الأدب الروسي في القرن التاسع عشر

(١) إسكندر بوشكين Alexander Pouchkine (١٧٩٩–١٨٣٧م)

حين بدأ «بوشكين» يقرض الشعر في بلاده، كانت أوروبا الغربية تضطرب وتموج بأعقاب الثورة الفرنسية وبالدعوة ينطلق صوتها من كل ناحية بالحرية، فلا يصل إلى الروسيا من تلك الصرخات الداوية إلا أصداءٌ خافتة؛ فلعلها كانت في شغل عن تيار الحوادث تستجمع من أعماق ماضيها المظلم ما عسى أن يصادفه العبقري من عناصر وخيوط، فيصوغها وينسجها على نحوٍ يصوِّر لبلاده وللعالم أجمع شخصيةً جديدة وفكرًا جديدًا وشعورًا جديدًا تتسم به الروسيا فتتفرد به دون سائر الأقطار. وقد كان «بوشكين» من الأُلى صاغوا هذه الشخصية الجديدة وهي لم تزل في دور نشأتها. ولئن كان «بوشكين» يمثل شخصية بلاده وسماتها، فلا ينبغي أن يتخذ القارئ من ذلك دليلًا على أنه لم يكن شاعرًا إنسانيًّا يعلو بأدبه عن ظروف الزمان والمكان، ويتجه بقلمه وشعوره نحو الإنسان أنَّى كان وكائنًا من كان؛ إذ ليس ثمة من تناقض بين الوجهَين، فقد ينظر الأديب إلى الإنسانية كلها خلال أمته وحدها، بل خلال أسرةٍ واحدة أو فردٍ واحد.

تتصل حياة شاعرنا «بوشكين» بنتاجه الأدبي اتصالًا بحيث لا يمكن التحدث عن جانب منهما دون جانب؛ فقد عاش الشاعر كل سطر جرى به قلمه، فجاءت آثاره أقوى ما تكون الآثار الأدبية دليلًا على شخصية الكاتب ومزاجه وعناصر تكوينه، فهو روسيٌّ تجري في عروقه دماءٌ أفريقية تحدَّرت إليه من جده لأمه وهو زنجيٌّ كان في حاشية بطرس الأكبر، وأما أبوه فقد كان رجلًا من الأشراف في عهد «كاترين الثانية» وكان له ما للأشراف من حاشيةٍ رقيقة ومعرفةٍ منوعة عن أشياءَ معينة لا بد لرجل الطبقة الرفيعة من الإلمام بها، وكان متأثرًا على وجهٍ أخصَّ بآراء فولتير، وبالثقافة الفرنسية عامة، فأعدَّ لابنه من المعلمين من ثقفوه على النحو الذي أحبه أبوه، وقام هؤلاء المعلمون بواجبهم على خير وجه، حتى إن تلميذهم — في رجولته — كتب في رسالةٍ لصديق يقول: «سأكتب لك بلغة أوروبا (أي الفرنسية) لأني أعرَفُ بدخائلها مني بلغة بلادي.»

كان «بوشكين» وهو طالب أمْيَل إلى الأدب منه إلى مواصلة درسه، فبينما تراه ينشر القصائد التي تُصادِف الاعجاب، ترى أساتذته لا يبشرون ذويه بمستقبلٍ زاهر. ولم يكد يغادر معهده حتى ساهم بنشاطه في جماعةٍ أدبيةٍ سياسية؛ ينشئ القصيدة ويتلوها على زملائه — وكان منهم الناقدون الذين يُعتدُّ برأيهم — فيدهش الزملاء لما يرونه في إنشاء الفتى من طابعٍ جديد. وما هو إلا أن نشر الشاعر قصيدةً كلها إفك وفحش حتى كادت تودي به إلى مطارح النفي في سيبيريا، لولا أن توسط له شاعرٌ كانت له مكانته إذ ذاك، هو «كرمزين»١ فاستُبدلت الأقاليم الجنوبية بسيبيريا. وشاء الله أن يكون هذا النفي للشاعر خيرًا وبركة، لأنه استبدل برفقة الشر في بطرسبرج رفيقَين كان لهما أبلغ الأثر في نتاجه الأدبي، وهما جبال القوقاز أولًا والشاعر الإنجليزي «بيرن» ثانيًا؛ فقد أنشأ في منفاه قصائد نمَّت عن مبلغ نبوغه من ناحية، وأضفَتْ على خطايا ماضيه ظلًّا من العفو من ناحيةٍ أخرى. فمن وحي القوقاز و«بيرن» استمد الشاعر قصائده «سجين القوقاز» و«ينبوع باكتشسارى» و«الغجر» والأجزاء الأولى من آيته الكبرى «يوجين أونيجين»٢ فهو في قصائده تلك استمدَّ مناظره من القوقاز وطرائق التعبير من «بيرن»؛ «سجين القوقاز» شبيهة بقصيدة «بيرن» «تشايلد هارُلد» لولا أنها تزيد عليها في غزارة العاطفة؛ و«ينبوع باكتشسارى» وصف للصراع يقوم بين نظامَين اجتماعيَّين، نظام الزوجات العدة اللائي يَكُنَّ للرجل «حريمًا»، ونظام الزوجة الواحدة التي ينشئ الرجل بناء أسرته على أساس حبها. وفي قصيدة «الغجر» يصور الشاعر بطله بحيث يجعله يفرُّ من أوضاع المجتمع فرارًا، لأنها تقوم كلها على الجمود والخداع، وبطله هذا هو في الحقيقة صورة صادقة ﻟ «بيرن» الذي اهتدى الشاعر بهديه، ولكنا يجب هنا أن نذكر أن «بوشكين» لم يتأثر ﺑ «بيرن» إلا من حيث ظاهره، أعني أنه حاكى «بيرن» في شذوذه وفي إسرافه في فرديته التي تحدى بها تقاليد المجتمع وأوضاعه، لكنه لم يتغلغل إلى أعماق الشاعر الإنجليزي ليتقمص روحه.

طُرد «بوشكين» من مدينة بطرسبرج لأنه — كما أسلفنا — لم يراعِ الأوضاع الخلقية في إحدى قصائده، وها هو ذا يقترف جرمًا اجتماعيًّا آخر وهو في منفاه من الإقليم الجنوبي من روسيا، وذلك أن رحالةً إنجليزيًّا صادفه في مدينة أودسا، وعرَّفه بشيء من شعر «شلي» الشاعر الإنجليزي، فما هو إلا أن قرأ «بوشكين» قصيدة شلي «برومثيوس الطليق» حتى تأثر بما فيها من نزعة تميل إلى الإلحاد، ثم بالغ في ذلك وأسرف، حتى لم يتورع عن إعلان إلحاده، فلم يدرِ أولو الأمر ما يصنعون به سوى أن أرسلوه إلى أبيه في قريةٍ صغيرةٍ نائية ليكون مسئولًا عنه، وشدد الوالد من ناحيته الرقابة على ولده المتمرد؛ فكان يطالع خطاباته ويمنعه من زيارة أصدقائه. لكن الشاعر الثائر حطم من هذه القيود بعض الشيء، وأخذ يخالط الأصدقاء، ويتصل بالأدباء، ومضى في إنشاء كبرى آياته «يوجين أونيجين».

تتألف قصيدة «يوجين أونيجين» من سبعة آلاف بيت، تدور كلها حول موضوعٍ تافه تعجب كيف استطاع الشاعر أن يجعل منه آيةً رائعة، فأونيجين أراد العزلة في مكانٍ ريفي، حيث عرف فتاةً اسمها «تاتيانا»، لم يبدأها بالحب، بل أراد أن ينظر إليها من عليائه نظرة يخالطها ازدراء، فهاجمته هي بخطاب أعلنته فيه بحبها له، لكنه يجيبها نافرًا بقوله إنه لم يكن الرجل الصالح لحبها، ويفترقان، وتنسلخ أعوام، ويجتمعان مرةً أخرى، حيث يجد الرجل نفسه في حضرة أميرةٍ جميلة، إلى جانبها زوجها، ومن حولها الحاشية والمعجبون، ويدرك الرجل أن الأميرة هي فتاته الأولى «تاتيانا»، فيكتب لها هو بحبه هذه المرة بدل أن تكتب له، فتجيبه على نحو شبيه بما أجابها به في المرة الأولى «لا أستطيع أن أهبك نفسي، لقد أحببتك وما أزال أحبك، لكنني متزوجة ولزام عليَّ أن أصون عهد الزواج.» هذه هي القصة، وهي — كما ترى — من البساطة بحيث يستحيل على شاعرٍ فرنسي أو إنجليزي أو ألماني أن يتخذ منها موضوعًا لما يُشبه الملحمة الطويلة، لكن شاعرنا روسي وما لا يصلح هناك يصلح هنا، ففي هذه البساطة شيء من صميم الروح الروسي، ولا عجب أن ترى بعض السهول في تلك البلاد لم يغدق عليها الله كثيرًا من أنعمه، ومع ذلك ينظر أهلها إليها فإذا هي في أعينهم جنةٌ فيحاء. ولعل أبرز ما يستوقف النظر من هذه الآية الأدبية، صورة «أونيجين»؛ فهو نمط لشخص لا يمكن أن تراه إلا في الروسيا، لسببٍ بسيطٍ جدًّا، وهو أنه روسيٌّ صميم؛ هو صورة للروسي من الأشراف الذي وضعته حياته بين جماعة من الناس حيث لا يعرف لنفسه صناعة يمارسها، فإذا هو أخرج من هذه البيئة كانت حيرته أشد وأصعب، هو رجل من الأشراف الذين كان عليهم بحكم موضعهم من المجتمع أن يخدموا القيصر، فإذا أنت حررتهم من هذه العبودية للقيصر لم يعرفوا ماذا يصنعون بهذه الحرية التي ظفروا بها، مثلهم في ذلك مثل الزنجي الذي لم يُصِبْ شيئًا من مدنية أو علم، أهديتَ إليه مذياعًا له قيمته عند من يعرف كيف يستخدمه. هو رجلٌ روسي من طبقة الأشراف يدرك تمام الإدراك أنه يحيا حياةً فارغةً عقيمة، ولكنه في الوقت نفسه لا يدري كيف سبيل الخلاص مما أراد له المجتمع أن يكون، فترى «أونيجين» — على يدي «بوشكين» — يحاول محاولاتٍ عدة، فيجيد البداية ثم يعجز دائمًا عن بلوغ النهاية في أي عمل يبدؤه، وهو دائمًا في موقفِ مَنْ يرتقب حدوث شيء يغيِّر له الحياة، لكن شيئًا لا يحدث، وتمضي حياته على هذا النحو عامًا بعد عام، حتى إذا ما بلغ مرحلةً متأخرة بعض الشيء من عمره، ورأى عبث الحياة التي يحياها، صمم أن يحب كما يحب سائرُ عباد الله، لكن الحياة تجيبه في نغمة الهازئ: «لقد فات أوانك، انظر إلى وجهك، لقد تجعَّد إهابُه.» وقل كذلك عن شخصية «أونيجين» إنها تصوِّر الروسي إذا تحضَّر وباعدت الحضارة بينه وبين غمار الناس من بني وطنه، فتراه يتيه بفكره بين المذاهب النظرية، فآنًا يلوذ بالاشتراكية أو الشيوعية، وآنًا لا يجد الخلاص إلا في الفوضى التي تهدم كل أركان المجتمع؛ كل ذلك سعيًا وراء مثلٍ أعلى يلتمسه ولا يراه. والحقيقة أن شخصية «أونيجين» فيها هذا كله وأكثر، لأن «بوشكين» عرف كيف يصوره بحيث يستوعب به الحياة الروسية في شتى أصولها وعناصرها؛ ما خفي منها وما ظهر.

وكذلك «تاتيانا» التي أحبَّت «أونيجين» يتمثل في شخصها صورة المرأة الروسية من حيث قوة العزم الذي يساير الرقة والرشاقة في غير تناقض بين الصفتَين، وكذلك هي تصور المرأة الروسية في إخلاصها لواجبها، وهي خلة ورثتها المرأة الروسية على تعاقب الأجيال؛ إذ كانت الحرب تدعو الرجال إلى ميدان القتال فيقع عبء الأسرة عليها. وهنا نحب أن نلاحظ للقارئ أن «بوشكين» استعار كثيرًا جدًّا في تصويره لشخصية «تاتيانا» من «روسو» في كتابه «هلويز الجديدة»، بل إن كثيرًا من الأجزاء لا يزيد على ترجمةٍ صريحة من هذا الكتاب، ومع ذلك لم تنقص قيمة الأثر الأدبي بهذا النقل، لأن الأديب عرف كيف يستفيد من العناصر المستعارة في تصوير شيءٍ جديد.

على أننا إذ نزعم أن «بوشكين» قد صور الحياة الروسية في «يوجين أونيجين» إنما نريد بصفةٍ خاصة جانبًا معينًا؛ هو جانب الحياة كما رآها «أونيجين» أي كما كانت تبدو للرجل من طبقة الأشراف، الذي كانت الحياة عنده تعني أن يخطر مختالًا في الشوارع الكبرى، وأن يتناول غداءه أو عشاءه في المطاعم الفاخرة، وأن يقضي مساءه في مسرح أو مرقص، وكان الشعور الرقيق عنده يعني أن يحسد موج البحر على ما ينعم به من سعادة وهو يلطم قدمَي مرأةٍ حسناء. فلئن عدت قصيدة «يوجين أونيجين» بمثابة الموسوعة التي تصور كل ما في الحياة الروسية، فلا بد أن نذكر أن الحياة الروسية في صميمها إذ ذاك — أعني حياة الأشراف — كان قوامها طعامًا وشرابًا ورقصًا وذهابًا إلى مسارح التمثيل وضيقًا بالحياة وحبًّا للنساء على سبيل التسلية في أوقات الفراغ، ثم تألمًا لما لا بد أن ينتهي إليه هذا النوع من الغرام العابث أو ذلك اللون من الضيق بالحياة الذي أساسه التعطل عن أداء عملٍ مفيد. تلك كانت الحياة في طبقة الأشراف، وإلى هذه الطبقة اتجه «بوشكين» بعينَيه تلاحظان، وبقلمه يسجل.

كان «بوشكين» أول أمره معنيًّا بالحياة الروسية، يريد أن يصورها في أدبه ليصلحها؛ لكنه عاد فأدرك أنه إنما ينفق مجهوده عبثًا، «فلقد أراد لي الشيطان أن أولد في هذه البلاد بما وهبني الله من نبوغ ومن قلب.» هكذا قال عن نفسه، حين اعتزم أن يأوي إلى حظيرة الأدب للأدب ذاته، فدرس «جيته» ثم درس «شيكسبير» إلى جانب دراسته للشاعر الروسي الذي سبقه إلى الوجود وعاصره بعض الحين «كرمزين» وأخذ في عزلته — حيث كان لا يزال في منفاه من الإقليم الجنوبي من روسيا — يعوض لنفسه نقص دراسته، وفي هذا الوقت نفسه، أخذت مربيةٌ عجوز في دار أبيه، تقصُّ عليه شيئًا من الأساطير الشعبية. ومضى «بوشكين» في إنتاجه الأدبي متأثرًا بهذا كله، فكتب «بورس جودونوف»٣ الذي صور في شخصه رجلًا جمع ثلاثًا من شخصيات شيكسبير، هم «رتشرد الثالث» و«ماكبث» و«هنري الرابع»، وكذلك كتب رواية عن رجل من الأشراف، أسماها «الكونت نولين»٤ استلفتت الأنظار في بطرسبرج، وبلغ أمرها القيصر؛ وما هي إلا فترةٌ قصيرة تمضي بعد ذلك، حتى يأتي رجال الشرطة فيحملون الأديب في عربة إلى «بطرسبرج» ليَمْثُل بين يدَي القيصر، وهنالك تاب واستغفر، فعفا عنه القيصر، وأذن له أن يقيم في بطرسبرج إذا شاء، فانغمس أديبنا في حياة المتعة الجسدية وذهب عنه الوحي الشعري، إلا قليلًا.

(٢) ميخائيل ليرمونتوف Michael Lermontov (١٨١١–١٨٤١م)

وهذا شاعرٌ آخر، كان لجبال القوقاز وللشاعر الإنجليزي «بيرن» أكبر الأثر في حياته وإنتاجه، كما كان لهما أكبر الأثر في حياة «بوشكين»، وهو كذلك من أسرةٍ نبيلة، ترجع أصولها إلى اسكتلندة. وقد تعهدت تربيته مربيةٌ ألمانية ومعلمٌ فرنسي جعل منه رجلًا يعبد نابليون ويحكم على الأدب بالذوق الفرنسي، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يُباعِد بينه وبين الأساطير الشعبية الروسية التي رأى الشاعر فيها جمالًا لم يعدله شيء في الأدب الفرنسي كله، ثم هو كذلك — مثل «بوشكين» — لم يفلح في دراسته وطُرد من الجامعة، ليلتحق بالجيش عامَين عاش خلالهما كما يعيش سائر الضباط، لولا أنه «أضاف إلى خمره شيئًا من الشعر» وله في هذه الفترة بعض الآثار الأدبية، من بينها صورةٌ شرقية أطلق عليها «الحاج أبرق»٥ كان متأثرًا فيها بشعر «بيرن».

كان «ليرمونتوف» متشائمًا في نظرته إلى الحياة، وعبر عن تشاؤمه هذا في خير إنتاجه الأدبي «الشيطان»، ولعل مصدر ضيقه بحياته عقدة النقص التي استولت عليه ولوَّنت وجهة نظره، والتي نشأت عن قبح تكوينه الجسمي وربكته كلما وجد نفسه في جماعة من الناس، حتى إنه كثيرًا ما كان ينعقد لسانه ويُرتج عليه القول؛ فأدت به عقدة النقص هذه إلى الشعور بالمرارة النفسية والحقد على سائر الناس والنفور من المجتمع، كما أدت إلى نتيجةٍ طبيعية أخرى وهي أن يمقته الناس. كان إذا ما تعقب امرأةً بغزله وعاطفته، فإنما يصنع ذلك ليهجرها في اللحظة التي تستجيب لغزله وعاطفته، فكأنما هو يحب ليَكْره، أو كأنه أراد بذلك أن ينتقم من عدوه الإنسان. نقول إن هذه النظرة السوداء وجدت سبيلها إلى التعبير في قصيدة «الشيطان» التي أنشأها وهو في منفاه بجبال القوقاز، فقد زاد الشبه بين حياته وحياة «بوشكين» بنفيه إلى القوقاز عقابًا له على قصيدة أنشأها في بطرسبرج، وأثارت غضب أولي الأمر؛ فاتخذ من مناظر الطبيعة في القوقاز بطانةً لقصيدته كما فعل من قبله «بوشكين»، والفرق بينهما في ذلك هو أن «بوشكين» كاد أن يصف المناظر وصف العالم الجغرافي الذي يتحرى دقة الوصف، أما «ليرمونتوف» فلا يُعنى بدقة التفصيلات بقدر ما يعنى بإخراج الطبيعة في صورة كائنٍ حي يكاد يهتزُّ بفعل العاطفة كما يهتز بفعلها الإنسان. ومما يلاحظ على تصويره للشيطان أنه أخرجه في صورة تختلف كل الاختلاف عن الشيطان في قصيدة «ملتن» الفردوس المفقود، كما تختلف عن الشيطان على يدَي «بيرن»، فشيطان «ملتن» و«بيرن» يعذِّب الإنسان، ولكنه يعلو به في معركته نحو الحرية والمعرفة، أما شيطان «ليرمونتوف» فعلى الرغم من أنه يعلن أنه «أمير العرفان والحرية» فهو لا يصنع شيئًا يبرر به هذه التسمية، بل هو يؤسس ملكه في نطاق الشهوات الإنسانية واللذائذ الحسية أكثر مما يقيمه في دائرة الطموح الفكري.

عاد «ليرمونتوف» من منفاه في القوقاز إلى بطرسبرج ومعه قصيدتان؛ «الشيطان» و«أغنية عن إيفان» التي رسم فيها صورة «إيفان الفظيع» أحد قياصرة الروسيا في القرن السادس عشر، كما صوَّرته الأساطير والأشعار التي قيلت فيه، فيقدم لنا الشاعر في هذه القصيدة صورةً لمبارزة حضرها القيصر بين تاجر من موسكو ورجل من رفقاء القيصر انتهك حرمة زوجة التاجر، وضرب التاجر عدوه في المبارزة ضربةً أردته قتيلًا، فجيء به إلى القيصر:

– ألم تكن ضربتك له عن عمد؟

– نعم أيها القيصر، قتلته بإرادتي، ولن أنبئك لماذا قتلته، لكني سأبوح بالدافع أمام الله وحده.

– لقد أحسنتَ صنعًا، أيها الصديق، أيها المصارع الجريء، أيها التاجر ابن التاجر؛ لقد أحسنتَ صنعًا إذ أجبتني بما يرضي منك الضمير، وسأغدق من مالي على زوجتك وبنيك الأيتام، وسأبيح لإخوتك أن يتنقلوا بتجارتهم في طول البلاد وعرضها، وإنها لملكٌ فسيح الأرجاء، دون أن يدفعوا عن ذلك ضريبة، أما أنت يا صديقي، فاذهب إلى المشنقة، واستصحب معك إليها رأسك الثائر، وسآمر بحد الفأس أن يُسنَّ، وبالجلاد أن يرتدي خير ثيابه وأحسن زينته، وبالناقوس الكبير أن يُدَقَّ، ليعلم أهل موسكو جميعًا أنك أنت كذلك كنت موضع رحمتي.

وهكذا مضى الشاعر في قصته المنظومة، فجاء فيها بوصف وحوار وتصوير بلغ الغاية من القوة والإجادة في بساطة لا تكلُّف فيها ولا تصنُّع.

وله كذلك مجموعة من قصصٍ نثرية أطلق عليها «بطل زماننا»، قيل إنه يصور نفسه فيها إذ يروي قصة حياته، والحقيقة أنه صوَّر زمانه في شخص من خياله، مستفيدًا في ذلك طبعًا بتجاربه؛ وهو في هذا الكتاب متأثر بكتاب الشاعر الفرنسي «ميسيه» «اعترافات ابن العصر»، ولو أنه كانت تُعوِزه بعض صفات «ميسيه» كالصراحة التي لا تخشى من إعلان الحق، والدقة المرهفة التي لا تفوتها ألطف الخواطر والمشاعر.

(٣) نقولا جوجول Nicholas Gogol (١٨٠٩–١٨٥٢م)

نشأ هذا القصصيُّ النابغ حين كانت تكتنف الروسيا رجعيةٌ قاتلة، ولم تكن الروسيا في تلك الرجعية بمعزل عن سائر الأقطار الأوروبية، بل هي روحٌ عامةٌ شملت القارة كلها عقب الثورة الفرنسية وحروب نابليون. وما ظنك بدولة تعلن رسميًّا أنها ستحمل أساس دستورها طغيانًا صارمًا ورقابة على اللسان والقلم؟ وما هي إلا أن تلبي الصحافة هذه الدعوة، بل ما هو إلا أن يصغي المجتمع كله صاغرًا لهذا الصوت الرجعي الذي يناديه؛ فسار الأدب والشرطة يدًا في يدٍ صديقَين تآزرا على قتل التجديد والثورة على القديم، وكأنما تسابق الأدباء أيهم يكون أشد جمودًا وأكثر استسلامًا. ولقد نقد ناقد كاتبًا من الكتاب إذ ذاك بأنه كان يكتب ما يؤمر به، فأجابه الكاتب بقوله: «لو أُمرت غدًا أن تكون صناعتي توليد النساء لصدعت بالأمر.» ونهضت جماعةٌ أدبيةٌ رجعية تدعو إلى إعادة المجد القديم لاتخاذه مثلًا أعلى للحياة الحاضرة، فكان ذلك في الحقيقة ستارًا يخفي وراءه جمودًا يريد أن يُقلِّم أظافر الحرية الفردية ويقصَّ جناحَيها، وإذا أنت منعت الحرية الفردية عن السير إلى الأمام فقد طمست مبادئ الحضارة الإنسانية التي لا حضارة بغيرها.

في هذا الجو الفكري ولد «جوجول» لأبٍ مزارع يملك أرضه التي يفلحها، ولم يكد ينخرط في سلك معهده الدراسي حتى بدت عليه بوادر الأدب القصصي والروائي قويةً ناصعة، فنشر في مجلة المعهد قصةً تسلسلت حلقاتها في أعدادٍ متتابعة، ثم نشر في هذه المجلة أيضًا مأساةً لم يكن فيها قويَّ الأصالة والابتكار. وكلٌّ من القصة والمأساة تأثر فيهما بالأدب الألماني، على الرغم من أنه ما فتئ يعلن لإخوانه مقته «للرياضة، واللغتين اليونانية واللاتينية، والألمان». فقد كره الألمان كراهةً بثها فيما بعدُ في تصويره لشخص في إحدى قصصه أطلق عليه «شلر» وخلع عليه ما كان يعتقد أنه يصور الخلق الألماني، وأهم جوانبه التقتير من ناحية والإسراف في النظام من ناحيةٍ أخرى، فجعل «شلر» في القصة يجدع أنفه ليوفر ثمن النشوق الذي اعتاد أن يتنشقه، ثم جعله يبالغ في تنظيم حياته فلا يضع الفلفل في طعامه إلا بعد وزن وتقدير وحساب.

ترك الجامعة وله من عمره ثمانية عشر عامًا، مصممًا أن يؤدي لأمته عملًا جليلًا يخلد به؛ فهو في تلك السن الباكرة أدرك أنه عبقري وأن الناس أساءوا إلى عبقريته ولم يقدروها قدرها. وقد كانت تستولي عليه خلتان رئيسيتان أخذتا تضخمان في نفسه حتى أصبحتا قوام شخصيته كلها، الأولى زهد فيما يقبل عليه الناس من أسباب المتعة، والثانية رغبةٌ قوية في القوة والسيطرة، بهذه الروح أخذ سمته نحو بطرسبرج، حيث استخدم في إحدى وظائف الدولة الصغيرة، ثم لم يلبث أن تركها بعد أن ملأ جعبته من أنماط الشخصيات التي صادفها في دواوين الحكومة؛ الشخصيات التي تنتفخ أوداجها بأبهة المنصب! واضطرب أمره حينًا، فآنًا يعتزم التمثيل، وآنًا يرتحل ويسافر، وتارةً يخلد في داره ليكتب شعرًا في حبه الفاشل، متوهمًا أن أيدي القراء ستتلقفه من نافذات المكاتب، وإذا به يُعرض في نافذات المكاتب حينًا لا تمتد إليه يدٌ واحدة بالشراء، فيجمعه ليشعل فيه النار في غرفة استأجرها لذلك.

هذه الصدمات وأشباهها كثيرة الحدوث لمن يبدأ حياته الأدبية من الشباب، لكنها قليلًا ما تنتهي إلى مثل ما انتهت إليه عند «جوجول»، فقد أدى به الأمر إلى إخراج آيةٍ أدبية هي «أمسية في مزرعة دِكانكا»، نشرها وعمره اثنان وعشرون عامًا، فنزلت في المحيط الأدبي نزول الصاعقة، فما شهد الأدب الروسي شيئًا كهذه من قبلُ. صوَّر فيها «أوكرانيا» وجعل هذه البلاد تحيا وتتحرك، جعلها تنعكس على مرآته دقيقة الملامح جذابة المحيا في آنٍ معًا، جعلها تدوِّي بأصداء الضحك والغناء، ولكن أديبنا في تصويره لأوكرانيا في هذا الكتاب كانت تغلب عليه عاطفة الشاعر حينًا بعد حين، فيبعد بخياله عن الواقع. ولعل أهم ما يؤخذ عليها من نقص هو أنها جاءت صورةً كلها بهجة ومرح، وخلت مما لا بد منه؛ إذ خلت من الدموع والبكاء.

وعقب الأديب على كتاب «الأمسية» بكتابٍ آخر أطلق عليه «ميرجُرُد»٦ فما إن قرأه الشاعر «بوشكين» حتى حملته النشوة أن يضم الأديب معانقًا، فها هنا أكمل «جوجول» وجه النقص في كتابه الماضي، وذلك أنه لم ينسَ — حين هزَّ أشخاصه بالضحك — أن يمازج ضحكاتهم بشيء من دمع الحزين ونغمة من تهكم الساخر.

ولما بلغ «جوجول» من عمره مرحلة بين عامَيه الخامس والعشرين والسادس والعشرين أخرج مجموعةً أخرى من القصص، تكاد تتخذ كلها صورةً واحدة وطابعًا واحدًا، وتختلف في ملامحها وسماتها عن قصصه السابقة، فجاءت هذه المجموعة الجديدة بمثابة النموذج الذي ستحتذيه القصة الروسية فيما بعدُ. وأهم هذه المجموعة قصة «أصحاب الأراضي الزراعية في العهد القديم» وقصة «الدثار» التي قال عنها أديب معاصر ﻟ «جوجول»: «إن «جوجول» بقصته «الدثار» قدم إلينا المعين الذي نستقي كلنا منه.» في هذه القصص نقلٌ أمين عن الحياة الواقعة، فيها تصوير لا يغفل أدق الدقائق مما عسى أن يراه الرائي أو يسمعه السامع، وفيها ما يوصف بأنه «فكاهة روسية» مع أنه في صميمه شبيه جدًّا بما عهدناه في أرفع آيات الأدب الإنجليزي من فكاهة، ففيها من ذلك — كالذي تجده في «دكنز» — مزيجٌ متعادل من السخرية وحسن النية، مزيجٌ متعادل من الحقد على الإنسان والعطف عليه، من التهكم بالواقع والدعوة إلى ما ينبغي أن يكون. إن التعميم في الأحكام كثيرًا ما يؤدي إلى أفحش الخطأ، لكنه أيضًا قد يساعد أحيانًا على حسن الفهم ودقة التصور. ورجاء أن نصل بالقارئ إلى مثل هذا الفهم الحسن والتصور الدقيق، نجازف فنقول على وجه التعميم، إن أساس الأدب الساخر في الروسيا — كما هو في إنجلترا — الضحك خلال الدموع، أساسه التفكُّه ببساطة الإنسان وسذاجته تفكُّهًا يشعرك دائمًا أن وراءه عطفًا، كما تضحك من براءة الطفل وسذاجته ضحكًا بطانته مثل هذا العطف. أما في الأدب الفرنسي فأساس الأدب الساخر مقت الإنسان لغفلته، كأنما يريد الأديب أن يحطم رأس الشخص الذي يتناوله ليسخر منه.

وأصدر «جوجول» بعد قصته «الدثار» رواية «المفتش» فكانت بداية للمسرحية في الأدب الروسي الحديث، كما كانت «الدثار» بداية للقصة بمعناها الحديث؛ وقد أوحى له بموضوع الرواية حادثٌ وقع لزميله الشاعر «بوشكين» إذ استوقفه إبان رحلة من رحلاته مفتش يمثل الحكومة، مع أن رحلة «بوشكين» كانت علميةً خالصة يحاول فيها أن يجمع مادةً لكتاب كان يؤلفه في التاريخ. هذه الحادثة وأشباهها أثارت في نفس الأديب سخطه على فساد الأداة الحكومية؛ فكتب رواية «المفتش» يعرض فيها هذا الفساد، وموضوعها غاية في البساطة: شابٌّ رقيع في بطرسبرج أراد السفر إلى أهله في الريف ليقضي بعض الوقت، فنفد ماله في الطريق وهو في قريةٍ صغيرة، فأوشك أن يتعرض لخطر السجن لعجزه عن دفع ما كان عليه أن يدفعه من أجور، لولا أن غفلة الموظفين في تلك القرية أوهمتهم أن هذا الشاب مفتش جاء من قبل الإدارة العليا ليفحص أعمالهم ويستخرج أخطاءهم! من هذا الموضوع أنشأ «جوجول» آيةً فنية، سخر فيها بموظفي الحكومة إذ ذاك أمرَّ سخرية، ورسم في أشخاصها أنماط الموظفين على اختلاف صورهم. وفي قوة استوقفت الأنظار جميعًا عرض صورة الطغيان والغرور اللذين وجدهما سائدَين في الأداة الحكومية كلها على نحو لم يكن يتخيل أنه بلغ من الفداحة ما بلغ. ولم يكن في هجومه ونقده وسخريته مداهنًا ولا مراوغًا، إنما وضع خنجره في صميم الداء. والعجب أن من تلقَّى طعنة خنجره لم يصح صيحة الألم، وإنما ضحك من نفسه وقبل الأمر كله على سبيل التسرية عن النفس في وقت الفراغ! فأذن القيصر «نقولا» بتمثيل الرواية، وحضر أول عرضها على المسرح، وكان في طليعة المصفِّقين إعجابًا! أما أن يفكر أحد في تغيير الأمور تغييرًا يزيل عنها ما يثير الضحك وما يبعث على السخرية، فذلك ما لم يقع.

على أن آية آياته هي قصة «أرواح الموتى» التي قال عنها هو إنها «قصيدة من الشعر»، والحق إنها لكذلك لو قست الشعر بغزارة الشعور. وحسبك أن تعرف الفكرة الأساسية التي تدور حولها القصة لتفزع من الفساد الذي ضرب أطنابه، ولتتصور كيف عسى أن يكون أديبٌ قصصي مثل «جوجول» قد تأثر وكتب؛ فبطل القصة «تشيتشيكوف»٧ كان موظفًا بالجمارك، واقترف جرائمَ كثيرة في التهريب، ففُصل عن وظيفته؛ وعندئذٍ فكر في طريقة يجمع بها المال، فرسم لنفسه الخطة الآتية: لكل مالك عدد من العبيد، وتجري القواعد بأن يُحصى عدد هؤلاء العبيد على فترات، وكل ما يهم الحكومة أن تعلمه هو أن عدد العبيد عند المالك المعين لم يتغير، فإن مات منهم أحد بلَّغ المالك عنه، ولكن للمالك الحق في أن يتصرف في عبيده بالبيع أو الرهن، لأن ممثل الحكومة لا يهمه إلا أسماء في قائمة، أما «الأرواح» التي وراء هذه الأسماء، فليست بذات خطر. هنا فكر «تشيتشيكوف» أن يشتري «أرواح الموتى» من أصحاب الأرض بثمنٍ أرخص؛ بمعنى أنه لو مات من العبيد أحد، فالمالك لا ينبئ أحدًا عن موته، ويبيع اسمه لهذا المحتال على أنه حي، ويذهب صاحبنا إلى المصارف فيرهن هذه الأسماء على اعتبار أنها تدل على أحياء، والحقيقة أنها أسماء لأموات، لأن العبرة دائمًا في المصارف والحكومة وما إليها من هيئات هي بقوائم الأسماء. وبهذا استطاع المحتال أن يجمع مالًا كثيرًا، لأنه سيدفع — مثلًا — عن كل ميت خمسة جنيهات بدل خمسين، فإذا ما رهنه للمصرف، أوهم رجاله أنه إنما يرهن لهم شخصًا حيًّا، فيأخذ عن رهنه ما يقرب من ثمنه وهو حي! هذه هي الفكرة الرئيسية التي اتخذها القصصي إطارًا لتصوير الفساد في كافة جوانب الأداة الحكومية في بلاده.

كانت رواية «المفتش» وقصة «أرواح الموتى» بمثابة التحقيق الجنائي الذي يكشف عن المجرم، حتى إذا ما ثبت شخصه للقضاة أنزلوا به العقاب. كشف «جوجول» عن فظائع بلاده، فكان كشفه أساسًا لثورة تنشأ فيما بعدُ بغيتها الإصلاح.

(٤) إيفان تورجنيف Ivan Tourguéniev (١٨١٨–١٨٨٣م)

«تورجنيف» سليل أسرةٍ من نبلاء الريف في الروسيا، بدت فيه بوادر النبوغ في الأدب وهو لم يزل طالبًا؛ فقد أطلع أستاذه على مسرحيةٍ منظومة أنشأها، عرف فيها أستاذه أن الأديب الناشئ يقلد «بيرن» الشاعر الإنجليزي، لكنه أدرك كذلك أن الفتى يبشر بمستقبل في الأدب له خطره. ثم ما لبث الطالب «تورجنيف» أن أطلع أستاذه مرةً أخرى على قصائدَ نظمها، وقرأها الأستاذ فلم يشكَّ عندئذٍ أن بذور الأصالة والابتكار أخذت طريقها إلى النمو، ونشر لطالبه قصائده تلك في مجلةٍ أدبية. ولم يمضِ طويل وقت بعد ذلك حتى رحل «تورجنيف» إلى برلين ليستأنف دراسته، وهناك خلع رداء الشرق إلى الأبد، واستبدل به دثارًا غربيًّا لم يفارقه حتى ختم الحياة. فلما عاد إلى موسكو كان يقاوم ما وسعته قوته كل عوامل الجمود التي تجعل الروسيا شيئًا يختلف في روحه عن الغرب، فحارب في سبيل ذلك جمعيةً أدبية كانت تدعو إذ ذاك إلى الاستمساك بالتقاليد القومية، ولم يُسغْ قط روح القيصرية التي اشتملت البلاد ولوَّنتها بصبغةٍ خاصة. ولكن أين الرجاء لرجلٍ واحد يقاوم حركةً واسعة النطاق وموجةً فكرية تطغى على البلاد بأسرها؟ إنه رجلٌ واحد لم تعترف له الصحف الأدبية بعدُ بأنه من أصحاب القلم. لكن ما أكثر ما تجد المصادفة في خدمة النبوغ! هذا هو «تورجنيف» يرسل قصةً إلى مجلةٍ أدبية عنوانها «خور وكالينيتش» ولا يجد رئيس التحرير ما يملأ به صحيفته، فيدسُّ هذه القصة التي جاءته من مجهول، ولا يعجبه العنوان، فيضيف إليه من عنده عنوانًا آخر «صور بريشة صياد»، فتصادف القصة إعجابًا منقطع النظير، وتصبح فيما بعدُ بداية الحلقات المتتابعة التي تعرف بهذا العنوان الأخير، والتي طارت بذكر الكاتب في الآفاق، وضمنت له المجد والخلود.

هذا النجاح الأدبي الذي لقيه «تورجنيف» لم يغيِّر وجهة نظره حتى يحببه بعض الشيء في الوسط الاجتماعي في بلاده، بل ظل الأديب نافرًا يؤذيه كل ما تقع عليه عيناه، وبلغ به النفور حدًّا لم يطق معه أن يواصل العيش في الروسيا، فغادرها معتزمًا ألا يعود، وألقى عصاه في باريس حيث أخذ يتابع «الصور» التي تبلور فيها تفرده دون الأدباء ونبوغه في فن الأدب. ولو شئت لفنه وصفًا موجزًا، فهو فن المصور الذي يرسم بريشته الإنسان والطبيعة التي تحيط به في وحدةٍ متسقة لا ينبو فيها جانب دون الآخر، كأنما خلقت تلك البطانة الطبيعية مجالًا لهذا الإنسان، أو خلق هذا الإنسان ليعيش في هذا المحيط الطبيعي. ولعل «تورجنيف» أن يكون أول أديبٍ روسي أدرك أن الفلاح الروسي شيء أكثر من أن يكون موضوعًا للإشفاق، وأنه كائنٌ حيٌّ له شعوره وتفكيره، وإن تكن له طريقته الخاصة التي ينطبع بها إذا ما شعر أو فكر. وهكذا أراد الله للأديب الذي نفر من بلاده أن يكون أقدر من يصور بلاده، فاستطاع بهذا التصوير البارع أن يكون عاملًا قويًّا من عوامل الانقلاب التي انتهت بقومه إلى شيء من الإصلاح. وقد يكون مما يفيد قارئنا العربي أن نذكر له هنا أن «تورجنيف» حين أراد أن يعالج داء الاستعباد الذي تفشى في الروسيا، لم يذكر الاستعباد بكلمةٍ واحدة! بل كانت طريقته أن يرسم صورتَي رجلَين فلاحَين هما «خور» و«كالينيتش» لاذا بالفرار من وضعهما الاجتماعي الذي كان يقضي عليهما أن يكونا من العمال العبيد في المزارع، أما الأول ففرَّ إلى مستنقعٍ بعيد وخلص من الخدمة الإجبارية بدفعه غرامةً تنجيه من ذلك الإجبار، وأما الثاني فخلص من فلاحة الأرض بالْتحاقه بطائفة الخدم الذين يعاونون سيدهم في الصيد. وقد جعل «تورجنيف» «خور» يصور الرجل الواقعي، وجعل «كالينيتش» يصور الرجل الخيالي الحالم، لكن كليهما طيب القلب حسن السريرة. فمن صورتَي هذين الرجلَين يستطيع القارئ أن يستنتج لنفسه كم كان الاستعباد في فلاحة الأرض يستطيع أن يغير منهما لو كانا ليخضعا له! فإن لم تجدهما الآن يتصفان بما تعهده في عمال الأرض الزراعية من غلظةٍ وحوشية وهمجية وخشونة أخلاق، فاعلم أن ذلك مرده إلى نجاتهما مما يخلق في الناس هذه الخلال، وهو الاستعباد الزراعي.

عاد «تورجنيف» في زيارةٍ قصيرة إلى الروسيا، وكتب مقالًا في موت زميله في الأدب «جوجول» كان من أثره أن زُجَّ في السجن شهرًا ولم يطلق سراحه إلا بشفاعة الشفعاء، وبعدئذٍ استقر في مدينة «بادن بادن» وأخذ إنتاجه الأدبي يسيل من قلمه دفاقًا لا ينقطع، وتكاد كل قصصه التي أخرجها في فترة تقرب من عشر سنوات تصور نمطًا واحدًا من الناس، هو نمط الرجل من النبلاء الذي يكمل نشأةً وتربية ثم لا يعمل عملًا، مثل هذا الرجل تراه مصورًا في «يوميات رجل زاد عن الحاجة» و«فاوست» و«رودين» و«آسيا» و«منزل السادة» وغيرها؛ فأبطال هذه القصص جميعًا رجال من سادة الروس، أكملوا دراستهم خارج البلاد الروسية، وأصبحوا ذوي ثقافة وتهذيب لكنهم لم يصلحوا لشيء سوى مغازلة النساء، وحتى هذه المغازلة لا ينبغي أن تذهب بهم إلى حد العاطفة العنيفة، لأن مثل هذه العاطفة تنطوي على جِدٍّ لم يألفوه، وأُسُّ الداء في هؤلاء الرجال جميعًا هو أنهم رجال دُربت فهم العقول ولم تدرب الإرادة، فأصبحت الفكرة عندهم تطغى على العمل، يفكرون تفكيرًا سليمًا جيدًا، لكنهم يعجزون عن التنفيذ.

ولما بلغ الكاتب عامه الثاني بعد الأربعين، تغير اتجاهه الأدبي نوعًا ما؛ إذ جرفته حركةٌ قوية كانت تنادي بضرورة أن ينفق الأدباء جهدهم في دراسة المشكلات الاجتماعية. ولبَّى «تورجنيف» النداء بأن أخذ ينشئ القصة بعدئذٍ على هذا الأساس، فأنشأ في هذا الباب ثلاث قصص: «على وشك الانقلاب» أخذ فيها يبحث عن نمط الرجل الذي تريده البلاد في عهدها الجديد، بعد أن عرض في قصصه السالفة ألوانًا من الرجال لا يصلحون لشيءٍ مما ينفع البلاد؛ لأنهم أعجز إرادةً عن النمط المنشود، فنحن اليوم نريد رجالًا يعملون. لكنه لم يكد في هذه القصة يجد ضالته، لأنه إذ اهتدى إلى البطل الذي يصوره نموذجًا لرجل العمل، إنما اهتدى إلى رجلٍ يستعين على بلوغ غايته بامرأةٍ من ذوي قرباه، ومع هذه الاستعانة بسواه، لم يستطع في النهاية أن يحقق مناه! ثم قصة «الآباء والأبناء» التي أحدثت رجةً هائلة في زمانها، وفيها صور شخصية «بازاروف» الفوضوي — وهو أول فوضوي في تاريخ الروسيا — فجمع في شخصه عناصرَ فكريةً وشعورية كانت تضطرب بها البلاد عندئذٍ، لكنها لم تكن قد وجدت طريقها إلى عالم الواقع بعدُ، فأخرجها «تورجنيف» في هذا الرجل الذي خلقه بقلمه. ويجعل أديبنا من بطله «بازاروف» — الذي في شخصه تتمثل روسيا الثائرة حين كانت ثورتها في عصر التكوين — رجلًا غاية في الذكاء، لكنه الذكاء النظري، الذي يظهر أوضح ما يظهر في بلاغة اللفظ، يجعل منه رجلًا يحتقر الفنون ويزدري النساء ولا يؤمن بنظام الأسرة، بل ولا يفهم معنًى لكلمة «الشرف»، وهو إذا ما أحب فلا يحب عن عاطفة المؤمن بما يصنع، بل يحب وفي أعماق نفسه سخرية بالحب، ويصادق وفي أعماق نفسه استهانة بالصداقة، ويقال له حب الأبوين وعطفهما على الأبناء فلا يفهم من هذا إلا هراءً في هراء. ويجعل أديبنا منه رجلًا مليئًا بالمتناقضات؛ فتراه يقاتل ويبارز ويعرض حياته للخطر، فإن سألته: فيم القتال والمبارزة! ما عرف لهما سببًا داعيًا، وفي الوقت الذي تراه فيه يستخفُّ بالشرف والحب والصداقة والأبوة تراه يقابل شخصًا لأول مرة فلا يلبث أن يضحي بنفسه في سبيله. ولعل «تورجنيف» في هذا كله كان يصور نفسه، فيصور قومه في غضون صورة نفسه.

وللكاتب كذلك من هذا الضرب الاجتماعي من القصص — عدا قصتي «على وشك الانقلاب» و«الآباء والأبناء» — قصة «الدخان» التي صور فيها الجمود والتجديد وقد تلاقيا وجهًا لوجه، لكنه هنا جاءنا بشخصياتٍ بعيدة بعض الشيء عن الواقع — ذلك إذا استثنينا شخص امرأة تُدعى «أيرين» تُعدُّ صورتها آيةً في تحليل المرأة ونوازعها ودوافعها — وإنما جاء بُعده عن الواقع من بُعده عن بلاده أمدًا لم يعد بَعده قادرًا على فهم ما انتهى إليه الناس من تغير وتطور.

ولا بد لنا قبل أن نختم القول في قصصه أن نذكر له قصةً عظيمة أخرى هي قصة «التربة العذراء» التي عاد فيها إلى محاولة تصوير الرجل الذي تحتاج إليه الروسيا لتنهض من فسادها. وبعدئذٍ أخذت أيامه تدنو من ختامها، وأخذ المرض يهدُّ بنيته حتى أصيب بأفدح العلل، وها هنا استولت عليه روحٌ تصوفية عبر عنها في قصتَين هما «أنشودة الحب الظافر» و«كلاري ملتتش».

لو لم يكن «تورجنيف» مبتكرًا مبدعًا لما عددناه بين عمالقة الأدب، لكن ابتكاره هذا لا يعني استقلاله عن المؤثرات، بل إن الابتكار في الأدب قلَّ أن يعني ذلك كائنًا من كان الأديب؛ فقد تستطيع أن تحلل «تورجنيف» إلى عناصر كوَّنته، فمن الأدب الإنجليزي «ثاكري» و«دكنز» لهما فيه أثرٌ عميق، ومن الأدب الفرنسي «جورج سان» و«فكتور هيجو» ومن الفلاسفة الألمان «شوبنهاور» كل هؤلاء لهم يدٌ طولى في تكوينه الأدبي.

(٥) فيودور ميخايلوفتش دستويفسكي Fiodor Mikhailovitch Dostoièvski (١٨٢٢–١٨٨١م)

ولد «دستويفسكي» لأبٍ جراح، وشهد ضوء الحياة أول ما شهده بين جدران المستشفى الذي كان يعمل فيه أبوه. وكانت طفولته عليلة يتعاودها المرض آنًا بعد آن، ولكنه مع ذلك استطاع أن يظفر بنجاحٍ متفوق في مدرسة المهندسين، لكن المهندس الناشئ غلبه الأدب فانصرف إليه، لأن الهندسة جاءته عن طريق الدرس، أما الأدب فطريقه إليه الطبع الأصيل.

وبدأت حياته الأدبية بداية لا تخلو من فكاهة ومن عبرة في آنٍ معًا؛ فقد كتب قصةً كانت باكورة إنتاجه، قصة «الفقراء»، وساقه صديقٌ ناشئ في الأدب مثله إلى أديبٍ من شيوخ الأدب إذ ذاك يقوم على تحرير مجلةٍ أدبية، هو «نكراسوف»، وقدم الصديق صديقه «دستويفسكي» إلى الأديب الشيخ، فاستقبله الأديب الشيخ بنظرةٍ باردة، ولم يدرِ ناشئنا ماذا يصنع، فقذف بمخطوط قصته قذفًا، وخرج مسرعًا يتلفت يمنةً ويسرة خشية أن تراه أعين الرقباء كأنه لصٌّ أتى أمرًا إدًّا، وقصد من فوره إلى جماعة من أصدقائه الشبان، فأخذت جماعتهم تقرأ شيئًا من أدب «جوجول» حتى انسلخ الليل كله، وعاد «دستويفسكي» إلى داره مع فلق الفجر، ولم يحس رغبة في النوم، فجلس إلى نافذته يسرح البصر، وما هو إلا طارق يدق جرس الباب، فيفتح له وهو دهش لهذا الطارق المبكر، فيجد نفسه محتضَنًا بين ذراعَي صاحب المجلة الأدبية «نكراسوف»، فقد شاءت المصادفة أن يزور الأديب الشيخ صديقًا ناقدًا، ويذكر له أن شابًّا لم يره من قبلُ قذف أمامه قصة لتنشر، وقرأ الصديقان معًا قصة «الفقراء» فأخذتهما بسحرها، حتى أنفقا الليل كله في قراءتها. ولما أصبح الصبح، لم يطق «نكراسوف» صبرًا على هذا الكشف الجديد، وذهب إلى أصدقائه النقاد، يطرق عليهم الأبواب قائلًا: جئت لأعلن عن «جوجول» جديد ظهر اليوم في أفق الأدب!

وفعل التشجيع في أديبنا الناشئ فعل السحر، فأخذ يعمل في نشاطٍ متصلٍ عنيف لا يعرف الراحة والهدوء، فعرض صحته للخطر من جهة، وتعجل الإنتاج من جهةٍ أخرى، حتى أصبحت سرعة الإنتاج علامة تميزه وتنتقص من أدبه، فإذا عرفت أنه كان يكتب عشر قصص في آنٍ واحد، عرفت بأية سرعة كان ينتج، وبأي مجهود كان يعمل، لكن هذا التيار الدافق وقف ذات يوم فجأة حين أطبقت عليه مغاليق السجن في بطرسبرج.

اتُّهم «دستويفسكي» مع جماعة من زملائه بالعمل على الثورة، وزجوا في السجن ثمانية أشهر، ثم جيء بهم إلى ميدان في قلب المدينة، حيث أقيمت المشنقة انتظارًا لرقابهم وخلعت عنهم ملابسهم إلا أقلها، في جوٍّ كانت حرارته إحدى وعشرين درجة تحت الصفر، وقرئ عليهم ما قُضي به في أمرهم، وإذا هو الموت. لم يكد يصدق «دستويفسكي» ما سمعته أذناه، لا بد أن يكون حلمًا ما سمع، إنه لم تنقضِ إلا أيامٌ قلائل منذ وضع أساسًا لأثرٍ أدبيٍّ جديد اعتزم إنشاءه، وأطلع عليه أحد الزملاء في السجن، وتلفَّت إلى من وقف بجواره وسأله دهشًا: أصحيح ما يعلنون؟ أصحيح أننا قادمون على الموت؟ ولم يجب المسئول بغير إشارة من أصبعه وهو صامت إلى عربةٍ قريبة، طرح عليها غطاء، وبدا كأنما تحت الغطاء شيء كالتوابيت! وهبط من أعلن حكم الموت من منصته، وصعد القسيس يحمل الصليب، ويطلب من «المجرمين» أن يبوحوا له بما يريدون أن يبثوه من اعتراف، ولم يفعل ذلك سوى واحدٍ منهم، واكتفى الباقون بتقبيل الصليب «لقد شرعوا السيوف فوق رءوسنا، وألبسونا قمصان من يُقضى فيهم بالموت، وربطونا ثلاثة ثلاثة، وكنت ثالث الثلاثة في الصف الأول، فعلمت أنه لم يبقَ من حياتي إلا دقائقُ معدودة، ذكرتك عندئذٍ وذكرت أطفالك (هذا خطاب كتبه دستويفسكي فيما بعدُ إلى أخيه) وحاولت أن أُقبِّل زميليَّ في الصف قبلة الوداع، ثم ما هي إلا أن نفخت ثلة من الجند في أبواقها نفخة، وإذا بالأغلال فكت عن أجسادنا، وأعادونا إلى منصة المشنقة، حيث أعلن معلن أن جلالة القيصر قد عفا.» فقد استبدل القيصر بحكم الموت سجنًا يكون فيه العمل الشاق. والعربة التي كان يظن أنها تحمل التوابيت لأجسادهم كانت تحتوي على بذلات يلبسها من يصدر عليه مثل هذا الحكم. وأُلبسوا هذه البذلات وسيقوا إلى السجن، حيث قضوا سنواتٍ أربعًا، أطلق سراحهم بعدها، وعاد أديبنا إلى الحياة من جديد، ولكن كيف؟ عاد من سجنه أسلم بدنًا وأهدأ عصبًا وأكثر في عقله اتزانًا!

استأنف «دستويفسكي» حياته الأدبية، فأخرج قصة «المستذَل والجريح»، وعقب عليها ﺑ «ذكريات دار الموتى» وهو يعني بدار الموتى سجنه الذي قضى فيه أربعة أعوام، تقرأ فيه وصف الحياة في ذلك المكان كما شهدها الكاتب، فتنتفض من هولها رعبًا. ومما يستحق الذكر هنا أن «البؤساء» — لفكتور هيجو — صدر في نفس الوقت الذي صدر فيه «ذكريات دار الموتى»، وقد لا نعدو الحق إن قلنا إن «دستويفسكي» قد بلغ في كتابه ما لم يبلغه «هيجو» من حيث بساطة التعبير وصدق التصوير، كان «دستويفسكي» سجينًا سياسيًّا، لكنه لم تكن هنالك تفرقة بين سجين لسببٍ سياسي وسجين أجرم على نحوٍ آخر. وقد لا يكون في ذلك شيء يثير العجب، لكن العجيب حقًّا أن «دستويفسكي» وقد رأى نفسه فردًا من جماعةٍ مجرمة، لم يدُرْ في خلده قط أنه في وضعٍ خاطئ، كما أنه لم يَدُرْ في خلد أحد من زملائه في السجن — نعني مجرمي القانون — أن هذا السجين السياسي يقع في منزلة فوق منزلة سائر المجرمين؛ فلئن اعتدى المجرم على قانون من قوانين الدولة فقد اعتدى السجين السياسي على قانونٍ آخر. لهذا لم يحاول «دستويفسكي» في كتابه هذا أن يخلع على نفسه ثوبًا من الشرف ليميز به نفسه عن سواه، إنما الذي حاوله، وحاوله بعنف وقوة، هو أن ينظر إلى المجرم — كائنًا ما كان إجرامه — نظرة غيظ وحنق، فليست الجريمة خطأً، إنما هي ضرب من الجد العاثر. لقد أحس «دستويفسكي» العطف على زملائه في الإجرام، وأعجب ببعضهم إعجابًا شديدًا، فقد يكونون غلاظ الظاهر، لكن في بعضهم صفاتٍ طيبة، ما في ذلك من شك.

وبعدئذٍ، اكتنفت حياة الكاتب صعاب، من بينها ضيقٌ مالي نتج عن انغماسه في القمار أوقعه في دَينٍ لم ينقذه منه بعض الشيء إلا قصةٌ عظيمة صادفت نجاحًا عظيمًا، هي قصة «الجريمة والعقاب» وطريقته فيها — بل طريقته في قصصه جميعًا على وجه الإجمال — هي ألا يحدد لك صفات أشخاصه تحديدًا مرتبًا، بل هو يسرد لك دقائق حياتهم بالترتيب الذي تقع به في الحياة، لا بالترتيب المنطقي الذي يسبغه عليها عقل الكاتب، ويتركك تستخلص لنفسك هذه الصورة من تلك الدقائق المبعثرة في أنحاء القصة هنا وهناك؟ خذ مثلًا لذلك، ترى المجرم في هذه القصة يعتزم قتل امرأةٍ عجوز، تراه يعتزم ذلك منذ الصفحة الثانية من القصة، ثم تتكاثر عليك الحوادث وتنعرج به الدقائق هنا وهناك، حتى إذا ما بلغتَ نهاية القصة، وجدت هذا المجرم ينشر مقالة في مجلة يحاول فيها أن يشرح نظرية تبرر مثل تلك الجريمة. لو كان الكاتب يرتب الحوادث ترتيبًا منطقيًّا لذكر لك نبأ هذه المقالة بعد ذكره للجريمة، لكنه لم يعبأ بتباعد الحوادث بين الحقيقتَين في قصته، ما دامت تباعد بينهما في الحياة. مثل هذه الطريقة في كتابة القصة من شأنها أن تقتل بعض الشوق في نفس القارئ، وأن تُشعره بمجهودٍ عقلي، لأنه يحاول أن يربط الحوادث المتناثرة بعضها ببعض، وقد يستطيع ذلك وقد لا يستطيع، كما هي الحال في الحياة الواقعة، بعضنا قادر على ربط الحوادث بعضها ببعض وإن باعدت بينها الأيام، على حين يعجز بعضنا عن ذلك، والكاتب هنا لا يعيننا على مثل هذا الربط.

والفن القصصي عند «دستويفسكي» له خاصةٌ أخرى، لعلها تميز القصة الروسية كلها، بل لعلها تميز الفن الروسي كله بما في ذلك فن العمارة، وهي أن يتركب الكل من مجموعات تكاد كل مجموعة منها أن تكون كلًّا مستقلًّا، فالكنيسة التي تبنى على الطراز الروسي — مثلًا — تتألف من عدة أجنحة، يوشك كل جناح منها أن يكون كنيسةً قائمة بذاتها، والقصة الروسية تتألف من مجموعة من القصص، لا يصلها إلا خيطٌ رفيع جدًّا يمكن قطعه والاكتفاء بأي جزء على حدة كأنه قصةٌ وحده، هكذا كان فن «دستويفسكي» في قصة «الجريمة والعقاب».

لكن هذه خصائصُ عامة إلى حدٍّ ما في الأدب الروسي كله، أما ما يميز «دستويفسكي» في إنشائه الأدبي — من حيث طريقة الأداء — فهو السرعة في الإنتاج، وقد كان بين الدوافع إليها ضيقه المالي الذي كاد يلازمه، على الرغم من كثرة مكسبه. ولما وجد أن سرعته في الكتابة أبطأ مما أراد، استخدم فتاةً تكتب الاختزال، لينتج في اليوم الواحد أضعاف ما كان ينتجه — وقد أصبحت هذه الفتاة زوجةً ثانية له بعد وفاة زوجته الأولى — وهذا الإنتاج الغزير المتلاحق هو ما كان يطمح إليه، ففضلًا عن ضرورته المادية، كان يطمح ألا تنقطع صلته أبدًا بجمهور قرائه، وأن يظل سلطانه على عقولهم متصلًا دائمًا، لكن هذه السرعة لا بد أن تؤدي إلى نتائجها الطبيعية من إهمال في السبك الفني، حتى لو كان الفنان هو «دستويفسكي».

وترى هذا الإهمال واضحًا في قصص جاءت بعد «الجريمة والعقاب» — لكنها مع ذلك من آيات الأدب العالمي الخالدة — هي قصص «الأبله» و«الفكرة المتسلطة» و«الإخوان كارامازوف». في قصة «الأبله» يبين أن من يرتكب الشر لعلةٍ في تكوينه العصبي قد يكون أعلى فكرًا وأسمى خلقًا من سواه ممن لا يرتكبون شرًّا مثل شره، ثم هو في هذه القصة أيضًا يعالج ظواهر الجنون على أنها ظواهرُ عادية لا شذوذ فيها، تراها شائعة بين الناس، والاختلاف هو في الدرجة وحدها. وفي «الفكرة المتسلطة» حاول الكاتب أن يتعقب العوامل التي من شأنها أن تُقوِّي حركة «الفوضوية» أو إن شئت فقل الثورة الفكرية التي أدت إلى الشيوعية، هذه العوامل الدافعة يستحيل في رأيه أن يكون أساسها الآراء المهوشة الغامضة الهزيلة التي تتسلط على من أفقدتهم الحماسة اتزان عقولهم، كما يستحيل كذلك أن يكون أساسها أحزابًا سياسية تهافت بنيانها وشطحت في خيال وأوهام، بل لا بد للانقلاب الاجتماعي من جماعة قويت فيهم العزائم وتحددت في رءوسهم الأفكار وصلبت عندهم الإرادة، وأما قصته «الإخوان كارامازوف» فهي أشبه بواجهةٍ عظيمة لبناءٍ أعظم، لكن البناء ليس له وجود، وذلك أن الأديب أراد بادئ ذي بدء أن يجعل قصته هذه ذات خمسة أجزاء، ثم قرر أن تكون من جزأين، ثم لم يكتب من الجزأين إلا جزءًا واحدًا، هو هذه القصة، لكنه جزءٌ مؤلف من أربعة مجلداتٍ ضخام حاول الكاتب فيها أن يصور الحركة الفكرية في منتصف القرن التاسع عشر، بما تضمنته من آراء ثورية وانقلاب في وجهة النظر، في الأخوين الكبيرين «ديمتري» و«إيفان» جسد الكاتب جانبَين من جوانب عصر الانقلاب الفكري المشار إليه؛ جانبين من جوانب الضعف، ﻓ «ديمتري» يمثل صاحب الإرادة الضعيفة والأخلاق المنحلة، و«إيفان» يمثل صاحب العقل الضعيف والفكر المتدهور، وأما ثالث الإخوة «اليوشا» فيمثل الرجل الروسي اتزن فيه العقل والإرادة معًا، فهو رجلٌ سليم القوى معافى الغرائز والميول، يحب ويؤمن ويرقُّ ويكرم، ويقال في التعليق على هذه القصة إن «دستويفسكي» أراد أن يمثل بالأخوَين الكبيرَين «ديمتري» و«إيفان» لروسيا وقد أخذت عناصر المدنية من الغرب ولم تهضمها بعدُ فانحلَّت خلقًا، ثم روسيا وقد اكتنفها الجهل فضعفت فكرًا، ثم أراد أن يمثل بالأخ الثالث «اليوشا» روسيا المستقبل حين تتسق في حياتها عناصر المدنية الغربية مع مقومات التثقيف والتعليم. ومهما يكن من أمر هذه القصة العظيمة الخالدة، فهي ثروةٌ زاخرة بدقة التحليل وصواب الرأي وصدق النظر، هي قاموسٌ شامل لكل معاني النفس البشرية، وآلةٌ موسيقية تجمعت في أوتارها كل نغمة من نغمات القلب الإنساني، ثم هي وثيقةٌ ناصعة أثبت فيها الكاتب حياة الروسيا المعاصرة، ما خفي منها وما ظهر، الروسيا في أخلاقها وتفكيرها وحياتها الاجتماعية على وجه الإطلاق، وهي في بعض مواضعها بلغت في روعة الأسلوب وبلاغة التعبير ما لم يبلغه أديبٌ روسيٌّ آخر؛ فمثلًا في موضع منها يصف المناقشات البيزنطية الفارغة التي يحاول فيها المتناقشون أن يشققوا الشعرة كما يقولون، والتي كانت سائدة في العصور الوسطى، ولا تزال سائدة في كل وسط يشبه في عقليته وتفكيره عقلية تلك العصور وتفكيرها، في هذا الموضع يصور الأديب رجلًا من رجال «محاكم التفتيش» التي شاع أمرها في أوروبا منذ قرون، وخصوصًا في إسبانيا، والتي كانت تحرق الأبرياء حرقًا بحجة الزيغ عن الدين والخروج على العقيدة السليمة والإيمان الصحيح، وفي هذا الموضع نرى المسيح قد عاد إلى الأرض، عاد في مكان من المدينة نُصبت فيه محكمة التفتيش أدوات النار التي سيلقى فيها بمن زاغ — في رأيها — عن الدين، وعرف جمهور الناس أنه المسيح فاجتمعوا حوله زرافاتٍ زرافات، لكن رئيس محكمة التفتيش أمر بالقبض عليه وأرسله إلى السجن، ثم ذهب إليه في سجنه وأخذ يُعنِّفه على أنه وضع لأتباعه مبدأً يستحيل تطبيقه: «لقد عرض عليك الشيطان أن يحول الصخر خبزًا فأبيتَ أن تتقبل منه ما عرض، ثم زعمت أنك مستطيع أن تحكم قلوب الناس بالحب دون سواه! انظر إلى أي نهاية أدت هذه المبادئ بالناس وبنا معهم، إنهم يعرضون عن الحب ويصيحون في طلب الخبز!

إننا إذا ما أعطيناهم ما يريدون من خبز، استطعنا أن نصفدهم بالأغلال بعد ذلك عن رضًى منهم؛ سآمر غدًا برميك في النار!»

يحتل «دستويفسكي» من الأدب الروسي مكانةً رفيعة، فلا يرتفع عليه في ذلك الأدب إلا رجلٌ واحد، هو «تولستوي».

(٦) ليو نيكولا فيتش تولستوي Leo Nicolaievitch Tolstoi (١٨٢٨–١٩١٠م)

نقدم لك الآن في «تولستوي» عملاقًا في الأدب العالمي، كثيرًا ما شبه بسنديانةٍ ضخمة من حولها كلأ، لأن كل من حوله من الأدباء كانوا بالقياس إليه حشائشُ صغيرة إلى جانب هذه الشجرة التي سمق فرعها في السماء، ومن هؤلاء؟ «دستويفسكي» وأضرابه! وهذه مبالغة بغير شك، لكنها مبالغةٌ تصور لك مكانة «تولستوي» في الأدب الروسي خاصة، وفي الأدب العالمي بصفةٍ عامة.

و«تولستوي» و«دستويفسكي» اللذان تعاصرا حينًا، كانا يختلفان اختلافًا بيِّنًا، لكنه اختلاف الضدَّين يُكمل أحدهما الآخر؛ ﻓ «دستويفسكي» من الشعب، أخذ يجاهد عشرين عامًا حتى تهيأ له شيء من السعة واليسر، و«تولستوي» من العلية، ولد في بحبوحة الرزق التي يولد فيها الأغنياء. «دستويفسكي» كانت تعنيه الحياة في المدينة، و«تولستوي» تعنيه الحياة في الريف. «دستويفسكي» يؤثر أن يعيش حياةً غزيرة بأحاسيس المتع واللذائذ كلما استطاع إلى مثل هذه الحياة سبيلًا، لأن هذه الحياة المليئة كانت عنده أفضل من حياة التزمُّت التي تقضي على معنى الحياة، وأما «تولستوي» فشد على نفسه رباط الأخلاق شدًّا انتهى به إلى التصوف، وإلى ترك ثروته وأسرته ليعيش عيش الرهبان في صومعةٍ وحده بعيدًا عن صخب الحياة. وهما كذلك يختلفان في الفن الأدبي اختلافهما في وجهة النظر إلى الحياة، فعبقرية «دستويفسكي» تبدو ظاهرة في سَوْق الحديث بين أشخاص قصته، وعبقرية «تولستوي» تبدو في الكشف عن سريرة نفسه. «دستويفسكي» يعجبه الشاذ، و«تولستوي» لا يقع إلا على المألوف، لكنه يجعل المألوف واضحًا بارزًا حتى ليحسب قارئه نفسه بين أصدقائه وأفراد أسرته حين يقرأ له قصة من قصصه. «دستويفسكي» كانت تتألف نفسه من عناصرَ متباينة في آنٍ معًا، أي أن العناصر المختلفة كانت في نفسه جنبًا إلى جنب تصطرع، فلذائذ جسده ونوازع عقله ودوافع روحه كلها تقع من نفسه في تجاور، فقد يدعوه الجسد إلى ما تأباه الروح، وقد تدفعه الروح إلى ما لا يقره العقل، وهكذا. أما «تولستوي» فقد جاءت عنده هذه العناصر واحدةً بعد الأخرى، لكل عصر سادت فيه وامتنعت سائر العناصر؛ فهو يبدأ حياته معنيًّا بشهوات جسده، ثم هو يعقب على ذلك بعهد يلقي فيه بزمامه إلى عقله، ثم تنتهي حياته بفتره يكون فيها من سمو الروح ما يضعه في صف الأولياء!

ولعل أبرز ما يأخذ العين من «تولستوي» هذه الهوَّة السحيقة التي تفصل بين فنِّه وعقله، فهو بفنِّه رجل يختلف أشد الاختلاف عنه وهو محتكم إلى عقله، «تولستوي» الفنان يستمد قوته من التسليم للحياة وغرائزها تسليمًا جعله يمرح في كل ظواهر الحياة من نبات وحيوان ومن غرائز وشهوات، مرح الطفل الذي لا يفسده الشك والتفكير، بل مرح الهمجي الذي لم تباعد المدنية العقلية بينه وبين الطبيعة حتى أصبح كأنه جزء من الطبيعة، يكاد يكون واحدًا مما حوله من شجر وحيوان. وحيثما كتب «تولستوي» وهو في مثل هذه النشوة بالحياة، ارتفع إلى ذروة الفن، لكن عقله أخذ يقضُّ له هذا المضجع الوثير؛ أخذ يوحي له بأن «معنى الحياة» أسمى من الحياة نفسها، وما «معنى الحياة» هذا؟ هو الأخلاق التي ترتفع بالإنسان إلى مستوًى أعلى من الحياة لمجرد الحياة. وبين «تولستوي» الفنان الذي كان يعبد الحياة عبادة الوثني لظواهر الطبيعة، و«تولستوي» الأخلاقي الذي لا يريد أن يحيا كما تحيا الشجرة أو البقرة، تقع الهوَّة السحيقة التي جعلت منه شخصَين، أما الشخص الأول فامتدت حياته إلى سن الخمسين، وأما الشخص الثاني فتولى الزمام بعد ذلك حتى وافته المنية في سن الثانية والثمانين.

أول أثرٍ أدبي أنشأه «تولستوي» كتابه «طفولة وفتوة وشباب» يروي فيه عن حياته، فكشف هذا الأثر الأدبي الأول عن قوة الأديب وقدرته على أن يجعل من توافه الأشياء أمورًا لها دلالاتها القوية، تملؤها الحياة؛ وذلك لأنه كان يصبُّ نفسه في كل شيء يكتب عنه مهما تَفِهَ، فكان يكسبه الحياة من حياته. ومما يستوقف النظر في هذا الكتاب أن «تولستوي» كان كثيرًا ما يصور الشخصية كلها بوصف جزءٍ واحد من العلامات الجسدية المميزة للشخص الذي يصفه، فحركات الأصابع في هذا الرجل حين يتحدث، يصفها لك فإذا أنت ترى نفسك بهذا وحده قد بلغت صميم الشخص الموصوف. هذه الخاصة التي تميز فن «تولستوي» ستلازمه في كل إنتاجه، وستبدو على أتمِّها حين ينشئ آيتَيه الخالدتَين «الحرب والسلم» و«آنا كارنينا»، فمثلًا قد وصف زوج «آنا» — وهو من الطبقة الأرستقراطية المتعجرفة — وصفه بأذنَيه الكبيرتَين وأصابعه التي تطقطق فأصبح وصفه هذا يجري مجرى الأمثال للرجل من هذا الطراز. ثم حدِّث ما شئت في قدرة هذا الأديب العبقري على التغلغل إلى بواطن النفس البشرية، فيرى علائق الإنسان بالإنسان، علائق الرجل بالمرأة، علائق الفرد بالمجتمع، علائق الإنسان بالطبيعة، يرى كل هذا في جلاء ووضوح كأنه يقرأ في كتابٍ مفتوح. في «قصة الحرب والسلم» التي قد تُعدُّ أعظم قصة في آداب العالم بغير استثناء، أراد أن يصور بلاده الروسيا في فترة من فترات تاريخها، هي التي غزاها أثناءها نابليون في أوائل القرن التاسع عشر، لكنه لم يرد أن يصور هذه الفترة من التاريخ تصويرًا يجعل القصة جزءًا من التاريخ، بل أراد أن ينظر خلال الخاص إلى العام، خلال فترةٍ واحدة وشعبٍ واحد إلى الزمان كله وشعوب الأرض أجمعين. لقد تخير هذه الفترة من تاريخ بلاده ليتخذ منها رقعةً يصور عليها الحياة الإنسانية على إطلاقها من قيود الزمان والمكان، ولكن ذلك كله لا ينفي أنها كذلك قصة تصور الروسيا في فترة من أهم فترات تاريخها تصويرًا دقيقًا بارعًا. اقرأ قصة «الحرب والسلم» لتصادف جمهرة من الناس يحيون ويتحركون، لكلٍّ شخصيته الفريدة الفذة التي تجعله كائنًا حيًّا، اقرأها لتحيا مع أشخاصها وهم يكبرون من الطفولة إلى الشباب؛ سترى فيها أنصع الصور للحياة في الجيش، والحياة في القصر، والحياة في عاصمتَي الروسيا موسكو وبطرسبرج، والحياة في بيوت أغنياء الريف وأكواخ فقرائه. اقرأها لتشهد الحياة في صورةٍ أقوى من الحياة في الواقع! وتدور حوادث القصة حول حياة أسرتَين من الأُسر الغنية — هما في الواقع أسرتا أبيه وأمه — وهو في تصويره للأفراد، جعل هؤلاء الأفراد ظواهر لقوةٍ دافعةٍ خفية، هي قوة الشعب في مجموعه، وها هنا تجد أساسًا من أسس فلسفته، ﻓ «تولستوي» لا يريد للفرد أن يكون فردًا قائمًا إزاء الجماعة، بل يريده أن ينغمس في الجماعة انغماسًا، الفردية عنده ضرب من ضروب الصراع والحرب، صراع بين الفرد والمجتمع من جهة، وصراع بين الفرد والفرد من جهةٍ أخرى، كلٌّ يسعى إلى القوة والسيطرة وزيادة الثروة والنفوذ، ولئن كانت المدنية الإنسانية قائمةً على أساس هذه الفردية. فقد أدار «تولستوي» ظهره لهذه المدنية ودعا إلى ما دعا إليه «روسو» من قبلُ؛ إلى العودة إلى حياة الفطرة والطبيعة حيث لا انقسام ولا خصام، وحيث لا ترى إلا فلاحًا يفلح أرضه ويحب جاره؟ في هذه القصة يقدم لك «تولستوي» فلاحًا هو «كاراتايف» كما يقدم لك «نابليون» ويقنعك أن الأول أعظم من الثاني، لأن الأول عظيم في ذاته، وأما الثاني فألعوبة في أيدي الظروف!

هذه المقارنة بين الحياة الفطرية الساذجة وبين حياة المدنية المعقدة، يوضحها الكاتب أيضًا في قصته «آنا كارنينا»، التي أنشأها على أساس من مذهب «روسو»، فهو يبين لك أسرةً ريفيةً سعيدة بحياتها البسيطة، وأسرةً أخرى قامت لا على الأساس الشرعي للزوج، بل على أساسٍ مصطنع من إباحية وحريةٍ زائفة، فترى «كارنينا» الزانية تتزوج من رجل أُغرِم بحبها، فانتهت حياتهما بعقوبةٍ طبيعية كانا جديرَين بها، ومما يذكر بهذه المناسبة أن «تولستوي» جعل عقاب «كارنينا» أشد وأقسى، فجريمتها في عين الرجل الأخلاقي أفدح من جريمة زوجها. لكن «تولستوي» إلى جانب نزعته الأخلاقية فنان، وهو إذا ما تملَّكه الفن انتشى بالجمال كائنًا ما كان، ولهذا تراه يفتنُّ في تصوير «آنا» ووصف جمالها، حتى أخرجها صورةً رائعةً بارعة. ومن لفتات «تولستوي» البارعة في هذه القصة أنه جعل رجلًا عالي الثقافة (يقصد نفسه) يهتدي بفلاحٍ ساذج في فهم الإنجيل، بل في فهم الحياة؛ ليدل بذلك على أن فهم الحياة والدين لا يريد علمًا بقدر ما يحتاج إلى قلبٍ صافٍ وبصيرةٍ سليمة.

وأخيرًا جاء دور التدين والتصوف من حياة «تولستوي»! إن هذه المدنية الفاسدة لا خلاص منها بغير الفرار إلى حياة الزهد والتقشف والعزلة! لقد أخذ في هذه المرحلة يكتب الرسائل واحدةً في إثر واحدة، كلها تعبر عن إيمانه بالدين والحياة الروحية: «عقيدتي» «ماذا ينبغي أن نصنع إذن؟» «ملكوت الله هو في دخيلة نفسك» «العبودية في عصرنا» «ما هو الدين؟» وغيرها وغيرها. لقد زهد في حياة المتعة الجسدية حتى أصبحت له هذه المتعة شبحًا مخيفًا يخشى أن يعود إليه فينال منه ويسيطر عليه، وكتب «كروتزر ساناتا» التي أراد فيها أن يحمل الأزواج على الامتناع عن العلاقة الجنسية! ثم كتب آخر قصصه الكبرى؛ قصة «البعث» التي جعل فيها فتاةً متعلمةً مهذَّبة كانت في سيبريا سجينةً سياسية، جعلها تلتقي مع امرأةٍ كانت في ماضيها عاهرةً فاجرة، وتصادق المرأتان على النفور من الصلة الجنسية الدنسة، الأولى لأنها لم تمارسها على اعتبار أنها حطٌّ من الكرامة الإنسانية، والثانية لأنها أوغلت في ممارستها فانتهت إلى الزهد فيها والتحقير منها لأنها مصدر أهوال ومصائب، بل لأنها داعية إلى التدهور والانحطاط.

هذه النزعة الخلقية الشديدة التي استولت عليه، لوَّنت نظره إلى الأدب كله؛ فلا أدب عنده الآن إلا ما رمى إلى إصلاح الأخلاق؟ ليس شيكسبير بالأديب، لأنه لم يرد بأدبه إلى إصلاح الأخلاق، بل ليس ما كتبه هو نفسه فيما مضى بأدب لأنه خلا من ذلك الغرض الشريف، وهكذا قل في كل ضروب الجمال: لا جمال في أثرٍ فني إلا إذا كان أساس هذا الأثر الفني أولًا وقبل كل شيء تقويم الأخلاق، بهذا الرأي نادى في كتابه «ما هو الفن؟».

لكن الأخلاقي فنان كذلك — كما أسلفنا لك القول — فقد كانت تتعاوره فترات من الفن خلال تلك الفترة الأخلاقية، فيُخرج للناس قصصًا روائع. وأين المفر من سلطان الفن لهذا الفنان الأعظم؟ هذا الذي شخصت إليه الأبصار في أنحاء العالم كله في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، على أنه أديب العالم الأكبر، فليكن ما شاء لنفسه أن يكون من أخلاقيٍّ ومن راهبٍ متدين، فسيظل أبد الدهر خالدًا في تاريخ الأدب بين جبابرة القلم.

(٧) أنطون تشيكوف Anton Chekhov (١٨٦٠–١٩٠٤م)

كان «تشيكوف» هو حلقة الاتصال بين العصر الزاهر الذي شهد «جوجول» و«ترجنيف» و«دستويفسكي» و«تولستوي» وبين الموجة الحديثة التي سيكون موضع الحديث عنها فصلًا سنعده للأدب الروسي في القرن العشرين. بدأ إنشاءَه الأدبي حين كان طالبًا يدرس الطب في موسكو، وأول ما كتب من القصص كان ينطبع بالفكاهة الساخرة التي تجعله صالحًا للمجلات الهازلة، ثم جُمعت هذه القصص في مجموعةٍ أُطلق عليها «قصص منوعة»، وبعدئذٍ طرأ على أدبه تحولٌ مفاجئ، ظهر أول ما ظهر في مسرحيته «إيفانوف» كما ظهر في مجموعة قصصه الثانية التي أسماها «أشخاص عليهم كآبة» فهو في هذه المجموعة القصصية وفي تلك المسرحية عبر عما أحسه إحساسًا قويًّا من ركود الحياة في الروسيا إبان العقد الثامن من القرن التاسع عشر، كما عبر عنه فيما بعدُ في عدة قصصٍ أخرى من بينها «قصة مملة» و«حياتي» و«عنبر رقم ٦» و«المبارزة» و«ثلاث سنوات» وغيرها. في «قصة مملة» ترى شخصيتَين؛ شخصية أستاذٍ كهل كان قد ارتفع إلى أوج الشهرة العلمية، وشخصية فتاة من ذوي قرباه، كلاهما يحسُّ تفاهة الحياة إحساسًا ينتقل إلى القارئ بالعدوى، كلاهما لا يجد في الحياة ما هو جدير بالأمل والعمل، وتنتهي القصة بهذين الكئيبَين لا يجدان لضيقهما بالحياة دواءً. وفي «حياتي» كذلك قصة شاب استنار وتثقف، ثم ألقت به الأيام في مدينةٍ ريفيةٍ ميتة لا تفتح أمامه بابًا من أبواب الرجاء والبشر بالحياة. وفي «عنبر رقم ٦» قصة طبيبٍ عالي الثقافة أيضًا، يعمل في مستشفى الأمراض العقلية في بلدٍ ريفي، وقد اتصلت روابط الود بينه وبين أحد مرضاه، واتصل بينهما الحديث في شتى الموضوعات، حتى ظن بالطبيب الخبل، فأرغمه مساعده على أن يعامَل معاملة المرضى مجنونًا كسائر المجانين وحلَّ محله في رئاسة المستشفى. هكذا أخذ «أنطون تشيكوف» يبث شكواه من ركود الحياة وتفاهة شأنها، ولهذا تخير معظم مناظره من الريف الذي يخلو مما تنطبع به المدن من حركة قد ينخدع بها الرائي ويظنها حركة الحياة، ولكن «تشيكوف» رغم هذه النظرة السوداء، لم يكن متشائمًا بالمستقبل.

كان رجال القصة قبل «تشيكوف» يذهبون في أدبهم القصصي مذهبًا واقعيًّا، فجاء هو مخالفًا لما سار عليه أسلافه. فلئن كان هؤلاء الأسلاف يُعنون بحبك الحوادث، فإنه اتخذ لنفسه أسلوبًا آخر، مؤداه أن يؤلف القصة من نتفٍ متناثرة وحوادث يقطفها من تيار الحياة، يقطفها من هنا وهناك، ولا يجمعها في قصةٍ واحدة إلا الروح التي تسود القصة، لا العلاقة بين الحوادث نفسها. فإذا أردت لفنه هذا عنوانًا يدل عليه، كان ذلك العنوان هو أنه «فن تأثري» أساسه ما تترك القصة في نفس قارئها من أثر، بغض النظر عن طريقة تكوين القصة ومادتها. وبعبارةٍ أخرى كانت قصة «تشيكوف» تقوم على الإيحاء لا على الإنباء، فهو يذكر الحادثة المعينة بالأسلوب المعين الذي من شأنه أن يوحي للقارئ ضروبًا من الفكر والخيال، ولكي يكون هذا الإيحاء أقوى وأفعل، كان لزامًا عليه أن يعنى بأسلوبه وعبارته، لأن اللفظ هنا له أهميته الكبرى، فتراه يحاول أن يجعل لغته ذات وزن وإيقاع.

لم يكن «تشيكوف» من الفحولة بحيث يوضع في منزلةٍ واحدة مع «دستويفسكي» و«تولستوي»، لكنه في القصة القصيرة عَلَمٌ يعترف له العالم كله بقدرته في هذا المجال، فهو في الروسيا شبيه جدًّا ﺑ «موباسان» في فرنسا، وهو أيضًا — مثل موباسان — لم تمهله الحياة أكثر من أربعة وأربعين عامًا.

١  Karamzine.
٢  Eugène Omièguine.
٣  Boris Godounov.
٤  Count Nouline.
٥  Hadji-Abrek.
٦  Mirgorod.
٧  Tchitchikov.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤