يفصلان فيها قواعد الابتداع ويحددان معانيه ومراميه. وكان الأخوان معجبَين ﺑ «جيته» ويريان في أدبه نموذجًا صالحًا، وكان أصغرهما هو القوة الدافعة في تحرير المجلة، اتخذ لنفسه موقف من يسنُّ القوانين دون أن تكون له القدرة على الابتكار والخلق وفق تلك القوانين التي يسنُّها. ومما نذكره عنه أنه درس الفلسفة اليونانية ثم تشبَّع بفلسفة «فخته»٤ المثالية، وكان «فخته» إذ ذاك يحاضر في جامعة «يينا» ويؤثر في تلاميذه بفلسفته أعمق الأثر. ولو جاز لنا أن نلخص مذهبًا فلسفيًّا بأسره في عبارةٍ واحدة، قلنا إن فلسفة «فخته» ترمي إلى جعل الفرد وما لديه من أفكار عن العالم هو العالم الذي لا عالم سواه، فأنت وما في رأسك من خواطر كل شيء، ومهما حاولت أن تخرج من حدود نفسك إلى ما يسمونه العالم الخارجي وجدت نفسك في هذه المحاولة نفسها محدودًا بدخيلة نفسك؛ الفرد هو كل شيء! ألا ما أخصبها من فلسفة إذا أردنا أن نتخذ منها ذريعة للنهوض بالأدب والحياة. وهكذا أخلص «شليجل» الأصغر لأدب «جيته» وفلسفة «فخته» إخلاصًا حدا به أن يقول إن هذه الفلسفة وذلك الأدب هما مركزا الفن والثقافة في ألمانيا. ولما كان شعر «جيته» تمثله قصته «ولهلم مايستر»٥ كانت مقومات العصر في رأيه ثلاثة: «ولهلم مايستر» و«فلسفة فخته» و«الثورة الفرنسية»؛ إن «ولهلم مايستر» كتاب «جاء فيه التفكير والتعبير على نحو ما نتوقعه من رجلٍ شاعرٍ موهوب وفنان بلغ الكمال» ففي هذه القصة الرائعة ترى كل فنون الأدب قد اجتمعت في صعيدٍ واحد، فترى فيها نثرًا وترى فيها شعرًا كما ترى فلسفة ونقدًا وتعبيرًا للكاتب عن طوية نفسه، وإذن فلتكن رسالة الشعر الابتداعي في رأي «شليجل» الأصغر أن يمزج كل صنوف الأدب في آيةٍ واحدة، على أن تطعم هذه الآية الواحدة بالنظرات الفلسفية، وأن تصاغ وفق ما تقتضيه بلاغة القول وفصاحته، وأما ما أنتجه «شليجل» هذا — أصغر الأخوين — فمقالاتٌ فلسفية، وتاريخ للأدب كان في طريقة أدائه مبتكرًا، وهو أول من ألَّف من أدباء الألمان كتابًا عن لغة الهندوس وأدبهم، ولم يكن إنتاجه الأدبي الخالص من شعر ورواية وقصة ذا شأنٍ يذكر.

وربما كان أكبر الأخوين أبقى أثرًا بترجمته سبع عشرة مسرحيةً عن شيكسبير وبمجموعة محاضراته القيمة عن الأدب المسرحي، وبمقالاته النقدية التي أنشأها في أدب «جيته» فكانت عاملًا قويًّا أدى إلى زيادة العناية بهذا الأديب العبقري في عصر الابتداع؛ فقد كانت ﻟ «شليجل» الأكبر نظراتٌ صادقة في النقد الأدبي، حتى إنه ليعد بين الطبقة الأولى من رجال النقد في ألمانيا. ولو استثنيت «لوثر» وترجمته للإنجيل إلى اللغة الألمانية في عهد الإصلاح الديني، جاز لك في يقين أن تقول عن «شليجل» إنه خير من ترجم أدبًا إلى الألمانية بين الألمان.

(١) نوفالس Novalis (١٧٧٢–١٨٠١م)

«نوفالس» اسمٌ مستعار كنَّى به أديب عن نفسه، أما اسمه الصحيح فهو «فردريك فون هاردنبرج»٦ الذي كان بين جماعة الأدباء التي قامت على تحرير الصحيفة الأدبية التي أسلفنا ذكرها — مجلة أثنيوم التي أنشأها وتعهدها الأخوان شليجل — وقد خلف لنا «نوفالس» نتفًا أدبيةً هي خير تراثه، تراها فتحسبها لمعاتٍ من الضوء الخاطف انعكس شعاعها على مرآةٍ عقليةٍ مصقولة، صقلتها فلسفة «فخته» أيضًا كما أثرت في «شليجل» أصغر الأخوين.

كان «نوفالس» بروتستنتي العقيدة، لكنه أحب الكاثوليكية لجمالها الفني، ولما كانت العصور الوسطى هي العهد الذي ازدهرت فيه الكاثوليكية، وسيطرت على حياة الناس بما كان يكسوها من رداء الشعر، بدأ أديبنا ينظر إلى تلك العصور نظرته إلى المأوى الذي تجد فيه الروح كنَّها. وهل يكون الأدب أدبًا إذا لم يعش الأديب بروحه في تلك العصور التي فاحت أيامها بعبير الإيمان! فماذا أنت قائل إذن في قصة «جيته» «ولهلم مايستر» التي جعلها زميلك «شليجل» أحد مقوماتٍ ثلاثة للعصر كله: هي «ولهلم ما يستر» وفلسفة «فخته» والثورة الفرنسية، والتي تقوم على الواقع الراهن ولا تعود بخيالها إلى تلك العصور؟ أقول إنني شديد الإعجاب بها، لكني لا أسلكها في أدب الابتداع الذي قوامه الخيال والوجدان.

وكتب «نوفالس» قصةً — لم تكمل — أطلق عليها اسم بطلها «هنريش فون أوفتردنجن»،٧ وأراد بها أن يعارض قصة «جيته» «ولهلم مايستر»، وتُعدُّ هذه القصة ممثلة للمدرسة الابتداعية في أول مراحلها في ألمانيا؛ والعصر الذي تدور فيه حوادث القصة هو العصر الوسيط الذي خلب فؤاد «نوفالس»، لكنه زخرف هذا العصر وزوَّقه بخياله حتى لم يعد كما عرفه التاريخ. يقصُّ الأديب عن بطله «هنريش فون أوفتردنجن» أنه رافق أمه في رحلة إلى جده، ورافقهما في السفر جماعة من التجار كانت تتحدث معهما في الشعر والفن، فكان هذا الحديث أول درسٍ حقيقي تلقَّاه الفتى في أصول الفن والشعر. فما إن بلغ مكان جده حتى أسلم نفسه لقيادة شاعر هناك أخذ يلقنه أصول الشعر الابتداعي وسر جماله. ويحب الفتى ابنة الشاعر المعلم — كما أحب «نوفالس» نفسه فتاةً صغيرةً ماتت في صدر شبابها فأماتته الحسرة عليها بعدها بقليل — وتموت ابنة الشاعر الحبيبة، كما ماتت محبوبة الأديب نفسه؛ ويحب «هنريش» بطلُ القصة فتاةً أخرى يجد فيها بعض العزاء، كما أحب «نوفالس» نفسُه فتاةً أخرى وجد في حبها بعض العزاء.

الفرق بين قصة «جيته» «ولهلم مايستر» وقصة «نوفالس» «هنريش فون أوفتردنجن» هو أن «نوفالس» كان واضح المرمى في قصته؛ فليس البطل هنا كالبطل عند «جيته» تكتنف أغراضه سحب الغموض فلا ينفك باحثًا، ولا ينفك جاهلًا بحقيقة ما يبحث عنه، بل البطل هنا عند «نوفالس» يبدأ رحلته شاعرًا وغايته المحددة هي أن يظفر من رحلاته ﺑ «الزهرة الزرقاء» — وهي شعار أدباء الابتداع — وأمله في بلوغ غايته لا يتزعزع، فليس هو مثل «مايستر» يصادف في حياة الواقع ما يهدُّ فيه العزمَ ويبعث في نفسه الشكوك، بل تراه يمضي في رحلته ويبلغ ما يريد، فيجد ما أراده حقيقة لا أوهامًا، لأن ما أراده هو حياة الروح؛ وتستطيع الروح أن تحيا لو استعادت بالخيال مفاتن العصور الوسطى.

(٢) لدفج تيك Ludwig Tiech (١٧٧٢–١٨٥٢م)

عاش «تيك» حتى عُمِّر، على عكس زميله في الابتداع «نوفالس» الذي مات ولم يُوفَّ من العمر ثلاثين عامًا؛ فمكَّن العمر الطويل ﻟ «تيك» أن يكون غزير الإنتاج، وأن يجيء إنتاجه منوَّعًا، حتى ليعدُّ بين رجال المدرسة الابتداعية في ألمانيا أوسعهم أفقًا وأشملهم لصنوف الأدب، وكانت باكورته الأدبية قصة «وليم لفل»٨ التي يكتنفها جوٌّ حزين تنعكس فيه الحياة اليائسة التي اعترضت «تيك» في أعوام شبابه، وكانت هذه القصة التي نفث فيها كربه بمثابة الاعتراف الذي يزيح عن صدر المعترف عبئًا ثقيلًا، وبعدئذٍ أدرك «تيك» أنه أفرط في النظرة الجادة إلى الحياة، وحسب تلك النظرة الجادة قصةٌ واحدة تعبر عنها، وليلفت أنظاره الآن إلى جانبٍ آخر ليكون أدبه ذا لونٍ آخر، وذلك ما كان؛ إذ أصبح أدبه بعد قصة «وليم لفل» خفيفًا رشيقًا لكنه مترع بالسخرية، وكانت عادته أن يتخذ من قصص الأطفال تُكأة لأدبه وإطارًا يصوغ فيه ما أراد أن يتوجَّه به إلى أصحاب الرزانة العقلية في عصره من سخريةٍ لاذعة، ومن هذا القبيل قصتاه «ذو اللحية الزرقاء» و«الهرة في الحذاء». لقد نظر «تيك» إلى الحياة نظرةً عقلية فأجهد نفسه بغير طائل، وها هو ذا ينظر إليها نظرة الرجل الساذج كما تُصوِّرها أمثال تلك القصص التي تُروى للأطفال فتشبع خيالهم الجامح، وكما تصوِّرها «الحواديت» الشعبية التي لا تعلل ظواهر الحياة على نحوٍ يرضي منطق العقل، والتي لا ترى في الحياة والأحياء لغزًا محيِّرًا، إنها حكايات يلذُّ سماعها ويريحك الإنصات لها كأن لها فعل السحر الذي يزيل العناء؛ فقد وجد «تيك» نفسه إزاء تلك الحكايات الشعبية الصبيانية كما يجد الفيلسوف الحزين نفسه، إذ يشارك أطفاله الصغار لعبهم فينسى حزنه وتفكيره؛ وإذن فليكن هذا مجالًا خصيبًا لقلمه لعل غيره ينتفع بمثل ما انتفع هو، ليكتب هذه «الحواديت» الشعبية بقلمه كتابة الأديب الذي يحفظ لها سحرها ويزيل عنها شوائبها، ثم إذا هو حاول ابتكارًا فليكن ابتكاره على هذا الأساس نفسه، أساس القصة الشعبية الصبيانية، فهو حتى في مسرحياته لم يحاول أن ينشئ شيئًا يصلح تمثيله على المسرح، إنما كان رائده فيها أن يقدم للقارئ عصر الخرافات وقد طلاه بطلاءٍ ورديٍّ جميل فأخرجه أمام العين عصرًا تسوده العاطفة السليمة والإيمان القوي والشعر الصحيح، فإذا قرأ له قارئ إحدى مسرحياته «حياة القديسة جنيفيف وموتها»،٩ أو «أوكتافيانوس»١٠ أو غيرهما، فينبغي له أن يقرأ الأسطورة وكأنه يقرأ أنباءً جادة، ولا يجوز أن يرى بعقله شيئًا وراء الأسطورة في ظاهرها، لأن ظاهرها هو المراد، وما فيها من حوادث المعجزات يجب أن يقع لديك موقع التصديق كأنها من الحوادث المألوفة التي لا تثير في نفسك الشكوك. ولكي يساعدك الكاتب على مثل هذا الجو الأسطوري، لم يحاول أن يصبَّ شخصياته في قوالبَ واضحة المعالم والحدود، بل تركها على شيء من الإبهام كأنها أشباح، لا بل جعل بين أشخاصه أشباحًا، كما جعل بينها شخوصًا رمزية، فواحدة تمثل الكنيسة وواحدة تمثل الإيمان وثالثة تمثل الحب ورابعة تمثل الخيال وهلمَّ جرًّا، وتتحدث هذه الأشخاص بالشعر الذي لا يقصد من إنشائه إلا النغم وإلا إثارة الخيال.
هذا الحنين من الشاعر إلى ضرب من الجمال يراه في عهود سلفت وسادتها السذاجة والفطرة، ولا يرى له مثيلًا في الحياة المحيطة به، هو لب الأدب الابتداعي في ألمانيا؛ ولذلك ترى «تيك» ينثر في كتابته المناظر والأصداء التي تعيد أمام عين القارئ وفي سمعه حياة العهد الذهبي الغابر، تعيدها له بالإيحاء لا بالطريق المباشر؛ ليلةٌ مقمرة، وغابات لفَّها ظلام الليل، وصائد نفخ في بوقه هناك فترددت أصداء بوقه في جنبات المكان، وراعٍ يرعى قطعانه، وهكذا. وقد كانت أساطير العصور الوسطى هي موضوعه المختار الذي أدار حوله ابتداعه الأدبي، لأنه وجد فيها ما يوحي بالشعر؛ وهذا الحنين إلى الماضي هو الذي دفعه إلى رحلة في صحبة صديقه «فاكِنرودَر»١١ شهدا فيها آثار ألمانيا القديمة التي صادفت منهما إعجاب المفتون لما توحي به من حرارة العقيدة الدينية ومن إحياء للشعور الوطني، وأنشأ كلٌّ من الصديقين أدبًا جميلًا عما شهده من تلك الآثار، وكان ما أنتجه أديبنا «تيك» قصة «فرانز ستييرنبالد في تجوابه»،١٢ وهي قصةٌ تأثرت بقصة «جيته» «ولهلم مايستر»، ﻓ «فرانز ستييرنبالد» شاب سافر إلى هولندا وإيطاليا حيث صادف من أحبَّها، وحيث جرت أحاديث حول الشعر والفن، تتخللها القصائد والأغاني.

(٣) كلمنز برنتانو Clemees Brentano (١٧٧٨–١٨٤٢م)

كان «الشقيقان شليجل» و«نوفالس» و«تيك» بشائر المدرسة الابتداعية، وتبعتهم موجةٌ جديدة من الابتداعية أيضًا عَلَماها هما «آرنم» و«برنتانو» الذي نحدثك عنه الآن، والذي ولد لأبٍ إيطالي وأمٍّ ألمانية، ودرس في صباه في جامعة «يينا»، واتصل بالشقيقَين «شليجل» وتأثر بدعوتهما إلى الأدب الابتداعي، لدرجة حملته على أن «يحيا» وفق القواعد الابتداعية، فها هو ذا يهيم جوالًا في ثياب القدامى، ليعيش كما كانوا يعيشون! وسجل في قصة «جُدْفي»١٣ تجاربه في ذلك العهد؛ تجاربه التي صادفته في حياته وفي غرامه. ولو اعتبرت ثباته على الإفراط في الحياة العاطفية ضربًا من الثبات، كان ذلك هو المثل الوحيد الذي يمكن أن يُساق لما عرفته حياته من ثباتٍ مطرد، وما عدا ذلك كان في حياته متقلَّب الأهواء لا يدوم له حال. وهو في قصته «جدفي» مستهتر يفجؤك بإيمانه بالإباحية في الحب والانغماس في الشهوة، لكنه فيما بعدُ خجل أن تكون «جدفي» هذه من نتاج قلمه، وكان يقول إنه يستحيي أن يذكرها ويخشى إن هو فعل أن يتحول عمودًا من ملح! ومهما يكن من أمرها فقد احتوت على عدد من الأغاني الشعرية الرائعة. وأما أهم أثر له في الأدب فما صنعه في جمعه للأغاني الشعبية مشتركًا مع «آرنم» …

(٤) فون آرنم Achim Von Arnim (١٧٨١–١٨٣١م)

بدأ «آرنم» حياته الأدبية، كما بدأ «برنتانو» حياته، بكتاب يقصُّ فيه تجاربه، وكلا الأديبَين اتجه منذ البداية نحو جمع الأغاني الشعبية، فلما التقيا وتصادقا اتفقا على أن يتآزرا ويتعاونا على عملٍ واحد، وكان أول ما أنتجاه معًا مجموعة من هذه الأغاني الشعبية أطلقا عليها اسم «الصبي وبوقه السحري»١٤ ثم عقبا على هذه المجموعة بمجموعتَين أخريَين، قدم لهما «آرنم» بمقدمةٍ بديعة في أدب الغناء الشعبي، وقد أُهديت المجموعة بأجزائها الثلاثة إلى «جيته» الذي نشر عنها تعليقًا عبر فيه عن إعجابه بها. ولم يقصد الأديبان أن يعيدا الأغاني كما كانت في عهدها القديم، بل لمساها بقلميهما ليزيداها حسنًا على حسنها، ولم يكن لهما عن ذلك محيص إذا أرادا لمثل تلك الأغاني القديمة أن تصادف هوًى عند جمهورٍ حديث؟ وكان لهما ما أرادا من إقبال الجمهور وإعجابه، كأن الناس قد عثروا في تلك الأجزاء الثلاثة من أغاني أسلافهم على ثروةٍ أدبيةٍ قومية لم يكونوا يحلمون بوجودها، تكشف القناع عن روح الشعب الألماني وصميم نفسه. وإن كان من أنشأ هذه الأغاني هو سواد الشعب، هو الرجل من غمار الناس، إذن فقد مضت قرون على هذا الرجل من غمار الناس وهو مجهول وكان ينبغي أن يمجد بطلًا في القصة خاصة وسائر الأدب عامة، ثم إن كانت النظرة الساذجة التي ينظر بها الرجل من غمار الناس إلى الحياة تجد صداها في نفوس المحدثين قويًّا رنانًا، إذن فقد خاب رجاء الذين كانوا عندئذٍ يدعون إلى الاحتكام إلى العقل في أمور الحياة، وإلى النظر إلى عقائد الأقدمين نظرة المحتقر المزدري؛ فتلك العقائد — بكل ما فيها من تخريف — عميقة الجذور في النفوس ولا يمكن اقتلاعها بمثل اليسر الذي توهموه. ثم إن كانت للروح التقليدية كل هذا الأثر في القلوب، فليكن التقليد منذ الآن — لا العقل ومنطقه — هو أساس الدعوة الجديدة التي أُشربت بالعاطفة القومية وبالعطف على الرجل من غمار الناس في آنٍ معًا.
وما دمنا في ذكر هذا اللون من الأدب الشعبي، فيجمل بنا أن نذكر نتاجًا أدبيًّا من القبيل نفسه، كُتب له أن يكون أدبًا للعالم كله فيما بعدُ، ألا وهو مجموعة من القصص أطلق عليها «قصص للأطفال والأسرة»،١٥ أخرجها شقيقان، هما «يعقوب جرمْ»١٦ و«ولهلم جرمْ»١٧ في نفس الوقت الذي أخرج فيه «آرنم» و«برنتانو» مجموعة الأغاني الشعبية.

(٦) زاكارياس فرنر Zacharias Werner (١٧٧٦–١٨٢٣م)

وهذا أديبٌ ابتداعيٌّ آخر، اقترنت ابتداعيته بعربدة في حياته كما حدث لزميله «برنْتانو»؛ لولا أنه في شبابه أخذ يتذبذب بين حياة الفجور وحياة التصوف الديني. بدأ حياته الأدبية بقصتَين «أبناء الوادي» و«الصليب على البلطيق»، في الأولى يروي عن انهيار طائفةٍ دينية كانت تُعرف باسم فرسان المعبد، وفي الثانية يقصُّ كيف تحولت ألمانيا الوثنية إلى ألمانيا المسيحية، لكنه لم يبلغ مجده بهاتين القصتَين، بل كان المسرح مجال نبوغه، فأصدر مسرحية «مارتن لوثر» ظفر بها باسمٍ في عالم المسرح، لعله هو الذي جعل «جيته» يقربه منه حين جاء «فرنر» إلى فيمار. ومن علاقة الأديبين أحدهما بالآخر، نتجت مسرحيةٌ أخرى، عنوانها «الرابع والعشرون من فبراير» تقع أهميتها في ذاتها أولًا وفي كثرة ما كتب على غرارها من المسرحيات ثانيًا؛ المسرحيات التي تنشئ المأساة على أساس سطوة القدر المنتقم، وأمرها هو أن «فرنر» فقد أمه وفقد صديقًا عزيزًا له في يومٍ واحد هو الرابع والعشرون من فبراير عام ١٨٠٤م، فنبه فيه هذا التوافق في وقوع النكبات شعورًا دفينًا فيه، هو الشعور بقوة القدر في مجرى الحوادث. وخلاصة حوادث المسرحية أن شابًّا من سويسرا اعترك مع أبيه بشأن فتاة أراد الزواج منها، وبلغت حدة العراك حدًّا جعل الولد يرمي أباه بخنجرٍ أخطأه، لكن الوالد مات على الأثر، وفي موته استنزل اللعنة على ابنه العاق وزوجته. وأنسل الولد وزوجته ابنًا وابنةً، فشاء القدر أن يرمي الولد أخته بنفس الخنجر فيرديها ميتة؛ مما جعل أباه في ثورة غضبه يطرده مستنزلًا عليه اللعنة كذلك. وأخيرًا تجد الرجل وزوجته كهلَين في كوخ فوق سفح الجبل، يعيشان في فقرٍ مدقع، ويطرق بابَهما غريبٌ ذاتَ ليل، وينتهز الرجل هذه الفرصة ويفتك بالزائر الغريب وهو في نعاسه ليسلبه ما عسى أن يكون معه من مال، يفتك به بالخنجر نفسه، وما هو إلا أن تنكشف له الحقيقة المرعبة وهي أنه إنما فتك بابنه الطريد! والكاتب يجعل حوادث القتل كلها تتم بخنجرٍ واحد، وفي يومٍ واحد من العام، هو الرابع والعشرون من فبراير، ليرمز بذلك إلى العقيدة الخفية في النفوس، بأن القدر متربص لفاعل السوء، لا بل إنه ليتربص له في شيء من دقة التدبير، فكثيرًا ما يجعل العقاب في نفس المكان أو في نفس الزمان أو بنفس الأداة التي وقعت بها الجريمة.

كانت هذه المسرحية ذات فصلٍ واحد، وهي قطعةٌ فنية من حيث شعرها وفنُّها المسرحي على السواء، وقد فتحت الباب بعدها لفصيلة بأسرها من المآسي التي تقوم على أساسها؛ المآسي التي تصور أسرة حلَّت بها النقمة لجريمة اقترفها أحد أفرادها فيما مضى. غير أن المحاكاة لا بد يومًا أن تنتهي إلى الضعف، وهكذا حدث في نهاية الأمر لهؤلاء المقلِّدين؛ إذ وصلت بهم المحاكاة مرحلة كانوا لا يراعون فيها أن ينتقم القدر ليضع الأشياء في نصابها الصحيح، بل يربطون العلاقة بين القدر وبين مكانٍ أو زمانٍ أو أداةٍ ربطًا آليًّا لا يحمل شيئًا من المعنى. وبهذا أصبح الأساس أقرب إلى التخريف منه إلى الشعر، فالخرافة — كما قال جيته — قد تكون هي شعر الحياة، إذا عولجت كما عالجها «فرنر» في مسرحيته هذه، ولكنها كذلك قد تكون تخريفًا لا أكثر ولا أقل، إذا فهمت على النحو الذي فهمها به هؤلاء المحاكون، حين رأوا تناسبًا بين الجريمة والعقاب، حين يقع العقاب في نفس مكان الجريمة أو زمانها أو بالأداة التي اقتُرفت بها، دون أن يؤيدوا هذا التناسب بسند من معنى العدالة.

(٧) هنريش فون كليست Heinrich von Kleist (١٧٧٧–١٨١١م)

إذا غزا الأمةَ غازٍ وكانت أمةً حية، أخذ الأدب بقسطٍ موفور في إنهاض الشعور القومي ليرد المعتدي عن محراب الوطن؛ وقد وقعت ألمانيا تحت أقدام نابليون، فلا بد لأدبائها أن يستعينوا بربة الأدب على هذا الغازي، وكانت ألمانيا عندئذٍ لم توحَّد أمةً؛ إذ كان يتقسَّمها الأمراء الحاكمون، لكن حملة التحرير التي نهض بها الألمان ضد نابليون كانت من بواعث نشوء القومية الألمانية؛ ومن أجل هذه الوحدة الألمانية كان يحارب الأدب الألماني حتى ظفر.

ولو استثنينا «جيته» كان «فون كليست» أهم أدباء العصر النابليوني في ألمانيا، وكان «فون كليست» فوق كل شيء كاتبًا مسرحيًّا موهوبًا، وإن تكن موهبته هذه لم تنكشف كلها لبني عصره، فكل من سبقه إلى كتابة المسرحية من أدباء المدرسة الابتداعية: شليجل (الشقيقان كلاهما) و«برنتانو» و«آرنم» و«تيك» و«فرنر»؛ كلهم كانوا بمثابة من جاءوا ليمهدوا الطريق إلى المسرحية الابتداعية بمعناها الصحيح على يدي «فون كليست».

كان «فون كليست» فقيرًا على الرغم من أنه سليل أسرةٍ شريفة، واتخذ الجندية مهنةً له في صدر الشباب، لكنه لم يلبث أن ترك حياة الجيش ليخلو إلى متابعة مثلٍ أعلى وضعه لنفسه، وهو أن يثقف نفسه بقدر المستطاع. والقراءة والدرس كثيرًا ما ينتهيان — كما انتهيا بفاوست — إلى الحيرة والارتباك بدل أن يؤديا إلى الاطمئنان واليقين. وهكذا كان الأمر مع «فون كليست» إذ انتابه القلق والهم وتعاورته غرابة السلوك، ومع ذلك كله لبث أمام عينَيه طموحه الشعري شاخصًا يدعوه إلى متابعة الطريق، فانتهت به كل هذه العوامل إلى تجواب في ربوع أوروبا لعله يصادف حياة الأمن بين ربوعها، ولازمته في رحلاته فكرةٌ سوداء، وهي الرغبة في الانتحار، وأخذت الفكرة في ذهنه ألوانًا شتى؛ فلماذا لا يموت ميتةً تؤدي به إلى هذا «القبر الفخم الذي ليس لعظمته حد؟» وما ذلك القبر العظيم إلا إنجلترا التي كان نابليون يعد العدة لغزوها، وفكر الأديب القلق أن يلتحق بجيوشه في ذلك الغزو، ولا بأس عليه إن هو مات ليثوي جسده في ذلك القبر المجيد … لا، ليطرحْ هذه الفكرة المتشائمة ولْيذهبْ إلى سويسرا فيحيا حياة فلاحٍ ساذج ويعيش على زراعة الأرض. وأخذ سمته نحو سويسرا، وهنالك سرعان ما تحول به مجرى الحياة عما أراد لنفسه؛ إذ اتصل بجماعةٍ أدبية هناك، وهناك أخرج أول نتاجه الأدبي «أسرة شرفنشتاين»١٨ وهي مأساةٌ شعريةٌ ابتداعية، يموت فيها حبيبان لعراكٍ نشب بين أسرتيهما، كما مات روميو وجوليت عند شيكسبير لخلاف بين أسرتَيهما أيضًا. وبناء المسرحية عجيب في فنه، لأنها تبعثك على الأسى مرةً وعلى الضحك مرةً، ويسودها كلها إصبع القدر فيحرك الحوادث كيف شاء.
ورأى «فون كليست» ذات يوم صورةً منقوشة على جدار بيت صديق له في سويسرا وأوحت له الصورة بمسرحية «الإبريق المكسور»١٩ التي روى فيها قصة قاضٍ تسلَّل ذات مساء إلى غرفة امرأة، وبينما هو يسرع في طريقه إلى الخروج صَدَم إبريقًا فكسره، وأُلقي القبض على رجلٍ آخر حامت حوله الشبهة وجيء به أمام القاضي — القاضي الذي اقترف الجريمة — فأدار هذا مجرى التحقيق على نحوٍ أوقعه في الاتهام آخر الأمر. وفي هذه المسرحية تهكُّمٌ شديدٌ فعَّالٌ قُصد به إصلاح المفاسد والعيوب التي أصيبت بها الأمة الألمانية عندئذٍ، ويقال عنها إنها أجمل وأروع ملهاةٍ شعرية عرفها الأدب الألماني كله. وللشاعر كذلك مأساة «بِنثزِليا»٢٠ التي حكى فيها عن موضوعٍ يوناني، هو القتال بين أخيل وحبيبته، قتالًا أذهب عن الحبيبة رشدها فقتلت حبيبها برميةٍ من رمحها، ثم أفاقت إلى رشدها وعاودها جلال منزلتها باعتبارها ملكة، فطلبت قتل نفسها. وكان غرض الشاعر بهذه المسرحية دراسية الأنانية الهوجاء إذا تملَّكتها العاطفة العمياء فأفقدتها صواب الحكم وحسن التدبير.
ونزلت النازلة، وجاء نابليون إلى قلب البلاد الألمانية ظافرًا منتصرًا، وكان «فون كليست» إذ ذاك يشغل منصبًا كتابيًّا متواضعًا في الحكومة في مدينة «كونجز برج» وتحركت في نفسه الإحنة ضد هذا الطاغية حتى تساءل يومًا: لماذا لا يهمُّ رجلٌ ذات يوم فيرمي رأس هذا الجبار برصاصة في رأسه فيرديه؟ وبدا له أن لا أمل لألمانيا بغير وحدة أجزائها وبغير أن تمتلئ صدور الأمراء والشعب على السواء بوطنيةٍ تضحي بالمصالح الفردية في سبيل مصلحة الوطن كله! ومع ذلك لم يتحول بأدبه فورًا نحو موضوعات الساعة الراهنة، ليحرك النفوس بقلمه، بل ترك منصبه في «كونجز برج» وذهب إلى «درزدن» حيث التقى ﺑ «تيك» ونشأت بينهما صلات الود والصداقة، وحيث أخذ في إنتاج آثارٍ أدبية لم يعرف عنها معاصروه شيئًا، أو عرفوها ولم يقدروها قدرًا عظيمًا، وعندئذٍ أصدر مسرحية «كاتي هيلبِرُن»٢١ التي هي بين رواياته أكثرها قبولًا من الجمهور، لكنها لم تمثَّل في حياة كاتبها. و«كاتي» اسم لامرأة خلقها على نقيض خلق «بنثزليا»؛ فهذه الأخيرة — كما أسلفنا — تصوِّر المرأة وقد غلبت عليها الأنانية التي لا تعرف حدًّا تقف عنده في تحقيق أغراضها، وأما «كاتي» فصورة المرأة التي تخصص حياتها لخدمة حبيبها أو زوجها وإن آلمها هذا الحبيب أو الزوج، فهي تحتمل الألم في سبيله صابرة خاضعة لإرادته.
وللشاعر كذلك مسرحية «معركة هرمان»٢٢ وهي تتصل بالحالة السياسية الألمانية في ذلك العهد اتصالًا مباشرًا، ﻓ «هرمان» يوحِّد رؤساء المقاطعات الألمانية تحت قيادته ويهجم بصفوفٍ متماسكة هجمةً عنيفة على الطاغية الروماني فيظفر بلواء النصر. وإنما وُفق «هرمان» في هذا بفصاحة خطابه الذي وجهه إلى أمراء المقاطعات، وبأنه بدأ بنفسه فتناسى مصلحة شخصه ومصلحة أسرته في سبيل مصلحة الوطن، بل إنه أبدى استعداده أن يُسْلِم قِيَاد نفسه إلى منافسه «مار بُدْ». و«هرمان» هنا يمثل بروسيا، و«مار بُدْ» يمثل النمسا، والطاغية الروماني يمثل نابليون. فالمسرحية كما ترى دعوةٌ صريحة إلى الوحدة الألمانية في وجه نابليون، ولا وحدة بغير نسيان المصالح الشخصية وإنكار الذات في سبيل الخير للمجموع، وله كذلك مسرحية «أمير همبرج»٢٣ التي أراد بها أن يُخفِّف بعض الشيء من وطأة النظام العسكري في ألمانيا، فماذا يحدث لو عصى ضابط أمر قائده، لكنه عن طريق هذا العصيان ظفر بنصرٍ عظيم؟ وأوحى له بهذا الموضوع حادثة وقعت، والذي حدث هو أن قضى الرئيس الأعلى بموت الضابط لعصيانه ثم بشكر الله على أنه أنعم عليه بهذه الأداة التي أتت له بالنصر. وأما «فون كليست» في مسرحيته فجعل الرئيس الأعلى يقضي على الضابط بالموت، ثم يعفو عنه لأنه تبين أن الضابط لم يسمع الأمر الذي صدر له من رئيسه إذ كان عندئذٍ فيما يشبه الحلم يفكر في حبيبته، ولو أنه كان يبدو ويتصرف كما يبدو أو يتصرف اليقظان الواعي. وذهب «كليست» إلى برلين لعله يظفر بمن يقبل مسرحيته هذه — وهي آية في الفن — فتمثل، فيكسب ما يقيم أوده لأنه في فقرٍ مدقع لا يكاد يجد ما يسدُّ به الرمق! لكن أحدًا لم يعرف للرجل قيمته، فما وجدت مسرحيةٌ واحدة من مسرحياته طريقها إلى المسرح إبان حياته، فماذا عسى أن يصنع هذا الشاعر العبقري الموهوب وهو لم يزل في صدر رجولته، في الرابع والثلاثين من عمره؟ يصوب غدارته إلى رأسه فيحطمها ليخلص من هذا الشقاء.

(٨) فريدريش روكرت Friedrich Rűchert (١٧٨٨–١٨٦٦م)

يكاد يستحيل أن يخلو عصر ممن يؤمنون أن حياة الإنسانية تسير من سيئ إلى أسوأ؛ فالقدماء كانوا في أخلاقهم أفضل، وفي أدبهم أروع، وفي فنِّهم أنبغ. ثم يزداد هذا الشعور حدة إذا ما وجد الناس أن ما يعلقون عليه آمالهم قد تبين فيه السوء والفساد؛ فهذه هي الثورة الفرنسية قد فتحت آفاق الأمل أمام المستبشرين الذين رجوا منها أن تؤدي بالناس إلى حرية ومساواة وإخاء، هذه هي الثورة قد انقلبت في أعين الناس إرهابًا وإرهاقًا للنفوس واستبدادًا في الحكم! فالرجاء الذي لا رجاء سواه، إن أردت أن تسعد بحياتك، هو أن تغضَّ النظر عن الحاضر، وأن تعود بخيالك إلى الماضي الجميل، بل إن استطعت أن تعيش حياتك كما عاش الأقدمون. وبهذا انقسم الناس جماعتين: واحدة تنظر إلى المستقبل وتمزج نفسها بشئون الحياة الحاضرة، وأخرى تلوي عنقها نحو الماضي وتنطوي على نفسها بخيالها. الأولى تهتدي بالعقل وإملائه، والثانية تمجد التقليد وإيحاءه. فأين تضع الأدباء الابتداعيين؟ بين الجماعة الثانية ولا ريب، بين أولئك الذين يفتنهم الماضي بسحره مع اختلاف في معنى الماضي، فقد تجد الابتداعي الذي يجد ضالته في عهد اليونان، وقد تجد الابتداعي الذي يلقي عصاه بخياله في العصور الوسطى التي سادتها سلطة الكنيسة وقوة الإيمان، ثم قد تجد الابتداعي الذي يريد أن يجعل ماضيه أبعد من هذا وذاك، وقد لا يكون البعد في المسافة الزمنية، بل في المدى الذي ينبغي للخيال أن يعبره، في الشرق الذي يرتسم في أذهان الغربيين أحيانًا وكأنه بلاد السحر والعجائب، فما أبعد الشوط بين أوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر وبين بلاد الهند وبلاد العرب! ما أبعد الشقة بين الواقع إذ ذاك وبين ما عسى أن يصادفه خيال الأديب لو عاش في تلك الأصقاع!

هذا هو «جيته» يدير البصر إلى هذا الشرق البعيد ليخلص من الواقع الذميم، إلى هذا الشرق كما يراه مصوَّرًا في ألف ليلة وليلة وما إليها من مفاتن الخيال، إلى هذا الشرق كما يُروى عنه في أشعار الهندوس والفرس والعرب. لكنك لكي تعود بالخيال إلى تلك الأصقاع فلا بد من علمٍ دقيق بها، وإلا شطحتَ في ترهات وأكاذيب، ومن هنا نشأت جماعة من المستشرقين في ألمانيا جعلت بغيتها مثل هذه الدراسة الدقيقة للشرق في تاريخه وعلمه وأدبه وديانته وسائر ما يتصل به، بل نشأت الرغبة الشديدة عند كثير من الأدباء أن يدرسوا لغات هؤلاء الأقوام، فالشقيقان «شليجل» اللذان حدثناك عنهما علمَين من طلائع النهضة الابتداعية في ألمانيا درسا اللغة السنسكريتية، وتبعهما كثيرون، لأن سحابة الأحلام التي تكتنف آداب الشرق تصادف هوًى عند من جعل الأدب الابتداعي مذهبه. وضَرَب كبير الشعراء الألمان «جيته» لزملائه بنفسه مثلًا، إذ أصدر ديوانه الشرقي الذي زعم أنه فارسي وما هو بفارسي، لا روحًا ولا مادة؛ ﻓ «جيته» في هذا الديوان بمثابة من يُبدي غبطته إن وجد في «حافظ الشاعر الفارسي» زميلًا له في وجهة النظر، وراح يوهم أنه ينظر إلى الحياة كما نظر إليها «حافظ»، لكنه في الواقع إنما كان يعبر عن آرائه هو ومشاعره هو، مستخدمًا في هذا السبيل أسماءً شرقية.

وبين الرجال الذين فتنهم الشرق فوجَّهوا إليه عنايتهم، «روكرت» الذي قضى حياته الطويلة أستاذًا مستشرقًا من جهة، وشاعرًا ينظم القصيد من جهةٍ أخرى، وقد نظم طائفةً كبيرة من «قصائد الغزل» — قصائد منظومة على غرار الشعر العربي في الغزل، تجري في القصيدة قافيةٌ واحدة — كما ترجم مجموعةً منوعة من الشعر عن السنسكريتية والفارسية والصينية والعربية والعبرية وغيرها من اللغات الشرقية. ولو قيس الشعراء بضخامة نظمهم، كان «روكرت» في طليعة شعراء القرن التاسع عشر، ولكن كثيرًا جدًّا من شعره المتأخر رديء، وجيد شعره هو ما نظمه في صدر حياته.

(٩) أوجست فون بلاتن August Von Platen (١٧٩٦–١٨٣٥م)

وهذا رجلٌ آخر ممن عُنوا بالشرق؛ نظم كثيرًا من «قصائد الغزل» — القصائد التي قلنا إنها تقليد الشعر العربي — لأنه كان يؤمن إيمانًا قويًّا بقيمة هذا اللون من الشعر، وامتدح شعرَه هذا «جيته» لكن كثيرين لم يروا فيه سوى قدرةٍ على صوغ القوافي، لا أكثر ولا أقل، فكأنما القصيدة قالبٌ أجوف لا مادة فيه. ولعل أقوى وأقذع ما قيل في نقد «قصائد الغزل» ما قاله «هيني» من أن قارضيها كانوا بمثابة من أكل من «جنة شيراز» حتى أتخم نفسه فتقيَّأ هذه «القصائد الغزلية»! ونشأت على أثر ذلك بين الأديبَين «بلاتن» و«هيني» معركةٌ أدبية، لكن «بلاتن» بالطبع لا تُقاس قامته إلى قامة «هيني»، فوضعه الناس حيث وضعه «هيني» إذ اعتبروه شاعر صنعة لا شاعر طبع؛ فكل قدرته انحصرت في صياغة القصائد التي لا مادة فيها ولا شعور. ولقد أصاب «هيني» في حكمه هذا على شعر «بلاتن» إلى حدٍّ ما؛ فلم يكن شعره بالذي يوقظ بأنغامه أحلام قارئيه أو سامعيه، بحكم أنه صيغ في قوالب لم تألفها الأسماع، فمن أراد أن يستمتع بشعره فليُعمِل فيه الفكر ليبلغ معانيه؛ فإن كنت ممن لا يؤمنون بأن مثل هذا النظم يدخل في دولة الشعر فليس «بلاتن» عندك شاعرًا، أما إن كنت ممن يفسح المجال في دولة الفن إلى الشعر الذي يروع بفكره لا بأنغامه، فسيجد «بلاتن» عندك مكانًا يستقر فيه.

(١٠) هنريش هيني Heinrich Heine (١٧٩٧–١٨٥٦م)

ها نحن أولاء نسوق لك الآن عملاقًا من عمالقة الشعر في آداب العالم أجمعين؛ «هيني» الذي كان ابتداعيًّا على نحوٍ خاص به، فلا هو متمرد على الواقع الحاضر، كما تمثله الثورة الفرنسية وأعقابها، فيتركه جملةً واحدة لينطوي بخياله على أحلام الماضي، ولا هو تارك هذا الماضي جملةً ليحصر نظره في الواقع، إنما كان «هيني» بعواطفه شيئًا وبعقله شيئًا آخر، فعاطفته مع الماضي وعقله صنيعة الحاضر الواقع.

أصدر أول ديوان له وهو طالب قضى من حياته خمسة وعشرين عامًا، فجاءت قصائد هذا الديوان معبرةً عن آلام نفسه التي أحسها حين خاب رجاؤه في حبه، فقد يظهر أنه اتجه بهواه إلى فتاة أجابت هذا الهوى بشيء من الزراية والاحتقار، ومن هنا كانت مرارة نفسه وتبرمه بالحياة كما بدا في ديوانه الأول، لكنها كانت مرارة وكان تبرمًا انتفع بهما الأدب، لأن شاعرنا لم يجد متنفَّسًا إلا شعره، وإنا لنذكر عنه في هذا الصدد حقيقةً جديرة من القارئ بالعناية لأنها تلقي ضوءًا على معنى ما يقال من أن نفس الشاعر تنعكس في شعره، وهي أن «هيني» تألَّم حين أجابته الحبيبة بنظرة المزدري، فبثَّ آلامه في شعره، ثم ذهب عنه الألم، لكنه ظل يبث آلامه في شعره. وإذن فلنكن على حذر حين نحاول أن نرى نفس الشاعر معكوسة في شعره، إذ قد يتخذ الشاعر لونًا معينًا من وجهة النظر إلى الحياة، وإن تكن قد ذهبت عنه البواعث والدواعي. ومما أنشأه ليعبر فيه عن خيبة أمله في حبه مسرحيتان، إحداهما تدعى «المنصور»٢٤ والثانية «وليم راتكلِف».٢٥ ثم أخذ بعدئذٍ يغني بشعره في يومياته، كلما جاشت في نفسه عاطفة بثها، دون أن يلتزم وضع عنوان لكل فورةٍ نفسية من هذه الفورات التي تنتابه يومًا بعد يوم في غير ترتيب ولا تشابه، فهو اليوم يروي عن حلم فظيع رأى فيه قبورًا وموتًا، وهو اليوم يقص أسطورةً قديمة فيها جمال ولها إيحاء، وهو اليوم يسجل ما عبر بخاطره من صورة الحياة الفطرية الهانئة على ضفاف الكنج في بلاد الهند، وهو اليوم يذكر كيف استحالت نشوة حبه ذات يوم مرارة بسبب امرأةٍ قسا قلبها وتحجَّر، وهو اليوم يرى في الطبيعة ما يلفت نظره وما يقرأ فيه معنًى وعبرة، وهكذا دواليك. وهو في كل شعره تقريبًا لاذع السخرية مُرُّ التهكم، متشائم النظر، يصبُّ هذه السخرية وهذا التهكم على الحياة الإنسانية بأسرها، بل كثيرًا ما يصوِّب سهامه نحو صدره، تقرؤه فلا تحبه صديقًا لك لأنه لن يجعلك ترضى عن نفسك، لكنك يستحيل أن تخطئ فيه روعة الفن وقوة الإيحاء وحلاوة النغم، وله من هذا اللون من الشعر «ديوان الأغاني»٢٦ الذي تجد فيه من الخرائد عددًا قل أن تجد نظيره في ديوانٍ آخر من الشعر الألماني، ثم أعقب ذلك الديوان «رحلات».٢٧ اتخذ «هيني» فيه من نفسه بطلًا، بدل العادة المألوفة في مثل هذه الرحلات الأدبية، وهي أن يتخذ الأديب بطله شخصًا ما ثم يُجري خواطره على لسانه. وكان «هيني» في كتابه «رحلات» — كعادته — هازئًا بأوضاع الحياة كما رآها، ساخرًا من بعض العقول، ولعل اللغة الألمانية لم تشهد قبل هذا الكتاب ما يجاريه في مرارته التي تشعُّ بعبقرية الكاتب وتبعث اللذة في نفس القارئ.

كان «هيني» في شعره بمثابة من يعترك مع الحياة اعتراكًا ربما كان مصدره مرض أعصابه الذي انتهى به آخر الأمر إلى شللٍ ألزمه الفراش — وقد أطلق على فراشه إذ ذاك «قبر من حشايا» — على أن هذه النظرات السوداء كانت ترتفع عنه أحيانًا لتأخذ مكانها نوباتٌ من مرح تجد سبيلها إلى شعره في ضحكات ونكات، ولكنها أيضًا ضحكات السخرية من إنسانية ضلت سواء السبيل، على الرغم من أنه لم يكن باليائس من أن تهتدي الإنسانية إلى الطريق القويم، بل كان يؤمن أنها تستطيع ذلك بالهداية البصيرة، وجعل همه أن يكون هو أحد الهداة. وها نحن أولاء نقدم لك بعض شعره:

ها أنا ذا في أرض السحر من جديد!
ها هو ذا عطر الزيزفون قد أزهر!
إن القمر بما ينشر من ضياء
مَلَكَ عليَّ الفؤاد بسحره وسيطر،

•••

سرتُ في طريقي، وكلما سرتُ
رنَّ الهواء من فوقي ورددا،
إنه البلبل في الغرام يغني،
في عذاب الحب غنى وأنشدا.

•••

في عذاب الحب غنى البلبل،
وأنغامه كانت من دموع وابتسام؛
ابتسامه حزين، ودموعه مرحات،
فأيقظ ما طال نسيانه من الأحلام.

•••

سرتُ في طريقي، وكلما سرتُ
رأيت قائمًا أمامي
في الفضاء حصنًا فسيحًا
شامخًا برأسه المتسامي،

•••

غُلِّقَتْ نوافذه، وأينما أدرت البصر
وجدت حزنًا صامتًا؛
لعله الموت ضاربًا بجرانه
فألجم صوت الحياة وأسكتا.

•••

أبو الهول أمام الباب راقد
قوامه مزيج من مرح ورعب،
له جسم الليث والمخالب
ومن المرأة رأسها والنهد؛

•••

امرأة فاتنة! في نظرتها شحوب ينطق
كأنه بالشهوة القوية يغرى،
وصامت الشفتين في انحناءٍ خفيف
نمتا عن ابتسامة فيهما تسري،

•••

وغنَّى البلبل لحنًا طروبًا
واستسلمت للمرأة في إغرائها،
فقبَّلتُ منها مليح وجهها
فأهلكتني القبلة، ليتني ما لثمتُها.

•••

تحرك التمثال المرمري بعد جمود،
وأصبح الصخر كائنًا حيًّا،
تحسَّت المرأة من حرارة قبلتي،
فلهثتُ إعياء وجف الماء من شفتيا،

•••

تحسَّت المرأة منى النَّفَس،
وراحت في غبطتها تمرح،
وبالمخالب منها زمت على جسدي،
وخلفتني وأنا الهشيم الأكسح.

•••

يا عذابًا فيه المرح! ويا شقاء فيه النعيم!
ما أكثر ما فيك من لذة وشقاء!
كانت المخالب توقع بالجسم الأذى،
لكن قبلة الشفتين كانت لي هناء.

•••

وأنشد البلبل: «يا أبا الهول يا جميل!
أيها الحب بما لك من عطف رحيم!
لماذا تمزج أليم العذاب
بكل ما فيك من لذة ونعيم؟

•••

اتلُ علي يا أبا الهول يا جميل:
هذا اللغز المجيب ما معناه؟
فقد مرت عليَّ ألوف الأعوام محاولًا
وما عرفت من هذا السر مغزاه!»

وهذه قصيدةٌ أخرى:

أطبق الليل جفنيَّ،
وختم الليل على شفتيَّ،
وسكن مني الرأس والقلب،
في هذا اللحد من فراشي،

•••

لستُ أدري كم طال بي نومي؟
لست أدري كم لفَّني النعاس؟
لكني استيقظت إذ سمعت
نقرًا على باب لحدي:

•••

«هنريش! استيقظ من نعاسك
ها هنا نهار ضوءُه سرمدي،
إن الموتى كلهم بُعثوا
وأقبل على الجمع نعيمٌ أبدي.»

•••

حبيبتي لا أستطيع نهوضًا
لقد كُفَّ مني البصر،
لقد بكت عيناي حتى كُفَّتا،
وغاب من عينيَّ ضوء النظر.

•••

«هنريش! سألثم منك عينَيك
فينزاح عن عينَيك الظلام،
ستراك إلى الأملاك شاخصًا
وإلى رب السماء ذي الجلال.»

•••

حبيبتي لا أستطيع نهوضًا
فما يزال القلب يدمى،
لا يزال يدمى حيث جرحته
بلفظ منك حدُّه كالسهم.

•••

«هنريش! سأمر بحنون راحتي
على مكان قلبك الجريح،
فيشفى الجرح من قلبك،
ستشفي راحتي قلبك الجريح.»

•••

حبيبتي لا أستطيع نهوضًا،
إن رأسي جريح مثل قلبي،
وأنا الذي جرحت رأسي بنفسي؛
إذ سلبوك مني فسلبت لُبِّي.

•••

«هنريش! بحلقات شعري
سأشفي منك الجراح،
وأردُّ لك ما فقدتَ من دمٍ؛
فإذا رأسك ليس فيه جراح.»

•••

أخذتْ ترجو في رقة وعطف،
فما استطعتُ لها عنادًا،
وكان النهوض أمنيتي
لأمضي إلى من علقتُ بها فؤادًا،

•••

وعندئذٍ انفتحت مني الجروح،
وتصبَّب منها دمي؛
تصبب من رأسي وصدري،
ثم صحوتُ من نومي.

(ب) القصة

(١) فردريش دي لامت فوكيه Friedrich de la Motte Fouqué (١٧٧٧–١٨٤٣م)

كان «فوكيه» أغزر أدباء القصة إنتاجًا وأقربهم إلى قلوب القراء في ألمانيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد توجه بحبه للقديم نحو القرون الوسطى وما كان شائعًا فيها من أخلاق الفرسان، وأوشك أن يكون «فوكيه» للألمان ما كان «وولتر سكُتْ» للإنجليز، لولا أنه كان يعوزه ما وهب الله زميله الإنجليزي من حاسةٍ مرهفة في فهم حقائق التاريخ ومن فكاهةٍ مهذبةٍ رقيقة، وكان يعوزه كذلك القدرة على جعل الحوادث الساذجة التي يسوقها في قصصه عن حياة العصور الوسطى نابضة بالحياة وثيقة الصلة بمشاعر القارئ. لهذا كله جاء بناؤه الأدبي في قصصه أقرب شبهًا بشيءٍ سماويٍّ ملائكي منه بوصف للحياة في دنيانا هذه، وجاءت حكاياته مما يشبع خيال الأطفال ولا يعجب خيال الرجال الذين يزنون خيالهم بشيء من التماسك المنطقي؛ فلا عجب أن أقبل عليه جمهور القراء فترةً ثم أخذوا ينفضُّون عنه حين خاب رجاؤهم في أن يجدوا في قصصه ما يريدون. وأهم ما يستحق الذكر من إنتاجه قصةٌ صغيرة عنوانها «أندين»٢٨ تروي عن جنية لم يكن لها روح ثم خلقت لنفسها روحًا بما عانته من أحزان، ثم اتخذت لنفسها حبيبًا من فارس إنسانًا من لحم ودم، وهي قصةٌ تضرب على وتر الحكايات الشعبية والأغاني الشعبية، وتلك هي علاقة الأدب الابتداعي فيها، لكنها على كل حال تُعدُّ من أدب الأطفال، وهي في هذا الباب لا تدنو من مجموعة «قصص للأطفال والأسرة» التي أخرجها الشقيقان «جرم» والتي حدثناك عنها فيما سلف.

ويجدر بنا أن نذكر هنا على سبيل المقارنة أديبًا آخر أسلفنا الحديث عنه، هو «تيك» الذي كان عندئذٍ يكتب أقاصيص قصارًا يتوخى فيها ما يشبه الواقع، إذ لم يركن في أقصوصته إلى غرابة الحوادث كما فعل «فوكيه» بل جعل ركيزته حكمة الحوار الذي يديره بين الأشخاص؛ فقد كان يقدم لقارئه شخصَين أو مجموعة أشخاص لكلٍّ منهم خُلُقه الذي يميزه من سواه، ثم يتركهم ليناقش بعضهم بعضًا في موضوع يختاره لهم من الفن أو الأدب أو الموسيقى أو الفلسفة؛ لأن الذي كان يهتم له «تيك» من الطبيعة الإنسانية هي كيف يفكر الإنسان، لا كيف يسلك أو يتصرف في الظروف المختلفة. ولم يكن الحوار الذي يديره بين الأشخاص عباراتٍ قصيرةً على هيئة السؤال والجواب، أو على صورة ما يجري في الحياة من سمر، بل كان في معظمه عرضًا طويلًا لفكرة يتقدم بها شخص ليُردَّ عليه شخصٌ آخر بعرضٍ طويلٍ لفكرةٍ أخرى أو لنقد الفكرة التي سمعها من زميله. فإن لم تكن أقاصيص «تيك» صورةً لحياة عصرها، فهي بلا شك صورةٌ لتفكير أهل ذلك العصر. ولم يلجأ «تيك» في تلك الأقاصيص إلى العناصر الخارقة لما هو مألوف، كالجن والملائكة وما إلى ذلك، على خلاف الاتجاه العام الذي كان سائدًا بين أدباء القصة في عصره؛ إذ كان من عناصر الأدب الابتداعي إحياء خرافات العهد القديم، لا لذاتها، بل لأنهم إذ أرادوا إحياء الأغاني الشعبية أو الحكايات الشعبية، لم يكن لهم محيص عن إحياء ما انطوت عليه تلك الأغاني والحكايات من خرافات ومن التحدث عن المخلوقات الخارقة للمألوف.

(٢) أدلبرت فون شاميسو Adelbert vou Chamisso (١٧٨١–١٨٣٨م)

كان الاتجاه العام إذن بين أدباء الابتداع أن يُحيوا الأغاني الشعبية والحكايات الشعبية، فكان لا بد لهم أن يحيوا ما تنطوي عليه تلك الأغاني والحكايات من خرافاتٍ وأعاجيبَ ثم نشأ عن ذلك شيءٌ آخر، أن يحاول الأديب أن يخلق بخياله صورًا شبيهة بتلك الخرافات والأعاجيب التي كانت تتضمنها الأغاني الشعبية والحكايات الشعبية. ومن هؤلاء الذين ابتكروا مثل هذه الصور «شاميسو» في قصته «بطرس شلمل»٢٩ التي روى فيها عن شابٍّ فقير باع ظله للشيطان بمبلغٍ كبيرٍ من المال، ثم تبين له أنه إنما كان الخاسر في هذه الصفقة. في هذه القصة خيالٌ بديع، وفيها معالجة للحوادث المستحيلة الوقوع على نحوٍ يُخيِّل للقارئ أنها من الجائز المعقول، لأن تفصيلات الحوادث ومجراها مما يساير الواقع، فلا يجد القارئ تنافرًا بين ما يقرأ وبين ما يقبله العقل.

(٣) أرنست تيودور هوفمان Ernest Theodor Hoffmann (١٧٧٦–١٨٢٢م)

كان «هوفمان» مثل زميله «شاميسو» ممن يضفي خياله على المستحيل مسحةً واقعية من صدق التصوير في مجرى الحوادث وتفصيلاتها. وهو فوق براعته الأدبية موسيقيٌّ موهوب ورسامٌ نابغ، كأنما وهبه الله إحساسًا لاقطًا لكل ضروب الجمال من مرئي ومسموع. ومن خصائص «هوفمان» في أدبه أنه كان يختار لموضوعاته ما يثير الرعب في نفس القارئ — وبمثل هذه الخاصة يتميز أدب إدجر ألن بو — فهو يكتب عن الجن والأشباح والأماكن «المسكونة» بالعفاريت، وعن السحر والعرافة والجَوَلان النومي وتخليط المحموم وهواجسه، وعن الإجرام ودوافعه والجنون بدرجاته وما إلى ذلك.

ومن أهم إنتاجه قصة «إكسير الشيطان»٣٠ التي يستحيل على قارئ أن يقرأها دون أن ينتابه الرعب، مهما يكن له من رجحان العقل الذي يدرك به تمام الإدراك أن ما يقرؤه خيال لا وجود له، وذلك لصدق الوصف فيما يختص بالتفصيلات، وإن يكن الموضوع كله من الخوارق المستحيلة الوقوع. وهي تحكي عن راهبٍ أغراه الشيطان بإكسيره فضلَّ طريق الصواب ولاقي الأهوال والصعاب، ثم هداه الله إلى حبٍّ صحيح أنقذه مما هو فيه، فعاد إلى رشده عودة النادم التائب. وله كذلك «صور من الليل»٣١ تجري على نمطه من وصف المفزعات، وهو نمط من الكتابة برع فيه حتى لم يكن أحد يستطيع في هذا الباب أن يجاريه.

(٤) بتينا فون آرنم Bettina von Arnim (١٧٨٥–١٨٥٩م)

نختم حديثنا عن القصة الألمانية في عصر الابتداع بهذه المرأة التي أخرجت آيةً أدبية حين أخرجت «رسائل جيته إلى طفلة»٣٢ وهي زوجة «آرنم» الذي حدثناك عنه شريكًا ﻟ «برنتانو» في إخراج مجموعات الأغاني الشعبية، وهي أخت «برنتانو» هذا الذي شاركه زوجها في إخراج تلك الأغاني الشعبية؛ وحسبنا أن نقول عن كتابها «رسائل جيته إلى طفلة» إن «إمرسن» أحبه حبًّا جعله يقول ذات يوم إنه ليس بحاجة إلى قراءة أي شيءٍ آخر بعد قراءته لهذا الكتاب.

عاشت «بتينا» حياةً فيها الحياة بكل معانيها؛ حياة تتأثر بكل ما يسرُّ وما يحزن مما يقع حولها، وعرفت مشاهير الرجال في عصرها، فعرفت «جيته» والتقت به مراتٍ عدة، بل جاءها منه بضع رسائل عبَّر فيها عن شعورٍ جميل نحوها، وعرفت أم «جيته» وأخذت عنها مذكرات وحكايات، ومن هذه المذكرات والحكايات التي لقفتها من شفتَي أُمِّ أديب ألمانيا الأكبر، أنشأت هذا الكتاب تمجيدًا للرجل الذي ملك عليها أحلامها وهي في عهد الشباب. ولم تكن «بتينا» لتجهل ما قد يفسر به الناس هذه الرسائل التي تخيلت أن «جيته» بعث بها إليها، لكنها لم تأبه لهذا، موقنة أنها ستصادف فهمًا صحيحًا عند من ينزعون بعقولهم نزعة الخير، وإلى هؤلاء كانت تريد بأدبها، وليفسر أصحاب السوء رسائلها كيف شاء لهم شرهم؛ فهذه الرسائل مذكرات لم تصدر عن «جيته» حقيقة بل هي خيال امرأةٍ موهوبة صورت بقلمها ما كان جائزًا أن يكون. ولو أطلقت على كتابها «رسائل شاعر إلى امرأة» لكان أدنى إلى الصواب، لأنها في هذه الرسائل تصورت الشاعر في «جيته» وتصورت «المرأة» في نفسها، وأدارت الرسائل بين هذين الطرفَين. وهي حين رمزت إلى نفسها ﺑ «طفلة» في عنوان الكتاب، أرادت أن تعبر عن إحساسها إزاء هذا الجبار، فهي بالقياس إليه طفلة إلى جوار عملاق. وقد مجَّدت في بطلها «جيته» المحب؛ مجدت فيه الرجل يعيش بما يمليه عليه الشعور والدافع الفطري، لأنها هي نفسها عاشت حياتها وفق إملاء شعورها ودوافعها الفطرية، وليس من اليسير أن تعيش في مجتمع مثل هذه الحياة.

١  Wilhelm Schlegel (١٧٦٩–١٨٤٤م).
٢  Friedrich Schlegel (١٧٧٢–١٨٢٩م).
٣  Athenoeum.
٤  راجع فلسفة فخته في قصة الفلسفة الحديثة.
٥  Wilhelm meister.
٦  Friedrich von Hardenberg.
٧  Heinrich von of terdingen.
٨  William hovell.
٩  Leben und Todder heiligln Genoveva.
١٠  Kaiser Octavianus.
١١  Wackenroder.
١٢  Fvanz sternbalds Wanderungen.
١٣  Godwi.
١٤  Knaben Wunderhorn.
١٥  Kinder—und Hausmärchen.
١٦  Jacob Grimm (١٧٨٥–١٨٦٣م).
١٧  Wilhelm Grimm (١٧٨٦–١٨٥٩م).
١٨  Die Familie Schroffenstein.
١٩  Amphitryon.
٢٠  Penthesilea.
٢١  Käthchen von Heilbronn.
٢٢  Die Hermannsschlacht.
٢٣  Der Pring von Homburg.
٢٤  Almansor.
٢٥  William Ratcliff.
٢٦  Buch der Lieder.
٢٧  Reisebilder.
٢٨  Undine.
٢٩  Peter Schlemihl.
٣٠  Die Elixiere des Teufels.
٣١  Nachitstücke.
٣٢  Goethes Briefwechsel mit cinem Kinde.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤