الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر
(١) رالف وولد إمرسن Ralph Waldo Emerson (١٨٠٣–١٨٨٢م)
كان «إمرسن» — كما أسلفنا لك القول — من المتزمتين في الدين والأخلاق، وبهذه الروح كتب ما كتب، وإن القارئ الحديث ليقرؤه اليوم، فيظن أنه كاتب سبح في الهواء ليخاطب ناسًا فوق السحاب ولم يقصد بأدبه إلى هؤلاء البشر فوق هذه الأرض، شبَّهه «ماثيو آرنلد» الناقد الإنجليزي بالإمبراطور الفيلسوف «مرقص أورليوس» وحسبك هذا لتعلم كثيرًا عن «إمرسن» ورأيه في الفضيلة والحياة الفاضلة، فما الفضيلة عنده بالأمر الهين، وما الحياة الفاضلة في رأيه إلا طريقٌ ضيقٌ وعر يتطلب من السائر فيه مجهودًا، ولأنه يتطلب هذا المجهود كانت له قيمته.
كان «إمرسن» لا يمجد شيئًا تمجيده لروح الإنسانية، وهو حين كتب في تمجيدها لم يكن معبرًا في حقيقة الأمر عن مذهبٍ ديني بعينه أو عقيدة بذاتها، إنما كان بمثابة الصوت الذي لا يكاد ينتسب إلى فردٍ معين أو يصدر عن جسدٍ معلوم؛ هو في كتابته بمثابة من يعلن لا بمثابة من يؤيد أقواله بالحجة والدليل، ومع تمجيده هذا لروح الإنسان، لم يقل ما هي تلك الروح، ولعله أدرك وآمن أنها «من أمر ربي»:
«إن من نسميه عادة بالإنسان؛ الإنسان الذي يأكل ويشرب ويزرع ويحسب، ليس بمثل هذه الجوانب من حياته يمثل نفسه، بل إنه — على نقيض ذلك — يُبدي ما لا يمثل نفسه. إننا لا نحترم الإنسان بسبب هذه الأشياء، أما الروح التي إن هو إلا أداة لها، فنحن نجثو لها احترامًا إذا ما أبداها الإنسان في فعله. إن الروح إذا ما تنفست خلال عقله فهي العبقرية، وإذا ما تنفست خلال فعله فهي الفضيلة، وإذا ما فاضت في ثنايا عاطفته فهي الحب … والغاية من كل إصلاح — في هذا الجانب من الحياة أو ذاك — إنما هي أن تأذن للروح أن تلتمس طريقها إلى الظهور خلالنا، أو بعبارةٍ أخرى الغاية من الإصلاح هي أن نتعلم كيف نطيع الروح.»
الروح عند «إمرسن» خير منبر نرتقيه لنُعبِّر عن سر وجودنا ومعناه، هي الحلقة الحقيقية التي تصلنا بالله؛ فلن تبدو الروح في فكر أو عمل إلا كان الإنسان المفكر أو العامل متصلًا بالله صلةً قويةً مكينة «إن أكثر الناس سذاجة، إذا ما عبد الله بما يبديه في شخصه من تماسك خلقي، إنما يصبح جزءًا من الله … إن فكرة الإله إذا ما أشرقت على الإنسان كانت محبَّبةً إليه، مريحةً لنفسه؛ تعمر له المكان الخلاء، وتمحو من حياته وصمات أخطائه وخيبة رجائه … إن الإنسان إذا ما مجد الروح وأدرك أنها — كما يقول القدماء — ذات بهاء لا ينفد … فلن تعود حياته بعدئذٍ كالثوب المرقَّع المهلهل، بل سيحيا حياةً تمسك أطرافها وحدةٌ إلهية.»
بمثل هذه النغمة الدينية الخلقية التصوفية كان يكتب «إمرسن» لا يحد من أفقه شعائر مذهب معين ولا عقيدة بذاتها.
(٢) ناثانيل هوثورن Nathaniel Hawthorne (١٨٠٤–١٨٦٤م)
ولكننا إذا ما وصفنا «هوثورن» بأنه متزمت في الدين، فينبغي أن نضيف إلى هذا الوصف أنه أخذ من ذلك التزمُّت الديني رصانته دون تخريفه، وكان من مذهبه أن الضمير الإنساني خير هادٍ في الحياة الخلقية، فقد آمن بصدق ضميره إيمانًا لم يُرضِ شعوره الديني والأخلاق فحسب، بل وجد فيه كذلك ما يقنع عقله.
(٣) هنري وادزورت لونجفلو Henry Wadsworth Longfellow (١٨٠٧–١٨٨٢م)
وهذا شاعر، كان كزميلَيه الناثرَين «إمرسن» و«هوثورن» ينشئ أدبه مدفوعًا بالنزعة الدينية، فمن مذهبه أن الفن لا يخلق للفن كما يقولون، إنما الفن وسيلة لغاية، والغاية التي من أجلها كان «لونجفلو» يقرض الشعر هي بثُّ الأخلاق الفاضلة في نفوس قارئيه، الأخلاق الفاضلة كما يفهمها معتنق مذهبه الديني الذي ينزع إلى التقشف وعدم الاسترسال في الشهوة.
كان «لونجفلو» زميل «هوثورن» في الجامعة، إلا أنه لم يكد يفرغ من دراسته الجامعية حتى سافر إلى أوروبا حيث أقام ثلاثة أعوام، يدرس في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، وعاد إلى وطنه أمريكا ثم إلى أوروبا في رحلةٍ ثانية ثم إلى وطنه مرةً أخرى، وهنا عُين أستاذًا في جامعة «هارفرد» حيث ظل في كرسي الأستاذية ثمانية عشر عامًا.
كان شاعرنا طيب القلب بحيث تبدو طيبة قلبه في صورة السذاجة التي لا تعرف تعقيد الحياة والالتواء في التفكير وفي معاملة الناس؛ ولذلك مضت أعوام حياته مطردةً متشابهة ليس فيها حوادثُ ضخام ولا انقلاباتٌ مفاجئة، وربما كانت أبرز حادثة في حياته كلها موت زوجته الثانية محروقة بعد أن ماتت زوجته الأولى إبان رحلته الثانية في أوروبا. كان يقرض الشعر ليُعلِّم قارئه قبل أن يمتعه، فإذا ما قرأت شعره راعتك فيه قوة الإيمان:
ولهذه البساطة في خلقه وهذا الإيمان القوي في نفسه، ظفر شعره بإعجاب الكثرة الغالبة ممن يضعون قوة الإيمان فوق كل اعتبارٍ آخر. ومن أشعاره ما له ذيوع بين الناس لا يكاد يدانيه في ذلك شاعرٌ آخر، ومن أشهر شعره دورانًا على الألسنة هذه الأبيات:
•••
•••
(٤) إدجر ألن بو Edgar allan Poe (١٨٠٩–١٨٤٩م)
ولد «بو» في مدينة «بوستن» لأبوَين يشتغلان بالتمثيل، حدث لهما أن افترقا، فأوصت الأم بأبنائها الثلاثة من تولى تنشيئهم. وكان أن اختار أديبنا «بو» وهو لم يزل من عمره في عامه الثاني تاجرٌ غني تعهد برعايته، وجاء به مُتَبنِّيه إلى إنجلترا مدى خمسة أعوام — بين سنته السادسة وسنته الحادية عشرة — فتلقَّى تعليمه الأول في إنجلترا، ثم دخل جامعة «فرجينيا» وعمره سبعة عشر عامًا، حيث تعلم شيئين أثَّرا في حياته المقبلة كلها، تعلم الآداب القديمة من أساتذته، وتعلم المقامرة من بعض زملائه. وتراكم عليه الدين نتيجة لهذه المقامرة، ورفض مُتبنِّيه ذات مرة أن يدفع عنه هذا الدين؛ فتركه «بو» وذهب إلى مسقط رأسه «بوستن»، لكنه لم يلبث أن استأنف صلة الود مع مُتبنِّيه، والتحق بالمدرسة الحربية، مع أنه كان أبعد إنسان عن النظام الحربي، فلم يطقْ قط ما فُرض عليه من نظام هناك، ولم يسعه سوى أن يهمل واجباته إهمالًا اضطر أولي الأمر إلى طرده، فجاء هذا عاملًا جديدًا من عوامل الشقاق بينه وبين مُتبنِّيه، ثم جاء آخر العوامل في ذلك الشقاق حين تزوج التاجر من سيدةٍ أخرى بعد موت زوجته الأولى، فلم توافق هذه الزوجة الجديدة على أن يقيم «بو» معهما في المنزل، لأنه — في رأيها — مصدر شغب لم ينقطع.
و«إدجر ألن بو» شاعر فوق أنه قصاص؛ تراه في شعره — كما هو في قصته — يحلم ويتيه في خيالٍ عجيب، خذ مثلًا من شعره قصيدة «أرض الأحلام»:
•••
ومات «بو» ميتةً يحوطها الغموض؛ فإنه يروى أن حادثة وقعت له أثناء السفر، فبقي في مدينة «بلتيمور» أيامًا بسببها. وحدث أنه شرب ذات مساء حتى غاب عنه صوابه، ثم تصادف أنها كانت ليلة انتخاب، فتفكَّه به رجال الأحزاب المختلفة إذ وجدوه هائمًا على وجهه في الطرقات لا يعي، وأخذوه إلى أحد عشر مركزًا انتخابيًّا في المدينة ليدلي بصوته فيها جميعًا، ثم خلفوه ملقًى على مقعد في الطريق حتى صادفه من كان يعرفه، ونقله إلى المستشفى. وقد اعترف الطبيب الذي عالجه، اعترف بعد خمس وعشرين سنة! بأنه حين تلقَّى «بو» مريضًا لم يجد فيه أثرًا من آثار الخمر؛ وإذن فماذا كانت علته، وكيف مات؟ أراد القدر لهذا الرجل الذي عاش حياة يكتنفها الغموض أن يموت كذلك في جو من الغموض.
(٥) وولت ويتمان Walt Whitman (١٨١٩–١٨٩٢م)
«ويتمان» من الشعراء الذين قضوا حياتهم كلها لا يغني في شعره إلا بخواطر نفسه، ففي كل سطر خطه قلمه يعبر الشاعر عن نفسه ويكشف عما يجيش فيها، فهو يقول عن شعره إذ يقدمه لقرائه: «ليس هذا كتابًا؛ إذا ما لمس هذه الصحائفَ لامس فإنه إنما يلمس رجلًا.»
ومن شعره:
•••
ومن قصيدة له في رثاء الرئيس «لنكولن»:
•••
•••
•••
•••
(٦) هاريت بيتشر ستو Harriet Beecher stowe (١٨١١–١٨٩٦م)
ولدت «هاريِتْ» لأبٍ قسيس، وبدرت فيها بوادر النبوغ وهي لم تزل في سنٍّ مبكرة؛ فهي في عامها الحادي عشر كتبت مقالًا تجيب به عن هذا السؤال: هل يمكن أن نهتدي بظواهر الطبيعة في البرهنة على خلود الروح؟ ثم عقبت على هذه المقالة بمأساةٍ منظومة. ولما كانت الفتاة في سن الحادية والعشرين، انتقل أبوها مصطحبًا معه أسرته إلى بلدٍ يُدعى «سنسناتي» على الحدود بين الشمال والجنوب من الولايات المتحدة، فكانت هذه فرصةً للأديبة أن ترى بعينَي رأسها حالة العبيد في القسم الجنوبي، ولو أنها لم ترَ من ذلك إلا مثلًا لا يوضح حالة العبيد في أبشع صورها، لكنها تحركت لما رأت. وتزوجت «هاريت» وهي في الخامسة والعشرين، وبعد زواجها بخمسة عشر عامًا كتبت قصتها العظيمة الخالدة «مقصورة العم تُمْ». وما يجدر ذكره لطرافته، أن الكاتبة بدأت قصتها بفصل عن موت «العم تُمْ»، وقبل أن تمضي في إنشاء قصتها قرأت ذلك الفصل على أطفالها، فبكى الأطفال بكاءً مرًّا لما سمعوا! مضت الأم تكتب قصة «العم تُمْ» فصلًا فصلًا، وكلما فرغت من فصل نشرته؛ فلم تلفت قصتها الأنظار إبان نشرها على حلقات، لكنها لم تكد تُجمع في كتاب حتى طار ذكرها في الآفاق، وعُدَّت من فورها بين أعظم من أنشأ القصة من أدباء العالمين. وكتبت «هاريت» غير هذه القصة قصصًا أخرى، لكنها لا تُذكَر إلا بها، ولم تخلد إلا بها، ولعلها لم تنبغ إلا بها. وماذا أنت قائل في قصة تكون بين العوامل التي حركت الناس إلى حربٍ أهلية محورها حالة العبيد في القسم الجنوبي من الولايات المتحدة؟ ماذا أنت قائل في قصة تصادف أشد إعجاب لدى كاتبةٍ مثل «جورج سان»، وتقبل على قراءتها في شغفٍ الملكةُ فيكتوريا؟ لا نريد أن الأدب تقاس عظمته بمن يقرءونه من ملوك الأرض وملكاته، ولكنا نريد أن الأثر الأدبي إذا ارتجَّ بصداه العالم حتى بلغ الصدى آذان الرءوس المتوَّجة، فلا بد أن يكون أثرًا أدبيًّا له مكانته.
(٧) هنري ديفد ثورو Henry David Thoreau (١٨١٧–١٨٦٢م)
«ثورو» كاتبٌ مزج نفسه بالحيوان مزجًا، وكتب عن الحيوان كتابة الصديق عن أصدقائه. لقد عاش في الريف، وقضى شطرًا عظيمًا من حياته في غابةٍ مجاورة لقريته، ثم كتب عن الريف وعن الغابة، فجاءت كتابته شاهدًا على ملاحظةٍ دقيقة وحسٍّ مرهف وقلبٍ نابض بالإنسانية الحية الرفيعة. ثم هو فوق ذلك رجلٌ له فلسفته في الحياة ورأيه في الإنسان، وبهذه الفلسفة وهذا الرأي استحق «ثورو» أن يخلد بين قادة الفكر. إن كل كائنٍ حي له عنده احترام، بل له توقير وتقديس، فالكائنات الحية كلها أفراد أسرةٍ واحدة، هم زملاء في هذه الحياة، هم شركاء في الروح. وليس عجيبًا — إذن — ما يروى عن «ثورو» أنه كان يذهب إلى الغابة فيطمئن له الحيوان ولا يبدي علامات الذعر التي يبديها عادة في حضرة الإنسان. إنه إذا حط على كتفه عصفور سمعته يقول: إن هذا العصفور على كتفي لأشرفُ لي من وسامٍ ذهبي أُزخرف به سترتي!
وينطوي «ثورو» على نفسه ليدرسها، فيجد في ذلك أيضًا متعة لا تنقضي، لا بل يراه واجبًا مفروضًا على الإنسان أن يدرس روح الإنسان متمثلة في روحه هو، وعقل الإنسان مصوَّرًا في عقله هو. إن أفراد الإنسان جميعًا نسخٌ من أصلٍ واحد فأعجب العجب أن يكون عندك كتاب لم تقرأه، ثم تذهب إلى جارك لتستعير منه نسخةً من الكتاب نفسه! كثير من الناس يدرسون الإنسان فيمن حولهم من الناس، تاركين نفوسهم، وفي نفوسهم الكفاية لو استطاعوا أن يبلغوا أغوارها. فأديبنا «ثورو» حين أراد أن يدرس الإنسان وعقله وروحه، أراد أن يدرس «هنري ديفد ثورو»؛ أراد أن يدرس نفسه.
(٨) وشنطن إيرفنج Washington Irving (١٧٨٣–١٨٥٩م)
وخلاصة هذه القصة القصيرة المشهورة أن «رِبْ» ذهب إلى الجبل ذات يوم فالتقى في أحد الكهوف بجماعة من الشياطين تلعب وتشرب، وأذاقوه من خمرهم فنام عشرين سنة، حتى إذا ما عاد وجد وجه البلد قد تغير وأنكره الناس إلا رجلًا واحدًا. هذا هو الإطار الذي قص فيه الكاتب قصته، فصوَّر وتفكَّه، وكان بديعًا في تصويره، رائعًا في فكاهته.
(٩) مارك توين Mark Twain (١٨٣٥–١٩١٠م)
وللكاتب كذلك «تُمْ سُويَرْ» و«هَكِلْبري فِنْ» وفي كلٍّ منها يصوِّر صبيًّا له مميزاته الخاصة التي تجعله فردًا له سماته وقسماته. وهاتان الصورتان من أهم ما يذكر في آداب العالم إذا ما ذكرت صور الغلمان التي خلقها خيال الأدباء، وقد استمدَّ الكاتب شخصية «هكلبري» من غلام في الواقع كان يتيمًا وتشرد في الطرق والغابات. وقد حكى «مارك توين» كثيرًا جدًّا من تجاربه الشخصية وهو في غلومته إذ قصَّ لنا عن حياة «هكلبري»، وأما الصبي الآخر الذي صوَّره نعني «تُمْ سُوير» فقد جاء في الحقيقة مؤلَّفًا من ثلاثة جوانب استمدها الأديب من ثلاثة غلمان، وجمعها هو بخياله في شخصيةٍ واحدة، وهنا كذلك سجل «مارك توين» كثيرًا من تجاربه وتجارب زملائه في المدرسة في مثل هذه السنِّ.