الفصل الثاني: النصف الثاني من القرن التاسع عشر

اضطرب الفكر في ألمانيا في الفترة التي تملأ الثلث الأوسط من القرن التاسع عشر، واضطربت السياسة؛ فاضطرب الأدب، ولم تكن له وجهةٌ معينة نستطيع أن نصف بها تلك الفترة من تاريخ آدابهم، فالأدباء عندئذٍ أغراضهم شتى ووجهاتهم مختلفات، ومع ذلك فإن جاز لنا أن نُغلِّب غرضًا على سائر الأغراض ووجهةً على سائر الوجهات، كان لنا أن نقول إن الاتجاه نحو الواقعية هو الغالب. وربما كان من نتائج ذلك أن أصبحت السيادة في دولة الأدب للقصة بعد أن كانت في الثلث الأول من القرن للقصيدة الغنائية.

وإنه لمن الحوادث التي تستحق في هذا الصدد أن تُذكَر، لما فيها من درس وعبرة، حادثةٌ كان لها أثرٌ قوي في الحركة الأدبية في ألمانيا إبان القرن التاسع عشر؛ وتلك هي أن جماعة من الكتَّاب أطلقوا على أنفسهم «ألمانيا الفتاة» وأرادوا أن يستخدموا أقلامهم في نشر مبادئ الديمقراطية التي بشرت بها الثورة الفرنسية، فأصدر أولو الأمر عام ١٨٣٥م قانونًا يحرم نشر ما يكتبه أفراد هذه المدرسة الأدبية. وكان من بين هؤلاء الأفراد «هيني» فكان بالطبع لذلك القانون أثره العكسي، وبدأ من لم يكن قد سمع بأعضاء «ألمانيا الفتاة» يبحث في الخفاء عما يكتبه هؤلاء الأعضاء؛ وبهذا اكتسبت تلك الجماعة الأدبية شهرةً لم تكن تتناسب مع مكانتهم في الأدب، لأنهم كانوا في حقيقة أمرهم صحفيين يجيدون الكتابة للصحف، وقد لا تكون الكتابة الصحفية أدبًا رفيعًا. ومهما يكن من أمر فقد اضطربت الخواطر حول هؤلاء الكتاب؛ فمن الناس من يسعى جهده أن يقرأ لهم، ومن الناس من نفذت دعوة أولى الأمر إلى نفوسهم، واختلط في عقولهم الأمر، فأصبحوا يقرنون أسماء هؤلاء الكتاب بالدعوة إلى الإباحية والإلحاد والانغماس في شهوات الجسد. ألم يدعُ هؤلاء الكتاب إلى الأخذ بالديمقراطية الفرنسية؟ وماذا عسى أن تعني الديمقراطية الفرنسية غير هذه الأشياء؟!

والواقع هو أن تلك الطائفة من الأدباء، التي لقيت العنت من رجعية القيود التي فرضها «مترنخ»، لم تكن مدرسةً أدبية بمعنى الكلمة الدقيق؛ إذ لم يكن أعضاؤها ذوي فكرٍ واحد وعقيدةٍ واحدة، وإن اتفقوا جميعًا على ضرورة الإصلاح، فقد تجد منهم المعتدل الذي يُرضيه قسطٌ ضئيل من الحرية، وقد تجد منهم من لم يكن يُرضيه شيءٌ دون الانقلاب الشامل الذي يكتب السيادة السياسية للشعب على سائر السلطات. وعلى كل حال فقد كثر إنتاج الأناشيد القومية التي تثير الحماسة في قلوب الناس، ومن بينها النشيد المشهور الذي أنشأه «هوفمان فون فالرزليبن»١ «ألمانيا، ألمانيا فوق الجميع»؛ فجاءت تلك الأناشيد بمثابة إعلان الحرب بين الشعب وأمرائه.

(١) فردناند فرايلجرات Ferdinand Freiligrath (١٨١٠–١٨٧٦م)

وكان «فرايلجرات» من الشعراء الذين خدموا قضية الشعب بما أنشدوا من شعر، وقد نشر بادئ ذي بدء طائفةً من القصائد استوقفت أنظار القراء لما كان فيها من خيالٍ بديع وإثارةٍ قوية للشعور، فقد أخذ ينشد شعره عن الغابة والصحراء وما فيها من وحوشٍ ضارية وأقوامٍ همج. والغاية التي كان يرمي إليها من كل ما كتب هي الثورة على كل ضروب الاستسلام والخنوع والجمود العقلي. ثم صدر له بعد ذلك مجموعاتٌ من الشعر لا يُضارعها في حلاوة النغم إلا القليل من الشعر الألماني. ومن عجيب أمر «فرايلجرات» أنه أول الأمر لم يكن يعتقد أن الشاعر يجوز له أن يدمج نفسه في تيار السياسة، لأن الفن ينبغي أن يكون أرفع من هذه المعارك الأرضية. لكنه لم يلبث أن قرر أن واجبه يدعوه في إلحاح إلى الوقوف إلى جانب الشعب في جهاده ضد أمرائه؛ فلماذا يسافر بخياله إلى الغابات القصيَّة والصحراوات البعيدة ليرى الحقيقة خشنةً عارية وليبحث عما يثير الشعور من وحشية وافتراس؟ ها هنا تحت سمعه وبصره ما هو أمرُّ وأفظع، وقد عقد رجاءه على ثورةٍ عنيفة يقوم بها الشعب لينتقل بها من استبداد الأمراء إلى النظام الجمهوري. وعلى هذا الوتر أخذ يعزف أشعاره، لكن أشعاره التي عزفها لم تنتهِ بأمته حيث أراد لها، بل طوحت به إلى المنفى مع سائر من رفعوا أصواتهم بالحرية المنشودة، وكان منفاه لندن التي مكث فيها حتى صدر العفو عنه، وهنالك شغل نفسه بترجماتٍ رائعة إلى الشعر الألماني لبعض آيات الأدب الفرنسي والإنجليزي والأمريكي، لأن عبقريته المبدعة كانت قد احترقت بحرارة جهاده في سبيل قضيةٍ خاسرة.

(٢) عمانوئيل جايبل Eamnuel Geibel (١٨١٥–١٨٨٤م)

وهذا شاعرٌ آخر ناصَرَ الحركة الألمانية، لكنه ناصرها على نحوٍ آخر، فلم يدعُ إلى ثورة ولا إلى قتال، إنما دعا الأحزاب المختلفة إلى سلام ووئام لأن رجاءه الواحد كان الوحدة الألمانية. وقد حدث له أن دعاه السفير اليوناني في أثينا ليكون لابنه معلمًا، فانشرح صدرًا لهذه الفرصة التي سنحت ليشهد أثينا بعينَيه، وهنالك أنشد بعض قصائده الجياد، أنشدها للشعر في ذاته، لا لكي تكون أداةً سياسية، ثم نشرها بعد عودته، فأقبل الناس عليها؛ لأن نفوسهم كانت قد سئمت أن ترى قيثارة الشعر وسيلة تخدم أغراض السياسة. ولما أصدر ديوانه «أغاني يونيو» لم يشُكَّ عندئذٍ شاكٌّ أن «جايبل» قد استحقَّ إمارة الشعر في ألمانيا، ودعاه ملك بافاريا حيث لبث الشاعر عشيرا له في مدينة «ميونخ» أعوامًا عدة، كان خلالها على رأس مدرسةٍ أدبية تنادي بوجوب أن يكون الفن للفن لا لأي شيء آخر؛ وحاضر في الجامعة في موضوع الشعر وأصوله على أساس مذهبه ذاك. وإنك لتقرأ ما شئت من قصائده التي تملأ عدة مجلدات؛ فلا ترى إلا جمالًا فنيًّا لم يقصد به إلا الجمال الشعري نفسه، لكنه جمالٌ مرهفٌ رقيق عمل فيه إزميل الفنان حتى بالغ وغالى؛ فذهبت عنه الصلابة والقوة ومتانة البناء.

(٣) جوزيف فكتور فون شفل Josef Victor von Scheffel (١٨٢٦–١٨٨٦م)

«شِفِلْ» شاعر وقصصي تميز أدبه بفكاهته. وإنه لمن أبرع ألوان البراعة في الأديب أن يكون قلِقَ النفس ساخطًا ناقمًا متشائمًا، ولكنه إذا ما كتب، كتم في نفسه هذا كله ليتفكَّه ويسخر على نحو يُخيَّل معه لقارئه أن الرجل ذو نفسٍ مرحة قد فرغت من همومها، وأخذت تضحك لنفسها ولغيرها، ومن هذا القبيل كان «شِفِل» يؤنس القارئ بأدبه ويثير الغبطة في نفسه، ويحمله معه في انزلاقٍ سهل حتى النهاية، ولهذه الصفة في أدبه بات محببًا إلى القراء. وكانت قصيدته الروائية «نافخ البوق في ساكنجن» أوسع أثرٍ من نوعها انتشارًا بين القراء طوال القرن التاسع عشر كله، وكانت تتخللها أغانٍ سرعان ما أصبحت على كل لسان، وهي في فنها تتبع أصول الأدب الابتداعي، على أنها أقل قيمة من آيته «إكهارد»٢ التي لم يقبل القراء في ألمانيا في ذلك القرن على قصةٍ تاريخية بمثل ما أقبلوا على هذه القصة. وهو في هذه القصة يُصوِّر ديرًا في القرن العاشر كان مصدر ضوء في عهود أطبق فيها الظلام، واتخذ بطله فيها راهبًا تخيل أنه مغرم بامرأةٍ تحررت على النحو الحديث وأجرى الرسائل بينهما. على أن همه في القصة كان إجادة تصوير الحياة في القرن العاشر الذي درس الحياة فيه دراسةً دقيقةً متقنة، وهو في مجرى قصته كلما عرض حقيقة عن الحياة في ذلك القرن أحال القارئ إلى المرجع الذي استقى منه تلك الحقيقة، فأكسب ذلك قصته مسحةً علمية فوق مسحتها الأدبية. وتراه في قصته هذه يستخدم لونَين مختلفَين من اللغة والتعبير، فآنًا تراه يستعمل الألفاظ القديمة وطرائق التعبير العتيقة، وآنًا تراه يكتب باللغة الشائعة في عصره، وذلك لأن قصته بطبيعتها تحاول أن تربط الصلة بين رجلٍ عاش في القرن العاشر وامرأةٍ عاشت في العصر الحديث. وبعدُ، فهي قصة لو قرأها مؤرخ لألقى بها جانبًا لأنها تخلط حوادث عصرَين مختلفَين دون مراعاة للأمانة التاريخية، لكن «شفل» لم يقصد بها إلى المؤرخين، إنما قصد بها إلى القارئ العادي، الذي سيستمتع بقراءتها وسيفترُّ فمه في النهاية عن ابتسامة من يقول: ما أشبه الإنسان في عصرٍ وإن تقدم، به في عهدٍ وإن تأخر! ما أشد الشبه بيننا اليوم وبين أجدادنا الذين عاشوا في القرن العاشر!

(٤) جوتفريد كلر Gottfried Keller (١٨١٩–١٨٩٠م)

لكن ما لنا وللقرن العاشر الآن؟ إن هذا الحاضر الراهن الواقع ينادي حَمَلة الأقلام وأصحاب المواهب. هكذا كانت دعوة من أطلقوا على أنفسهم «ألمانيا الفتاة» لقد لبث الأدب القصصي ما يقرب من نصف قرن وهو يشغل نفسه بالحكايات تروي لنا عن الغريب والشاذ والخارق للمألوف، أو تروي لنا خيالًا يتتبع خطو «جيته» في قصته «ولهلم مايستر» وفي كلتا الحالتَين لم يكن المحكي عنه هو الواقع، فكنت تقرأ القصة فتصادف أشخاصًا يرحلون من مكان إلى مكان وهم يحلمون أو يتفلسفون، لكنهم لم يكونوا في حياتهم أشخاصًا من لحم ودم يعيشون عيشة الحاضر الواقع؛ فالوهم الذي تسلط على الأدب الابتداعي من أوله إلى آخره هو أن الواقع ليس فيه جمال ولا يصلح موضوعًا للأدب!

وبدأت محاولاتٌ أدبية تقاوم هذه النزعة الخيالية وتحاول أن توجِّه التيار نحو واقعيةٍ تُعنى بالحاضر الملموس. وعلى رأس هذا الفريق، بل على رأس الأدب القصصي الألماني إبان القرن التاسع عشر بغير استثناء، كان «كِلَر» وهو سويسري ولد في «زيورخ» وكانت وجهته الأولى أن يتعلم فن التصوير، ولبث في «ميونخ» عامَين في مدرسة الفنون ليتلقَّى أصول هذا الفن، لكنه أدرك عندئذٍ أنه أخطأ الاختيار لأن طبيعته لم تكن تميل به هذا الميل، وإذن فليبدأ حياته من جديد؛ هنا التحق بجامعة هيدلبرج حيث ظل عامَين، وبجامعة برلين حيث أقام خمس سنين، وهنالك أكمل قصته ذات الأجزاء الأربعة التي تُعَد آية آياته، والتي يروي فيها قصة حياته، وهي قصة «هنري الناشئ»٣ — فظروف الحياة تطوح بشاب من «زيورخ» اسمه «هنري لي» — يرمز به إلى نفسه — إلى حياة تشبه في جملتها وبعض تفصيلاتها حياة الكاتب نفسه؟ ويذهب «هنري لي» هذا إلى «ميونخ» ليدرس الفن، وهكذا أخذ «كلر» يقصُّ لنا في شخص «هنري لي» اعتراكه مع الحياة وأحلامه، ما تحقق منها وما لم يتحقق، حتى إذا ما بلغ من العمر سنًّا عرف فيها أنه أخطأ الطريق الصواب الذي يتفق وطبيعته عاد إلى وطنه ومات مغمورًا مجهولًا. ولا يفوت الكاتب بالطبع أن يدرس في قصته هنا وهناك ذكريات طفولته وشبابه. على أن القصة في مجموعها صورةٌ جلية لحياة القرن التاسع عشر في نصوع وصدق كاد أن يبلغ بالكاتب ما يصح أن يسمى اعترافًا يصرح فيه بدخيلة نفسه التي يطويها غيره من الناس.
وللكاتب كذلك «أهل سلدفيلا»٤ وهي مجموعة قصصٍ قصار، كما أن له غير هذه المجموعة مجموعاتٌ أخرى من الأقاصيص؛ فهو في هذا الفن الأدبي إمام، فلو عرفت أن الأدب الألماني من أكثر الآداب خصوبة في فن الأقصوصة، وأن «كلر» في ألمانيا زعيم هذا الفن، عرفت من عساه أن يكون. والعجيب أن جمهور القراء كاد ألا يعيره التفاتًا حتى دنا من ختام حياته، مع أنك لو استعرضت اليوم ما كُتب عن أدبه من المؤلفات لرأيتها تملأ مكتبة بأسرها.

كان «كلر» رجلًا له روح شاعر، وعينا عالم، ومزاج فنان، يحب الحياة في شتى أوضاعها. ولعل خير ما فيه فكاهته. وهو أديبٌ يكتب ليعلم، على نحو ما كان «جيته» يكتب أدبه، فرسالته في الحياة، هي أن يدرس حياة بني وطنه السويسريين وطبائعهم، ثم يصف تلك الحياة وهذه الطبائع وصفًا يرمي إلى غرض، هو رفع الشعب من حيث مُثله العليا في الحياة؛ وإذن فلا بد له لكي تأتي دراسته تامةً كاملة أن يكون دقيق الملاحظة فيما يقع حوله من حقائق، لا يفرق فيها بين جميل وقبيح؛ فلا ينبغي له أن يقف وقفة الثائر الغاضب الذي لا تقع عيناه إلا على الجوانب السوداء من الحياة، ثم لا ينبغي له أن يقف موقف صاحب المزاج الرقيق المُدلَّل الذي لا ينتقي مما حوله إلا الجميل الناصع، بل يجب أن يأخذ هذا وذاك لأن من هذا وذاك تتألف الحياة. إنه لا يريد أن يقدم للناس دواءً يجرعونه ليشفوا من مرض ألمَّ بهم، بل طعامًا سائغًا يأكلونه ليغذي أبدانهم وأرواحهم.

(٥) فرتز رويتر Fritz Reuter (١٨١٠–١٨٧٤م)

أراد «كلر» إذن أن يُصوِّر الواقع في أدبه، وأراد أن يصور بني وطنه من السويسريين بصفةٍ خاصة، لكنه مع ذلك لم يرد أن يحصر نفسه في سويسرا بمعنى أن يجعل صورته قاصرةً على خصائص السويسريين ولهجتهم في الحديث دون أن ينفذ خلال الخاص إلى العام، أي دون أن ينفذ خلال من يصورهم من السويسريين إلى تصوير ألمانيا بصفةٍ عامة، بل أراد أن ينسج أدبه على منوال «جيته» و«شلر» في أن تكون غايته القصوى هي تسجيل الخلق الألماني عامة والحياة الألمانية عامة باللغة الألمانية لا بلهجةٍ منها دون سائر اللهجات.

ولا كذلك كان «رويتر» الذي يشارك زميله «كلر» في الاتجاه الواقعي، لكنه يختلف عنه في تفسير الواقعية؛ إذ أراد أن يصور فئةً خاصة من بني وطنه وبلهجة هذه الفئة الخاصة، فإن شئت له مثيلًا من الأدب الإنجليزي، فهو «دكنز» ولذلك يقال عن «رويتر» إنه «دكنز الألماني». كان «رويتر» من سنِّه يزيد على الأربعين، وكان مدمنًا على الشراب محطمًا، ليس له رجاء أن يبني لنفسه مجدًا أو حياةً اجتماعية فيها شيء من بريق الأمل والبهجة. كان «رويتر» ذلك كله حين ظفر بأول نجاحٍ أدبي في حياته، وذلك حين أصدر كتابًا فيه صورٌ أدبية تشيع فيها الفكاهة، أنشأها بلهجة قومه في إقليمه الخاص من ألمانيا، إقليم «مكلنبرج». ولقد كان له من ذكريات ماضيه مَعينٌ دافقٌ يستمد منه القول في غير عسر؛ كان وهو شاب في عامه الثالث والعشرين طالبًا في جامعة «يينا»، يلبس ما يدل على أنه ينتمي إلى حزبٍ سياسيٍّ مُعيَّن، ويكفي هذا اتهامًا ليُحكَم عليه بالموت، ثم يرحمه الحاكم ويجعل الحكم ثلاثين عامًا يقضيها المسكين في غيابة السجن، ولكنه يقضي من الثلاثين سبعًا ويصدر عنه العفو. لكنها كانت سبعة أعوام لقي فيها ما حطم رجاءه في حياته، فلم تكن لديه الهمة عندئذٍ أن يشمر لصعاب الحياة يحدوه الأمل؛ فأسلم نفسه إلى الشراب يأسًا، لكنها الزوجة الطيبة دائمًا تنفخ في زوجها المتهافت ما يعيد الصلابة إلى بنائه المتداعي، هي الزوجة التي شجعت زوجها أن يمضي في إنشائه الأدبي لأنه ممتاز، وأن يُصدر للناس كتابًا فيه مجموعة من الأغاني والقصص القصار مكتوبة بلهجة قومه، وهي لهجة كانت واسعة الانتشار في شمال ألمانيا، وكانت تلك خطوةً أولى سرعان ما تلاها قصصٌ طويلة كتبت له مجده الأدبي، فقد أخرج قصة «من حياتي في السجن» وقصة «من حياتي في المزرعة» قصَّ في الأولى قصته وهو سجين في غير مرارة الناقم، وقصَّ في الثانية — وهي آيته — قصة حياته بعد خروجه من السجن، في مزرعة في إقليمه، وها هنا وصف قومه وحياتهم بلهجتهم الخاصة، ولعله أراد أن يجعل لهذه اللهجة قيمةً أدبية، كالمصري الذي يكتب قصة بالمصرية العامية — مثلًا — محاولًا أن يجعل من هذه العامية لغةً صالحة للتعبير الجميل.

كان «رويتر» أديبًا موهوبًا في كتابة القصة، لكن موضع موهبته الخاصة هي الحكاية القصيرة والرواية عن حادثة تبعث على التفكُّه؛ ولهذا ترى قصصه الطوال — إذا استثنيت «من حياتي في المزرعة» — عبارة عن سلسلة من حكاياتٍ قصيرة وحوادث تُروى لما فيها من دعابة. وقد كان كما ذكرنا إقليميًّا في أدبه، ولذلك استمدَّ أشخاص قصصه من أهل إقليمه، وكتب بلهجةٍ إقليمه، ثم إذا ما تفكَّه تفكَّه، على نحو ما يفعل أهل ذلك الإقليم وهو يشبه «دكنز» في أنه حين يصور شخصًا يبالغ في صفةٍ واحدة من صفات هذا الشخص دون سائر صفاته، كأنه يرسم له رسمًا «كاريكاتوريا» وإن يكن في ذلك أقل مبالغة من «دكنز» لأنه كان أقرب منه إلى الواقعية التي تستمد من الحياة. ويكفي لتقدير «رويتر» أن نقول إنه إذ صور «مكلنبرج» صنع ما لم يستطع أن يصنعه أديبٌ آخر في ألمانيا لإقليمٍ آخر.

(٦) جستاف فريتاج Gustav Freytag (١٨١٦–١٨٩٥م)

«كلر» و«رويتر» كانا خير من كتب القصة في ألمانيا في القرن التاسع عشر، لكن ذلك لا يقتضي حتمًا أن يكونا أوسع أدباء القصة شهرةً عند جمهور القراء، فلجمهور القراء حكمٌ ربما اختلف عن حكم النقاد فيما بعدُ. وجمهور القراء في ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان يؤثر أن يطالع لكاتبَين آخرَين، هما «فريتاج» و«سبيلهاجن».

وأول ما أريد ﻟ «فريتاج» أن يدرس ليكون أستاذًا متخصصًا في العلم، ودرس أديبنا الآثار، وخُصص له منصب في جامعة «برسلو»، لكنه لم يلبث أن ترك حياة العلم الجامعي ليجول في عالم الأدب والصحافة، وكان قد أصدر بالفعل بعض المسرحيات التي أهمها «الصحفيون»٥ وهي بغير شك من أروع الملاهي التي تصادفك في أدب ألمانيا إبان القرن التاسع عشر، وهي — على الرغم من معالجتها لأمورٍ سياسية كانت تتعلق بعصرها، ومن وصفها لمنافسةٍ نشبت بين صحيفتَين إذ ذاك — لا تزال ملهاةً يراها النظارة في المسرح فتملؤهم غبطة وسرورًا، وهذا يكفي وحده دليلًا على جودة فنِّها في حبك المواقف التي تثير الضحك بحكم تكوينها، وفي إدارة الحديث بين الأشخاص.
على أن مجده الأدبي إنما ينبني على آيتَين أخريَين، أما أولاهما فقصة «ما له وعليه»٦ التي أراد بها أن يصوِّر ألمانيا العاملة، فقد سئم هذه الدعوات النظرية التي أنفق أعضاء «ألمانيا الفتاة» جهدهم في نشرها، وجعل رسالته في هذه القصة استحثاث الطبقة الوسطى أن تنفض عن نفسها غبار التراخي والكسل، وأن تؤمن بقدسية العمل. فلا هو مما يسئم ولا هو مما ينزل بقدر العاملين. هو في هذه القصة يحاول أن يقنع قارئه أن رجلًا عاملًا من الطبقة الوسطى خير من شريفٍ كسلان من أهل الطبقة العليا. وأما قصته الأخرى فهي «المخطوط المفقود»٧ وقد أراد أن يصور بهذه القصة حياة عالمٍ جامعي، تبدأ القصة بأن أستاذًا يفتقد مخطوطًا فلا يجده، ويظل يبحث عنه بحثًا أدى به إلى إهمال زوجته، ويحب الزوجة أمير، وأخيرًا ترزق الزوجة من زوجها ولدًا يعوض على الوالد الأستاذ مخطوطه المفقود.

(٧) فريدريش سبيلهاجن Friedrich Spielhagen (١٨٢٩–١٩١١م)

لم يكن «سبيلهاجن» مثل زميله «فريتاج» عدوًّا ﻟ «ألمانيا الفتاة» وما كانت تروِّج له من الآراء النظرية، بل كان متأثرًا بها وبآرائها تلك، فلم تكن القصة في يديه إلا مناقشة آراء! إذ هو يختار أشخاصه بحيث يمثل كلٌّ منهم مذهبًا فكريًّا معينًا، ويدافع عنه، وبهذا جاءت قصصه تعليميةً إلى حدٍّ كبير، أو قل لم تكن القصة عنده فنًّا مقصودًا لذاته، بل قصد بها أن تكون أداة لنشر فكرة أو أفكارٍ معينة يريد لقرائه أن يعتنقوها. ومن أهم قصصه «غمار الناس»٨ التي كان يرمي بها إلى إصلاح الطبقات العاملة ومحاربة أصحاب رءوس المال. وتنتهي القصة نهايةً مفجعة؛ فقد أراد الكاتب لأمرٍ ما أن يجعل أمله في إصلاح المجتمع لا يتحقق، ويموت بطله في مبارزة. وله كذلك قصة «المطرقة والسندان»٩ وقصة «طوفان العاصفة»١٠ ربط فيها علاقة بين الأزمات المالية التي اجتاحت ألمانيا بعد الحرب الفرنسية الألمانية وبين عاصفةٍ عنيفة هبَّت على بحر البلطيق.

عاش «سبيلهاجن» حتى عُمِّر، وجاء الجيل الجديد فوجده يكتب على أساسٍ عتيق، فلم يرضَ عما يكتبه.

(٨) ريتشارد فاجنر Richard Wagnenr (١٨١٣–١٨٨٣م)

شهدت الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر نصرًا عظيمًا تُحرزه ألمانيا على عدوتها فرنسا؛ فشهدت نتيجة لهذا النصر أمةً ألمانية تتحد أجزاؤها. فإن كان لأديب أن يكتب فإما أن يكتب ليعبر عن الروح القومي الجديد، وإما أن يكتب على غير هذا الأساس فلا يجد لكتابته قارئًا. وكان «فاجنر» أول أديب يُغذِّي في قومه هذا العنصر الجديد.

ولد «فاجنر» في ليبزج، وأبدى منذ نعومة أظفاره بوادر تنمُّ عن موهبةٍ في الموسيقى، ثم لم يكد يفصح عن نفسه حتى أحب المسرح وأدبه. وقرن الموسيقى بالمسرح؛ فجاء إنتاجه مؤلفًا من هذين العنصرَين على نحوٍ يستحيل معه أن تتحدث عن أدبه بغير موسيقاه. إنه شاعر بدأ بشعره عهدًا جديدًا في الأدب الألماني، هو شاعر خلق لشعره صورةً فنية لم يسبقه إليها شاعرٌ آخر، وإنها لصورةٌ فنية تتبلور فيها خصائص الألمان دون سائر الشعوب، ولعلها أهم ما أضافه الألمان إلى تراث العالم في الفنون، لكنه على عظمته الخالدة، لن يجد المكان الذي هو جدير به هنا في هذا الكتاب، لأن الشاعر فيه — كما قلنا — جزء لا يتجزأ من الموسيقى، ولأن «فاجنر» بغير موسيقاه ليس من «فاجنر» في قليل أو كثير. اقرأه أدبًا خالصًا بعيدًا عن الآلات الموسيقية التي تعزفه، فلن تجد في أكثر شعره ما يستحق أن يخلد. إن «فاجنر» على حقيقته يجد مكانته الصحيحة في كتاب يؤرخ للموسيقى لا في كتاب يؤرخ للأدب؛ هو من أسرة «موزار» و«بيتهوفن» لا من أسرة «جيته» و«شلر»، وإذن فلا يسعنا ها هنا إلا أن نشير إلى عظمته دون أن نذكر شيئًا عن رسالته.

١  Hoffmann von Fallersleben.
٢  Ehhehard Der Trom Peter von Sakkingen.
٣  Der Grune Heinrich.
٤  Die Seute von Seldwyla.
٥  Die Journalisten.
٦  Soll und Haben.
٧  Die verlarane, Handschrift.
٨  In Reihi und Glied.
٩  Hammer und Amboss.
١٠  Sturmflut.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤